كلمة تقديم‏

مقدمة: بقلم المترجم‏

مقدمة‏

1 - النفس‏

2 - النشاط الذاتي1‏

3 - الإرادة‏

4 - المذهب الجبري: التحدد‏

5 - المذهب الجبري: السببية‏

6 - المذهب الجبري: إمكان التنبؤ‏

7 - الجبر الذاتي‏

مراجع البحث‏

كلمة تقديم‏

مقدمة: بقلم المترجم‏

مقدمة‏

1 - النفس‏

2 - النشاط الذاتي1‏

3 - الإرادة‏

4 - المذهب الجبري: التحدد‏

5 - المذهب الجبري: السببية‏

6 - المذهب الجبري: إمكان التنبؤ‏

7 - الجبر الذاتي‏

مراجع البحث‏

الجبر الذاتي

الجبر الذاتي

تأليف

زكي نجيب محمود

ترجمة

إمام عبد الفتاح إمام

كلمة تقديم

هي كلمة أردت بها أن أقدم إلى القراء مترجم هذا الكتاب قبل الكتاب نفسه؛ لأنه إذا كان الكتاب مشتملا على معرفة علمية قد يحسن تحصيلها، فعمل الأستاذ المترجم هنا منطو على قيمة خلقية سامية تستحق الذكر والإشادة، هي قيمة الوفاء - وفاء تلميذ لأستاذه.

أما الكتاب في أصله الإنجليزي فهو الرسالة التي حصلت بها - منذ ربع قرن - على جائزة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن؛ وأذكر أني عند عودتي عندئذ إلى مصر، تفضل أستاذي المرحوم محمد شفيق غربال - وكان يومئذ وكيلا لوزارة التربية والتعليم - فأشار على الوزراء بطبعها على نفقتها، وطبعت على نطاق غاية في الضيق، كاد أن يقتصر على بضع هدايا ترسل إلى الجامعات.

ومضت السنون، وغابت الرسالة عندي في أخفى حنايا الإهمال والنسيان، حتى انتبهت على تلميذي وصديقي الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح وهو يحمل إلي مخطوطا به ترجمتها إلى العربية، راجيا أن أراجع الترجمة قبل نشرها.

لقد أحسست خلال المراجعة بشعور عجيب، كان بغير شك خبرة فريدة بالنسبة إلي؛ إذ أحسست بمزيج يختلط فيه الشعور بأني أقرأ نفسي وأقرأ سواي في آن واحد؛ لأنني لم أنفك أثناء القراءة موافقا ومخالفا، ترى هل يكون الإنسان إنسانا أكمل لو ظل عشرات الأعوام ثابتا على فكرة بعينها؟ أم أن الكمال مرهون بالصدق وحده، سواء اقتضى هذا الصدق ثباتا على الفكرة أو انقلابا عليها؟ والحمد لله الذي أنعم علي بصفة الإخلاص لنفسي، أقف عند الفكرة التي أومن بصدقها، غير عابئ بهجمة الناقدين.

قرأت كتابي من جديد، ولكن في صورة عربية، بعد خمسة وعشرين عاما من تأليفه، فوجدتني ثابتا على مضمون الدعوة ، وما مضمونها إلا حرية الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع، فما زلت حتى هذه اللحظة أومن إيمانا راسخا بأن الإنسان كائن مريد حر في اختيار ما يريده؛ وأنه - دون سائر الكائنات - ليس حصيلة سلبية للعناصر الخارجية المحيطة به، بل هو مبدع خلاق، يأتي بالجديد الذي يضاف إلى الوجود خلقا جديدا، يكون له فضله، وعليه تبعته.

غير أني - مع بقاء هذا الأساس مكينا ثابتا - قد اتخذت بإزائه وسائل ليست هي الوسائل التي اتخذتها منذ ربع قرن، حين أنشأت هذه الرسالة العلمية؛ فقد رأيت عندئذ أن أعارض اتجاهين فكريين في تحليلهما للنفس البشرية، هما مذهب هيوم في المعرفة، ومذهب السلوكيين في ميدان علم النفس، على حين أني اليوم أبدأ من هذين الأساسين لأقيم فكري، ذاهبا معهما إلى آخر ما يستطيعان أن يبلغا بي في تحليل الإنسان، فأنا مع هيوم في وجوب أن ترد الأفكار العقلية إلى مصادرها الحسية، وإلا كانت أوهاما لا تفيد، وأنا كذلك مع السلوكيين في رد السلوك كله إلى أفعال منعكسة تظل تتعقد وتتركب بالارتباطات الشرطية على طريق النشأة والتربية طوال السنين، على أني مع الأخذ بهذين المذهبين في تحليل المعرفة والسلوك، أعتقد أنهما لا يستنفدان الإنسان كله، بل تبقى من الإنسان بقية ملغزة تستعصي على التحليل، هي على وجه التحديد البقية التي يكون منها الإنسان، الفرد، المتميز، المريد، الحر فيما يريد، المبدع الخلاق.

فالنتيجة التي أصل إليها اليوم هي نفسها النتيجة التي وصلت إليها فيما مضى، وإن اختلفت خطوات البرهنة والتدليل.

وأحسب أن ما سوف يلفت نظر القارئ المتفحص هو هذا التباين الذي قد يبدو شديدا بين وجهين لرجل واحد: فها هو ذا قد عرف عند طلبته وقرائه بشيء نظري شكلي خال من كل مضمون فكري، يسمى بالوضعية المنطقية، تنادي بطرائق للتحليل دون أن تضيف للناس فكرة إيجابية تحل لهم إشكالا، لكننا نراه في هذا الكتاب يتكلم عن الإنسان، وكأنه قد جمع في بوتقة واحدة عدة فلسفات معاصرة: الظاهراتية، والوجودية، والتطورية البرجسونية، فكيف يريدنا أن ندمج هذين الوجهين في رجل واحد؟

ولست أرى هذا التباين كله بين الموقفين، وكل الفرق - كما أراه - هو فرق بين منطق التحليل حين يكون مجردا، وهذا المنطق التحليلي نفسه حين يدخل ميدان التطبيق، فهذه الرسالة في حقيقة أمرها إن هي إلا موضوع استخدمت في بحثه أدوات التحليل، التي من شأنها أن تفتت الفكرة المجملة إلى عناصرها البسيطة، فتلقي ضوءا على محتواها، حتى إذا ما عهدنا إلى وضعها في السياق، كانت أقدر على توصيلنا إلى نتيجة أو نتائج.

وأترك الكتاب وما فيه لنقد الناقدين، لأعود إلى صديقي صاحب الترجمة، فأشكر له هذا الجهد الذي عاناه، وإني لأعلم الناس به؛ لأنني أعلم كم كان الأصل الإنجليزي مركزا مكثفا، وكم يصعب عند الترجمة أن تجمع بين أمانة النقل والمحافظة على الصورة الأصلية في تركيزها وتكثيفها. فللأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام شكر مني على وفائه، وشكر على جهد مجهد بذله، وشكر ثالث على أن طلب إلي مراجعة ترجمته، ولم تكن في الحق، بحاجة إلى مراجعة، لكنها فرصة سعيدة التقيت به فيها مرة أخرى في عالم الفكر، كما التقينا كثيرا عدة مرات سبقت، التقاء زميلين، برغم ما قد يظنه الظانون، بل ما قد يظنه هو نفسه، من أن لقاءنا كان لقاء طالب بأستاذ؛ وله مني الدعاء المخلص بالتوفيق والسداد.

زكي نجيب محمود

مقدمة: بقلم المترجم

يكاد يجمع الباحثون على أن «حرية الإرادة» من أعقد الموضوعات التي درستها الفلسفة على الإطلاق، وأكثرها إثارة للضجيج والجدل، منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر: من أفلاطون حتى سارتر.

فهو من بين الموضوعات القليلة التي اشتركت في دراستها علوم متعددة؛ إذ يضرب بجذور عميقة في: الفلسفة، واللاهوت، والاجتماع والأخلاق، وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والقانون والبيولوجيا ... إلخ. بل إن علماء الطبيعة أنفسهم دخلوا أطراف نزاع في هذه المشكلة. وربما لا يكون ذلك غريبا في حد ذاته طالما أن الموضوع يتعلق بوجود الإنسان ذاته، وهو لغز محير، لكن الغريب حقا، أنه رغم تكاتف هذه العلوم جميعا في دراسة هذه المشكلة، فإن الفشل في حلها كان عاما ؛ إذ لا يزال يحتدم الجدل حولها حتى الآن، ولا يزال لها مكانها المرموق في الفلسفة المعاصرة.

فهي من الناحية الفلسفية إحدى المشكلات الرئيسية في علم الأخلاق المعاصر؛ ذلك لأن الأخلاق إنما تقوم على مبدأين أساسيين؛ هما: الاستحسان والاستهجان، «أو اللوم والثناء»، وهما ينهاران مع غياب الحرية؛ فلو لم يكن في استطاعتك أن تقول لشخص ما إنه ينبغي عليك أن تفعل الفعل «س» وأن تمتدحه إذا فعله، وتلومه إذا لم يفعله، فلن يكون ثمة حكم أخلاقي. وإذا لم يكن في استطاعة هذا الشخص إلا أن يفعل الفعل «ص»؛ فسوف يكون من اللغو - يقينا - أن نقول إنه كان ينبغي عليه أن يفعل الفعل «س»، مثلما يكون من اللغو أن نقول عن الحجر الذي يسقط من حالق إنه كان ينبغي عليه أن يسقط إلى أعلى لا إلى أسفل؛ وباختصار ما لم تكن لدى الإنسان قدرة على الاختيار، فسوف تغدو الأخلاق بلا معنى.

1

ومن هنا فإننا نجد الفيلسوف الألماني المعاصر «نيكولاي هارتمان

Nicolai Hartman » على سبيل المثال يقيم مذهبه في «الأخلاق على مبدأ أساسي يقول: إن الفعل الخلقي القائم على الإرادة الحرة هو وحده الذي له قيمة، ويخصص «هارتمان» ثلث مؤلفه الضخم الموسوم باسم «علم الأخلاق

Ethics » لدراسة مشكلة حرية الإرادة».

2

كما أن هذه المشكلة لا تزال، حتى يومنا هذا، تلعب دورا بارزا في فلسفة الدين، بل إن بعض المذاهب اللاهوتية ينظر إلى حرية الإرادة على أنها دليل قوي على وجود الله. فها هو ذا جانب «روحي» خالص لا يخضع للطبيعة ولا للتفسير العلمي، أفلا يدل ذلك على أن الطبيعة ليست كلها «مادية»؟ ومعنى ذلك أنهم يتخذون من هذه المشكلة «الملغزة» التي «استعصى حلها» برهانا «على وجود قوة روحية عليا هي الله». وهم من ناحية أخرى يهتمون بدراسة هذه المشكلة؛ لأن تعاليم الدين لا تقوم لها قائمة إلا إذا كان الإنسان حرا، (رغم ما في ذلك من مفارقة)، أعني إلا إذا كان الإنسان قادرا على عصيان هذه التعاليم وعلى أن يسلك ضدها، بل ضد الله نفسه وضد رغباته؛ بحيث يمكن بالتالي أن يكون مسئولا عن أفعاله. ومع أن علماء اللاهوت يعترفون صراحة أنها مشكلة عسيرة الحل حتى بالنسبة للدين نفسه، فإنهم يصرون - مع ذلك - على حذفها من نطاق العلم، بحجة أنه ليس في مقدوره حلها.

والمذاهب الوجودية من كيركجور حتى سارتر تتخذ من هذه المشكلة محورا لها. فالقول بأن الوجود يسبق الماهية، يعني أن الوجود هو القدرة على خلق هذه الماهية. ويهتم بالتيار الذي يمثله سارتر اهتماما خاصا بهذه المشكلة؛ إذ يرى سارتر أن الإنسان ليس حرا فحسب، لكنه الحرية ذاتها؛ فوجوده هو نفسه حرية، وهو يقاس بمقدار ما يتمتع به من حرية: «لست السيد، ولست العبد، لكني أنا الحرية التي أتمتع بها» ... هكذا يقول «أورست» بطل مسرحية «الذباب»، فحياة الفرد وشخصيته تتوقف على القرارات التي يتخذها بمحض اختياره وكامل حريته.

كما أن هذه المشكلة لا تزال لها أهمية خاصة في فلسفة التاريخ؛ إذ تقوم بعض المدارس في فلسفة التاريخ على أساس أن حرية الإرادة الفريدة التي لا يمكن تكرارها عند الفرد هي القوة المحركة للأحداث التاريخية، ومن ثم فإن جميع ظواهر التاريخ تمثل خلقا جديدا، وليس التكرار إلا عاملا ثانويا فحسب.

3

من ذلك تتضح أهمية هذه المشكلة في الفكر المعاصر، كما يتضح أيضا أن حلها لن يفيد الفلسفة وحدها، لكنه سوف يعطي دفعة قوية لكثير من العلوم. فلا شك أن حل مشكلة حرية الإرادة سوف ينعكس أثره على فهم الحرية البشرية بصفة عامة، طالما أنها تشمل - بالإضافة إلى الإرادة الفردية - مجموع العقل البشري مأخوذا بمعناه الفردي والاجتماعي في آن معا. وإذا كانت مشكلة الحرية أكثر عمومية وشمولا من مشكلة حرية الإرادة، فإن الأخيرة تمثل المركز والنواة للأولى، وإذا لم تقدم - من ناحية أخرى - إجابة شافية لمشكلة حرية الإرادة، فإن التصور العام للحرية سوف يظل ناقصا مبتورا. •••

ولعل هذا هو السبب في النزاع المحتدم بين أنصار حرية الإرادة وخصومها منذ ظهور العلم في القرن السابع عشر.

4

ذلك لأن اكتشاف القوانين العلمية قد أدى أولا إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم إلى التحكم بعد ذلك في سلوك أشياء تعلو على هذه الأرض، كالنجوم والكواكب، ونظر إلى الكون في عصر «نيوتن» على أنه آلة ضخمة أو ساعة دقيقة، يسير كل شيء فيها وفقا لقانون صارم، لكن الإنسان مع ذلك ظل خارج نطاق السببية، أو كانت الطبيعة البشرية لا تزال منعزلة عن الطبيعة بمعناها العام، أعني أنها كانت مستقلة عن الجبرية السائدة في الطبيعة. (وهو ما عبرت عنه النظرية الثنائية عند ديكارت، حين وضعت حاجزا أساسيا بين الطبيعة الفيزيائية والطبيعة البشرية). ثم جاء داروين وكشف عن العملية المنتظمة الهائلة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها، وهنا بدا كأن الزحف المستمر للحتمية ولسيادة مبدأ السببية قد بلغ أقصى مداه، وبدأ التساؤل عن إمكان خضوع الأفعال البشرية نفسها للقوانين الطبيعية. وتولى علم البيولوجيا تدعيم المذهب الجبري حين درس مشكلة الوراثة والبيئة وأثرهما على شخصية الإنسان، ولم يكن ثمة خلاف بين العلماء على أثر هذين العاملين، لكن الخلاف تركز حول القدر الدقيق الذي ينبغي أن ينسب إلى كل منهما، ولا يزال هذا الخلاف قائما حتى اليوم.

غير أن الدراسة البيولوجية للإنسان - شأنها شأن الدراسات العلمية الأخرى - كانت، ولا تزال، تؤيد المذهب الجبري، وتدعم التفسير الحتمي للسلوك البشري، ولا يعني ذلك أن سلوك الإنسان محدود سلفا بما ستزوده به «الجينات» «المورثات» من خصائص، لكنه حتمي، بمعنى أن ما سوف يكون عليه هو نتيجة مركب كونته هذه الوراثة الأولى مع البيئة التي يتطور فيها.

وإذا كان علم البيولوجيا قد انحاز إلى المذهب الجبري، فإن من الباحثين من اتجه إلى علم النفس، آملا أن يؤدي إلى تسوية نهائية لهذه المشكلة، بحيث تقنع أطراف النزاع جميعا. يقول «هنتر ميد» في هذا المعنى: «إن أيا من جانبي النزاع الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر، وما زالت هذه المشكلة أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب. ولكن هناك على الأقل احتمالا في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد . ولو حدث ذلك لكان هذا يوما سعيدا لأمها الفلسفة؛ إذ إن هذا سيثبت مرة أخرى رأيها القائل إنه ليس كل أفراد ذريتها حالات مستعصية مستحيل تقويمها. ولا جدال في أن الفلسفة سوف يسعدها التخلص من هذه المشكلة؛ إذ لا توجد من المشكلات ما أثارت من المتاعب قدر ما أثارت هذه.»

5

لكن يبدو أن «ميد» كان متفائلا أكثر من اللازم، فهذا واحد من علماء النفس في بلادنا، يصف موضوع الإرادة وحده بأنه «من الموضوعات الحائرة التي فقدت أوراق اعتمادها في نظر كثير من المدارس السيكولوجية؛ فهو كالمنبوذ السياسي الذي جرد من جنسيته، فأخذ يجتاز البحار جيئة وذهابا بدون أن يوفق إلى الدخول في ميناء يستقر فيها. فقوم يرون أن موضوع الإرادة من الموضوعات الميتافيزيقية العامة التي يجب أن تعالج بطريقة مذهبية على غرار مسألة الوجود والعدم والخير والشر ... إلخ، ويرى قوم آخرون أن موضوع الإرادة لا يتعدى النظر في الحركات الإرادية كما يفهمها العالم البيولوجي ... ويذهب بعضهم إلى أن موضوع الإرادة من اختصاص علم الاجتماع.»

6

غير أن علم النفس في دراسته لمشكلات السلوك البشري بصفة عامة لم ينته إلا إلى تدعيم المذهب الجبري! فهو قد كشف في تحليله لهذا السلوك عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائما نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط يحدث اختيار، وعندما تغيب لا يكون هناك اختيار، كما أن مدرسة التحليل النفسي بصفة خاصة قد دعمت موقف أنصار الحتمية الذاتية

Self-determinism

حين فسرت قوانا الواعية: كالإرادة والعقل والضمير ... إلخ، بأنها محكومة تماما بقوى لا عقلية يرقد معظمها تحت عتبة الشعور، ولا نعرف شيئا عن تكوينها ولا نستطيع أن نحسب مقدار أثرها على الشعور. وهم يصورون المنابع الرئيسية لطبيعتنا ببحر من الغرائز والدوافع ليس له قرار يضطرب بعواصف اللبيدو

Libido

وأمواج الرغبة، وعلى هذه الأمواج يتأرجح الشعور والوعي كما تتأرجح قطعة الفلين على سطح الماء!

وليست مدرسة التحليل النفسي هي وحدها التي تؤدي إلى هذه النتيجة، بل إن معظم مدارس علم النفس المعاصر تدعمها بطريقة أو بأخرى، فالمدرسة السلوكية - مثلا - تحاول أن تدرس الإنسان على أنه آلة تعتمد في سلوكها على المثير والاستجابة. والذهن إما أن يدرس دراسة موضوعية كما يدرس النبات وحركات الكواكب، وإما أن يحذف من مجال الدراسة. يقول «واطسن»: «إن عالم النفس السلوكي يضع الموجود البشري أمامه ثم يقول: ما الذي يستطيع هذا الكائن أن يفعله؟ متى يبدأ في عمل هذه الأشياء؟ وإذا لم يكن في استطاعته أن يعمل هذه الأشياء بسبب طبيعته الأصلية فما الذي يمكن أن يتعلم أن يفعله؟»

7

وهكذا يعالج الموجود البشري كما تعالج «العينة» في المعمل، ويتساءل عالم النفس السلوكي كيف تسلك هذه «العينة» في الموقف الفلاني؟ ومتى تسلك بطريقة معينة، وما الموقف الذي يجعلها تسلك على هذا النحو؟

صفوة القول إن الدراسات العلمية - منذ ظهور العلم في القرن السابع عشر حتى الآن - كانت تتجه إلى تدعيم المذهب الجبري، لكن الغريب حقا أن هذه الجهود المضنية التي بذلها العلماء لم تفلح لا في حل هذه المشكلة ولا في إقناع الإنسان بأن سلوكه حتمي بالضرورة: «ومهما حاولنا أن نقنع الإنسان بأنه أسير الظواهر الطبيعية فإننا لا يمكن أن ننجح تماما في أن نقضي على ما لديه من شعور بالحرية.»

8

فحرية الإرادة يدل عليها شهادة الوجدان ويقنع بها الإنسان أتم الاقتناع: «كما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم يرشده، فكذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها ويقدرها بإرادته. ثم يصدرها بقوة ما فيه.»

9 ... «ولو لم يكن الأمر كذلك، أفكان إجماع الناس ينعقد على نسبة الأفعال إلى أصحابها؟» الوجدان يشهد والحس يشاهد أن الفرد يرفع يده بالسيف ويضرب آخر فيقتله، هو الذي ضربه. ويقول الرائي والمخبر إن فلانا قتل فلانا أو ضربه، أو اعتدى عليه؛ فنسبة الأفعال إلى من صدرت عنه من العباد مما لا يحتاج إلى بحث ولا نظر.

10 •••

وإذا كانت الدراسات العلمية قد أدت إلى تدعيم المذهب الجبري بهذا الشكل القوي الذي وصل إلى حد الشطط في بعض الأحيان، فإن حرية الإرادة لم تعدم أنصارا يقفون بجانبها ويدافعون عنها ويصلون في هذا الدفاع إلى حد الشطط أيضا!

فمذهب اللاجبرية الخالصة على الطرف المقابل يذهب إلى أن الفعل البشري حر حرية مطلقة، فهو بغير سبب وبلا مقدمات على الإطلاق! وبناء على رأي هذا المذهب فإن الإنسان يمكن أن يفعل الفعل «أ» في أية لحظة دون أن يكون هناك ارتباط على الإطلاق بين الحاضر من ناحية أو بين الماضي والمستقبل من ناحية أخرى. والواقع أن هذا المذهب ينتهي إلى نتائج غريبة، فهو يرى أن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا فإنه لا يكون مقيدا في فعله هذا بأي شيء، داخليا أو خارجيا؛ فهو لا يسلك سلوكه هذا لأنه يحقق أعلى رغبة من رغباته، ولا لأنه يجلب أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولا لأنه صادر عن سلطة الواجب الداخلية، وهو ليس مقيدا في فعله بتركيبه الجسمي أو العقلي، أو الوراثة أو البيئة التي نشأ فيها، إنه باختصار شديد يفعل بلا سبب. فليست هناك مقدمات من أي نوع تضطره أن يفعل ويستبعد البدائل الأخرى، فهو لا يرتبط بغاية تغريه بهذا السلوك، ولا بمقدمات تضطره إليه، إن فعله هو ببساطة مجرد صدفة. ومثل هذه اللاجبرية الخالصة أو حرية اللامبالاة تعني العشوائية التي هي سلب للعقل والقانون، فكل شيء ممكن ولا شيء مستحيلا، ولا شيء مؤكدا من حياة الإنسان. فالرجل الفاضل قد ينقلب فجأة إلى رجل سيئ السلوك، ومن ثم فكل محاولات المربي تصبح بغير جدوى!

ولا شيء يهدم المسئولية الخلقية كما تهدمها حرية اللامبالاة هذه؛ لأن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا فإنه يفعله كما قلنا بلا سبب وبلا هدف، ومن ثم فهو غير مسئول عنه. والسلوك الذي أسلكه في لحظة معينة لا يرتبط على الإطلاق بما حدث لي في الماضي؛ إذ لو كانت هناك رابطة بين الماضي والحاضر لكان معنى ذلك أن الفعل - جزئيا أو كليا - يرتبط بمقدمات معينة. لكن القول بأنني في كل لحظة شخص جديد تصدر عني أفعالي في استقلال كامل عن ماضي، فهو يؤدي إلى هدم الهوية، ويعفيني بالتالي من المسئولية، والهوية لا تعني شيئا سوى التشابه الذاتي. والشرط الأول لإمكان أن أكون مذنبا أو غير مذنب، أعني أن أصبح موضوعا لحكم أخلاقي هو هذا التشابه الذاتي، أن أكون أنا نفسي باستمرار شخصا واحدا في هوية ذاتية مع نفسي. وهذا الشرط هو ما ينكره مذهب اللاجبرية الخالصة. •••

لكن ألسنا بذلك نصل إلى طريق مسدود؟ إذا كان المذهب الذي ينادي بالحرية المطلقة يرى أن الفعل البشري حر حرية كاملة، متهافت إلى هذا الحد، ألا يعني ذلك أننا نفسح المجال من جديد للمذهب الجبري؟ لكن المذهب الجبري مرفوض هو الآخر: فكيف يمكن أن نخرج من هذا المأزق؟ وهل يوجد مذهب ثالث؟

يبدو أن هذا الإشكال إنما ينشأ عن مفارقة غريبة نؤمن بها جميعا، وهي أن هناك مجموعتين من المعتقدات المتنافرة - سواء أكان هذا التنافر حقيقيا، أم ظاهريا - نؤمن بهما معا ولا نرضى التخلي عن أي منهما.

