جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
[ص: 72] فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة:
إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون
[الحجر: 28] بيدي تكرمة له، وتعظيما لأمره، وتشريفا له حفظت الملائكة عهده، ووعوا قوله، وأجمعوا الطاعة، إلا ما كان من عدو الله إبليس، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدمة الأرض، من طين لازب من حمأ مسنون، بيديه تكرمة له وتعظيما لأمره وتشريفا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار. قال: فيقال والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس، فقال: الحمد لله فقال له ربه: يرحمك ربك ووقع الملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدو الله إبليس من بينهم، فلم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا، فقال له:
يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص: 75] إلى:
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
[ص: 85] قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته وأبى إلى المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال:
قالوا سبحنك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم... يآءادم أنبئهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموت والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
[البقرة: 33-34] أي إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمى آدم من شيء كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة. وقال ابن جريج بما: حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء }.
وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم فأجابهم ربهم: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم، ومن بعض من ترونه لي طائعا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه. وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها } على غير وجه الإنكار منهم على ربهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله، لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت. وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا مسألة استخبار منهم لله لا على وجه مسألة التوبيخ. قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قيلها له: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها بمعنى: أعلمنا يا ربنا، أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته وتارك أن تجعل خلفاءك منا، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك؟ لا إنكار منها لما أعلمها ربها أنه فاعل، وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك أن يكون لله خلق يعصيه. وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر، وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة. وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيل فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي ووافقهما عليه قتادة من التأويل. وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: { أتجعل فيها من يفسد فيها } على ما وصفت من الاستخبار. فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها والأمر على ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن؟ قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عند وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه. وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس وتابعه عليه الربيع بن أنس من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض قبل آدم من الجن، فقالت لربها: أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب.
صفحه نامشخص