جمال الدين الأفغانی
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
ژانرها
وصحيح العلم والذل نقيضان لا يجتمعان؛ لأن العلم يهب القوة والعزة. وصاحب القلم لا يحتاج إلى عصا؛ لأن علمه قوة. ولو لم يتنازع الخلق على الحق لما كان ثمة باطل، فالعلم نضال بين الحق والباطل. وبعض الخلق يرضون بالموت خوف الموت، ويلبسون لباس الذل خوف الذل، فيموتون بالذل. ولكن بعض الشرقيين يرون الحقيقة مرارة، والوهم حلاوة، والذل هناء، وطلب العلا والعز الشقاء والعناء. وقد شكا إليه مرة رجل من الأدباء عدم صرف رواتبه فشجعه جمال الدين؛ لأن الدخول في باب الذل يثمر الذل. والشرق في فقر لخوفه من الفقر، وفي موت لخوفه من الموت. فالذهاب إلى السلطان بمنطق الاستغناء، ومنطق الهمة ورفع الصوت أدعى لاسترداد الحقوق. والذل نتيجة للجبن الذي يقعد بالنفوس عن العمل، وينحدر بها إلى مناطق الزلل. فالجبن يوهن دعائم الملك، ويقطع روابط الأمم، ويوهن عزائم الملوك. فتنقلب العروش، وتضعف القلوب، وتسقط الصروح، وتغلق أبواب الخير، ويسهل للنفوس احتمال المذلة، وتحمل العبودية. يلبس النفس عارا وموتا كل لحظة.
27
والعلم تواضع، والعلماء أول المتواضعين. والمبتدئ في أوليات العلوم يظن أنه تبحر فيها وانتهى. والراسخ المحقق يعتقد أنه ما زال في الابتداء . ومحدث النعمة بالمال يستعرضه في كل مكان، ومحدث النعمة بالعلم يلقيه على كل إنسان. وقضايا الجهل في الإنسان أكثر من قضايا علمه. وعمر الإنسان أقصر من أن ينيله ما يجب أن يعلمه، والعلم قشور ولباب. فالواقف على القشور يغرق في بحر الغرور، والمغرور من لا يرضى إلا عن نفسه وعما يصدر عنه قولا كان أو عملا. وطالما كثر الادعاء المجرد بالصلاح والإصلاح عم الفساد وشمل. ولا تطيب نفس الإنسان بالتواضع إلا إذا علم بعض العلم. فالتواضع لا يعني الجهل حقيقة أو ادعاء. والإفراط في التواضع دليل على الادعاء. ويدافع الأفغاني عن صديقه شبلي شميل واتهامه بالغرور ويعتبره عزة نفس على عكس السوفسطائي قليل العلم ويطلب الاحترام ويضع النياشين ويدعي أبهة المنظر.
28
ويسترسل الأفغاني في بيان بعض الرذائل التي يمحوها العلم مثل الحسد والنفاق. فأثقل الأعباء محاولة الحسود ستر فضل المحسود. وكثيرا ما ينشأ النزاع بين العلماء لا بسبب العلم بل بسبب الحسد. فالأكفاء في العصر لا يكونون في الغالب أصدقاء وكأن السماء لا تسع إلا لكوكب دري واحد. والنفاق ادعاء، وإيجاد من لا وجود له. والمعوج الظاهر من الناس أقل ضررا من المتلبس بالاستقامة. ومن ظن أنه خدع الناس بالباطل يكون أول مخدوع. والعجيب أن المنافق لا يتصور أن الناس تراه. فهو كالأعمى الذي يظن أن جميع الناس بدون أبصار.
29
وأخيرا يبرز الأفغاني ارتباط العلم بالعمل بطرق عديدة. يبدأ العمل بالمبادرة. فالعاقل من اعتقد بعجزه ثم سعى إلى العمل. والاعتماد على النفس والتوكل من أقوى عوامل الظفر. ومن فتح له الباب ولم يدخل كان أولى بالطرد. والعمل لا يعني فقط الجهد النظري ولكنه يضم أيضا العمل اليدوي. فأصغر صناعة لنحات أنفع من تقعر النحاة. وحمال الحطب للاتجار أنفع من حمار الذهب للادخار. ولا تنفع الحكمة إن لم يشفعها عمل. فطلاب الحكمة كثيرون ولكن ما أقل العاملين. ولا ينفع القول إن لم يتبعه عمل. فالقائد من قاد بأفعاله لا بأوامره وأقواله. والأمير بأفعاله خير من الأمير بأمواله. وألف قول لا يساوي في الميزان عملا واحدا. والعمل تحقيق لأمل. فالأمة أرضها الأمل وبنيانها العمل. والاستقلال أمل يتبعه عمل وحمل النفس على المكاره واقتحام المهالك والمصاعب. والحرية تؤخذ ولا تعطى، والاستقلال لا ينال بالأقوال. وإذا لم تتذرع الأمة بشكواها من ظالمها بغير الكلام فاحكم عليها بأنها أقل من الأنعام. والعمل هو الطريق إلى جنة النعيم حاضرا أو مستقبلا. فالنعيم والجحيم يتجليان للإنسان في صور أعمال فيتنعم بالحسن منها ويتألم من القبيح. وقلما يأتي الحق بدون عناء. فالعمل جهد ومشقة. لذلك كان الأنبياء من كبار العاملين. فمحمد نبي مرسل. وكان قبل النبوة أمينا صادقا، لم يقتنع بأسود بيته، حمزة وعلي وأبطال قريش والأنصار. بل شاركهم في الحرب، وتكسرت ثناياه. وتخضب وجهه بالدم انتصارا للحق ومقاومة الباطل. كان معلما بنفسه لغيره بقوله وعمله. ويتخذ الأفغاني الرسول قدوة صائحا في المسلمين
أين المسلمون اليوم من هذا الإقدام وتلك الهمة؟
30
الفصل الرابع
صفحه نامشخص