فنحن نعتقد من ناحية أننا نستطيع أحيانا أن نختار بين أن نسلك على نحو معين أو أن نسلك ضد هذا السلوك، وأننا مسئولون في الحالتين، وكذلك نعتقد أن تبعة تلك الجوانب من تاريخنا التي لم تكن في حدود اختيارنا يستحيل أن تقع على عاتقنا.

لكننا نؤمن من ناحية أخرى أن الطبيعة مطردة، وأن كل ما يحدث ناتج عن مجموعة من العلل والظروف ويمكن تفسيره بها. ونؤمن على الأخص بأن أفعالنا إنما تصدر عن طبيعتنا الموروثة بعد أن تقوم البيئة بتعديلها، لكن إذا كان كل ما يحدث يحدده سياقه الخاص، فقد يبدو إذن أن أفعالنا تتحدد بواسطة سياقها، وأن اختياراتنا يحددها سياقها أيضا، وقد يبدو - على الأخص - أنه إذا كانت أفعالنا تنشأ عن طبيعتنا الموروثة مع تعديل البيئة لها، فلسنا بمسئولين عن أفعالنا، كما أننا لسنا مسئولين عن طبيعتنا الموروثة وبيئتنا. وباختصار شديد نحن نميل إلى الاعتقاد بأن أفعالنا لا بد أن يكون لها سبب، أو لا بد أن تكون بغير سبب في وقت واحد!

لكن هل يمكن أن يكون هناك مثل هذا التفسير للفعل الحر؟ هل يجوز لنا أن نقول إنه من الممكن أن تكون للإرادة سبب وأن يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حرا؟ انظر أولا إلى المثال الآتي:

افرض أن هناك ساعة تدق آليا حين تكتمل دورتها ساعة كاملة فتخبرنا بالوقت. إننا إذا ما افترضنا في هذه الحالة أن حركات الساعة ليست محددة تحديدا سببيا، لكنها تسير بشكل عشوائي، بحيث تكون دقاتها مجرد صدفة، فسوف يكون من اللغو - يقينا - أن نقول عنها إنها تخبرنا بالوقت. إن الشرط الأساسي الذي يمكننا من القول بأنها تخبرنا بالوقت، بحيث نطمئن إلى ذلك، هو أن تكون محددة تحديدا سببيا. وإذا كنا من ناحية أخرى سوف نقول إن الساعة هي نفسها التي تخبرنا بالوقت فلا بد أن يكون التحديد السببي لحركات الساعة آتيا من عوامل بداخلها ذاتها. أما إذا كانت هذه الحركات محددة بقوى خارجية، وتتحكم فيها عوامل أخرى، فإننا لن نستطيع أن نقول عنها إنها «حرة» في أداء وظيفتها.

11

وإذا عدنا الآن إلى السؤال الذي سبق أن طرحناه: هل يمكن للفعل الحر أن يحدد تحديدا سببيا وأن يظل مع ذلك حرا؟ قلنا إن هذا الموقف هو موقف «الجبر الذاتي»، أو المذهب الثالث بين الجبرية الخالصة أو اللاجبرية الخالصة، فسلوك الإنسان كما يفسره هذا المذهب؛ محدد تحديدا سببيا بقوى نابعة من طبيعته الخاصة، قوى داخل الإنسان نفسه أو هي الإنسان نفسه، وهنا لا تكون «الحرية» و«الجبرية» ضدين، وإنما تكون الحرية البشرية نوعا من التحديد الذاتي، أو الجبر الداخلي، وهذا ما يسمى بالجبر الذاتي.

وبهذا المعنى وحده نستطيع أن نقول إن الإنسان مسئول عن أفعاله الإرادية. لأن الأفعال الإرادية ترتبط ارتباطا سببيا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه، ما دامت هذه الأفعال تعبر عن طبيعة الفاعل، وتحقق ذاته. وهي في نفس الوقت حرة، لأنها ليست نتاجا ضروريا لشيء آخر خارج طبيعة الفاعل نفسه؛ فبمقدار ما يكون الفاعل مكتفيا بذاته في تفسير الفاعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحد في هذا الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو إنما يكون محددا بذاته أو مجبرا ذاتيا. •••

تلك هي - بإيجاز شديد - النظرية التي يعرضها علينا هذا البحث محاولا أن يثبت أن كلا من المذهب الجبري، والمذهب اللاجبري، محق فيما يؤكده، مخطئ فيما ينكره، على نحو ما سنرى في ثنايا الكتاب بالتفصيل.

غير أن أهمية هذا البحث لا تقف عند هذا الحد؛ ذلك لأنه يكشف لنا جانبا هاما كان مجهولا، من جوانب التطور الروحي عند واحد من المفكرين الممتازين في بلادنا، وكما قلت في مكان آخر:

12

إن الذين يقرءون للدكتور زكي نجيب محمود ويتابعون إنتاجه، وهم كثيرون، لا يعرفون منه إلا جانبا واحدا من جوانب تطوره الفلسفي، وهو الجانب الذي كرس فيه جهده لنشر الوضعية المنطقية والدفاع عنها بكل السبل: تشهد على ذلك محاضراته، ومقالاته، ومؤلفاته المتعددة، فهو الداعية إلى الوضعية المنطقية في بلادنا، والعدو الأول للميتافيزيقا ... غير أن هناك جانبا آخر من جوانب تطوره الروحي قد لا يعرفه الكثيرون وهو تفكير زكي نجيب محمود الشاب أو «مذهبه الأول» - إذا شئنا استخدام الاصطلاح الهجلي المشهور - كما تعبر عنه «مؤلفات الشباب»: على الصعيد الفلسفي ذلك البحث الذي تقدم به لنيل درجة الدكتوراه من جامعة لندن وعنوانه «الجبر الذاتي»، وعلى الصعيد الأدبي ذلك التحليل الرائع الذي كتبه أستاذنا في صدر الشباب ل «عينية» ابن سينا، وشرح فيه كيف هبطت «الورقاء» متدللة متمنعة من «المحل الأرفع» لتحل في جسد الإنسان.

13

وتلك هي المرحلة الأولى التي مر بها أستاذنا قبل أن يصل إلى «مذهبه النهائي»؛ مرحلة الشباب، بكل ما في هذه الكلمة من قوة وطموح وحيوية، مرحلة الدفاع عن الميتافيزيقا،

14

ونقد هيوم، وتفنيد المدرسة السلوكية، ومحاولة تعريف «الورقاء» تعريفا ميتافيزيقيا خالصا بأنها «الانتباه» بشقيه الذاتي والموضوعي.

ولو تأملنا قليلا هذه المرحلة لاتضح لنا أن كراهية الدكتور زكي نجيب محمود للميتافيزيقا - وهي التي تطبع بطابعها مذهبه النهائي - ليست إلا كراهية العاشق لمعبودته بعد أن يئس من طول الصد والهجران! فلقد حاول هذا المفكر الممتاز أن يصل إلى أغوار الميتافيزيقا فقام برحلة شاقة مضنية، رأى بعدها أن البئر لا تزال عميقة مظلمة، وأن القرار لا يزال جد بعيد، فارتد عنها وهو يقول: ليس الكلام عنها إلا همهمة بغير معنى!

ترى كيف وقع هذا الانقلاب؟ وكيف عبرت السفينة بحر الظلمات الميتافيزيقي إلى بر الأمان في الوضعية المنطقية؟ أغلب الظن أنه تم بتحول روحي عنيف، والتحول الروحي - بصفة عامة - يعرفه كل مفكر أصيل، وهو على درجات متفاوتة؛ فقد يكون بطيئا متدرجا كما هي الحال عند فيلسوف مثل هيجل، وقد يكون عنيفا كما هي الحال عند أغسطين، بل قد يعجب منه المفكر ويدهش له وكأنه تم رغما عنه! كما هي الحال - مثلا - عند أحد علماء الطبيعة «متشنيكوف» الذي تحول إلى عالم أمراض، وكتب في مذكراته يصف هذا التحول بقوله: «انقلبت إلى عالم أمراض، وهو انقلاب لا يعدله إلا انقلاب زمار إلى عالم فلك!» التحولات الروحية معروفة إذن في تاريخ الفكر، وليس ثمة تناقض بين أن يكون للمفكر آراء معينة في صدر شبابه، وبين أن يعدل عنها حين يكتمل تفكيره وينضج، لكن المرحلة الأولى تبقى مع ذلك أساسية في فهمنا لتطوره الفكري، وتلك هي الحال نفسها مع أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، الذي بدأ حياته الفكرية ميتافيزيقيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ثم انتهى إلى عداء كامل لكل المشكلات الميتافيزيقية. والغريب أنه يشبه في ذلك، الغالبية العظمى من فلاسفة هذا القرن، الذين بدءوا هيجليين، ثم انتهوا إلى عداء عنيف للفلسفة الهيجلية.

على أنك واجد بين المرحلتين خصائص مشتركة؛ ففيهما معا ستجد الدكتور زكي نجيب محمود الذي يميل إلى الدقة وتحديد معاني الألفاظ، ويهتم اهتماما رئيسا بالدور الذي تلعبه اللغة والمشكلات التي تنتج عن غموضها، كما أنك ستجد الاتجاه نحو المنطق، والميل إلى وضع الفكرة في رموز وصيغ منطقية خالصة، كما ستجد حاسة الكشف عن المغالطات المنطقية، وستجد أخيرا العرض الواضح للأفكار وتسلسلها.

أود أخيرا أن أتوجه بخالص شكري إلى أستاذي الدكتور فؤاد زكريا، الذي تقبل بصدر رحب، أن ألجأ إليه بين الحين والآخر - أثناء ترجمة هذا الكتاب - كلما غمض علي نص، أو غابت عني فكرة. ولا يفوتني كذلك أن أشكر للدكتور عزمي إسلام ملاحظاته القيمة التي أبداها حول ترجمة المصطلحات المنطقية بصفة خاصة.

وإني لأرجو أن أكون بنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية قد أديت واجبا نحو المكتبة الفلسفية العربية، حين ضممت إليها فكرا عربيا أصيلا، ظل أكثر من خمسة وعشرين عاما، بعيدا عنها، حبيس لغة أجنبية.

والله نسأل أن يهدينا جميعا سبيل الرشاد.

إمام عبد الفتاح إمام

مقدمة

شغلتني مشكلة البحث فيما إذا كان الإنسان حرا أو مجبرا منذ مطلع شبابي، وقد تكون هذه هي الحال نفسها مع غيري من الناس؛ إذ يبدو أن المشكلة تفرض نفسها على الإنسان حين يدرك أنه مسئول أخلاقيا، ولم يتوقف عامة الناس - تماما كالفلاسفة - عن إثارة هذه المشكلة ومحاولة الوصول إلى حل مقنع لها. ولهذا ظهرت آراء كثيرة حول هذا الموضوع، حتى لقد أصبح اختياره موضوعا لدراسة جديدة يبدو عملا غير حكيم. فقد يعتبر مثل هذا الميدان الآن عقيما مجدبا، قد يقال إن ثماره نفدت في عصره. ولكن ما دامت الكلمة الأخيرة فيه لم يقلها أحد بعد، وطالما أن هذه المشكلة ما زالت تلح على العقل البشري، فإن فشلنا في الماضي في الوصول إلى حل لها، يعتبر حافزا للقيام بمحاولة جديدة، أكثر منه مبررا للإقلاع عن دراستها، يائسين من حلها.

لقد ظهرت هذه المشكلة في عدة صور متباينة، خلال المراحل المختلفة التي مر بها التطور العقلي للإنسان، فكانت في صورتها البدائية البسيطة مشكلة لاهوتية، هي: كيف نوفق بين وجود إله قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، من ناحية. وبين حرية الإنسان المسئول أخلاقيا من ناحية أخرى؟ ... وكانت في المرحلة الثانية من النمو العقلي للإنسان مشكلة ميتافيزيقية بصفة خاصة، هي: كيف نوفق بين الحرية الأخلاقية، وبين فكرة السببية وعمومية القانون وشموله؟ ... وأصبحت في العصور الحديثة - بعد أن سلم العلم بنظرية التطور - أكثر دقة وأكثر عمقا، أصبحت مشكلة الحياة نفسها: فهل الحياة حصيلة لعدة عوامل من الممكن حسابها رياضيا، والتنبؤ بها بدقة، أم أنها حدث جديد في مجرى التطور؟ وبمعنى آخر: إذا ما حصرنا المشكلة في نطاق أضيق - وهو نطاق الإنسان الفرد الذي يهمنا الآن - فإن المشكلة تصبح على النحو التالي: هل سلوك الإنسان في لحظة ما مثل «ل» ليس إلا نتيجة ضرورية للظروف الموجودة في لحظة «ل1»، أم أن هناك احتمالا آخر هو أن يكون السلوك الحاضر - رغم اعتماده على الماضي - حدثا جديدا لا يمكن حسابه؟

إن المراحل العقلية التي مر بها ذهني أثناء كتابة هذا البحث لا تخلو من مغزى؛ فقد حاولت بادئ ذي بدء أن أدرس هذه المشكلة متجنبا الأحكام المبتسرة قدر استطاعتي: وغمرني شعور قوي بتأييد وجهة النظر التي تقول إن أفعال الإنسان، كغيره من الكائنات في هذا الكون، ليست إلا حصيلة لعوامل معينة، لو عرفها أحد الرياضيين من أتباع «لابلاس

Laplace » ... لأمكن له أن يتنبأ بسلوكه في دقة تامة. لكني كلما أمعنت التفكير في هذا الموضوع ازداد ميلي إلى الأخذ بوجهة النظر المضادة. وأخيرا انتهيت إلى نتيجة اقتنعت بها جدا، وهي: أن الإنسان حر، لا بمعنى حرية انعدام القانون أو الخضوع للعشوائية، لكنه حر بحرية منظمة تنظيما سببيا، فالفعل الإرادي معلول وهو حر في آن معا، وهذا ما أسميه «بالجبر الذاتي»؛ فالفعل الحاضر لأي فرد معلول لماضي هذا الفرد، لكن الماضي نفسه من صنعه، ولهذا فإن الماضي هو العامل الضروري باستمرار، لكنه ليس علة كافية للفعل الإرادي الذي يحدث في الحاضر. وبمعنى آخر: الفعل في اللحظة الحاضرة عبارة عن ناتج محتمل - لا ضروري - للماضي؛ فالحاضر لا يمكن التفكير فيه بدون الماضي، لكن الماضي يمكن تصوره دون أن يستتبع ذلك بالضرورة تصور الفعل الحاضر.

والواقع أننا لو عرفنا بعض المصطلحات تعريفا دقيقا لقضينا على كثير من المجادلات التي لا لزوم لها. وأنا حين أذهب إلى أن الإنسان حر في أفعاله الإرادية، يجب علي أولا وقبل كل شيء أن أحدد تحديدا دقيقا - بقدر المستطاع - ما أعنيه بكلمتي «حر»، و«إرادة». ومثل هذا التحديد ضروري كذلك لمعنى كلمة «النفس» أو «الذات» إذا ما زعمنا أن الإنسان مجبر ذاتيا، أعني مجبر عن طريق «نفسه». ولقد ذكرت في هذا البحث تفسيري الخاص لكلمة «النفس» أو «الذات»، وهو تفسير إذا ما قبله القارئ فإن بقية البحث ستكون نتيجة مترتبة عليه. إذ لو صح وكان معنى «النفس» هو: الفرد في حالة انتباه إلى شيء ما، فإن الوقائع السيكولوجية سوف ترد في هذه الحالة إلى اختلافات في موضوع الانتباه وإلى تنوع مثل هذا الموضوع. وسوف تكون الإرادة، بناء على ذلك، حالة خاصة من الانتباه، أو مثلا جزئيا للانتباه، يتميز موضوعه بسمات خاصة. ثم يبقى علينا بعد ذلك أن نوضح كيف أن الإنسان في حالة الانتباه يكون إيجابيا فعالا، أعني أنه يكون مبتدئا لا منتهيا. وبهذا تكون وجهة النظر كلها قد اكتملت.

إنني كلما تذكرت التغير الهائل الذي طرأ على ذهني أثناء كتابة هذا البحث، لا يسعني إلا أن أشعر بعميق الأثر للأستاذ «ه. ف. هاليت

H. F. Hallett » بكلية الملك، بجامعة لندن، فأنا مدين له بدين لا يقدر، أشعر به كلما حاولت تقدير مساعداته القيمة وإرشاداته السديدة. وإني لأعلم علم اليقين مقدار التحول الذي طرأ على اتجاهي العقلي؛ ذلك لأن أثره علي قد جاوز النطاق الضيق لهذا البحث، فأدى إلى تحول في طريقة تفكيري أيا ما كان موضوع هذا التفكير.

ولو أن القارئ وجد في هذا الكتاب قدرا من الدقة في استخدام الكلمات، أو درجة من التحليل الذي يجعل الأفكار التي نحللها تبدو واضحة - فإن ذلك كله يرجع إلى شروحه الهادية، وهي شروح لو كان في استطاعتي أن أسير على هديها بدقة أكثر مما فعلت لجاء بحثي من هذه الزاوية - يقينا - خيرا مما هو الآن.

ز.ن.م

الفصل الأول

النفس

(1) تعريف النفس ضروري للنظرية التي تقول إن الإنسان مجبر ذاتيا أو مجبر عن طريق نفسه. (2) يمكن أن تنقسم النظريات الممكنة عن النفس إلى مجموعتين رئيسيتين: نظريات «مركزية» ونظريات «لا مركزية» - «هيوم» و«واطسن» كممثلين للنظريات الأخيرة. (3) نظرية هيوم التي تقول إن النفس حزمة من الإدراكات الحسية. (4-13) نقد نظرية هيوم. (4) هيوم يستخدم فكرة العقل ومع ذلك ينكر وجوده. (5) نظرية هيوم لا تفسر إدراك الأشياء التي رتبت في نظام معين. (6) وهي أيضا لا تفسر الحكم. (7) وهي تفشل في تفسير كيفية إدراك إحساسين يوجدان معا حين يعرف الشخص المدرك أنهما اثنان. (8) نحن لا ننتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع حواسنا. (9) الانطباع وحده لا يستطيع أن يشير إلى واقع يجاوزه. (10) نظرية هيوم ليست مقنعة حين تقول إن الفكرة الكلية هي فكرة جزئية تمثل أفكارا أخرى. (11) هذه النظرية تجعل الاستدلال مستحيلا. (12) لن يكون هناك هوية. (13) منهج الاستبطان ليس هو المنهج الصحيح لاكتشاف وجود النفس، المنهج الصحيح لهذا الغرض هو المنهج الجدلي. (14) النظرية السلوكية. (15-17) نقد السلوكيين. (15) التفرقة بين السبب الداخلي والسبب الخارجي. (16) صيغة (م - س) لا تكفي، الصيغة تتحول إلى (م - ك - س). ولكنها لا تزال غير مقنعة. يجب أن تتحول إلى (ك.م.س). (17) منهج الملاحظة الخارجية لا يصلح لاكتشاف النفس. (18) النظريات المركزية تنقسم قسمين: (أ) النظريات التي ترى أن المركز عبارة عن نفس تقوم بعملية التوحيد. (ب) والنظريات التي ترى أن المركز جانب معين من محتويات خبرة الفرد نفسها. (19) وجهة النظر الأخيرة. (20-21) نقد هذه الوجهة من النظر: (20) لا يمكن أن نرسم خطا فاصلا بين ذلك الجانب من الخبرة الذي تعتبره هذه النظرية مركزا أو محورا، وبين الجوانب الأخرى التي نعتبرها هامشا لهذا المحور. (21) هذه الوجهة من النظر لا تستطيع أن تفسر تكوين التصورات أو إصدار الأحكام، أو القيام بالاستدلال. (22) النظرية التي ترى أن المركز نفس موحدة تعود بدورها فتنقسم قسمين: (أ) النظرية التي تقول إن النفس موجود بسيط مستقل عن الجسم. (ب) النظرية التي تقول إن النفس هي مبدأ الوحدة. (23) عرض النظرية القائلة بأن النفس كائن بسيط ونقدها. (24) النفس هي مبدأ موحد، إنها الفعل المتضمن في الانتباه. لا يمكن تصور الانتباه بغير موضوع، النفس هي ثنائية الانتباه والموضوع الذي ننتبه إليه. (25) الوضع الصحيح للجسم في حالة الانتباه هو جزء من عملية الانتباه، لكن لا هو سبب الانتباه ولا نتيجته. (26) ليس الانتباه ملكة يمكن أحيانا أن تتعطل، الانتباه مستمر حتى أثناء النوم. (27) الانتباه بوصفه فعلا فهو واحد باستمرار، أما التغير فهو يطرأ على موضوع الانتباه وحده. (28) جميع الوقائع السيكولوجية يمكن ردها إلى مقولة واحدة بعينها هي مقولة الفعل مع تنوع في موضوعات هذا الفعل. (29) لا يوجد شيء اسمه «اللاانتباه». (30) تصنيف الانتباه إلى انتباه إرادي وانتباه لا إرادي تصنيف خاطئ، فهو يفترض أسبقية الإرادة على الانتباه، لكن العكس هو الصحيح. (31) نفع الكائن الحي هو الذي يحدد اتجاه الانتباه. يجب أن يفهم هذا النفع بمعناه الضيق والواسع معا. (32) نحن الذين نصنع اطراد الطبيعة نتيجة لما ينتقيه الانتباه. (33) النشاط المتضمن في عملية الانتباه هو الذي يوحد بين الإحساسات المتعددة في إدراك واحد، ومن هنا تأتي وحدة الذات، ووحدة الموضوع على السواء. (34) لحظة الانتباه هي الحاضر، وهي: تتألف من «ما قبل وما بعد»، لكنها لا تتألف من الماضي والمستقبل. (35) التفرقة بين الانتباه المستمر المتصل وأفعال الانتباه. (36) الفرد ككل هو الذي ينتبه. (37) لا يمكن أن نرسم خطا فاصلا بين الانتباه وموضوعه. العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين العمل في حالة الأداء

The doing ، والعمل وقد انتهى

The dead . (38) تصور الجسم المنتبه يحل مشكلة العلاقة بين العقل والجسم. (39) الانتقاء شرط ضروري للغرضية، والغرضية هي الخاصية المميزة للنفس أو الذاتية ...

Selfhood (40) الخصائص العامة التي تميز الإنسان بوصفه موجودا عاقلا يفسرها الانتباه كلها. (41) العمليات النوعية الخاصة مثل التجريد، والحكم، والاستدلال، تعتمد أساسا على الانتباه. (42) الانتباه يفسر وحدة الذات واستمرارها. (1) يبدو أنه من الضروري في بحث يذهب فيه صاحبه إلى أن الإنسان مجبر ذاتيا، أعني مجبر عن طريق «نفسه»، أن يفسر لنا طبيعة «النفس» بأوضح طريقة ممكنة. ويبدو أن صعوبة مثل هذه المحاولة سوف تظل قائمة طالما أن «الإجابة النهائية أو الكاملة» لتساؤلنا عن المعنى الدقيق الذي ينبغي أن تفهم به النفس: «لن نستطيع بلوغها إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تحل فيه جميع المشكلات النظرية.»

