جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
القول في تأويل { بسم }. قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنة يستنون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل «بسم الله»، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء من «بسم الله» مقتضية فعلا يكون لها جالبا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل «بسم الله» معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولا، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به. فصار استغناء سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظير استغنائه إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: طعاما، عن أن يكرر المسؤول مع قوله «طعاما» أكلت لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال: «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم افتتح تاليا سورة، أن إتباعه «بسم الله الرحمن الرحيم» تلاوة السورة، ينبىء عن معنى قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: «بسم الله» عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبىء عن معنى مراده بقوله «بسم الله»، وأنه أراد بقيله «بسم الله»: أقوم بسم الله، وأقعد بسم الله وكذلك سائر الأفعال. وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس، الذي: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال : إن أول ما نزل به جبريل على محمد، قال: يا محمد، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد. يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويل قوله «بسم الله» ما وصفت، والجالب «الباء» في «بسم الله» ما ذكرت، فكيف قيل «بسم الله»، بمعنى «اقرأ بسم الله»، أو «أقوم أو أقعد بسم الله»؟ وقد علمت أن كل قارىء كتاب الله، فبعون الله وتوفيقه قراءته، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلا، فبالله قيامه وقعوده وفعله؟ وهلا إذا كان ذلك كذلك، قيل: «بالله الرحمن الرحيم»، ولم يقل «بسم الله» فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله، أوضح معنى لسامعه من قوله «بسم الله»، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم الله، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله.
قيل له: إن المقصود إليه من معنى ذلك، غير ما توهمته في نفسك. وإنما معنى قوله «بسم الله»: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسمية الله، أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره لا أنه يعني بقيله «بسم الله»: أقوم بالله، أو أقرأ بالله فيكون قول القائل: «أقرأ بالله»، أو«أقوم وأقعد بالله»، أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله «بسم الله». فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفت، فكيف قيل «بسم الله» وقد علمت أن الاسم اسم، وأن التسمية مصدر من قولك سميت؟. قيل: إن العرب قد تخرج المصادر مبهمة على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامة، وإنما بناء مصدر «أفعلت» إذا أخرج على فعله: «الإفعال»، وكقولهم: أهنت فلانا هوانا، وكلمته كلاما. وبناء مصدر «فعلت» التفعيل، ومن ذلك قول الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني
وبعد عطائك المائة الرتاعا
يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر:
وإن كان هذا البخل منك سجية
لقد كنت في طولي رجاءك أشعبا
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر:
صفحه نامشخص