جمال الدين الأفغانی
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
ژانرها
13
ويرد الأفغاني على النقطة الأولى بأن مناهضة العلم ليست في الإسلام نفسه بل في صورة الإسلام في العالم أو في أخلاق بعض الشعوب التي اعتنقت الإسلام خاصة إذا كان هذا الاعتناق بالقوة، ثم يتحول الأفغاني من الدفاع إلى الهجوم مبينا أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية ما زالوا يحاربون التدليس والضلال ويقصدون به الفلسفة. ويرد على النقطة الثانية بأن العرب خرجوا بسرعة من حالة القبيلة إلى حالة الأمة، تعادل سرعتهم فتوحاتهم السياسية. وفي خلال قرن، عرفوا العلوم اليونانية والفارسية، وحفظوا آثار روما وبيزنطة. ثم وسعوها وأضافوا عليها. وهو ما لم يفعله الإنجليز والفرنسيون والألمان. وظلوا ناقلين لروما وبيزنطة اعتمادا على العرب وتراثهم في المشرق والمغرب. وقد أخرج العالم الإسلامي على مدى خمسة قرون مفكرين وعلماء، أدباء شعراء. ولكن رينان يعتبرهم من أصول غير عربية، حرانية أو أندلسية أو فارسية. ويرد الأفغاني بأنه إذا كان العلماء فرسا فإن الحرانيين عرب، والعرب بعد فتح إسبانيا ظلوا عربا. واللغة قبل الإسلام كانت لغة الحرانيين برغم كونهم من الصائبة. وكان أكثر نصارى الشام عربا غسانيين. ولم يكن ابن باجة وابن رشد وابن طفيل أقل عروبة من الكندي. ونابليون نفسه ليس فرنسيا. وكثير من العلماء الذين استوطنوا ألمانيا أو إنجلترا أتوا من خارجها. لقد وحد الإسلام بين الشعوب، ولم تعد هناك جنسية غير الإسلامية. وإن تصور الجنسيات في دراسة تاريخ الأمة الإسلامية هو إسقاط من الحاضر على الماضي، ومن الغرب على الشرق، ومن الثقافة الغربية على الثقافة الإسلامية.
14 (3) العلم والعمل
إذا كان العقل مناط التكليف وطريق العلم فإن العلم طريق العمل. ولا يحصل علم دون تحرير العقول من الأوهام، فإن قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام. العقل أشرف مخلوق. فهو عالم الصنع والإبداع ولا معطل له إلا الوهم، ولا يقعده عن عمله إلا الجبن، وهو الذي يخيل المفقود موجودا والقريب بعيدا. وكل شيء في هذا العالم خاضع لمطلق العقل الإنساني. والمستحيل اليوم في العلم يكون ممكنا غدا في العلم والصناعة، وإن ثمرة العقول لا تجتنى إلا بإطلاقها من قيود الأوهام. والحقائق لا تزول بالأوهام بل العلم والتحليل والعقل. فالحقيقة تثبت وتقضي على الوهم.