1

غير أن القول بأني مجبر ذاتيا أو مجبر عن طريق «نفسي» لن يكون له قيمة كبيرة ما لم يكن لدي فكرة واضحة - كبرت أو صغرت - عن حقيقة هذه النفس. وإذا كانت الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع لم يقلها أحد بعد، فلا بد لي مع ذلك أن أقول ما أفهمه من لفظ جعلت منه أساسا للبحث كله. وسوف يلاحظ القارئ أنني أستخدم خلال الصفحات القادمة كلمات: «النفس» أو «الذات»، و«العقل»، و«الخبرة» بمعنى واحد. (2) يمكن أن نقسم النظريات الممكنة عن النفس إلى مجموعتين رئيسيتين، نطلق عليهما على التوالي - فيما يرى برود

Broad - اسم «النظريات المركزية» و«النظريات اللامركزية». يقول برود: «أعني بالنظرية المركزية تلك النظرية التي تنسب وحدة الذهن

Mind

إلى موجود جزئي معين - هو المركز - يرتبط بعلاقة لا تماثلية مشتركة مع جميع الحوادث الذهنية

mentals events

2

التي يمكن أن يقال عنها إنها حالات لذهن معين، ولا يرتبط بمثل هذه العلاقة مع أية حوادث ذهنية لا يمكن أن يقال عنها إنها حالات لهذا الذهن.» وأعني بالنظرية اللامركزية تلك النظرية التي تنكر وجود أي مركز معين من هذا القبيل، وتنسب وحدة الذهن إلى أن أحداثا ذهنية معينة ترتبط فيما بينها ارتباطا مباشرة بطرق خاصة ومتميزة، وأن هناك أحداثا ذهنية أخرى لا ترتبط بالأحداث السابقة بتلك الطرق الخاصة التي ارتبطت بها الأحداث السابقة بعضها ببعض.

3

ويبدو أنه من المناسب أن ننتهي أولا من مناقشة النظرية التي ترى أن من الممكن تفسير وحدة النفس أو الذات دون افتراض مركز موحد، ويمكن أن نأخذ «هيوم» و«واطسن» كمثلين نموذجين لصورتين مختلفتين للنظرية «اللامركزية»؛ استخدم الأول الاستبطان «أو التأمل الباطني» منهجا للبحث، بينما استخدم الثاني منهج الملاحظة الخارجية للسلوك. (3) يرى هيوم أن: «إدراكات العقل البشري بأسرها تنحل من تلقاء نفسها إلى نوعين متميز أحدهما عن الآخر؛ وهما: «الانطباعات» و«الأفكار». وينحصر الفرق بين هذين النوعين في درجات القوة والحيوية اللتين تطبعان بهما العقل ويلتمسان بهما الطرق إلى فكرنا وشعورنا: فأما الإدراكات التي ترد إلينا بأبلغ القوة والعنف فلنا أن نسميها «بالانطباعات»: وإني لأجمع تحت هذا الاسم كل إحساساتنا وعواطفنا، وانفعالاتنا عندما تظهر للمرة الأولى في النفس . وأما لفظة «الأفكار» فأعني بها ما يكون في التفكير والتدليل العقلي من صور خافتة لتلك الإحساسات والعواطف والانفعالات.»

4

والانطباعات والأفكار «تتشابهان» في كل شيء آخر، ما عدا درجة القوة «والحيوية»

5

فالأفكار هي انعكاس للانطباعات، والقاعدة التي تنطبق بغير استثناء هي أن «كل فكرة بسيطة لها انطباع بسيط يشبهها: وكل انطباع بسيط له فكرة تقابله.»

6

وينتهي هيوم من هذا الربط المستمر بين الإدراكات المتشابهة إلى القول بأن هناك صلة قوية جدا بين الانطباعات والأفكار، وأن وجود أحدهما له أثر قوي على وجود الآخر. ومثل هذا الترابط المستمر. لا يمكن أبدا أن ينشأ بمحض الصدفة، لكنه يبرهن بوضوح على اعتماد الانطباعات على الأفكار، وعلى اعتماد الأفكار على الانطباعات. وإذا أردت أن أعرف في أي جانب يقع هذا الانطباع، فما علي إلا أن أتدبر النظام الذي تظهر فيه الانطباعات لأول مرة: وسوف أجد، بالخبرة المستمرة، أن الانطباعات البسيطة يكون لها - باستمرار - الأسبقية على أفكارنا المقابلة لها، لكنها لا تظهر مطلقا في نظام مضاد ... والاتصال الدائم بين إدراكاتنا المتشابهة برهان مقنع على أن الواحد منهما علة للآخر، وأسبقية الانطباعات دليل مقنع أيضا على أن انطباعاتنا علة لأفكارنا لا على أن أفكارنا هي سبب انطباعاتنا.

7

ومعيار صواب فكرة من الأفكار هو - تبعا لنظرية هيوم - إمكان تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي نشأت. ويقول هيوم، تطبيقا لهذا المقياس على فكرة النفس الموحدة، إنه لا وجود لمثل هذه الفكرة: «وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ ... ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائما لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها؛ لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائما على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، الحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضا، ويستحيل عليها أبدا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة، وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تستمد من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هناك فكرة كهذه.»

8

وهكذا نجد أن منهج الاستبطان، الذي استخدمه هيوم، لم يساعده في الكشف عن النفس الموحدة التي ترد إليها الإدراكات الجزئية المختلفة: «... إنني إذا ما أوغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتني دائما أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، ... لكنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك ...»

9

وهكذا انحلت النفس التي استبطنها هيوم إلى مجموعة من الانطباعات والأفكار التي يرتبط بعضها ببعض بطريقة خاصة، ويستدعي بعضها بعضا وفقا لقوانين معينة. وما العقل «إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها بعضا في سرعة هائلة لا يمكن تصورها، وهي في حركة وتدفق لا ينقطعان ... فالعقل أشبه ما يكون بالمسرح، تتعاقب عليه الإدراكات المختلفة الكثيرة تعاقبا سريعا، واحدا في إثر واحد، وهي لا تفتأ في مرورها هذا السريع يختلط بعضها ببعض لتتكون منها تركيبات، لا نهاية لاختلافها، ولا حد لصنوفها وأوضاعها، حتى لنستطيع أن نجزم بأن «النفس» لا تكون نفسا واحدة بسيطة مدى لحظة واحدة من زمن، كلا ولا هي تؤلف «هوية» واحدة تجمع العناصر المختلفة ... على أن تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي أن يضللنا، إذ ليس العقل إلا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها.»

10 (4) يمكن أن تثار ضد هذه النظرية اعتراضات كثيرة؛ فهي لا يمكن أن تكون مقنعة؛ فلقد أباح هيوم لنفسه أن يستخدم فكرة العقل بوصفه كائنا له وجود مستقل، رغم أنه ينكر عليه هذه الصفة. فهو يقول إن الانطباعات والأفكار: «يطبعان العقل» ويلتمسان الطريق إلى فكرنا أو شعورنا. وهو كذلك يتحدث عن الانطباعات كما تظهر «في النفس». حقا إن فكرة العقل بوصفه صفحة بيضاء

Tabula Rasa

قد تكون مسئولة عن الفصل بين الذات ومحتواها النفسي، وهو انفصال قد يؤدي إلى تجاهل الذات تماما وإدراك الحالات الذهنية بوصفها الجانب الوحيد المقبول. لكن الصفحة البيضاء نفسها لا يمكن أن تكون أكثر من تجريد، إذ في اللحظة التي تبدأ فيها الحياة الشعورية الواعية فإن هذه الصفحة لا يمكن أن تظل بعد ذلك بيضاء، ومن هنا كان الإحساس مستحيلا بدون الذات الواعية، لكن العكس صحيح أيضا، أعني أن الذات الواعية بدون الخبرة لا وجود لها، والحق أن استخدام كلمة «الصفحة» ذاتها لوصف العقل هو استخدام مضلل، حتى ولو سلمنا بأن هذه «الصفحة» لا يمكن أن تكون «بيضاء» على الإطلاق. وسوف نفهم العقل في هذا البحث - كما سنوضح بعد قليل - على أنه الفرد منتبها إلى شيء ما، أعني أنه الكائن الحي كما يعمل بطريقة معينة. (5) لا يمكن أن تكون الانطباعات والأفكار هي كل ما هنالك. فافرض مثلا أنني تلقيت انطباعا عن عدد من الحصى مرتبة بنظام معين، فكيف يكون في استطاعتي أن أدرك ترتيبها في هذا النظام لو كان الانطباع (مضافا إليه انعكاسه الفكري) هما كل ما عندي؟ إن فكرة الترتيب في نظام معين ليست - يقينا - جزءا من الإحساس بما هو كذلك. وقد يعترض معترض فيقول: إن المعطى الحسي نفسه له شيء من النظام الداخلي، وهذا صحيح، لكن القول بأن هذا المعطى الحسي المعين له لون من النظام الداخلي شيء، وإدراك هذا النظام بما هو كذلك شيء آخر مختلف عنه أتم الاختلاف. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نقول: إنه ليس من الضروري لكل شخص خبر هذا المعطى الحسي أن يدرك مثل هذا النظام؛ لأن إدراك ترتيب حبات الحصى في نظام معين يحتاج إلى مقارنة أماكن هذه الحبات بعضها ببعض، وعملية المقارنة هذه تحتاج إلى شيء آخر فوق الأشياء التي نقارن بينها أو أعلى منها. والواقع أننا حين نقول إن حبات الحصى مرتبة على شكل مثلث، فإننا في هذه الحالة لا نكون «تصورا»، وإنما نصدر حكما، وإصدار الحكم فعل يحتاج بالضرورة إلى فاعل. (6) في استطاعتنا أن نتصور الانطباعات والأفكار وهي تتشكل في قضايا، لكن من الصعب أن نتصور كيف يمكن إصدار حكم على هذه القضايا بدون فعلي الإثبات والنفي. ومثل هذه الأفعال - كما أشرنا الآن توا - تفترض بالضرورة وجود فاعل. وبأي معنى شئت أن تفهم به الحكم؛ فأنت مضطر لافتراض وجود شخص هو الذي أصدر مثل هذا الحكم، بحيث يقبل - أو يرفض، أو يعلق - الحكم على القضية المطروحة أمامه. صحيح أن هيوم كان حذرا؛ فاحتاط لنفسه من مثل هذا النقد، فذهب إلى أن الحكم نوع من الإدراك.

11

فالحكم الإيجابي عنده: «ليس إلا تصورا قويا سريعا لفكرة ما، كما لو كنت تقترب إلى حد ما من انطباع مباشر.»

12

لكن الحكم لا يمكن أن يكون مجرد القوة والحيوية لفكرة ما أو لعدة أفكار. لأن مثل هذه الأفكار ليست إلا أحداثا نفسية، أعني مجرد مضمون فكري، في حين أن الحكم: «فعل يشير مضمونه الفكري إلى واقع يقع وراء هذا الفعل.»

13

ولو كان كل انطباع عبارة عن فكرة - وكل ما عندنا عبارة عن فكرة - بالغا ما بلغت حيويتها - فإننا لن نستطيع أن ننفي أو أن نثبت شيئا.

14

وإذا كان الحكم مستحيلا بغير فاعل يجاوز المضمون الفكري، فسوف تصبح المعرفة بدورها مستحيلة؛ ذلك لأن القضايا وحدها لا تكون معرفة، لكنها تصبح معرفة حين نثبتها أو ننفيها، أو بمعنى آخر حين نصدر عليها أحكاما.

15 (7) وفضلا عن ذلك فلو كنا لا نملك سوى الانطباعات والأفكار وحدها، فمن أين نعرف أن هناك إحساسين مختلفين يوجدان معا إذا ما صادفتنا مثل هذه الحالة؟ افرض مثلا أنني أنظر إلى إحدى الصور، وأستمع إلى أنغام الموسيقى في آن معا، فلو أنني كنت على وعي بأنهما إحساسان مختلفان، فإن هذا الوعي نفسه دليل على وجود شيء آخر غير الإحساسين هو الذي مكنني من أن أعرف أنهما إحساسان اثنان وليسا إحساسا واحدا. (8) من الواضح أننا لا ننتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع الحواس في لحظة معينة، لأن انتباهنا ينتقي منها انطباعا معينا. فأنا - مثلا - لم أكن أدرك الانطباع الحسي لما أرتديه من ثياب إلى أن وجهت انتباهي إليه الآن فقط، مع أن هذا الانطباع كان موجودا طوال الوقت، لكني لكي أعيه؛ كنت في حاجة إلى توجيه انتباهي إليه . ومنذ دخلت قاعة المكتبة، واتخذت فيها مجلسي، وساعتها لا تنقطع عن الدق الرتيب الخافت المتتالي بشكل منتظم ومطرد. لكني لم أكن أسمع هذه الدقات الخافتة لأني لم أكن قد انتبهت إليها، على الرغم من أن الموجات الصوتية التي تحدثها هذه الدقات لم تنفك عن طرق طبلة أذني. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: من ذا الذي يختار هذا المعطى الحسي أو ذاك - دون بقية المعطيات - ليكون موضوعا للانتباه؟ لا يمكن أن تكون الإحساسات، بما هي كذلك، هي التي اختارت نفسها بنفسها، بل لا بد أن يكون هناك شيء غيرها هو الذي قام بهذا الاختيار. (9) إذا كانت الانطباعات والأفكار هي وحدها ما تتضمنه عقولنا فسوف يكون مستحيلا عليها أن تعني شيئا، أي إنها ستفقد قيمتها بوصفها رمزا يشير إلى شيء آخر غير وجودها ومضمونها، فنحن حين يكون لدينا انطباع أو فكرة، ندرك ما هي

that it is

وماذا تعني

what it is

16

لكن الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا يمكن أن تدلنا على ما تمثله في العالم الواقعي، وبعبارة أخرى، الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا تعني شيئا، فهي ليست سوى إشارة أو رمز، ولا بد أن يكون هناك فاعل يجاوز هذه الإشارة ويعلو عليها، هو الذي يفسر لنا ما ترمز إليه. وفضلا عن ذلك فقد يكون لدينا انطباعان متشابهان أتم ما يكون التشابه، ويكون لهما - مع ذلك - معنيان أو أكثر مختلفان أتم الاختلاف. انظر مثلا إلى الرمز الرقمي 23، إنه قد يعني «ثلاثة وعشرين»، أو قد يعني «خمسة» إذا كنت أقصد جمع العددين، وقد يعني «ستة» إذا كنت أقصد ضربهما. ومع ذلك فالانطباع واحد في جميع هذه الحالات. ألا يدل ذلك على وجود شيء فيما وراء الإحساس هو الذي يضفي عليه المعنى في كل حالة من الحالات؟ (10) يرى هيوم في تفسيره لفكرة «الكلية» - مسايرا باركلي - أن «جميع الأفكار الكلية إن هي إلا أفكار جزئية ربطت باسم معين يخلع عليها دلالة أوسع مدى، ويجعلها تستثير - إذا ما لزم الأمر - أفرادا أخرى شبيهة بها.»

17

وهو كذلك : إن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن نفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، وإذا كان مثل هذا الافتراض سخفا في دنيا الأشياء والواقع، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث.

18

وأقل ما يمكن أن يقال ضد هذه النظرية، التي ترى أن الفكرة الكلية لا بد أن تكون في ذاتها فكرة جزئية اختيرت لتكون ممثلة لسائر الأفراد، أن نسأل السؤال الآتي: ترى من أين جاءت فكرة «التمثيل» هذه؟ إننا إذا ما استخدمنا مقياس هيوم نفسه للزم أن نقول إن هذه الفكرة لم تستمد من انطباع حسي يقابلها؛ ومن ثم فلا وجود لها. ومن ناحية أخرى - مكررين ما سبق أن ذكرناه - إننا لا نستطيع أن نعرف أن موضوعات معينة متشابهة، أو أنه يمكن أن يمثلها فرد جزئي من بينها - اللهم إلا إذا ما قارنا بعضها ببعض، لكن المقارنة - كما سبق أن رأينا - تحتاج إلى شيء آخر - يجاوز الأشياء التي نقارن بينها. (11) لو صحت نظرية هيوم فسوف يصبح الاستدلال مستحيلا: «كل استدلال يتألف من عنصرين. فهو أولا عملية

، وهو ثانيا نتيجة

Result . والعملية هي إجراء نقيم به تركيبا معينا، وهي تتناول معطياتها، وبعملية بناء فكري تؤلف بينهما في كل واحد. وأما النتيجة فهي إدراك علاقة جديدة داخل هذه الوحدة

unity .»

19

ولكي نركب مقدمتين أو أكثر في كل واحد فلا بد أن تكون هناك نقاط اتصال والتقاء أو علاقة بين هذه المقدمات، أعني أن أطراف هذه المقدمات

Terminal

التي علينا أن نركب بينها في كل واحد لا بد أن تكون نقاطا واحدة. وهكذا نجد أنه في حالة «أ - ب» و«ب - ج» يتحد فيهما حد واحد هو «ب» بحيث يكون مشتركا بينهما، ولهذا ترانا نربط بينهما على النحو التالي «أ - ب - ج»: «وإذا ما حولنا مقدماتنا إلى كل واحد بهذا الشكل أمكن لنا أن ننتهي إلى النتيجة بمجرد اختبار المقدمات وحدها. فلو كانت «أ - ب - ج - د» صادقة من حيث مطابقتها للواقع، فإننا في هذه الحالة نستطيع أن نجد في «أ - ج» أو «أ - د» أو أيضا «ب - د» علاقات لم نكن نعرفها من قبل ... إننا في البداية نقوم بعمل معين في معطياتنا، وهذا العمل هو البناء أو التركيب، ثم بعد ذلك عن طريق الاختبار نكتشف وننتقي علاقة جديدة، وهذا الحدس هو النتيجة.»

20

وإذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك قلنا: «لو أن هناك ثلاثة أوتار هي أ، ب، ج، ضربت في وقت واحد، واستمعنا إليها فوجدنا أنها جميعا تحدث نغمة واحدة، فإن من الصعب أن نستدل من ذلك أن كلا منها كانت تساير الأخرى في نغمتها. لكن اضرب أولا الوتر أ، ب، ثم اضرب ثانيا ب، ج، فإنه في استطاعتي - في هذه الحالة، إذا لم يكن هناك اختلاف في النغمة بين أ، ب، وإذا لم يكن ثمة اختلاف بين ب، ج - أقول في استطاعتي في هذه الحالة أن أنتهي إلى تكوين مجموعة مثالية في تناسقها هي أ، ب، ج مؤتلفة ومتحدة تماما عن طريق التشابه في نغمة واحدة. وهذه المجموعة عبارة عن مركب ذهني. وإذا كان ثمة إدراك تحليلي أكثر من ذلك فإنه يضيف في هذه الحالة أن أ، ج مؤتلفتان في نغمة واحدة.»

21

وتبدو وجهة نظر «برادلي» هذه متفقة مع وجهة نظر هيوم، فلقد ذهب هيوم إلى أن «جميع أنواع الاستدلال العقلي لا تعتمد إلا على شيء واحد هو المقارنة، واكتشاف تلك العلاقات ... التي قد تكون قائمة بين شيئين أو أكثر. ويمكن أن نقوم بمثل هذه المقارنة: إما حين تكون هذه الأشياء كلها ماثلة للحواس في وقت واحد، وإما حين لا يكون شيء منها ماثلا أمام الحواس، أو حين يكون شيء واحد فقط هو الذي يمثل أمامها، وحين تكون الأشياء ماثلة بعلاقاتها أمام الحواس نسمي ذلك إدراكا أكثر مما نسميه استدلالا عقليا.»

22

وإذا كان كل استدلال يعتمد على حدس لعلاقات جديدة بين الأشياء، علاقات لم نكن نعرفها من قبل، علاقات لم تكن ماثلة لحواسنا أبدا، وبالتالي لم تكن قط جزءا من أي انطباع - إذا كان الاستدلال على هذا النحو، فسوف يصبح مستحيلا إذا ما حصرنا أنفسنا في نطاق الانطباعات وانعكاساتها الفكرية وحدها. (12) إن أية نظرية عن العقل لن تكون كافية - يقينا - ما لم تفسر تفسيرا مقنعا وحدة هذا العقل واتصاله، حتى ولو لم نستطع البلوغ بهذه الوحدة أو هذا الاتصال إلى درجة الكمال. ومعنى ذلك أن ترابط العقل الأفقي والرأسي،

23

لا بد أن يوضع موضع الاعتبار، وأن يدرس دراسة جادة.

لقد كان هيوم واضحا كل الوضوح في نظرته إلى الهوية الشخصية، فليس ثمة انطباع عن «النفس» يمكن أن تنشأ عنه فكرة الهوية البسيطة المتحدة مع نفسها، ونحن لا نكون على وعي تام إلا بالإدراك الجزئي فحسب. ومن ثم كان الإنسان حزمة أو مجموعة من الإدراكات الحسية المختلفة التي تعقب الواحدة منها الأخرى في تدفق مستمر وحركة دائبة. وخيالنا هو الذي يجعلنا نخطئ فنظن أن تعاقب الموضوعات المترابطة هو ذات في هوية مع نفسها.

ونظرية هيوم - كغيرها من النظريات اللامركزية - تفهم وحدة العقل على أنها وحدة نسق أو نظام، لا وحدة نواة. فهناك مجموعة من العلاقات ذات خصائص معينة تقع بين الحوادث الذهنية من جهة، وبين الشرائح المتتابعة لتاريخ الفرد من جهة أخرى، وهذا هو ما يشكل الوحدة المستعرضة والوحدة الطولية للنفس أو الذات - على التوالي. فإذا ما أخذنا قطاعا عرضيا في مجرى الشعور عند الفرد، وجدنا أن الحوادث الذهنية المختلفة التي توجد معا في لحظة معينة من لحظات الخبرة، ترتبط فيما بينها ارتباطا خاصا، حتى إنها تكون لنفسها وحدة ذات خصائص معينة متميزة. ولو أنني من ناحية أخرى فحصت كل تسلسل للقطاعات العرضية التي تشكل تاريخي الماضي، لوجدت أنها يرتبط بعضها ببعض بطريقة متشابهة، لدرجة أن نسق العلاقات الفريد لا بد أن يطبع الفرد بطابعه.

وإذا كان هذا التفسير لوجهة نظر هيوم سليما، فلا بد أن ننظر إلى الضمائر الشخصية على أنها تشير إلى مجموعة خاصة من العلاقات، لا إلى مراكز لهوية ذاتية، لكن الضمائر الشخصية في هذه الحالة مثل: أنا، وأنت ، وملكي ... إلخ، إلخ، سوف تفقد كل معنى لها. صحيح أن البرهان الذي يعتمد على الضمائر الشخصية ليس برهانا حاسما في إثبات وجود مراكز لهوية ذاتية، وهي المراكز التي نفترض أن هذه الضمائر تشير إليها. وأنا أسلم بذلك. إذ قد يعترض معترض - وله الحق في ذلك - فيقول إننا حين استخدمنا هذه الضمائر لم نكتشف في البداية وجود مركز يوحد بين الحالات الذهنية المختلفة، ثم أطلقنا عليه اسما معينا، لكننا فعلنا العكس، أعني استخدمنا أولا الاسم لتسهيل عملية الاتصال بين الناس، ثم بدأنا بعد ذلك في البحث عن موجود يفترض أن الاسم يشير إليه. وقد يقال من ثم إن الضمائر الشخصية ليست إلا تسمية على غير مسميات

misnomers

استخدمت على سبيل التيسير، لا لأنها ضرورية. ومع ذلك فأنا أشعر أنه من المرجح جدا أن يكون الاستخدام الذي لا مفر منه للضمائر دليلا على وجود ذات لها هوية أيا كان معني هذه الذات. ولقد قام «ريموند هويلر

R. whecler » بدراسة تجريبية كان هدفها البحث عما إذا كان من الممكن استبطان مثل هذه الذات. وانتهى إلى أن الأشخاص الذين أجرى عليهم التجربة قد فشلوا - عن طريق استخدام الاستبطان - في اكتشاف أي لون من هذه الذات التي لا تقبل التحليل.

24

غير أن تقارير الأشخاص المفحوصين الذين قاموا بعملية الاستبطان في تجارب «هويلر» صيغت في عبارات مثل: «سألت نفسي» و«حالتي الخاصة» ... إلخ، إلخ، واستخدام الضمائر الشخصية بصورها المختلفة قد لا يكون بالطبع - كما سبق أن ذكرنا - أكثر من لغة مناسبة أو وسيلة سهلة لا ينبغي أن نستنتج منها أية نتائج فيما يتعلق بوجود ذات أو نفس. لكن يبدو لي أننا ينبغي أن نقول على الأقل إنه طالما أن أولئك الذين ينكرون أنهم خبروا الذات قد مارسوا ميزة استخدام كلمات تعني بوضوح الاعتراف بوجود الذات، فلا شك أن هناك احتمالا سيظل قائما، وهو أنه يمكن أن يكونوا قد خبروا فعلا - بطريقة ما - ذلك الذي ينكرونه من الناحية الشكلية. وبعبارة أوضح: إننا لا نستطيع أن نرفض وجود الذات رفضا قاطعا اللهم إلا إذا كان من الممكن أن نعبر عن أنفسنا تعبيرا تاما لا نستخدم فيه إلا الحوادث الذهنية دون أن نلجأ بعد ذلك إلى استخدام الأشكال المختلفة للضمائر الشخصية. ومن ناحية أخرى فسوف نبين بعد قليل أن الاستبطان ليس هو المنهج السليم، الذي يصلح لاكتشاف الذات، ذلك لأن ما نتوقع أن نكشف عنه باستمرار من خلال الاستبطان هو هذه الحالة أو تلك من الحالات الذهنية، أما الكشف عن الذهن نفسه فينبغي ألا نتوقع أبدا أن نصل إليه بهذا المنهج. (13) لقد أعلن هيوم أنه كلما حاول أن يستبطن «نفسه» فإنه «يعثر» باستمرار على حادثة ذهنية معينة بدلا من هذه «النفس»، ومن هنا استنتج أنه ليس لدينا معرفة بشيء اسمه «النفس». لكن القول بأن «النفس» - أو الذهن - لا يمكن أن تخضع للاختبار عن طريق الاستبطان قد يظهرنا - لا على أنه ليس هناك ذهن أو نفس - بل على أن هيوم استخدم منهجا خاطئا حين اختار الاستبطان منهجا لاكتشاف النفس أو الذهن. ولو أننا فشلنا في استبطان الذهن بما هو كذلك، ألا يمكن أن يكون في استطاعتنا مع ذلك أن ندركه باستخدام المنهج الجدلي؟ والمنهج الجدلي يعتمد على فحص ما يتضمنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأننا لا نستطيع أن ننكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض. وذلك يعني أن نتناول بالدراسة والفحص بعض المواقف السيكولوجية لنرى أننا نناقض أنفسنا إذا ما أنكرنا وجود الذهن كشيء تتضمنه هذه المواقف، وفي هذه الحالة نضطر إلى إثبات وجود الذهن.

وإذا ما أخذنا الآن عبارة هيوم وطبقنا عليها هذا المنهج فسوف نجد ما يلي: يقول هيوم «إنني إذا ما توغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتني أعثر دائما على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك ... إنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا على الإطلاق فيما عدا هذا الإدراك.»

25

لكن قوله بأنه يتوغل داخلا إلى صميم نفسه، معناه أنه ينتبه إلى نفسه، أعني أنه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يشير إلى الذهن أو العقل؟ إن وجهة النظر التي يعرضها هذا البحث على نحو ما سنعرف فيما بعد هي أن الذهن

Mind

عبارة عن ثنائية لا تنفصم بين الانتباه وموضوعه. ومهما قيل في معارضة هذه النظرية، وبأي معنى شئت أن تفهم به «الذهن»، فلا بد من النظر إلى الانتباه على أنه وظيفة هذا الذهن. وعلى ذلك فكلما «توغل» هيوم داخل نفسه فإنه ينتبه، ومن ثم فهو يفترض مقدما وجود الذهن.

وسوف نلاحظ أن المنهج الجدلي الذي نقترحه هنا لإدراك الذهن هو نفسه المنهج الذي استخدمه «ديكارت» حين أثبت وجود نفسه بوصفها عملية تفكير. فديكارت لم يزعم أن الذهن موجود لأنه اكتشفه عن طريق الاستبطان، لكنه زعم وجوده لأنه اكتشف أنه متضمن في موقف معين كان يقوم بفحصه، ووجد أن إنكار الذهن لا يعني سوى إعادة إثباته من جديد؛ فنحن أثناء عملية الاستبطان نكون على وعي مباشر بالحالة النفسية التي نقوم بفحصها، لكننا بالإدراك الجدلي الذي نقترحه هنا لاكتشاف الذهن، نستنتج وجوده لأننا نجد أنه من الضروري أن يكون متضمنا في المواقف السيكولوجية.

ولهذا فنحن لا نستطيع أن نوافق هيوم فيما ذهب إليه؛ من أن الذات لا وجود لها؛ لأن الاستبطان لم يظهر له هذه الذات أو النفس عارية؛ ذلك لأن الذات، تدرك من خلال الحالات التي تخضع للاستبطان، لا من حيث هي حالة بين هذه الحالات. إنك لا تستطيع أن تعزل الانتباه لكي تدركه بالاستبطان؛ إذ لو فعلت ذلك لكنت تعزل الانتباه عن طريق الانتباه - وهو دور. (14) والمدرسة السلوكية لون آخر من ألوان النظريات اللامركزية عن النفس؛ فقد حصرت هذه المدرسة نفسها في دراسة أنماط السلوك التي يمكن أن يشاهدها الملاحظ الخارجي، ورفضت الاستبطان منهجا للبحث، معتمدة في ذلك على التجارب المحكمة التي أجراها «بافلوف

» على الفعل المنعكس الشرطي، دون أية إشارة إلى ما يسمى بالشعور. وزعم السلوكيون أن العلوم الطبيعية قادرة على تفسير جميع وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنه ليس ثمة ما يبرر أن نفترض وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنه ليس ثمة ما يبرر أن نفترض وقائع للسلوك البشري لا يمكن أن نعرفها إلا بطريقة أخرى غير المشاهدة الخارجية، وما دام الذهن، من حيث هو ذهن، لا يمكن ملاحظته فقد استبعدوه.

وكل سلوك، بالغا ما بلغ تعقده - كالعمليات التي نطلق عليها اسم التفكير مثلا - يمكن عند هذه المدرسة أن يرتد في نهاية تحليله إلى وحدات من «مثير - استجابة» أو في صيغتها الرمزية «م - س». وهم يستخدمون هذه الصيغة الرمزية لإظهار اعتماد الحركة على المثير. و«م» ترمز إلى «المثير»، و«س» ترمز إلى الاستجابة. وواضح تماما أن هذه الصيغة ناقصة أشد النقصان، فهي تفترض أن «م» مثير معين، يعقبه باستمرار «س» أي استجابة معينة، بغض النظر عن الكائن الحي الذي يثيره هذا المثير. مع أننا نجد الناس في حياتهم اليومية يستجيبون استجابات مختلفة لنفس المثير، ويستجيب الفرد الواحد استجابات مختلفة للمثير الواحد في أوقات مختلفة. خذ مثلا جماعة المسافرين في عربة، يسيرون وسط واد صغير: «هذا الوادي بمعنى ما من المعاني واحد بالنسبة لهم جميعا، فهو جزء من بيئتهم المشتركة. لكنك ستجدهم يختلفون في استجاباتهم له، فهذا واحد منهم، وهو فنان، يبدأ في عزل الموضوعات الموجودة أمامه بعضها عن بعض ليرسمها، في الوقت الذي يرقب فيه شخص آخر - سماك - بسرور كبير برك الصيد التي يكثر فيها السمك، بينما يهتم شخص ثالث - عالم جيولوجيا - بمراقبة منظر الشاطئ الرملي والأماكن المتحجرة، أو يقف متأملا بعض الكتل الصخرية.»

26 (15) ويجمل بنا هنا أن نفرق بين نوعين من الأسباب؛ فهناك أسباب داخلية وأسباب خارجية. فإذا كان سبب التغيرات التي تحدث في موضوع معين يكمن داخل هذا الموضوع نفسه، قلنا إن السبب في هذه الحالة داخلي. أما إذا كانت التغيرات ترجع إلى ظروف خارجية، قلنا إن السبب في هذه الحالة خارجي. فإذا ما وضعت شرارة فوق «بارود» فأحدثت انفجارا، قلنا إن الشرارة ، في هذه الحالة ، هي السبب الخارجي للتغير الذي حدث، وهو الانفجار. لكن الشرارة لا يمكن أن تكون هي السبب «كله»؛ لأننا لا نحصل على هذه النتيجة «أي الانفجار» إذا ما وضعنا الشرارة على الفحم مثلا. ومعنى ذلك أن تركيب البارود نفسه هو الجانب الآخر من السبب، وهو ما نسميه بالسبب الداخلي. وقل مثل ذلك حين يسلك الكائن الحي بطريقة معينة، فقد ننظر إلى بعض العوامل الخارجية على أنها السبب الخارجي لهذا السلوك، لكن تكوين الكائن الحي نفسه لا بد أن يوضع موضع الاعتبار بوصفه السبب الداخلي لهذا السلوك؛ لأنه قد لا يسلك كائن حي آخر نفس هذا المسلك مع وجود هذه العوامل الخارجية نفسها. يقول جيمس وورد

27

في هذا المعنى: «إن ضوء الغروب الذي يرسل الدجاجة لتبيت في حظيرتها، يجعل الثعلب يشرع في التجوال في الغابة بحثا عن فريسته، وزئير الأسد الذي يجمع بنات آوى، يشتت الأغنام ويفرقها.»

28

بل إنك لتجد أن الكائن الحي الواحد نفسه يستجيب استجابات مختلفة للمثير الواحد في بعض الظروف المقبلة؛ لأن أساس السلوك، وأعني به التكوين الداخلي للكائن الحي، قد تغير ولم يعد كما كان من قبل. (16) ومن هنا فإن صيغة «م - س» تصبح غير كافية لتفسير وقائع السلوك؛ لأن التكوين العضوي للفاعل لا بد أن يدخل جزءا من السبب. ومن ثم فحرف «ك»، الذي يمثل الكائن الحي، لا بد أن يدخل في الصيغة التي تتحول بناء على ذلك إلى «م - ك - س» أي «مثير - كائن حي - استجابة»، وهي تعني أن الاستجابة يحددها المثير والكائن الحي.

غير أن ترتيب العناصر في هذه الصيغة لا يزال غير مقنع. ذلك لأن الفرد لا يبقى ساكنا في انتظار سلبي حتى يأتي المثير ليثيره. لكنه على العكس، ينتقي من البيئة المحيطة المثير الذي يلائم طبيعته. وهو يجعل من المثيرات التي تحافظ على وجوده موضوعا للاشتهاء والرغبة. ومن المثيرات التي تؤدي هذا الوجود موضوعا للكراهية والنفور، أما الموضوعات التي تبقى بعد ذلك، أي الموضوعات المحايدة، التي لا تضر ولا تنفع ، فهو يقف منها موقف اللامبالاة. والفرد بهذا الانتقاء والاختيار يحدد البيئة الخاصة التي تناسبه. وعلى ذلك فبدلا من ترتيب الصيغة السابقة «مثير - كائن حي - استجابة»، هناك الآن تعديل مقترح، بحيث تصبح هذه الصيغة على النحو التالي: «كائن حي - مثير - استجابة».

29

فالكائن الحي يعبر عن نفسه من خلال الأشياء الموجودة في بيئته، وهو يتحرك حركة تلقائية، يستخدم البيئة في تحقيق ذاته؛ فالشيء الذي يقع خارجنا لا يكون في البداية مصدر سلوكنا، لكنه يستدعى ويحدد فحسب الطريقة التي نعبر بها عن أنفسنا بالتفصيل في أية مناسبة معينة؛ أي إنه يزودنا بالقنوات التي يجري خلالها سلوكنا التلقائي. (17) لقد أخذ السلوكيون بمنهج البحث المستخدم في العلوم الوضعية - بدعوى أنهم علماء وضعيون - وحصروا أنفسهم بدقة فيما يمكن أن نلاحظه. وبالتالي فإذا زعمت أن هناك «نفسا» هي التي تضفي على أنماط السلوك وحدتها وتجعلها تنتمي إلى شخص له هوية ذاتية، فإنهم سوف يعارضون هذا الزعم على أساس أنه لا يمكن أن يخضع شيء كهذا الذي تزعمه للملاحظة الخارجية. غير أن ما سبق أن قلناه حين تعرضنا بالنقد للمنهج الاستبطاني بوصفه منهجا يستخدم في الكشف عن الذهن، يمكن أن نعيده هنا على منهج الملاحظة الخارجية الذي استخدمه السلوكيون. فالقول بأن النفس «أو الذهن. والمعنى واحد» لا تخضع للدراسة الموضوعية يظهرنا على أن المنهج الذي نأخذ به في الكشف عن هذه النفس منهج خاطئ أكثر مما يبرهن على عدم وجود النفس. وسوف تكون هناك تساؤلات لا حد لها إذا ما قلنا إن منهجا واحدا بعينه هو الذي ينبغي أن يطبق في جميع أفرع المعرفة، بغض النظر عن طبيعة الموضوع الذي ندرسه. ومن المسلم به أننا لا نستطيع أن نجعل العقل أو الذهن بارزا أمام أعيننا للملاحظة الخارجية. لكن لا يزال في استطاعتنا مع ذلك أن ندركه على أنه متضمن بالضرورة في المواقف المختلفة التي ندرسها في سياق البحث العلمي نفسه. ولنضرب لذلك مثلا نوضح به ما تعنيه حالة علم النفس السلوكي نفسه حين يدرس موقفا من المواقف النفسية :

إن عالم النفس السلوكي الذي يريد أن يحصر نفسه في أنماط السلوك، لا يستطيع أن يفعل ذلك. ما لم يكن قادرا على عزل نمط السلوك الذي يريد دراسته من السياق المحكم للكائن الحي والبيئة. وعزل موضوع الدراسة هذا لا يكون ممكنا إلا إذا وجه انتباهه نحو الجانب المطلوب دراسته. وهو جانب لا يمكن أن ينفصل بالفعل عن الكائن الحي الذي يشمله، والباحث بتعديل انتباهه يستطيع التركيز على شيء واحد في لحظة معينة. إن معطيات البيئة معقدة إلى أقصى درجة، ولهذا فإن العالم لكي يدرس جانبا واحدا أو عنصرا واحدا من هذا التعقيد العيني، لا بد له بالضرورة من أن يعزله عن بقية الجوانب أو العناصر. وهذا العزل قد لا يكون ممكنا فعلا إلا في الفكر وحده. وتلك هي الحال نفسها إذا ما أردنا أن نعزل نمطا من أنماط السلوك عن بقية التفصيلات. ولكي نخلق نوعا من أنواع الخلاء حول نمط من أنماط السلوك بحيث يبدو عاريا تماما من التفصيلات التي تغلفه، فإنك لا بد أن تجرد هذا النمط بفضل انتباهك الانتقائي. ومن هنا كان الانتباه موجودا في كل خطوة من الخطوات التي يقوم بها الباحث في بحثه، وهذا يعني - بعبارة أخرى - أننا نفترض مقدما وجود ذهن الباحث، وإنكار وجوده يعني أننا نناقض أنفسنا. (18) اتضح لنا حتى الآن قصور النظريات اللامركزية، وبقي علينا أن نناقش النظريات المركزية، وهي تنقسم بدورها قسمين «أ» النظرية التي ترى أن النفس موجود جزئي، أو نوع من الموناد

monad ، أو «أنا» خالصة، أو موجودة بسيط، وتجعل منه مركزا. «ب» النظرية التي لا تفترض وجود شيء آخر غير محتويات الخبرة، ثم تقتطع من هذا المحتوى شريحة تفترض فيها الدوام وتعتبرها المركز. (19) وترى النظرية الأخيرة - في أكثر صورها اتساقا - أن النفس تتكون من محور داخلي للشعور يعتمد أساسا على ما يسمى ب «الحساسية الحشوية»، أي مجموعة الإحساسات الغامضة للتركيب الجسمي كله. ويقال لنا إن هذه الكتلة من الشعور البدني تبقى على الدوام إما بلا تغير على الإطلاق، أو مع تغير طفيف جدا . وتعتمد مثل هذه النظرية في تفسيرها للوحدة الطولية للفرد على القول بأن قدرا معينا من تلك النواة الداخلية للشعور، تبقى كما هي بلا تغيير أو قريبا من ذلك. أي إن محور شعوري البدني في لحظة ماضية هو نفسه محور شعوري البدني في لحظة حاضرة أو لحظة مقبلة. وإذا ما أخذنا قطاعا عرضيا في هذا الحبل المطرد للشعور البدني، وجدنا أنه على علاقة محددة بالحوادث الذهنية المنوعة. وهذا ما يكون الوحدة العرضية للفرد. والواقع أن هذه النظرية تقع في منتصف الطريق بين النظريات التي ترى أن النفس موجود أعلى من الخبرة، وبين النظريات التي تنكر وجود النفس باعتبارها مركزا، فهي من ناحية تسلم بضرورة وجود مركز، لكنها من ناحية أخرى تعتبر هذا المركز جانبا من محتويات الشعور، وهو بالتالي لا يجاوز هذه المحتويات ولا يعلو عليها. (20) والآن: هب أننا أردنا أن نحلل خبرة الفرد في لحظة من اللحظات، بحيث نقسمها إلى محور دائم للإحساسات، وهامش قابل للتغير، كما تقول هذه النظرية: فأين يمكن يا ترى أن نرسم هذا الخط الفاصل بين المحور والهامش؟ ما هي هذه النواة التي يقال عنها إن البيئة لا تؤثر فيها قط تأثرا ملحوظا؟ «ما هي ماهية الذات التي لا يمكن أن تتغير على الإطلاق ...! الطفولة، والشيخوخة، والمرض والجنون، انبثاق خصائص جديدة، واندثار خصائص قديمة، إنه لمن العسير حقا أن نضع حدا لتغير الذات وتبدلها ... ويضيع هذا المخلوق في أوهام: فقدان الذاكرة، تحول المزاج: مشاعر مريضة في قلب وجوده ذاته - ألا يزال بعد ذلك كله هو الشخص الذي له تلك الذات التي نعرفها.»

30

إن الاعتراض الذي وجهه هيوم لفكرة النفس بصفة عامة، يبدو أنه يصبح اعتراضا حاسما وقاطعا إذا ما وجهه إلى هذه النظرية، أعني نظرية: الكتلة المركزية للشعور بصفة خاصة: «وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين، للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائما لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها ، لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائما على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضا، ويستحيل عليها أبدا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة. وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تستمد من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هنالك فكرة كهذه.»

31 (21) وفضلا عن ذلك فإن هذه النظرية - فيما يبدو - لا تستطيع تفسير التصورات والأحكام والاستدلالات؛ لأنه إذا كان التصور عبارة عن فكرة كلية جردت من الأفراد الجزئية، فمن ذا الذي يقوم بمقارنة هذه الأفراد بعضها مع بعض لكي يجرد الكيفيات والخصائص التي يتألف منها التصور؟ قد يقال إن الكلي هو جزئي ممثل لبقية الجزئيات، لكنا سبق أن رفضنا هذا الزعم في مناسبة سابقة.

32

ومن ناحية أخرى: من الذي يصدر الحكم؟ هل محور الشعور هو الذي يثبت، وينفي، ويعلق قضية من القضايا؟ أضف إلى ذلك أننا لا نستطيع أن نتصور كيف تستطيع هذه الكتلة من الإحساسات أن تدرك العلاقات الجديدة بين عناصر الخبرة، أو كيف يمكن أن تقوم بعملية استدلال. وإذا ما عجزت نظرية من النظريات عن تفسير هذه الجوانب الأساسية عند الإنسان، فإنها لا يمكن أن تكون نظرية مقنعة. (22) سبق أن استبعدنا النظريات اللامركزية لأنها غير كافية، وهي تلك النظريات التي ترد النفس إلى مجموعة من الحالات، دون أي مركز موحد يوجد بغض النظر عن مجموعة العلاقات الخاصة بين هذه الحالات.

ورفضنا أيضا إحدى صور النظرية المركزية، وهي تلك النظرية التي تقبل وجود مركز موحد، لكنها تعتبره الكتلة الشعورية البدنية المتصلة والمطردة. ونحن من ثم مضطرون إلى الأخذ بنظرية تسلم بوجود مركز، لكنها ترفض أن يكون هو نفسه جانبا من جوانب الخبرة.

ومثل هذا المركز يمكن تصوره بإحدى طريقتين؛ الأولى أن نتصوره على أنه موجود بسيط، أو كائن لا زماني، أو روح قائمة في البدن، ومرتبط به ارتباط الجواد بالعربة! (إذا ما استخدمنا التشبيه الأفلاطوني الجميل). والثانية أن نتصوره على أنه مبدأ للوحدة، يكمن وراء خبرة الفرد دون أن ينفصل عن هذه الخبرة، بحيث يصبح قانون الكائن الحي نفسه، ينظم طرقه في الإدراك والتفكير والفعل، لكنه ليس له وجود بمعزل عن الكائن الحي. (23) أما التصور الأول للنفس، أعني تصورها على أنها موجود بسيط. فلا شك أنه يمتاز بقدرته على حل مشكلة الهوية الذاتية للفرد، لكنه من ناحية أخرى يورطنا في مشكلات لا حل لها.

أولا:

سوف نعجز عن تفسير العلاقة بين النفس والجسم تفسيرا مقنعا؛ لأنهما يصبحان كائنين من طبيعتين مختلفتين أتم الاختلاف.

ثانيا:

سوف تبدو النفس في هذه الحالة لا ضرورة لها، أو على الأقل بغير نفع واضح: «إذا ما جعلنا هذه الوحدة

Unit

33

شيئا متحركا في حركة موازية لحياة الإنسان، أو بالأحرى شيئا لا يتحرك، وإنما يقف حرفيا في علاقة مع التنوعات التي تتعاقب على حياة الإنسان، فإن ذلك لن يساعدنا كثيرا، وسوف تكون نفس الإنسان - في هذه الحالة - زائدة تقريبا كنجمه في السماء (إن كان له نجم) الذي ينظر إليه من عل دون أن يكترث كثيرا، إذا ما فني هذا الإنسان.»

34

ثالثا:

إذا ما افترضنا أن هناك تيارا مستمرا لمجرى خبرة الفرد، وعلى طول هذا المجرى توجد وحدة هي التي نسميها بالنفس، فإننا إذا ما أخذنا بهذه النظرية ننجرف يقينا إلى إحراج منطقي: «فإذا كان الموناد يملك التنوع كله الذي نجده عند الفرد أو جانبا معينا منه، فإن علينا في هذه الحالة، حتى إذا ما وجدنا في ذلك هوية الذات، أن نوفق بين هذا التنوع وبساطة الموناد. وإذا كان الموناد من ناحية أخرى يقف معزولا إما بغير خصائص على الإطلاق، أو بخاصية واحدة منعزلة، فإنه قد يكون شيئا جميلا في حد ذاته، لكن من السخف أن نسميه نفسا.»

35 (24) تبقى نظرية واحدة هي القول بأن النفس الموحدة ليست موجودا بسيطا مستقلا، لكنها فعل بواسطته يجمع الفرد ما يبدو أنه يساعده في حفظ وجوده. هذا الفعل هو المبدأ الموحد لمحتويات خبرة الفرد، بحيث تكون واحدة في أية لحظة، رغم تعدد المحتويات وتنوعها ، إنه الشرط الذي بدونه تصبح الرغبة والنفور، والانتقاء والرفض، أمورا مستحيلة. وبدون افتراض من ناحية أخرى لا يستطيع الفرد أن يشعر ويدرك ويفكر. إنه الصورة، أعني الخاصية الأساسية للفاعل السيكوفيزيقي، التي تجعله ينتقي العناصر - مادية كانت أو روحية - التي لا غنى عنها لوجوده. وفي كلمة واحدة: المركز الموحد: هو الفعل المتضمن في عملية الانتباه.