15
ولا يكتفي الأفغاني بهذه الأقوال المأثورة عن العقل والوهم بل يحلل الوهم ويطبقه في العمل السياسي؛ فالوهم ليس مجرد خداع في النظر وخطأ في الإدراك بل له تحققات عملية في التوهم أي خداع النفس، مثل التوهم بأن الإنجليز سيساعدون المسلمين ضد أطماع المستعمرين الهولنديين والبرتغاليين فيهم، وأنهم جاءوا إلى مصر لمساعدة توفيق ضد ثورة عرابي عليه، وجاءوا إلى الهند لحمايتها من الاستعمار البرتغالي والإسباني. الوهم مرآة للمزعجات والمسرات، يصور الواقع على غير ما هو عليه، يحجب الحقيقة عند الرؤية، ويتسلط على الإرادة. يجعل الضعيف قويا، والقريب بعيدا، والأمان خوفا، يصرفه الواهم عن حسه. يتخيل الموجود معدوما والمعدوم موجودا. كان الإنجليز أمة مجتمعة القوة، مستكملة العدد، مستعدة للفتوحات في وقت كانت الأمم الشرقية مفككة جاهلة بأحوال الغربيين، يعدون كل غريب معجزة، وكل بديع سحرا أو كرامة. انتهز الإنجليز الفرصة، واندفعوا إلى الشرق وبسطوا سلطانهم على أرجائه ، وأوهموا الناس بالأعاجيب والحيلة والمكر، وسلبوا أموالهم، وانتزعوا أراضيهم. ثم تنافست على ذلك الدول الأوروبية. والوهم يمثل للشرقيين أن الإنجليز أصدقاء، ويمثل للغربيين أن إنجلترا دولة منعزلة بعيدة. ذهب الإنجليز إلى الهند، وتسابقوا مع فرنسا وهولندا والبرتغال على الاستيلاء على أراضي الهند. وساعدتهم على ذلك غفلة الهنود، فمالوا إلى الإنجليز، وصدقوا أنهم يريدون تخليصهم من الدول الظالمة، فرنسا وهولندا والبرتغال. وأصبح للإنجليز سلطان على الهند والهند الصينية وبورما، ولا تزيد قوتهم على خمسين ألف إنجليزي، مع أن الممالك الصغيرة يمكنها جمع قدر هذا العدد عشرات المرات بالإضافة إلى ما عند الأهالي من سلاح. استولى الوهم على المشاعر فاستولى الإنجليز على الأراضي. وفي الدول العربية هناك من يهاب دولة الإنجليز تحت وهم أنهم سيدافعون عنها. وبعض الدول الأوروبية تهاب الإنجليز مثل أيرلندا. وينظر العثمانيون إلى الإنجليز كما ينظرون إلى الروس. ويظنون أن معارضتهم تجلب الضرر. وظنوا أن الاعتماد على إنجلترا يجلب النضج، والدولة العثمانية أكبر عددا وعتادا. وإنجلترا توهم الهنود أنها خليفة الدولة العثمانية. ولو أن العثمانيين استعملوا سلطتهم على الإنجليز والهند لما ضاعت الهند. كما تعدت إنجلترا على حقوق السلطان في المسألة المصرية وهي مسألة عثمانية.
وكان المصريون أيام عرابي قسمين، قسم من أنصار توفيق وقسم يميل إلى عرابي. الأول فشل، والثاني ارتاب، ولا عزيمة مع الشك. فدخل الإنجليز مصر بلا حرب، بالترهيب والترغيب والدسائس. فتفرق الناس عن عرابي، وأوهموا أن الإنجليز يؤيدون توفيق. فتساهل المصريون معهم، وأحسنوا الظن بالإنجليز. فاستقرت أقدامهم مع أنه لا يوجد أحد من المصريين يميل إليهم. بل هناك من يبغضهم. لكن الوهم يكبح العزيمة. ذهل المصريون عن الأسباب التي مكنت الإنجليز من البلاد ظانين أنهم على كلمة واحدة في مدافعة الإنجليز مع أن الإنجليز دخلوا بمعونتهم. احتلت مصر بالوهم، وهم أن العساكر قادرة على قهر الأهالي، فاستسلموا، مع أن إنجلترا لا تستطيع أن ترسل إلى مصر أو السودان أكثر من عشرين ألف جندي لا يستطيعون مقاومة المصريين والسودانيين على سواحل مصر وبحيراتها. صحيح أن للإنجليز قوة بحرية ظهرت في سواكن ولكنها تعجز عن العمل أكثر من فرسخين مع مناوأة الأهالي لهم من الأرض. لكن الوهم حجب الأبصار. وقد أزال الأوروبيون الوهم عن أبصارهم، وأدركوا ضعف الإنجليز، كذلك على الشرقيين إزالة الوهم وعدم استبدال سيد بسيد.
16
لا يستطيع الوهم أن يغلب الحقائق مثل خداع الشرقيين والمكر بهم. فللوهم آثار قوية في الأمم الضعيفة، له سلطان على الإرادة وحكم على العزيمة. يذهل الواهم عن نفسه ويصرفه عن حسه، يخيل الموجود معدوما، والمعدوم موجودا. الوهم كون غير موجود، وعالم غير مشهود. هو روح خبيث يلابس النفس وهي في ظلام الجهل. إذا خضعت الحقائق سادت الأوهام، وتسلطت على الإرادات فقاد إلى الضلالة.
17
صفحه نامشخص