36

غير أن الانتباه لا يمكن تصوره دون موضوع، سواء أكان هذا الموضوع داخليا أم خارجيا. ومن هذه الثنائية: الانتباه إلى شيء ما تتألف نظرتنا إلى النفس، فالانتباه هو الجانب الذاتي، وما ننبه إليه هو الجانب الموضوعي. والنفس هي وحدة «الذات والموضوع» أو هي ثنائية «الصورة والمادة»، والصورة هي فعل الانتباه. والمادة هي الموضوع الذي يقع عليه الانتباه. ومن الواضح أن الجانبين لا يمكن أن ينفصلا، على الرغم من أنهما يمكن أن يتمايزا. فالفرد المنتبه وموضوع انتباهه يتضمن كل منهما الآخر، والواحد منهما مستحيل بدون الآخر. وهذان الجانبان - الجانب الذاتي والجانب الموضوعي - لازمان لتكوين الخبرة أيا كان نوعها: منهما تبدأ الخبرة، وبهما معا تستمر، وليس في استطاعتنا مطلقا أن نحللهما ونردهما إلى فرد منتبه بدون موضوع، أو إلى موضوع بدون الفرد المنتبه. فالجانبان متضامنان، وكل منهما يتضمن الآخر، والصفحة البيضاء

Tabula Rosa

التي تحدث عنها «لوك

Locke » لم تكن أبدا بيضاء في يوم من الأيام، كلا، ولا كانت صفحة بالمعنى السلبي المتقبل

لهذه الكلمة، لكنها كانت باستمرار: يفعل - ينتبه (أي فعل الانتباه). (25) ويتخذ الجسم في حالة الانتباه وضعا خاصا، أو موقفا معينا إزاء الموضوع الذي ننتبه إليه، وهذا هو السبب في أن الانتباه يكون في الغالب مصحوبا بحركات معينة للجسم. لكن هذه الحركات لا هي سبب الانتباه ولا هي نتيجته، وإنما هي جزء منه، فهي تعبر عنه تعبيرا مكانيا. فمن المألوف في حالة الانتباه أن يميل المرء إلى الأمام، أو أن يدير أذنه تجاه مصدر الصوت، أو أن يرفع حاجبيه أو يخفضهما ... إلخ. وهذه الحركات الجسمية تجعل عملية الاختيار أو الانتقاء ممكنة، وهي العملية التي تعتبر الخاصية الجوهرية للانتباه. إذ عن طريق الوضع المناسب للجسم يحدد الفاعل المجال الذي ينتبه إليه وسط البيئة المحيطة به. والانتباه الإيجابي لموضوع معين يصحبه بالضرورة قمع لجميع الجوانب الأخرى. والجانبان الإيجابي والسلبي للانتباه يسهلهما الوضع الصحيح الذي يتخذه الجسم أثناء عملية الانتباه. ومثل هذا الوضع المناسب يعمل كعامل انتقاء، فيفضل التقاط أشياء معينة، ويمحو في نفس الوقت موضوعات أخرى: «إن البحث عن شيء معين يتخذ وضعا يسهل الاستجابة لرؤية هذا الشيء والتعرف عليه. والإصغاء يتخذ وضعا يسهل الاستماع لأصوات معينة. ومن ثم فإن الإصغاء بإمعان قد يسد عليك الطريق إلى ملاحظة شيء مفقود، يجعلك لا تلاحظ الأصوات التي لا بد أن تجذب انتباهك في وقت آخر. وباختصار فإن الاستعداد والتهيؤ لعمل ما، هو في نفس الوقت عدم استعداد وعدم تهيؤ بالنسبة لأعمال أخرى.»

37 (26) الانتباه ليس ملكة بالمعنى الذي ينظر فيه إلى الفرد على أن لديه «قدرة» أو «قوة» أو ملكة الانتباه هي التي تجعله قادرا على الانتباه، بمعنى أنه إذا ما انتبه بالفعل - فإن ذلك يحدث بمساعدة تلك الملكة الموجودة بالقوة، بل إن الذات لا تكون ذاتا إلا لأنها تنتبه فعلا وباستمرار. انظر إلى نفسك في أية لحظة وسوف تجد أن هناك شيئا يشغل انتباهك، سواء أكان هذا الشيء إحساسا أم فكرة أم شعورا ... إلخ. وليست هناك لحظة واحدة في حياة الفرد يمكن أن تخلو من الانتباه خلوا تاما. فالجسم الذي لا ينتبه - ولو أدنى انتباه - هو جسم لا نفس له. وحتى في حالة النوم وغيرها من الحالات اللاشعورية؛ يكون الفرد منتبها إلى مضمون موضوعي، ولا يهم مدى الضآلة التي يكون عليها هذا المضمون. ولو أن حواس النائم كانت موصدة تماما، عن العالم الخارجي لكان معنى ذلك أن أكثر الأصوات ضجيجا لن يوقظه. ويجمل بنا هنا أن نلاحظ أن الأم النائمة قد لا توقظها حركة المرور الكثيفة التي يعلو ضجيجها خارج نافذة غرفتها، في حين أنه من المرجح جدا أن توقظها أقل حركة يحدثها طفلها، وهذا لا يعني فقط أن الانتباه مستمر أثناء النوم ، لكنه يعني أيضا أن الانتقاء والاختيار لما هو هام وضروري موجود في مثل هذه الفترة التي يغيب فيها الوعي الكامل.

والواقع أن الإدراك قد يكون من الضآلة بدرجة تجعلنا لا نلاحظه، وهذه الإدراكات التي غالبا ما لا نشعر بها هي التي يسميها «ليبنتز» بالإدراكات الضئيلة ...

petites perceptions

ويوضح لنا ليبنتز هذه الإدراكات الضئيلة بصوت البحر الذي نسمعه حين نكون بجوار الشاطئ: «إننا لكي نسمع هذا الصوت كما يحدث لنا عادة، فلا بد لنا من أن نسمع الأجزاء التي يتألف منها الصوت كلها، أعني أن نسمع الأصوات التي تحدثها كل موجة على حدة، على الرغم من أن كل صوت من هذه الأصوات يبلغ حدا من الضآلة، بحيث لا يمكن أن يسمع إلا من خلال التركيبة الجمعية التي تأتلف فيها هذه الأصوات بعضها مع بعض، ومعنى ذلك أننا لا نستطيع في حالة زمجرة البحر أن نسمع الأصوات لو أننا عزلنا الموجة التي أحدثتها عن غيرها ولاحظناها بمفردها. ذلك لأن حركة هذه الموجة وحدها لا بد أن تحدث فينا أثرا غاية في الضآلة، ولا بد أن يكون لدينا إدراك لكل صوت من هذه الأصوات بالغا ما بلغت ضآلته، وإلا لما كان لدينا إدراك لمائة ألف من الأمواج، ذلك لأن اللاشيء لو تكرر مائة ألف مرة لما أصبح شيئا.»

38 (27) عملية انتباه إذن عملية مستمرة ومتصلة. والقطاع العرضي للذات في أية لحظة من اللحظات يتألف من الجانب الذاتي للانتباه والجانب الموضوعي لمجال الانتباه. ومن الواضح أن عملية الانتباه بوصفها فعلا لفاعل سيكوفيزيقي هي دائما شيء واحد. وهي هي نفسها؛ إذ لا توجد اختلافات كمية أو كيفية بين الحالات المختلفة للانتباه. وقل مثل ذلك في أي فعل بما هو كذلك؛ فالرؤية واحدة باستمرار وهي هي، والمرئيات هي التي تختلف وتتنوع. والسمع واحد دائما، والأصوات هي التي تختلف وتتنوع. وتلك هي الحال نفسها مع الانتباه وموضوعه: فالانتباه واحد، لكن مجال الانتباه يمكن أن يضيق أو يتسع تبعا لما يختاره الفرد المنتبه. والانتباه في اتساع مجاله أو ضيقه لا يغير من طبيعته. فمن الخطأ أن ننسب هذا الاتساع أو الضيق إلى الانتباه ذاته، كما نفعل عادة في حياتنا اليومية. والواقع أنه بسبب اتساع مجال الانتباه أو ضيقه - زيادة امتداده أو زيادة كثافته - لا تكون الذوات المختلفة كلها واحدة في ثرائها وغناها. كلا، ولا يمكن للفرد الواحد أن يكون دائما واحدا، وهو نفسه باسمرار فيما يتعلق بموضوع الانتباه. وقد يعترض معترض على ذلك فيقول: إن الاختلافات في هذه الحالة سوف ترد كلها إلى الظروف الخارجية، وإن الفرق بين «نفس» و«نفس» أو ذات وذات، سوف تستمد من الخارج لا من الداخل، ومن ثم فالظروف الخارجية المحيطة بالفرد هي التي تجعله على ما هو عليه. غير أن هذا الاعتراض يحرم الانتباه من أخص خصائصه، وهو الاختيار والانتقاء. إن النفس أو الذات تتألف مما يختاره الفرد المنتبه من الظروف المحيطة، لا من مجموعة العناصر المحيطة التي تشكل نفسها في نمط معين. إن هذه العناصر ليست إلا المادة الخام التي يختار منها كل فرد ويشكل منها ذاته بطريقة مميزة فريدة، تجعله في النهاية فردا عينيا حقيقيا: «إن الذات الحقيقية هي شيء يصنع ويكتسب ويتجمع ببذل الجهد والتعب، وليست شيئا يعطى لنا لكي نستمتع به.»

39 (28) إن فعل الانتباه يقبع خلف حياة الفرد النفسية بأسرها، وما يبدو لنا أنه تنوع في الأفعال السيكولوجية ليس في حقيقة الأمر سوى تنوع للجانب الموضوعي، فليس هناك سوى فعل أساسي واحد هو الانتباه، ثم موضوعات متعددة ننتبه إليها، في أوقات مختلفة: ففي الإدراك الحسي أنتبه إلى موضوعات حسية، وفي الإدراك العقلي أنتبه إلى محتويات عقلية، وحتى الأفعال التي تبدو في ظاهرها مختلفة عن تلك الأفعال اختلافا واسعا، مثل أفعال: الإدراك «المعرفة» والنزوع

Cognition and Conation

يمكن كذلك ردها إلى هذا الفعل الأساسي نفسه، أعني الانتباه، مع رد الاختلافات إلى الموضوعات التي ننتبه إليها نفسها. ويكفي أن نلاحظ أن للمعرفة والنزوع نفس خصائص الفعل الأساسي «الانتباه» مما يبرر لنا القول بأنهما معا يمكن ردهما إلى فعل الانتباه نفسه. «يمكن أن يستغرقنا الفعل تماما، كما يمكن أن يستغرقنا الإدراك أو التفكير. وكذلك الحركات - ما لم تكن آلية - تعوق الأفكار، والعكس بالعكس، فالأفكار بدورها - ما لم تكن سلسلة من التداعي - تعوق الحركات وتوقفها. إنه من المستحيل عليك أن ترفع حملا ثقيلا وتستمر في عملية التفكير، استحالة أن تمعن النظر في النقطة الموجودة على حرف «ف» وتواصل الحركة. إن حالة السكر، والتنويم المغناطيسي، والجنون، وكذلك حالة الراحة أو الإنهاك، تؤثر في الإدراك العقلي، كما تؤثر في هزة الأعصاب، سواء بسواء. والسيطرة على الأفكار، مع السيطرة على الحركات في وقت واحد، تحتاج إلى «جهد». وكما أن هناك جهدا

Strain

ذا خصائص معينة في عملية الإصغاء أو التحديق بإمعان، يقترن به مصاحب عضلي، فهناك بالمثل، جهد متميز بخصائص معينة في عملية التذكر أو إعنات الذهن

recollection and intellection . ومن المرجح أن يكون لذلك الجهد قرين بدني مساو أساسا للواحد منهما ... وحين تترابط الحركات؛ فإن فعل الانتباه يكون مطلوبا تماما كما هو مطلوب للربط بين الانطباعات الحسية. وحين تترابط هذه التداعيات ترابطا وثيقا فإن عملية فكها تصبح صعبة، وتتساوى صعوبتها في الحالتين معا.»

40 (29) ولكن قد يسأل سائل: ألا يقال إننا في بعض الأحيان نكون في حالة «لا انتباه»؟ لو أن السائل كان يعني بكلمة «لا انتباه» هذه الغياب الكامل للانتباه، فسوف أجيبه في حسم قاطع كلا؛ ذلك لأن الانتباه موجود باستمرار، وعدم الانتباه إلى شيء بعينه إنما يعني الانتباه إلى شيء آخر، وفضلا عن ذلك، فإن موضوع الانتباه يجب أن يفهم على أنه يشمل مدى واسعا من الدرجات. ونحن في استخدامنا لكلمة «الانتباه»، وتطبيقها على هذه الدرجات جميعا، نستطيع أن نقول إنها تشبه «درجة الحرارة». فكما أن درجة حرارة شيء من الأشياء قد تكون أقل بكثير من نقطة التجمد (أعني تحت الصفر بكثير)، فكذلك قد تكون درجة الانتباه في بعض الحالات غاية في الضآلة، لكن الانتباه مع ذلك موجود، ولو أننا فهمنا الانتباه بهذا المعنى الذي يجعله يشمل مدى واسعا جدا من الدرجات الخاصة بالموضوع الذي ننتبه إليه، فلا يمكن أن تقوم لهذا الاعتراض قائمة بعد ذلك. وقد تفيد الفقرة الآتية التي اقتبسناها من «جون لوك» في توضيح هذا المعنى: «أما القول بأن هناك أفكارا تبقى منها هذه المجموعة أو تلك بشكل دائم في ذهن الإنسان وهو في حالة اليقظة،

41

فهذا ما يقتنع به كل إنسان من خبرته الخاصة، على الرغم من أن الذهن يعمل فيها بدرجات من الانتباه متفاوتة،

42

فهو أحيانا يحصر نفسه بحماس زائد في تأمل بعض الموضوعات، ويقلب أفكار هذه الموضوعات من جميع جوانبها ملاحظا علاقاتها وظروفها، ومهتما برؤية كل جانب على حدة بسرور زائد وانتباه كبير، حتى إنه ليوصد الباب أمام جميع الأفكار الأخرى، دون أن يلاحظ الانطباعات العادية التي تطبع الحواس عندئذ، وهي الانطباعات التي كان لا بد أن تحدث - في وقت آخر - إدراكات نحس بها إحساسا واضحا. وفي أوقات أخرى، يكاد الذهن لا يلاحظ سلسلة الأفكار التي تتوالى على الفهم دون أن يوجهها أو يتعقب أيا منها. وفي أحوال أخرى نراه يتركها تمر - تقريبا - دون أن يلحظها تماما، كما لو كانت ظلالا باهتة لا تحدث أي انطباع.»

43

ومن هنا فلا يوجد بين الانتباه واللاانتباه ذلك الاختلاف الذي يوجد بين الوجود واللاوجود، فليس ثمة سوى اختلاف درجة الانتباه، فكلما ازداد تركيز الانتباه على موضوع معين، ازداد انحسار الانتباه عن موضوعات أخرى، وكلما ركزت انتباهي بإمعان على «أ» انحسر انتباهي بالضرورة عن «ب». غير أن «برادلي» يرى رأيا آخر، فهو يقول: «إن مجرد مثول موضوع معين أمامي، أو عدة موضوعات، لا يعد هو نفسه انتباها ... فأنا لا أنتبه بمجرد إدراكي لموضوع ما أو تفكيري فيه، لكنني أبدأ في الانتباه حين أجاوز ذلك، بحيث أجعله موضوعي أنا.»

my object .

44

لكن هل يمكن أن يكون هناك ظل من شك في أن الإدراك أو التفكير هما دائما إدراكي أنا، وتفكيري أنا، أعني أنه دائما ملكي ودائما خاص بي؟ وفضلا عن ذلك فإن الإدراك أو التفكير الذي لا أنتبه إليه، لا يكون موجودا من أجلي على الإطلاق. والواقع أنه لا يوجد أمامي من الموضوعات إلا ما أنتبه إليه بوصفه إدراكا حسيا أو فكرة أو شعورا أو حركة، أو أيا ما كان نوعه. ويعرف جون ستيوارت مل

Mill

الشيء بأنه الإمكان الدائم للإدراك. وهذا حق. والإدراك يصبح مستحيلا بدون الانتباه، ومن هنا كان من الصواب أيضا أن نعرف الشيء بأنه الإمكان الدائم ليكون موضوعا للانتباه. ومن ناحية أخرى فإننا نستطيع هنا أن نستفيد من تعريف «ليبنتز» للذهن بأنه الإمكان الدائم لعملية الإدراك. وإذا ما استبدلنا الواقع الفعلي بمجرد الإمكان، والانتباه بدلا من الإدراك، لزم أن نقول إن الذهن هو الواقع الفعلي الدائم لعملية الانتباه.

صحيح أنني كلما ركزت انتباهي في إدراك معين أو فكرة بعينها. امتلكته واستحوذت عليه بشكل عميق وأقوى، لكن ذلك لا يتعارض مع القول بأن الإدراك الشاحب أو الفكرة الباهتة هما أيضا إدراكي وفكرتي، على الرغم من أن درجة استحواذي عليهما تكون أقل.

ويري «برادلي» من ناحية أخرى، أن الانتباه ينبغي - لا أن يكون له موضوع فحسب - بل أيضا: «أن يتضمن استبقاء والمحافظة على هذا الموضوع، ولهذا فهو يتضمن بعض التمهل والتأني

Some delay .

45

والواقع أن هذا الاستبقاء أو هذه المحافظة التي يتحدث عنها برادلي هي علامة تتميز بها بعض حالات الانتباه، لكنها ليست سمة ضرورية للانتباه الخالص والبسيط، وإلا فلن يكون في استطاعتنا أن نرسم خطا فاصلا يحدد مدة الزمن التي نستبقي فيها الموضوع الذي ننتبه إليه، أعني أن نرسم خطا، ونقول: تحت هذا الخط لا يكون الفعل انتباها، وفوقه يمكن أن يعد انتباها، فمن الواضح أن مثل هذا الخط الذي يعين الحدود بين المنطقتين لا يمكن رسمه. (30) ويجمل بنا هنا أن ننتهي من مناقشة ذلك التقسيم الشائع للانتباه، ذلك التقسيم الذي قد يضللنا ويجعلنا نقع في خطأ الظن بأن الانتباه على أنواع مختلفة؛ إذ كثيرا ما يقال إن الانتباه ينقسم إلى: انتباه إرادي، وانتباه لا إرادي. وهم يقصدون بالانتباه الإرادي ذلك الانتباه إلى بعض الأشياء أو بعض الأفكار بجهد من الإرادة. أما الانتباه اللاإرادي فهم يقصدون به ذلك الانتباه الذي تجذبه طبيعة الموضوعات ذاتها التي تسترعي الانتباه، مثال ذلك: الصوت المدوي، وومضة الضوء القوية. وبعبارة أخرى يقال عن الانتباه إنه إرادي حين يتم رغما عن إرادة الشخص المنتبه. غير أن هذا التقسيم يقع في مغالطة منطقية هي «مغالطة التسليم بالشيء قبل البرهنة عليه»، فهو يقوم على افتراض أسبقية الإرادة على الانتباه، أو أنها - على الأقل - مقترنة ومصاحبة للانتباه. فإذا ما وجدت الإرادة قبل الانتباه أو معه، سمي انتباها إراديا، وإذا غابت الإرادة، أو إذا ما سبقت إرادة الانتباه إلى شيء آخر الاتجاه الجديد الذي يتجه إليه الانتباه، سمي الانتباه في هذه الحالة انتباها لا إراديا. لكن أسبقية الإرادة على الانتباه أو ملازمتها له، أمر مشكوك فيه، لأن الإرادة هي نفسها نوع خاص من الانتباه، يتميز فيه الموضوع الذي ننتبه إليه بخصائص معينة. وهذه الخصائص التي تجعل الموقف السيكولوجي موقفا إراديا سوف تكون موضوعا لفصل خاص.

46

لا شك أن الظروف التي تؤثر في توجيه الانتباه نحو موضوعات معينة دون موضوعات أخرى، تكمن إلى حد ما - إن لم يكن إلى حد كبير - في طبيعة الموضوعات التي تسترعي الانتباه: فالضوء اللامع، والصوت المدوي، أكثر ترجيحا لجذب الانتباه من الصوت الخافت والصوت الضعيف. وقل مثل ذلك في الموضوع الضخم، فهو أكثر احتمالا لجذب الانتباه من الموضوع الصغير. وأكثر الشروط الموضوعية كلها أهمية في جذب الانتباه هو التغير الفجائي، فتوقف الجلبة والضجيج فجأة، أو بدايتهما فجأة، من المحتمل جدا أن تجذب الانتباه، وتلك هي الحالات التي يقال فيها إن الانتباه لا إرادي.

لكن ما السبب الذي يجعل الضوء اللامع أو الصوت المدوي يجذب الانتباه أكثر من الضوء الخافت أو الصوت الضعيف؟ لماذا كان الموضوع الجديد الذي يظهر فجأة في مجال الانتباه يسترعي الانتباه بشكل قوي؟ السبب دائما هو نفع الفرد ومصلحته. أو بعبارة أوضح: المحافظة على وجود الفرد وبقائه هي التي تحدد ما ينتبه إليه وما لا ينتبه إليه. ومن هنا فإن الضوء اللامع أو الصوت المدوي، أو الظهور المفاجئ لموضوع ما، قد تكون كلها مصادر خطر تهدد هذا الوجود . ولهذا فإننا - بطبيعة تكويننا العضوي نفسه - ننتبه بسرعة إلى مثل هذه الأشياء، لنتجنبها أو لنحترس منها. وسواء أكانت الظروف في ظاهرها ذاتية أم موضوعية، فإن النفع الحقيقي للفرد هو الذي يحدد باستمرار اتجاه الانتباه. ولو افترضنا أن طبيعة تكويننا العضوي كانت على نحو آخر، فربما جذب انتباهنا الضوء الشاحب لا اللامع، والصوت الخافت لا المدوي.

وما أشرنا إليه على أنه «نفع الفرد ومصلحته» ليس شيئا آخر سوي «لذة الحياة»، التي هي نفسها جزء وجانب من الحياة ... ولذة الكائن الحي هي أن يستمر في الحياة، وأن يجدد نفسه باستمرار كحياة جديدة ... ولا يخلو منها لون من ألوان الحياة، فلذة الحياة هي العامل المشترك بين الكائنات جميعا: الأنواع الفطرية، الأنواع التي لا تتحول إلى نوع آخر، من أضأل الحيوانات إلى الإنسان. وإنك لتجد هذا الطابع المشترك في عدة ملايين مختلفة من الأنواع، بحيث لن تفشل ولن تخطئ - ولو مرة واحدة - في ملاحظتها، فعقول الأفراد المتنوعة تنوعا لا حد له، والزواحف، والأسماك، والنحلة، والنملة، والأخطبوط - هي أنواع من الحياة، قد يبدو بعضها غريبا من حيث الذهن أو شكل الجسم - إلا أنها تشترك جميعا - مهما اختلفت - في تلك السمة الدائمة وهي: الاندفاع نحو الحياة، والاستزادة منها، وهي سمة يمكن أن نسميها لذة، وهي لذة موجودة، ويمكن لمن يتساءل عنها أن يتعقبها طوال الأشكال التي مرت بها الحياة، عائدا القهقرى من حياة الإنسان نفسها، ليجد أن اللذة أصبحت دافعا أعمى، ثم ليجد أن الدافع قد تنحى ليصبح باعثا لا عقليا، وقد يكون هو الذهن أيضا.»

47

وهذا الميل الداخلي عند الإنسان، كما هي الحال في كل موجود طبيعي آخر، سواء بسواء، يجعله يرد جميع التغيرات بتلك الطريقة التي تعود عليه بحفظ توازنه ووحدته الخاصة، هذا الميل الداخلي عند الإنسان هو ما يسميه «اسبينوزا» بالنزوع الأساسي

Conatus

للكائن إلى حفظ ذاته، ونزوع الإنسان هو ماهيته: فهذه الطريقة الخاصة من السلوك في أي موقف جزئي هي التعبير عن «نزوعه» تحت ظروف اللحظة الحاضرة. وباختصار: نزوع الإنسان هو إرادة الحياة عنده، وهو ببساطة ماهيته: «التي يخرج منها بالضرورة جميع تلك الأفعال التي تتجه إلى «المحافظة على ذاته» ... وطالما أن ماهية الإنسان ذهنية كما هي جسمية، سواء بسواء، فإن الإنسان يشعر بهذا الجهد الذي يبذله، أعني أن الإنسان لا يتجه إلى تدعيم وجوده الجسمي والذهني فحسب، لكنه يعرف هذا الميل ويشعر به.

48 (31) ولا بد أن يفهم «نفع الفرد ومصلحته» بالمعنى الضيق والواسع على السواء، فهو يشمل المنافع الدائمة والعابرة في آن معا، وانشغالات الفرد الوقتية توجه انتباهه لصالح ما يتصادف أن ينشغل به في لحظة حاضرة أو منذ لحظة قصيرة مضت. وكذلك فإن موقفه العقلي في لحظة ما يفيده في تنظيم انتباهه وتوجيهه. والنفع العابر - في أبسط صوره - يمثله موقف الفرد حين يلقي عليه شخص ما سؤالا في الوقت الذي يكون فيه منتبها إلى شيء ما: «إذا سألت سائلا - أو إذا سألت نفسك - عن الطابع المعماري لساعة البرج القائمة أمامك، فإنك سوف تنتبه إلى طابعها المعماري. لكن من المرجح جدا ألا تلاحظ الوقت الذي تشير إليه الساعة. أما لو سألك عن الوقت فسوف تلاحظه، لكن من المرجح جدا ألا تلحظ الطابع المعماري للبرج، أو حتى الطريقة التي كتبت بها الأرقام على واجهة الساعة، اللهم إلا لو سألك هل هي أرقام عربية أم رومانية ... إلخ.»

49

تلك هي المنافع العابرة أو المؤقتة، لكن هناك أيضا المنافع الدائمة، التي تصلح للمحافظة على وجود الذات بما هي كذلك. وبين هذه وتلك سوف تجد باستمرار أثرا دائما لتجربة الفرد المباشرة، أعني أثرا - كبر أو صغر - لمزاجه ونظرته المستمدة من تربيته السابقة: «فالناس يوجهون انتباههم إلى موضوعات تختلف باختلاف منافعهم، وباختلاف المجالات التي تنتمي إليها هذه الموضوعات. وإنك لتجد من الناس أفرادا يجذب انتباههم في محتويات صحيفة من الصحف موضوعات تختلف باختلاف تجاربهم السابقة.»

50 (32) معنى ذلك أن الانتباه عملية انتقاء ورفض: انتقاء لما يبدو أنه يلبي منافع الفرد، ورفض لما يبدو عكس ذلك. والفرد في هذا النشاط الانتقائي يأخذ ما يساعده على حفظ بقائه ، ويتجنب ما يضر هذا البقاء، ثم لا يكترث بما هو محايد. وتميل بيئة الفرد في هذا النشاط إلى الاطراد، ومن هنا فإننا نقول إن هناك اطرادا في الطبيعة، والسبب أننا نصنف محتوياتها تبعا لنفعها لنا. ومعنى ذلك أن الاطراد في الطبيعة ليس إلا اطرادا في خبرة الفرد؛ لأن الطبيعة لا تحتوي - في الواقع - على شيئين متحدين تماما، وإنما تتألف من أفراد فريدة في نوعها

Unique ، خصوصا فيما يتعلق بموضوع الحياة: «فالحياة فردية تماما كما هي الآن، وكما كانت باستمرار. فليس هناك شيء اسمه «الكلي» فيما يتعلق بموضوع الحياة؛ لأن أية محاولة لتعريف الحياة لا بد أن تنطلق من تصور «الفرد» وإلا فلن تكون حياة.»

51

معنى ذلك أن الطبيعة لا تحتوي على شيئين متحدين اتحادا تاما في هوية واحدة. ونحن حين نوحد بين شيئين في هوية واحدة، فإننا نفعل ذلك لعجزنا عن التعرف على ما بينهما من اختلافات، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمنفعتنا. فالأبقار أمامنا دائما واحدة وهي هي؛ لا لأنها في الحقيقة يتحد بعضها مع بعض في هوية واحدة، ولكن لأنه يبدو أنها جميعا تلبي نفعنا بطريقة واحدة. وتبدأ فردية البقرة في الظهور حين يكون نفع الفرد مرهونا بالعثور على السمات المميزة لتلك البقرة، كما هي الحال في الفنان الذي يريد أن يرسم أو يبرز هذه الفردية. وحين نعرف فئة ما بأن أعضاءها تجمعهم هوية واحدة معتمدين على اطرادهم، فإننا نغض الطرف بالفعل عن نقاط الاختلاف الموجودة بين هؤلاء الأعضاء؛ لأنها لا نفع فيها بالنسبة لأغراض التعريف، وإغفال نقاط الاختلاف الموجودة بين الموضوعات يبدو أنه واحد، وهو لهذا يشكل فئة واحدة، هي التي أطلق عليها «ليبنتز» اسم «هوية اللامتميزات

identity of indiscernibles ». ويقول ليبنتز في كتابه «علم الموناد

Monadology » لا بد أن يختلف كل موناد عن غيره من المونادات الأخرى؛ إذ لا يوجد في الطبيعة شيئان متشابهان أتم ما يكون التشابه، بحيث يكون من المستحيل أن نجد بينهما فرقا داخليا، أو على الأقل فرقا يعتمد على كيف داخلي أو صفة ذاتية ...

intrinsic .

52

ويواصل كل فرد في هذا العالم المتعدد الأشكال البحث عما ينفعه ويجعله يتكرر في مجال الانتباه، ويواصل - في الوقت ذاته - النفور مما يضره ويؤذيه ولا يجعله يتكرر إلا نادرا، وهو من ناحية ثالثة يواصل الحياد مع الموضوعات التي لا تضر ولا تنفع. وعن طريق الانتقاء بهذا الشكل تطرد خبرة الفرد وتتشكل بحيث منفعته دائما هي المركز: «قد يراقب جمع غفير من الناس أشعة القمر وهي تسقط على أمواج الشاطئ في ليلة مقمرة من ليالي الصيف، لكن كلا منهم لن يرى إلا الطريق الفضي الذي ينساب تحت قدميه في خط مستقيم.»

53

وكل فرد في خبرته له بالمثل طريقه الخاص ومركزه ومداه المعلوم. (33) الانتباه بوصفه عملية انتقاء ورفض، يجعل من التنوع المطلق للعالم الموضوعي «كونا

universe ».

54

وهو كذلك يوحد بين الإحساسات المتعددة في إدراك واحد، فهو في عملية الإدراك يحول تنوع معطيات الحس وتعددها إلى موضوع متحد. ونحن بفضل انتباهنا الإيجابي النشط ندرك الموضوع ككل ولا ندركه بوصفه شيئا يظهر من تركيب عناصره. والفاعل المنتبه لا ينتقي من التنوع غير المتعين العناصر الجزئية التي يمكن أن تتشكل في وحدة

unity ، بل إنه على العكس قد لا يشعر بوجود بعض هذه العناصر على الرغم من أن الوحدة التي يدركها قد يكون من الممكن بعد ذلك تحليلها إلى عناصرها التي تتألف منها. وأنا حين أدرك الكل بوصفه كلا فإنني أضفي على العناصر كيفيات معينة لم تكن هذه العناصر على الرغم من أن الوحدة التي يدركها قد يكون من الممكن بعد ذلك تحليلها إلى عناصرها التي تتألف منها. وأنا حين أدرك الكل بوصفه كلا فإنني أضفي على العناصر كيفيات معينة لم تكن هذه العناصر لتملكها بطريقة أخرى. ومعنى ذلك أن نتيجة نشاط الانتباه هي تكامل العناصر في وحدة واحدة. غير أننا يجب ألا نوحد بين النشاط التكاملي وبين الخيال البنائي، لأننا في حالة الخيال البنائي نكون على وعي بالأجزاء التي نبني منها هذا الكل، بينما في حالة الانتباه تتكامل العناصر التي تشكل موضوع الانتباه دون أن نشعر بهذه العناصر ولا بعملية التكامل. وبدون نشاط التكامل المتضمن في عملية الانتباه، فإن هذه المنضدة الموجودة أمامي لا بد أن تكون عددا هائلا من المعطيات الحسية التي لا يمكن التمييز بينها وبين الكثرة غير المتعينة التي تحيط بي. إن الشرط السابق لإدراك المنضدة ككل بوصفها شيئا متميزا عن الموضوعات الأخرى لا يكمن في المنضدة ذاتها، بل في طريقة إدراكي لها، أعني أنه يكمن في طبيعة الانتباه. أما الأسباب التي تجعل المنضدة تظهر كشكل وسط خلفية، بحيث تتميز عن الأشياء الأخرى الموجودة في مجال الرؤية، فهي عبارة عن مجموعة من القواعد شرحها بالتفصيل أصحاب «نظرية الجشطالت».

ويذكرنا ذلك بما يقوله كانط

Kant

عن «الوحدة الترنسندنتالية للإدراك الذاتي». فهذا العنصر الموحد لا غنى عنه؛ إذ بفضله تتجمع جميع معطيات الحس في كل متكامل، وهذه الوحدة للإدراك الذاتي عند كانط ذات فاعلية نشطة في عملية الربط بين المعطيات الحسية في صلتها بذاتها. ومن ثم فإن وحدة الكثرة لا بد أن يضفيها هذا العنصر الموحد على الكثرة بنشاطه الخاص.

وكلما استطاع الفرد، بانتباهه النشط، أن يدرك المظاهر المنوعة لموضوع من الموضوعات في شيء واحد بعينه، أمكن أن يقال عن هذا الفرد إنه على وعي بوحدته الخاصة. والعكس صحيح أيضا، أعني أنه كلما كان الفرد وحدة تظهر في انتباهه النشط، كان الفرد قادرا على إدراك موضوع ما بوصفه شيئا واحدا. ومعنى ذلك أنه إذا قيل إن هناك شيئا من الأشياء، فالسبب أن هناك شيئا ينتبه إليه، وهو ينتبه إليه كشيء واحد رغم تعدده.

معنى ذلك أن وحدة الذات لا يمكن تصورها بدون وحدة الموضوع، فوحدة الذات ووحدة الموضوع يتضمن كل منهما الآخر، ولا يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر. وهاتان الوحدتان معا هما تعبير عن النشاط المتضمن في عملية الانتباه. وطالما أن عملية الانتباه لا يمكن أن توجه إلا إلى موضوع رئيسي واحد في لحظة ما، فإنه لهذا السبب يقال إن الفرد لا يستطيع أن يقوم إلا بعمل رئيسي واحد في لحظة بعينها.

ويجمل بنا هنا أن نسوق للقارئ تعريفا دقيقا - كبر أو صغر - لما نعنيه بكلمة «الفرد». يقصد بلفظ «الفرد» الكل العضوي «الذي تتصف أجزاؤه بصفات خاصة من حيث علاقتها بالكل. ومثل هذا الكل ليس مجرد تجميع لأجزاء مستقلة، بل هو مركب من أجزاء تتحدد من حيث علاقاتها بهذا الكل. والكل الذي تتحد أجزاؤه بهذه الطريقة لا يكون سوى شيء رئيسي واحد في لحظة معينة. لكن ما المقصود بالشيء الرئيس الواحد؟ هذا ما عبر عنه السير تشارلز شرنجتون

Sir Charles Sherrington

بقوله:

55 «إنه فعل حركي من هذا النوع الذي لا يكون لأي حادث آخر يقع معه إلا اقتران ضئيل للغاية في الذهن، في حين أنه هو نفسه يكون له اقتران تام وكامل، إنه ليستطيع أن يفرغ ما بالذهن تماما في «ذاته» ...» وإذا ما ترجمنا هذه العبارة إلى اللغة التي نستخدمها، أمكن لنا أن نقول: إن الشيء الرئيسي الواحد الذي يكون عليه الفرد بما هو كذلك في لحظة ما، هو فعل الانتباه الموجه أساسا إلى موضوع واحد بعينه.

وهذا الموضوع قد «يمتص» أو يستغرق انتباهنا كله، بحيث نجد أن الموضوعات الأخرى التي تقع في مجال الانتباه تنزاح إلى خلفية هذا المجال. ويستمر «سير تشارلز شرنجتون» فيقول:

56 «هناك مراتب من الفعل. فنحن نعتقد في أنفسنا، وفي غيرنا من الناس، أننا مشغولون في هذه اللحظة أو تلك بهذا العمل أو ذاك. وهذا حق. فكل منا في أية لحظة، من لحظات اليقظة عبارة عن حزمة كاملة من الأفعال المتآنية، ووسط هذه الحزمة هناك فعل رئيسي واحد، أو فعل مركزي بعينه، تتركز عليه نظرتنا الخاصة بوصفه الفعل الذي نقوم به أساسا في هذه اللحظة الراهنة. وأيا ما كان هذا الفعل الرئيسي فإن هناك أفعالا أخرى تشترك معه وتتحد به وتساهم فيه، بعضها بنصيب كبير وبعضها الآخر بنصيب أقل. وهناك أفعال أخرى بعضها لا يكون له علاقة على الإطلاق بهذا الفعل الرئيسي، وبعضها الآخر تكون علاقته ضئيلة للغاية، لكن لا توجد حالة من الحالات تكون فيها هذه الأفعال الجانبية مزعجة للفعل الرئيسي المركزي. وعلى ذلك فكل منا في أية لحظة عبارة عن نموذج للفعل الإيجابي النشط، نموذج بسيط من شرائح كلها ثانوية بالنسبة للفعل الأساسي. ولا يسمح لأي جزء من أجزاء هذا النموذج بإزعاج الفعل المركزي الأساسي. إنه لو حدث ذلك لتغير النموذج كله، ولأصبحت الشريحة المزعجة هي الفعل المركزي في نموذج جديد يزيح النموذج السابق ويحل محله. وتصبح هذه الشريحة الرئيسية تاجا للفعل الموحد في اللحظة الراهنة».

ومن ثم فإن القول بأن الجوانب المختلفة من الفرد تتقارب وتتحد في نشاطها هو - فيما يبدو - العلامة المميزة لما نسميه بالفردية. وبعبارة أخرى، فإن اتصال الزمان في نشاط أجزاء نسق ما، يجعل من هذا النسق كلا متكاملا. ومعنى ذلك أن الإنسان في حالة الفعل يكون فردا،

57

أي كلا تلتحم أجزاؤه تماما. فإذا كانت الأجزاء المتعددة التي يتكون منها تركيبه العضوي قادرة على القيام بأفعال منفصلة، فإن هذه الأجزاء كلها تتحد وتتآزر - حين يعمل ككل عضوي - لتقوم بعمل واحد؛ لأن الفرد لكي يتحد فإنه لا يحتاج إلى مركز مكاني موحد، وإنما اتحاده يكفله تماما تعاون الأجزاء واتجاهها نحو فعل واحد: «فالاتصال الزماني في النشاط يعفي من الحاجة إلى التركيز في المكان».

58

والقول بأن وحدة الذات ووحدة الموضوع يتضمن كل منهما الآخر يتضح تماما حين نقول إن خبرة الشخص المنتبه في أية لحظة من اللحظات هي نفسها عبارة عن وحدة، فأيا ما كانت عناصر هذه الخبرة فإنها تتحد وتلتحم في نمط واحد، أو أنموذج واحد، له مغزاه: «إن الجانب الوحدوي للخبرة في لحظة ما هو نفسه جانب من وحدة «الأنا». وهناك أشكال سيكولوجية تسمى بالأشكال المزدوجة المنظور؛ لأنها تبدو في لحظة شكلا معينا وفي لحظة أخرى شكلا آخر ... ولكنها باستمرار هذا الشكل أو ذاك. أليس من التبسيط المفرط أن نشبه ذلك بتفسير الذهن «للآن» على أنها باستمرار موقف له معنى واحد؟ إن الخبرة المتكاملة هي التي تعتبر موقفا واحدا في لحظة معينة تماما، كما أن الفرد المتكامل حتى بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى الفرد على أنه آلة - آلة تستطيع القيام بأعمال كثيرة، ومع ذلك فهذه الآلة لا تستطيع أن تقوم، في اللحظة الواحدة، إلا بعمل رئيسي واحد.»

59 (34) إن ما يمكن أن نسميه بلحظة الانتباه، هو على وجه الدقة ما يتألف منه حاضرنا - غير أن لحظة الانتباه ليست لحظة من لحظات الزمان الرياضي،

60

فهي تستغرق وقتا من الزمن كما أن لها مدة معينة. وينبغي أن نفعل ذلك بمعنى «سابق» «ولاحق» كما تطبق على لحظات العالم الفزيائي. أعني أن لحظة الانتباه تستغرق وقتا من جانب المنتبه، وهي لها مدة، أي فترة من التتابع الموضوعي من جانب العالم الطبيعي «الفيزيائي». فكيف يمكن إذن أن نسميها حاضرا ونحن نعرف أنه يمكن تحليلها إلى ما قبل وما بعد؟ يبدو أننا نقع في مفارقة حين نقول إن لحظة الانتباه هي برهة تتضمن «قبل» و«بعد»، لكن ليس لها ماض ولا مستقبل، وإنما ينظر إليها ككل، هو الذي يشكل ما نسميه بالحاضر الرواغ

Specious Present ، غير أن هذه المفارقة الظاهرية يمكن حلها إذا ما فحصنا الطريقة التي ندرك بها الحركة.

بفضل التجارب المشهورة التي أجراها «فرتهيمر»،

61

أحد مؤسسي مدرسة الجشطالت - على إدراك الحركة، أصبحنا نعرف أن الحركة يدركها الإحساس نفسه المتأني مع الجسم المتحرك، وأن الحركة ليست منتجة تركيبية لعدد غير معين من النقاط المتتابعة، التي ندرك كل منها إدراكا سكونيا، بل إن سلسلة الحركة كلها تدرك مرة واحدة داخل لحظة الانتباه، وهي كلها تدرك على أنها حاضر، ومن المسلم به أن أية عملية لا بد أن يكون لها بداية ونهاية، ولا بد بالتالي أن يكون فيها شيء يسبق شيئا آخر. ومع ذلك فليس في سلسلة الحركة هذه نقطة يمكن أن ينظر إليها على أنها ماضية إذا ما قورنت بغيرها من النقاط، والسبب ببساطة أننا لا نجد نقطة أدركناها قبل غيرها، لأن إدراك السلسلة يتم ككل، فإدراك الحركة هو إدراك متآن. والنتيجة التي وصل إليها «فرتهيمر» تدل على أن المخ في حالة الإدراك لا يتخذ وضعا معينا ثم وضعا آخر بعد ذلك، بحيث يكون كل منهما مستقلا عن الآخر، ثم يقوم بالتأليف بينهما لإدراك الحركة. وبعبارة أخرى، فإن الحركة ليست تأليفا من إحساسات متعددة، كلا، ولا هي نتيجة استدلال عقلي، وإنما تدرك الحركة إدراكا مباشرا، فهي معطى حسي وليست تركيبة ذهنية. وعمليات المخ في حالة إدراك الحركة، هي عملية ديناميكية، أعني عمليات تتفاعل بعضها مع بعض وتتحرك، وربما ساعد ذلك في حل مشكلة زينون الإيلي القديمة؛ فالخطوة التي يخطوها «أخيل

Achilles »

62

ليست مركبة من نقاط منفصلة، لكنها عملية واحدة، أو خطوة واحدة، أو واقعة واحدة، ونحن ندركها على أنها كل واحدة يقبل القسمة لكنه لا ينقسم بالفعل.

وينبغي أن نفرق بين لحظة الانتباه وبين لحظة الزمان الرياضي، على نحو ما يطبق على الحوادث الطبيعية؛ فالأولى لها ديمومة، بينما الثانية ليس لها هذه الديمومة. ومعنى ذلك أنه لو كان من الممكن توضيح لحظة الانتباه بخط له بعد واحد، فإننا يمكن أن نتخيل اللحظة الفيزيائية كنقطة ليس لها بعد على الإطلاق، و«الآن» الموجودة في الخبرة ليست نقطة بين سلسلة ماضية من النقاط وسلسلة مقبلة كما هي الحال في النقطة الرياضية. إذ الواقع أن مثل هذه النقطة الرياضية سلب للزمان. إن لحظة الخبرة التي يتألف منها حاضرنا هي برهة تحوي في جوفها لحظات العالم الفيزيائي الماضية والمقبلة في آن معا. ومجال الانتباه هو دائما موضوع واحد، بمعنى أن تنوع الديمومة بداخله - وهو التنوع الذي يمكن أن نعرفه من الناحية العقلية بتحليل لاحق - يشكل مركبا واحدا لا يقبل القسمة.» الحاضر «رواغ» وهو بهذا الشكل جزء حقيقي من الديمومة، وليس مجرد قطاع عرضي ينقسم إلى ماض ومستقبل كما تتطلب مقتضيات التحليل. وتأثر الفرد بالزمان لا يتخذ شكل الفجائية، لكنه يتخذ شكل الديمومة. والواقع أنه طالما أن كل جزء من أجزاء الديمومة لا بد أن يكون - كما يقول اسبينوزا - هو نفسه ديمومة، فإن الحاضر الذي نخبره من الزمان لا بد أن يكون «رواغا»؛ لأنه ما لم يكن كذلك؛ فإن الزمان الخالص لا يمكن أن يحوي حاضرا، ولا بد أن يختفي كل إدراك. ولن يبقى ماض نتذكره ، ولا مستقبل نتوقعه ؛ إذ لا بد أن يختفي مع الحاضر كل إمكان للذاكرة أو التوقع.»

63

إن انتباهنا الإيجابي النشط إلى الواقع هو الذي يكون كلا من عناصر سابقة ولاحقة، أو «ما قبل وما بعد» - يتضمنها حاضر الديمومة. ولأن عملية الانتباه هي نفسها عبارة عن فعل، وليست مجرد حالة سلبية متقبلة

من حالات الوعي فإن الحاضر الرواغ في خبرتنا لا يبقى ساكنا، لكنه يتحرك باستمرار حركة أمامية نحو المستقبل: «إننا نتعرف على العناصر الماضية في الحاضر الرواغ بوصفها ماضيا، لانزلاقها المستمر نحو الماضي الذي لا ندركه، لكنا نتذكره فحسب. أما عناصر هذا الحاضر المقبلة بوصفه مستقبلا، فنحن نتعرف عليها حين تلقي ظلالها على المستقبل، أعني على ذلك الذي يمكن أن نتوقعه أو نتخيله، لكنا لا نستطيع أن ندركه.»

64

وإنه لمن الأهمية بمكان أن نلاحظ الاستخدام المألوف لكلمة «حاضر» حين نطبقها على فترات طويلة من الزمان، فنحن نستطيع أن نتحدث حديثا مفهوما تماما عن الحرب الحاضرة، وعن حركة الإصلاح الاجتماعي الحاضر، بل إننا نستطيع أن نقول ذلك على فترات تستغرق سنوات طويلة. ومثل هذا الاستخدام لكلمة «الحاضر» استخدام مشروع، طالما أنه يشير إلى عملية واحدة من عمليات النشاط. وهذا هو المبدأ نفسه الذي نطبقه على لحظة الانتباه، حين ينظر إليها على أنها لحظة حاضرة رغم مدتها الزمنية.

وواضح أنه من الطبيعي جدا أن نوسع لحظة الانتباه، أو أن نضيقها عن طريق الخيال، ففي استطاعتنا أن نتصور فترة طويلة من الزمان على أنها حاضر رواغ واحد، بالقياس إلى انتباه آخر قد يكون أكثر شمولا من انتباهنا. وفي استطاعتنا من ناحية أخرى أن نتخيل أن مجال الانتباه أخذ يتضاءل حتى أصبح يتضمن نقطة لا متناهية في الصغر. ونستطيع في الحالة الأولى أن نواصل الصعود في السلم حتى نصل إلى اللاتناهي ونبلغ فكرة الأبدية التي يمكن إدراكها بلمحة واحدة وبقوة قد لا تقل عن قوة الله. بينما نستطيع في الحالة الثانية أن نواصل الهبوط حتى نصل إلى ما يسمى بالنقطة الرياضية، وهي النقطة التي لا بعد لها. لكن ينبغي علينا ألا ننسى أن الفكرة التي نصل إليها في أي من الحالتين ليست إلا خيالا يقوم على أساس واقعة معينة، هي المدة التي تستغرقها لحظة الانتباه. (35) والتفرقة بين عناصر معينة يتكون منها المجال الذي يشكل موضوع الانتباه في لحظة معينة، تصل بنا إلى نقطة هامة، هي: التفرقة بين الانتباه المتصل وأفعال الانتباه، فهناك عملية انتباه مستمر إلى «الحاضر المتصل» بوصفه كلا يشكل أرضية معينة. ونستطيع أن نميز داخل هذه الأرضية بين أجزاء معينة، وكل لحظة من لحظات هذه التفرقة تشكل فعلا من أفعال الانتباه، لكن الموضوع الحاضر أمام الانتباه لا يمكن أن ينحل - بواسطة هذه الأفعال - إلى كثرة منفصلة. كلا، ولا يمكن أن ينحل الانتباه المتصل إلى أفعال منفصلة، فالكل الموضوعي لا يزال كلا متصلا يتحرك إلى الأمام، ولا يزال فعل الانتباه متصلا، وهو يظل كذلك رغم توزيعه المختلف وسط أجزاء المجال التي يمكن أن تتميز. (36) سبق أن قلنا إن الجانبين اللازمين للنفس هما الانتباه وموضوعه. كما قلنا إنه لا يمكن أن يكون هناك انتباه بغير موضوع ينصب عليه هذا الانتباه، كما أنه لا يمكن أن يكون هناك موضوع ينصب عليه الانتباه بغير ذات تنتبه. وقد يظهر هنا سؤالان: الأول هو: من الذي ينتبه؟ والثاني: هل يمكن أن نضع خطا فاصلا بين الانتباه وموضوعه؟

أما الإجابة عن السؤال الأول فهي: أن الذي ينتبه هو الفاعل السيكوفيزيقي

65 ... ككل متكامل، فهناك أولا حواسه التي تعتبر أمثلة نوعية للانتباه، فهو حين يرى: ينتبه أو يقوم بوظيفة نوعية هي الرؤية. وهو حين يسمع ينتبه أو يقوم بوظيفة نوعية هي السمع ... وهكذا، لكن الحواس ليست هي كل شيء، فهناك أيضا الانتباه إلى الأفكار. والواقع أن الانتباه كله إنما يكون لمضمون فكري، طالما أننا لا ننتبه إلى الإدراكات إلا كمضمون فكري فحسب، ومن هنا فإننا قد نقبل نظرية هيوم في «الانطباعات والأفكار» بشرط أن نضيف إليها حقيقة هامة، هي أن هذه الانطباعات، وهذه الأفكار، تكون موضوعا للانتباه.

الفرد في تكامله هو الذي ينتبه، ومن هنا كان الانتباه هو الخاصية الجوهرية للكائن الحي. والنفس هي الكائن الحي بقدر ما ينتبه. وليس هناك فرق في ذلك بين الصور الدنيا من الكائنات الحية والصور العليا منها، بين النبات والموجودات البشرية، اللهم إلا في درجة تعقد موضوع الانتباه. ولقد وجد أرسطو في دراسته لطبيعة النفس أن الأنواع المختلفة من الأنفس ليست متشابهة أتم التشابه، بحيث يمكن أن يكون لها كلها تعريف واحد من مظهرها المتواضع في النبات، إلى القمة التي تصل إليها في الإنسان. كما أن هذه الأنواع من الأنفس ليست مختلفة اختلافا تاما، بحيث لا نستطيع أن نجد لها طبيعة مشتركة بين كل تنوعاتها. وأشكال النفس تمثل سلسلة لا تناسب فيها، بحيث نجد أن كل شكل منها يفترض الأشكال السابقة دون أن تتضمنه هذه الأشكال. والنفس الدنيا هي النفس الغاذية، وهي لهذا توجد في جميع الكائنات الحية، ثم تأتي بعد ذلك النفس الحاسة، التي توجد في الحيوانات وحدها ولا توجد في النبات، ثم نجد أخيرا قوة خاصة بالإنسان هي النفس العاقلة.

ولو تأملنا قليلا هذا التصنيف الأرسطي للنفس - من وجهة النظر التي نأخذ بها - لوجدنا أن العامل المشترك والأساس في جميع هذه الأشكال هو الانتباه، مع اختلاف موضوعه، واختلاف درجة تعقيده. فالوظيفة الغاذية الموجودة في النبات والحيوان على السواء، والتي لا بد أن تعمل على حفظ وجود الكائن الحي، تفترض سلفا انتقاء العناصر المناسبة للتغذية، والانتقاء مستحيل بدون الانتباه، لأننا لا نعني بالانتقاء مجرد تقبل الكائن الحي لمجموعة من العناصر وسط عناصر أخرى، كما هي الحال مثلا في «الغربال»، الذي يستبقي الجوامد من حجم معين ويترك الباقي، أو قطعة الكربون التي تقوم بدور المرشح، لكننا نقصد ذلك الانتقاء النشط الفعال، الذي يأخذ العناصر التي يحتاج إليها ويستبعد العناصر الأخرى. والانتقاء المتضمن في الكائنات نشاط النفس الغاذية واضح. أما النفس الحاسة فليس لها وظيفة الإدراك فحسب، لكن لها أيضا وظيفة الشعور باللذة والألم، وهي تنشأ كنتيجة للوظيفة السابقة، لكي تستطيع التمييز بين الأشياء المختلفة، فتأخذ منها ما هو سار ، وتترك ما هو مؤلم، أعني أن تقوم بالانتقاء والاختيار إيجابا وسلبا. والوظيفة الخاصة بالنفس العاقلة عند الإنسان هي تشكيل التصورات المجردة: الحكم والاستدلال. حلل كل عملية من هاتين العمليتين، وسوف تجد أنها تعتمد على الانتباه إلى جوانب معينة في أفكار معينة دون غيرها، ففي حالة تكوين فكرة مجردة ينتبه المرء إلى خاصية أو أكثر من خصائص الواقعة الفردية العينية، كاستدارة القرش مثلا، أو الجانب العقلي في الإنسان. وحين يصدر المرء حكما فهو بهذا الحكم يحيل مضمونا فكريا إلى واقع متجاوز لهذا الفعل، سواء إذا كان الحكم سلبا أو إيجابا. وتلك صورة من صور التجريد: تجريد لخصائص فكرية، وتجريد لجانب من الواقع، وبينهما تتم المقارنة وتحدد العلاقة بأنها موجبة أو سالبة. والاستدلال يعني اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء، وهذا الاكتشاف من ناحية أخرى يتضمن الانتباه إلى جوانب معينة في هذه الأشياء ويستبعد جوانب.

ومن ثم فإن النفس في جميع صورها تعتمد على وظيفة الجسم الحي، وأكثر وظائف الجسم الحي، ماهوية هو أن ينتبه، ومن هنا ترانا ننكر وجود الحياة في الجسم الذي لا يكون إلا موضوعا للانتباه دون أن ينتبه هو نفسه لاختيار شيء ورفض شيء آخر. لكن قد يقال إنه من المستحيل أن يكون الذهن صفة تلحق بالجسم لأن: «... الجسم، وكل جزء منه، يمكن للذهن أن يدركه تماما، كما يدرك أي موضوع محايد.»

66

وهذا الكاتب نفسه الذي أثار هذا الاعتراض يطلب الالتجاء إلى الوقائع المباشرة لإقامة الدليل، ومثل هذا الالتجاء إلى الوقائع المباشرة هو كل ما نطلب: فمن ذا الذي يستطيع أن يدرك جسمه ككل؟ إن مصدر الخطأ - فيما يبدو - هو الظن بأنه طالما أن من الممكن لشخص آخر، كعالم الفسيولوجيا - مثلا - أن يدرك جهازي العصبي كما يدرك أي جزء آخر من أجزاء جسمي سواء بسواء. فإنه من الممكن بالنسبة لي أيضا أن أدرك هذه الأجزاء. أو ربما كان مصدر الخطأ الظن بأنه طالما أنني أستطيع أن أدرك بعض أجزاء جسمي إدراكا مباشرا أحيانا، وفي المرآة أحيانا أخرى، فلماذا لا أعتقد في نفسي القدرة على إدراك التكوين العضوي ككل؟ غير أن إدراكك لبعض الأجزاء من جسمك شيء، وإدراكك للتكوين العضوي ككل شيء آخر مختلف عنه أتم الاختلاف، ناهيك بإدراك التكوين العضوي وهو يقوم بوظيفة ما. (37) أما الإجابة عن السؤال الثاني، الخاص بالخط الفاصل بين الانتباه وموضوعه، فلا بد أن نقول أولا إن مثل هذا السؤال تناسى أن الانتباه فعل، وبالتالي فهو لا يمكن تصوره كشيء قائم بذاته، مستقل عن الموضوع الذي ينصب عليه هذا الفعل، فكل منهما يعبر عن نفسه من خلال الآخر: وإلا فأين يمكن يا ترى أن نجد الخط الفاصل بين التقطيع

Cutting

والقطع

Cut ، وبين فعل الرؤية

Secing

والرؤية وقد انتهت

Seen ، وبين الاستماع

hearing

والسمع

heared

وبين فعل الكتابة

Writing

والكتابة

Written ؟ «لا يمكن أن يكون هناك خط فاصل بينهما؛ لأن الفعل هو العمل في حالة الأداء

doing ، ونتيجة الفعل هي العمل وقد انتهى.» ومن هنا يظهر الانتباه في الموضوع الذي ننتبه إليه، كما يظهر أي فعل آخر في موضوعه. ونتيجة فعل الانتباه ومحصلته هي تكامل العناصر التي يتألف منها موضوع الانتباه، فإدراك المنضدة الموجودة أمامي، هو محصلة لفعل الانتباه والعناصر بما هي كذلك ليست من خلقي وإنما هي محسوسات

Sensa

67

بالقوة، تتحول إلى شيء بالفعل حين أجعلها موضوعا للانتباه، وهكذا نضفي عليها صفة الكلية

Wholeness ، وهي صفة لم تكن لها من قبل، لأنها - في ذاتها - لا تملكها. ومن خلال نشاط الانتباه الذي أقوم به أميز بين حدود «المحسوسات

Sensa » واتصالها بالقوة، وفي هذا الاتصال الموضوعي لا يوجد ثمة خط فاصل بين «الأشياء»، لكن انتباهي الانتقائي هو الذي يفرض مثل هذه الخطوط الفاصلة؛ وبالتالي هو الذي يشكل «الأشياء»، فمجموعات «المحسوسات

Sensa » التي تتكامل في موضوع معين هي محصلة لفعل الانتباه، فالفعل هو الذي يحدث التغير، والمحصلة هي التغير الذي حدث، وكلما كانت «الذات» هي الفاعل، كان هناك باستمرار فعل ما، وهذا الفعل يعتمد على نشاط الفاعل وإيجابيته، ولا يعتمد على مجرد الربط بين الحوادث الذهنية والحوادث الطبيعية: «إن التحليل ... الذي يرى أن الفعل يتألف من حادثتين ؛ إحداهما ذهنية والأخرى مادية، مع علاقة فعلية

de facto

بينهما، ليس مجرد تحليل ناقص، لكنه يعني إلغاء الفعل تماما، لأنه يعني إمكان التفكير في الاستقلال الجوهري لما عمل منفصلا عن الفعل الذي تم به، وإمكان تصور الفعل الذي انتهى على أنه فعل تام، بل على حادث وقع مصادفة.»

68 (38) الجسم الحي بمقدار ما ينتبه إلى شيء ما، وبمقدار ما يختار ويرفض هو النفس أو الذات

The Self . وتصور الجسم المنتبه أو الجسم الذي له خاصية الانتقاء والرفض، يعطينا - فيما يبدو - أملا في حل مقنع لكثير من المشكلات. فالمشكلة القديمة عن العلاقة بين النفس والجسم لن تظهر بعد ذلك مع مثل هذا التصور، ذلك لأن الجسم الحي في حالة الفعل يصبح وحدة حقيقية للجانب الفيزيائي والجانب السيكولوجي في آن معا، بحيث لا يكون لأحدهما معنى بدون الآخر، فبدون الجسم الحي يصبح الانتباه مجرد كلمة جوفاء؛ لأن هذا الجسم نفسه هو الذي ينتبه. والظن بأن الانتباه موجود مستقل عن الجسم يشبه الظن بأن «الفأسية

axity » مستقلة عن الفأس

axe ، والجسم بدون الانتباه يصبح من ناحية أخرى مجرد كتلة هامدة من المادة: احذف خاصية الانتباه من أي كائن حي، أو جرد هذا الكائن الحي من القدرة على الاختيار والانتقاء، ولن يبقى بعد ذلك أي فرق حقيقي يجعله مختلفا عن المادة الجامدة. فعلاقة النفس بالجسم - أعني الجسم الذي ننسب له خاصية الانتباه والقدرة على الانتقاء - هي إذا ما استخدمنا تشبيه «برجسون

Bergson » المشهور: علاقة حد السكين بالسكين، فعن طريق الحد تعمل السكين، دون أن يكون هذا أو ذاك كائنات يمكن الفصل بينها. (39) الانتقاء شرط ضروري للغرضية

التي هي الخاصية الأساسية للجانب السيكولوجي، بوصفه جانبا متميزا عن الجانب الجسمي ... بل إن الغرضية تؤخذ أحيانا كمقياس لوجود الذهن. ولا يمكن أن يكون هناك نشاط غرضي دون اختيار وانتقاء لما يساعد الكائن الحي، ورفض لما يبدو أنه يضره ويؤذيه. ومن ثم فإن الانتقاء والرفض هما الخاصيتان الأساسيتان للانتباه. وقد تم الانتقاء بطريقة مباشرة، كما هي الحال في النبات الذي يأخذ من التربة مباشرة العناصر التي تساعد على النمو . وقد يتم أيضا بطريقة غير مباشرة، حين يتجه إلى الوسائل التي تؤدي إلى غاية بعيدة، كما هي الحال في الغرائز الحيوانية. وقد يتضمن الروية والاختيار، كما هي الحال في الإرادة البشرية، لكن الصفة الأساسية واحدة، سواء في النبات أم الحيوان أم الإنسان، وهي أن الكائن الحي يقوم بعملية الانتقاء. (40) وعلينا أن نناقش الآن بشيء من التفصيل الخصائص التي يتميز بها الإنسان بوصفه موجودا عاقلا حتى نتأكد من أن الانتباه هو العامل المشترك الضروري بينها جميعا.

ولنبدأ بالصفات الأولية للعقل

intellect

وهذه الصفات - على نحو ما ذكر «بين

Bain » ثلاث صفات رئيسية، هي:

69 (1)

الفرز أو إدراك الفروق بين الأشياء

Discrimination . (2)

الاستيعاب أو التمثل

Assimilation . (3)

الحفظ أو الاستبقاء

Retentiveness .

فبداية المعرفة هي فرز شيء عن شيء آخر، أو إدراك الفروق بين الأشياء. ونحن ما لم نتأثر تأثيرا متميزا بأشياء مختلفة على نحو ما نتأثر مثلا بالحرارة، واللون الأحمر، واللون الأزرق - فإننا لن نتأثر على الإطلاق. وكلما كنا أكثر إدراكا للفروق بين الأشياء، كنا أكثر تعقلا، أو ارتفع إدراكنا من الناحية العقلية. لكن كيف يمكن لنا أن نفرز الأشياء أو أن ندرك الفروق بينها؟ لا يمكن أن يتيسر لنا ذلك إلا بالانتباه إلى جانب واحد من جوانب الخبرة والعزوف عن بقية الجوانب في اللحظة التي أقوم فيها بعملية الفرز، ولو أن ذهني تلقى إحساسين، لكنه لم ينتبه إلى أحدهما أولا ثم إلى الآخر بعد ذلك، فإن هذين الإحساسين لن يكونا اثنين بالنسبة له.

إن الشعور بأن هناك اتفاقا بين الأشياء، أو بعبارة أخرى، الوعي بالهوية بين الاختلاف، هو أعظم الجوانب ماهوية في الأنشطة العقلية. وتلك «... خاصية نادرة للذهن، تعتمد على اختراق قناع التنوع والإمساك بعناصر التشابه المشتركة (وتلك هي الخاصية) التي تزودنا بالمعيار للعقل.»

70

ولقد قال أفلاطون عن قوة التوحيد هذه إنه لو صادف رجلا يستطيع أن يكشف عن الواحد بين الكثير فإنه سوف يسير وراءه كما يسير وراء إله.

71

ومن الواضح أنه يستحيل علي أن أعرف أن شيئين يتفقان معا في جوانب معينة رغم اختلافهما، ما لم أكن قادرا على الانتباه إلى جانب معين من الشيء، وعزله عن بقية الجوانب. ومثل هذا الانتقاء للجانب الذي أنتبه إليه هو الخاصية الأساسية للانتباه، وهو الشرط الذي تفترضه مقدما عملية التجريد، أعني تجريد هذا الجانب أو ذاك في الشيء الموجود أمامنا.

ويعتمد الحفظ على دوام الاستثارة الذهنية ومواصلتها بعد اختفاء المثير الأصلي، غير أنه إذا كانت هناك استثارة للكائن الحي تبقى كذاكرة، فلا بد أن تكون قد وجدت من قبل، كالإدراك. ولا يمكن إدراك شيء، اللهم إلا إذا انتبهنا إليه، وعملية الانتباه تدل على تلك العملية، التي يمكن للشيء بفضلها أن يصبح موضوعا للوعي، إذا ما قورن بغيره من الأشياء الكثيرة، التي رغم وجودها في متناول الملاحظ فإنه لا يلاحظها على الإطلاق.

إن العملية الأساسية - بصفة عامة - في جميع ضروب المعرفة هي الكشف عن العلاقات بين الأشياء من خلال الانتباه. وأكثر العلاقات عمومية بين الأشياء هي الاتفاق والاختلاف، وكل معرفة إنما تعني إدراك الفرق بين فكرة وفكرة، أو بين موضوع وموضوع آخر، غير أن العلاقات لا توجد في الأشياء نفسها، وإنما تخلقها الطريقة التي أنتبه بها إلى هذه الأشياء، فبما أنني أنتبه إلى الكتاب الموجود أمامي الآن، فإنني أجده فوق المنضدة، وتحت السقف، وعلى يمين القلم، أو على يسار المحبرة. (41) وسوف نناقش الآن العمليات النوعية الخاصة بالإنسان: كالتجريد وتكوين التصورات، وإصدار الأحكام، والقيام بالاستدلالات - وسوف نرى أنها كلها تفترض سلفا الانتباه كشرط أساسي لها. ولقد سبق أن أشرنا إلى هذه العمليات في الصفحات السابقة بإيجاز شديد، لكنها تستحق منا وقفة لنعرض لها بشيء من التفصيل.

إن تعريف التجريد نفسه يظهرنا في الحال على أنه لا يمكن تصوره بدون الانتباه؛ فالتجريد هو الانتباه إلى خصائص معينة في الشيء واستبعاد خصائص أخرى. «التجريد يعني وفقا للاشتقاق اللغوي سحب «الانتباه» من شيء من الأشياء لكي نركزه على شيء آخر ... وعلى الرغم من أننا نتحدث عن التجريد عادة على أنه تحول من المختلفات إلى المتشابهات، فإن هذه العملية نفسها تظهر في صور أخرى ... فإذا افترضنا أن هناك موضوعين يتشابهان تشابها تاما (كما هي الحال في التشابه الشديد بين خروفين مثلا) فإننا نجد أنفسنا في حاجة إلى بذل جهد في عملية التجريد، حتى تتغاضى عن جوانب التشابه، وتتنبه إلى جوانب الاختلاف.»

72

ومن ثم كان التجريد نتيجة للانتباه إلى نقاط الاتفاق في الأشياء واستبعاد نقاط الاختلاف، أو العكس. أعني الانتباه إلى نقاط الاختلاف واستبعاد نقاط الاتفاق، وفي كلمة واحدة التجريد هو انتباه طارد.

والتجريد هو الخطوة الضرورية في تكوين التصورات؛ فالتصور هو الفكرة المجردة للطابع الذي يتفق فيه عدد من الموضوعات الجزئية، وهو ينشأ من الانتباه إلى بعض خصائص الموضوع، أو لعدد الموضوع، أو لعدد من الموضوعات المتشابهة، واستبعاد الخصائص الأخرى، ففي تكويننا لتصور عام أو فكرة مجردة عن المربع مثلا ترانا ننتبه إلى موضوعات مربعة متعددة، ثم نسقط منها المواد التي تتركب منها هذه الموضوعات، وكذلك الأماكن التي تشغلها وحجمها ... إلخ، وننتبه فقط إلى شكلها، وبذلك نكون فكرة عن الطابع الذي تتفق فيه هذه الموضوعات، أعني أننا نكون تصورا للمربع.

وحتى لو قيل (كما قال - مثلا - باركلي وهيوم) إنه من المستحيل أن نجرد شيئا من شيء آخر، أو أن نتصور الخصائص منفصلة؛ لأنها لا توجد منفصلة على الإطلاق، وأن الكلي يعتمد على جزئي يكون ممثلا لغيره - فسوف يبقى صحيحا مع ذلك كله. إننا نستطيع، بفضل الانتباه وحده إلى نقاط التشابه بين أعضاء الفئة الواحدة، واستبعاد نقاط الاختلاف، أن نعرف الجزئي الواحد على أنه ممثل للفئة بأسرها.

ومن هنا فإن عملية التجريد وتكوين التصورات مشروطة مقدما بالانتباه وما يقوم به من انتقاء واختيار. وقل مثل ذلك في الحكم، فالحكم هو الفعل الذي يحتل مضمونا فكريا إلى واقع متجاوز لذلك الفعل، ونحن في مثل هذه الإحالة للمضمون الفكري إلى الواقع المقابل ترانا نقارن بين تصورين من حيث علاقتهما بموضوع مشترك. وطالما أن الحكم يتألف من مجموعة من التصورات، وطالما أن التصورات جاءت نتيجة انتقاء صفات معينة واستبعاد صفات أخرى، فإن الحكم - بالتالي - يفترض مقدما الانتباه الذي يختار ويرفض.

ويمكن أن يقال نفس الشيء في عملية الاستدلال، فمهما يقال عن الاستدلال من آراء فسوف يبقى في النهاية أنه إدراك لعلاقات جديدة: «الفعل الأساسي لقوة الاستدلال عندنا يعتمد على إظهار مثل جديد لظاهرة من الظواهر مهما تكن معرفتنا السابقة بشبيه هذه الظاهرة أو مماثلها أو نظيرها أو مساويها.»

فالتشابه أو الهوية تظهر في جميع الدرجات، وتعرف بأسماء مختلفة، لكن القاعدة الكبرى للاستدلال تشمل جميع الدرجات، وتؤكد أنه طالما وجد تشابه أو هوية أو مشابهة «بين شيئين» فإن ما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر.

73

وإدراك علاقات جديدة بين تصويرين تستلزم بالضرورة درجة من التجريد - تجريد للخصائص الجزئية التي نجد أنها ترتبط معا بهذه الطريقة أو تلك، والتجريد كما قلنا هو انتباه طارد. (42) إن فهم الذات على أنها الفاعل السيكوفيزيقي بمقدار ما ينتبه إلى موضوع ما، يمكن أن يفسر وحدة هذه الذات واستمرارها على النحو التالي: إن وحدة التنوع الحالي للذات يفسره أولا قولنا إن الفاعل في حالة الانتباه يعمل كفرد، أعني ككل وليس كمجموعة من الأجزاء. ويفسر ثانيا أن الموضوع الذي ينتبه إليه يؤخذ ككل، أعني كعرض واحد، أيا ما كانت العناصر التي يمكن أن نحلله إليها من الناحية العقلية. وبعبارة أخرى: الفرد المنتبه واحد، والموضوع الذي ننتبه إليه واحد باستمرار، رغم كثرته. والواقع أن «واحدية

Oneness » الموضوع إنما ترجع إلى وحدة الفرد المنتبه. الشعور بوحدة نشاط الانتباه ترجع «الواحدية» التي يضفيها هذا النشاط على عناصر الموضوع.

ويمكن أن نفسر استمرار الذات من ناحية أخرى بطبيعة ما نسميه باسم «لحظة الانتباه» أو لحظة الشعور. ولقد رأينا أن لحظة الانتباه تتألف من «قبل» و«بعد»، دون أن ننظر إلى عنصر «القبل» على أنه تعبير عن الماضي، أو إلى عنصر «البعد» على أنه تعبير عن المستقبل. ذلك لأن «قبل وبعد» هما في آن معا، جزآن من كل واحد، هو الحاضر الرواغ. وهذا الحاضر الرواغ يتحرك إلى الأمام، بحيث «تنخر» رأسه في المستقبل، ويتوارى ذيله في الماضي، ويبقى في الذاكرة . وفي هذه الحركة الأمامية المستمرة يصبح ما كان «بعدا» «قبلا». خذ مثلا لحظتين متتاليتين من لحظات الانتباه.

74

ولنرمز لما هو «قبل» وما هو «بعد» بحرفي أ ب، وب ج على التوالي؛ إن (أ) تمثل عنصر «القبل» في اللحظة الأولى، كما تمثل (ب) عنصر «البعد». أما في اللحظة الثانية ف «ب» تمثل عنصر القبل و«ج» تمثل عنصر البعد. وطالما أن «البعد» في اللحظة الأولى هو نفسه العنصر الذي يمثل القبل في اللحظة الثانية، فسوف تكون «ب» متحدة، وهي هي في الحالتين. وبدلا من أن تكون اللحظتان المتتاليتان منفصلتين ومتميزتين، بحيث تكتب على هذا النحو «أ ب» و«ب ج» فسوف تنساب الواحدة منهما في الأخرى وتشكل تيارا متصلا يكتب على النحو التالي «أ ب ج ...» وفي مثل هذا التيار المتصل فإنني أظل دائما في أية لحظة جزئية نفس الشخص الذي كنته منذ لحظة مضت؛ لأن أية لحظة جزئية هي في الواقع حلقة اتصال بين الماضي والحاضر، وهي نفسها جزء من الماضي وجزء من الحاضر في آن معا.

وعلى ذلك فإننا نحدس «الأنا» في لحظة واحدة من لحظات الانتباه، لكن عبارة «أنا هو أنا» تحتاج لحدسها إلى لحظتين متتاليتين من الانتباه، غير أننا لا ينبغي أن نفهم التالي على أنه حالات منفصلة، بل نفهمه على أنه سلسلة متصلة.

الفصل الثاني

النشاط الذاتي1

(1) حين ينتبه الكائن الحي فإنه يفعل. (2) التفكير صورة من صور الفعل. (3) طبيعة الفعل يجب أن تدرس بوساطة الفلسفة. (4) كلمة «الفعل» كلمة مزدوجة الدلالة فهي قد تعني: (أ) الفعل في حالة الأداء.

أو (ب) الفعل وقد انتهى. (5) الفعل في حالة الأداء هو وحده الذي نستطيع أن نخبره. (6) رأي «يوونج» في أن الفعل - كغيره من عمليات الطبيعة - هو تتابع أحداث. (6، 7) نقد هذا الرأي. (8) الصلة في الفعل بين الحدث السيكولوجي والتغير الطبيعي لا يمكن أن يكون مجرد تتابع. (9) يسلم الكاتب بأن الحدث السيكولوجي يستلزم فاعلا، لكن فكرة الفاعل تتضمن فكرة الفعل المطلوب تفسيرها. (10) يرى الكاتب أن العملية لكي تكون فعلا، فإن التغير لا بد أن يرغبه الفاعل، غير أن رغبة الفاعل تجعل الموقف مختلفا أتم الاختلاف عن العمليات الطبيعية. (11) لو كان الفعل عبارة عن سلسلة من الحوادث ترتبط ارتباطا سببيا فلا يمكن أن نعين حدا ينتهي عنده الفعل. (12) الفعل في حالة الأداء

acting ، لا يمكن لنا ملاحظته، وهو لا يمكن أن يعتمد على علاقة التتابع فحسب. (13) الأفعال تختلف عن الحوادث. (14) لا يمكن التفرقة بين الأفعال والحوادث عن طريق الملاحظة الخارجية وحدها. بل إن التفرقة لا تتم إلا عن طريق خبرتنا بالفعل في حالة الأداء. (15) لو أننا تعرفنا على التغير على أنه فعل كان في ذلك تفسير له، أما لو أدركناه على أنه حادثة فإنه يحتاج إلى شيء آخر يفسر حدوثه. (16) تقديم السببية لتفسير وقوع الحوادث. (17) غير أن فكرة السبب بوصفه «مصدرا» للتغير لا يكون هو نفسه فاعلا. «هذه الفكرة» تناقض ذاتي. (18) لا يمكن تفنيد الجبرية طالما أن التغيرات التي نبحثها لا تشملني بوصفي فاعلا. (19) الفاعل السيكوفيزيقي هو نفسه سبب كاف للتغير. (20) رأي برادلي القائل بأن فكرة النشاط تناقض ذاتي. (21) نقد رأي برادلي. (22) وضع مشكلتنا: هل الفاعل بوصفه انتباها يكون منتهيا أم مبتدئا؟ (23) بخصوص الدليل الإيجابي القائل بأنه يشارك في التغير، فإننا نلجأ إلى التجربة، أما فيما يتعلق بالدليل السلبي، فإننا نبرهن على تهافت نظرية الخصوم. (24) الخبرة هي المرجع الأخير. خبرة الانتباه يمكن تحليلها إلى حدين بالإضافة إلى علاقة التكيف. (25) فكرة الحرية فكرة أصيلة، أما فكرة الجبرية فهي مشتقة. (26) ليس في استطاعتنا أن نجاوز خبرتنا. (27) هل يتناقض قانون بقاء الطاقة مع وجهة النظر التي نأخذ بها؟ (28) عرض القانون بصفة عامة في إيجاز شديد. (29-33) عرض القانون مع إشارة خاصة لأفعال الإنسان. (34، 35) ليس القانون فوق مستوى الشك. (36) خلق الإنسان للفعل لا يتعارض بالضرورة مع القانون. (1) الذات «أو النفس» هي ثنائية الانتباه إلى موضوع ما، أو هي الفاعل السيكوفزيقي بمقدار ما ينتبه إلى شيء ما. غير أن انتباه الفاعل ليس مجرد حالة من حالات التقبل فحسب، بل هو فعل، والذات هي أساسا نزاعة وليست متأملة. فالفرد في حالة الانتباه يفعل، أعني أنه يقوم بعمليتي انتقاء ورفض دون أن ينطبع انطباعا سلبيا بالموضوع الذي يوجد أمامه. (2) من المألوف عند الفلاسفة التفرقة بين الفعل والتفكير، وهم عادة يقيمون بينها تعارضا بقولهم إنك إما أن تفكر أو تفعل، أعني إننا حين نفكر لا نفعل، وحين نفعل لا نفكر. ومعنى ذلك أنهم يقصرون الفعل على الحالات التي نتعامل فيها مع الأشياء المادية وحدها، أعني الحالات التي تحدث فيها تغيرا في العالم المادي، أما حين نفكر فهم ينظرون إلى هذه الحالة على أن المرء يتعامل فيها مع أفكاره الخاصة وحدها. «الفعل

actio

هو ... واحد من لونين من نشاط الذات، وهو يتعارض مع التفكير

Cogitatio

في اتجاه مقصده. فالذات تظهر في حالة الفعل بوصفها فاعلا يسعى إلى إحداث تغيرات في العالم. أما في حالة التفكير فهي تظهر بوصفها عارفة

Knower

تسعى إلى إحداث تغيرات في وعينا بالعالم.»

2

غير أننا نريد أن نفهم الفعل على أنه فعل باستمرار، سواء أكان يسعى إلى إحداث تغيرات في العالم المادي، أم إلى إحداث تغيرات في وعينا بهذا العالم، فالفرد يفعل كلما انتبه، وهو يفعل ذلك باستمرار، كائنا ما كان موضوع انتباهه. أما القول بأنه من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن نفكر ونتحرك في وقت واحد ما لم يكن آليا

automatic

فإنه يكشف لنا - لا أن التفكير والحركة يحتاجان لإتمامهما إلى صورتين مختلفتين من الفعل - بل إن فعل الفاعل واحد، وهو نفسه باستمرار يوجهه أحيانا نحو الأفكار، ويوجهه أحيانا أخرى نحو الحركة. فلو أنني انتبهت إلى الأفكار؛ فإن الحركة تتوقف ما لم تكن آلية، وإذا ما انتبهت إلى الحركة؛ فإن التفكير يتوقف ما لم يكن سلسلة من تداعي الأفكار.

وعلى ذلك فالتفكير لون من ألوان الفعل، وهو ليس شيئا يتعارض مع الفعل، إن ما يمكن أن نقابل بينه وبين التفكير هو الحركة الجسمية؛ لأن كليهما يحتاج لإتمامه إلى فاعل قادر على الانتباه والانتقاء، ومن ثم فمن الخطأ أن نقصر الفعل على إحداث تغييرات في العالم الخارجي؛ لأن الفعل فعل، سواء أكانت التغيرات الناتجة عنه تغيرات تحدث في العالم الخارجي أم في عالم الأفكار. وليس ثمة ما يبرر إطلاق اسم الفعل على التغيرات التي أحدثها حين أصفع شخصا ما، بينما ننكر إطلاق مثل هذا الاسم على التغيرات التي تحدث حين أراجع أفكاري وأنا غاضب. والحق أن الأفكار والحركات تتداخل تداخلا شديدا في بعض الأحيان، حتى إنه يكاد يكون من غير الممكن أن ننسب كلا منهما إلى مقولة مختلفة من مقولات النشاط. خذ مثلا موقف أحد العلماء وهو يقوم بإجراء بعض التجارب العلمية في معمله، أو انظر إلى نفسك حين تحاول أن تربط عقدة: سوف نجد هنا أن الموضوع الذي ننتبه إليه عبارة عن أفكار تعقبها حركة الجسم، لكنهما يرتبطان ارتباطا وثيقا، حتى إنك لتجد أنه من الممكن أن نقول إن مثل هذا الشخص يفكر ويتحرك في وقت واحد. إنه لافتعال كاذب أن نفصل بين الفعل والتفكير: «فالفصل بينهما على أساس أن أحدهما «فعل» والآخر «فكر»، أو أن أحدهما «مادي» والآخر «ذهني» هو فصل مفتعل كاذب؛ لأنهما يخصان فردا واحدا متكاملا، هو الفرد السيكوفيزيقي بأكمله.»

3 (3) الإدراك الحسي إذن فعل ينتج عنه مدرك حسي، والتفكير فعل ينتج عنه فكرة، والتذكرة فعل ينتج عنه فكرة نتذكرها، والإرادة فعل ينتج عنها التغير المراد ... إلخ ... إلخ، والفرد في جميع هذه الحالات يعمل شيئا، فهو ينتبه وينتقي، ونتيجة ذلك إنما تكون عملا من الأعمال التامة

a deed . ولن نمل مما سبق أن ذكرناه، وهو أن الإدراك الحسي والتفكير، والتذكر، والإرادة - هل كلها حالات أو أمثلة للانتباه إلى موضوع معين، هذا الموضوع في كل حالة من هذه الحالات يتسم بمجموعة من الخصائص المعينة: والفكرة هي نتيجة التفكير، والفعل المراد هو نتيجة الإرادة - وهذه كلها هي - في نفس الوقت - نتائج للعقل الأساسي للذات، أعني لفعل الانتباه. ومن هنا فإذا ما تساءلنا عن طبيعة فعل الانتباه، كان معنى ذلك أننا نتساءل عن طبيعة: فعل الإدراك الحسي، والتفكير والإرادة ... إلخ. والحق أن الفلسفة النظرية والفلسفة العملية لن تقفا على أرض صلبة، اللهم إلا إذا ناقشت وفحصت وحللت تحليلا تاما وكاملا: طبيعة الفعل. «إن إحدى المنجزات العظيمة التي قام بها «كانط»، والتي رفعته درجة عالية في تاريخ الفلسفة، هي أنه قد تحقق بشكل تام، أكثر مما فعل أي فيلسوف آخر ... من أن «المنطق وهو يبحث في الفكر محدود بنتائج التفكير»، وأننا في حاجة ماسة لإثارة التساؤل حول صور نشاط التفكير. ولقد طبعته تلقائية الذهن في بحثه عن المعرفة - منذ ذلك الوقت - المشكلة الرئيسية في الفلسفة الحديثة، حتى إن الفيلسوف الذي يسعى إلى العودة إلى الافتراضات الدجماطيقية القديمة، متغاضيا عن المشكلة التي أثارتها معرفتنا للذهن من أنه يقوم بدور ما في تكوين المعرفة، وأنه ليس مجرد مستقبل فحسب - مثل هذا الفيلسوف لا بد أن نعتبره ساذجا ...» (4) في دراستنا لطبيعة الفعل، علينا أن نلاحظ، أولا وقبل كل شيء، أن هذه الكلمة - أعني كلمة الفعل - مزدوجة الدلالة، ونحن نستخدمها بهذا الازدواج نفسه. إذ ترانا أحيانا نستخدمها لنعني العمل في حالة الأداء

the doing ، بينما نستخدمها - أحيانا أخرى - لنعني بها العمل وقد انتهى، أو محصلة هذا العمل ونتيجته

the deed ، ومن ثم كان من الأفضل إذا ما تحدثنا عن الحالة الأولى أن نسميها الفعل في حالة الأداء

acting «بدلا من العمل»، وإذا تحدثنا عن الحالة الثانية أن نسميها «الفعل وقد تم

act » فما المقصود بالفعل في حالة الأداء، والفعل وقد تم ... (5) الفعل في حالة الأداء

acting «وهو العمل في حالة الأداء أيضا

doing » هو إحداث تغير في الوجود الداخلي، أعني داخل الإنسان، أو الوجود الخارجي، أعني في العالم. إنه إحداث مظاهر مختلفة، هي التي نطلق عليها اسم الأفعال التامة

acts ، أو الأعمال المنتهية

deeds «إنه الجانب الذاتي الذي لا نستطيع ملاحظته في العملية التي تكون فيها الأفعال التي نلاحظها هي التعبير الموضوعي عنه ...»

4

وبعبارة أوضح: العمل له طرفان: طرف داخل الفاعل نفسه، وهو ما نسميه بالعمل في حالة الأداء، وطرف خارج هذا الفاعل، هو ما نسميه نتيجة العمل أو محصلته. ونحن نسلم بأن هذه الإجابة ليست إجابة شافية مقنعة لسؤالنا: ما المقصود بالعمل في حالة الأداء

doing ؟ وقد يقول قائل: إن السؤال نفسه مستحيل، طالما أن العمل في حالة الأداء، أو الفعل في حالة الأداء، ليس إلا شيئا داخل الفاعل نفسه؛ ومن ثم لا يستطيع أحد أن يخبره سوى الفاعل ذاته. فإذا أنت قطعت برتقالة نصفين، فلن يستطيع أحد أن يرى بداية هذا الفعل أو الطرف الداخلي منه الذي يقع داخل الفعل نفسه. إن كل ما يستطيع المشاهد الخارجي ملاحظته هو البرتقالة وقد شطرت شطرين، أعني نتيجة الفعل، أو محصلته، أو الفعل وقد تم. وقد يقال إنه لو صح ذلك، فلن يكون في قدرتنا أن نقدم تحليلا كاملا لما نقوم به فعلا حين ننتبه أثناء الإدراك الحسي، أو أثناء التفكير، أو الإرادة، طالما أن ذلك جانب داخلي، ولن نستطيع أن نفعل شيئا سوى أن نحيل كل فرد إلى خبرته الخاصة، لكي «يخبر» ما يحدث بالفعل أثناء عملية الانتباه.

الفعل - كما سبق أن ذكرنا - يتكون من عنصرين أو طرفين، هما العمل في حالة الأداء من ناحية، ونتيجة هذا العمل أو محصلته من ناحية أخرى، والواقع أننا لا نستطيع أن نكون على وعي مباشرة إلا بالعنصر الأول فقط، أما العنصر الثاني فيمكن أن نعيه من الناحية الحسية، إذا كان ما نقوم به عملا جسميا: «على أن العنصر الثاني قد ينسلخ أحيانا - كما يحدث في حالات المرض والإصابة - وذلك هو غاية ما نصل إليه في تحليلنا للمركز الثاني، الذي هو فعل نؤديه عن وعي بما نفعل، فانظر إلى ما يحدث حين يفقد عضو في جسدنا قدرته على الإحساس، مع احتفاظه بقدرته على الحركة، فعندئذ لا يحس الإنسان المصاب بمثل هذا العضو، ولا يدري أين يكون من جسده إلا إذا رآه، فقد يصاب الإنسان أثناء نومه بخدر في ذراعه، فتراه حينئذ لا يدرك وجود الذراع إدراكا حسيا، وإن يكن يستطيع تحريكه عن وعي بحركته، وفي أمثال هذه الحالات، تظل الأنا واعية بنفسها عن طريق أدائها لفعل ما، ومعنى ذلك أن البقية الباقية من الوعي في مثل هذه الظروف التي نفقد فيها إدراكنا الحسي بعضو من أعضاء الجسد ، لا يكون الحس هو طريقنا إليها، بل الطريق هو وعي الأنا بنفسها وعيا مباشرا بما تنشط به من فعل.»

5

وهذا الوعي المباشر بأنفسنا في حالة الفعل هو - فيما يبدو - الطريق الوحيد الممكن للتعرف على الفعل من ناحيته الذاتية، أعني التعرف على الفعل في جانبه الداخلي من حيث هو فعل في حالة الأداء يتميز عن الفعل التام، أو عن نتيجة هذا الفعل ومحصلته. (6) غير أن أ. س. يوونج

A. C. Ewing ، يرى رأيا مخالفا

6

فهو يريد منا أن ننظر إلى عملية الفعل في حالة الأداء «أي الجانب الداخلي من الفعل» بنفس الطريقة التي ننظر بها إلى العمليات التي نشاهدها في العالم الطبيعي الخارجي. وهو يرى أن الفعل في أي من الحالتين «الداخلية أو الخارجية» هو مجموعة من الحوادث التي ترتبط ارتباطا سببيا. والصلة الضرورية بين الحوادث في عملية «الفعل في حالة الأداء هي نفسها الصلة الضرورية الموجودة في تدفق الفيضان، وإن كانت عملية الفعل في حالة الأداء، التي ننسبها إلى فاعل، تختلف عن هذه العملية الطبيعية، فهي لا تختلف عنها إلا في أن طبيعة حوادثها مختلفة. وهو ينتهي من تحليله للفعل إلى أن للفعل خمس خصائص: (1)

لا بد أن يتضمن حادثا سيكولوجيا وحادثا فسيولوجيا. (2)

الحادث السيكولوجي لا بد أن يكون جانبا من السبب للحادث الآخر. (3)

يجب ألا تعتبر الحادث السيكولوجي حادثا منفصلا، بل لا بد أن يعزى إلى الفاعل نفسه. (4)

لا بد أن يكون الفاعل على وعي بما يعمل. (5)

لا بد أن يكون الحادث الطبيعي «أو الفيزيائي» تغيرا في جسم الفاعل، شريطة ألا ينظر إليه في ذاته

per se

ما لم يكن الفاعل في حالة الفعل لا يفكر إلا في راحة جسمه هو، بل ينظر إليه من حيث علاقته ببيئته، أو بجانب من بيئته الخاصة، التي كان الفاعل يفكر فيها، والتي يريد أن يغيرها بفعله. (7) ويمكن أن تظهر عدة اعتراضات على هذا الرأي الذي يأخذ به «يوونج» على النحو التالي:

أولا: أن الرابطة السببية التي يقال إنها موجودة بين الحوادث التي تتكون منها عملية من العمليات يمكن أن تفهم بمعان شتى، فإذا ما كنا نتحدث عن العمليات التي تحدث في العالم الطبيعي، فإن هذه الرابطة قد تفهم على أنها تعني سياقا أو تتابعا منظما للحوادث التي تقع في هذا العالم. غير أن «يوونج» قد أوضح لنا أن هذا اللون من الرابطة السببية ليس هو ما يعنيه بقوله إن هناك رابطة بين الحوادث التي يتكون منها الفعل. وهو يقول في هذا المعنى: «يبدو لي أن السببية ليست حالة يتكرر فيها فحسب التتابع أو التلازم في الوقوع، لكنها تتضمن رابطة أعمق بين السبب والنتيجة - وأعتقد أنه من الواضح بصفة خاصة أن تحليل النظام في العلاقة لا يصلح في حالة الفعل ... فالتغير الموضوعي «أي الذي يحدثه الفعل في العالم الخارجي» لا يعقب الجانب الذهني فحسب، لكنه يتحد معه أيضا، بالمعنى الذي لا يمكن فيه رد هذا التغير إلى سياق أو تتابع منظم.»

7

لكن إذا كانت الرابطة السببية التي يقال إنها موجودة بين الحدث الذي يمثل الجانب الذهني والحدث الذي يمثل التغير الموضوعي، ليست مجرد تتابع منظم، فإن البديل الباقي في هذه الحالة هو أن يكون الحدث الأخير معتمدا في وجوده على الحدث الأول. وهذا الاعتماد قد يعني أن تعاقب الحدث الأخير للحدث الأول إما أن يكون تحليليا أو تركيبيا. ولو أننا برهنا على أنه ضرورة تحليلية فلن يكون هناك فاعل في هذه الحالة. إذ لن يكون الحدث الثاني إلا نتيجة منطقية مترتبة على طبيعة الحدث الأول. لكن من المستحيل منطقيا أن نفترض أن التغير الموضوعي المعين الذي يحدث في العالم الخارجي ليس إلا جزءا من الجانب الذهني الذي هو بدوره فكرة من الأفكار. وقد يقال: إن الحركة الجسمية التي نشاهدها متلازمة الوقوع مع فكرة من الأفكار، أو إنها تابعها المنظم، لكن لا نستطيع أن نتصورها جزءا من الفكرة. وبالتالي فإن التغير الموضوعي لا بد أن يعقب الحدث الذهني من الناحية التركيبية، وهذا هو الاحتمال الثاني، وهو يعني أن الرابطة بين الحادثتين ليست رابطة مطلقة، لكنا نستطيع عن طريق الخبرة وحدها أن نعرف أن إحداهما تعقب الأخرى: وهنا يمكن أن نتساءل؟ خبرة من؟ ونجيب: خبرة الفاعل بالطبع، ومن ثم يكون الموقف على النحو التالي: (1) لدينا جانب ذهني من ناحية، وتغير موضوعي من ناحية أخرى. (2) التغير الموضوعي يعتمد في وجوده على الجانب الذهني. (3) الجانب الذهني قد يعقبه - وقد لا يعقبه - تغير موضوعي. (4) الفاعل هو وحده الذي يستطيع أن يخبر النتيجة.

لكن إذا كان وضع المشكلة هو على هذا النحو: فأين هي أوجه التشابه التي تبقى بعد ذلك، بين الفعل الذي يحدثه فاعل، وبين العملية التي تحدث في الطبيعة؟ ما هي أوجه الشبه بين الفعل الذي أقوم به بوصفي موجودا بشريا وبين العملية الطبيعية التي تقع في العالم الخارجي؟ الحق أن الفعل الذي يقوم به الفاعل السيكوفيزيقي يتميز بخصائص معينة تجعله فريدا في نوعه من ناحية، وتباعد بينه وبين العمليات التي تحدث في الطبيعة تباعدا تاما ... من ناحية أخرى. (8) ثانيا: يذهب «يوونج» إلى أن الحدث السيكولوجي الذي يسبق التغير الموضوعي ينبغي ألا ينظر إليه على أنه مستقل، بل لا بد أن يصف فاعلا أو أن يعزى إلى فاعل ما، غير أن فكرة الفاعل هذه تتضمن كل ما يحاول «يوونج» إنكاره. فهو يتساءل: «لماذا لا يكون كل فعل مؤلفا من حادثتين؛ واحدة في ذهن الفاعل، والثانية في العالم الخارجي - بحيث تكون الأولى سببا للثانية؟»

8

وهذا حق، لكن إذا كان ذهن الفاعل - في حالة الفعل - يحدث تغيرا موضوعيا، فما الذي تبقى «ليوونج» بعد ذلك لينكره؟ الواقع أن الكاتب إذا ما انتهى إلى مثل هذا القول فإنه يسير - فيما أعتقد - في دائرة مغلقة؛ ذلك لأن النتيجة التي انتهى إليها هي بالضبط المشكلة التي بدأ منها، أعني أن تحديد المعنى الدقيق للعلاقة بين ذهن الفاعل وبين التغير الذي يحدث هو نفسه المشكلة. (9) ثالثا: يعتقد «يوونج» أنه في حالة سلسلة الحوادث التي يتألف منها الفعل - في مقابل عمليات العالم الطبيعي - «لا بد للفاعل أن يكون على وعي بما يعمل، وأن يعمل هذا الفعل لأنه يريد أن يعمله .»

9

وإذا تغاضينا عما تشتمل عليه عبارته هذه من ألفاظ، مثل «الفاعل» و«الوعي»، وهي ألفاظ تجعل الفعل يختلف أتم الاختلاف عن العمليات الطبيعية، فإننا نجده يسلم بأن الفاعل في حالة الفعل، يفعل ما يفعل لأنه يريد أن يفعله. وهذا يعني بعبارة أخرى، أن الفعل لا يكون فعلا ما لم يكن غرضيا، فالغرضية هي سمة السلوك البشري، وهي نفسها الخاصية التي تميز الفاعل عن الأجسام المادية، كما أنها الخاصية التي تميز الأفعال عن أحداث الطبيعة وعملياتها. ومن ثم فإن الاعتراف بوجود مثل هذا الاختلاف الواضح بين الفعل وأحداث الطبيعة، ثم الزعم - بعد ذلك - بأن الفعل يمكن تحليله إلى حوادث ترتبط فيما بينها ارتباطا سببيا - هو تناقض ذاتي صريح وواضح. (10) رابعا: إذا كان الفعل سلسلة من الحوادث التي ترتبط فيما بينها ارتباطا سببيا: فعلى أي أساس يمكن أن نحدد نقطة النهاية في فعل ما؟ إن «يوونج» يرى أن الفعل تحدده أحداث في جسم الفاعل، لكنه يضيف في الحال أن حركة الجسم لا بد أن ينظر إليها على أنها حركة مستقلة عن البيئة أو: الجانب الجزئي من البيئة، التي كان الفاعل يفكر فيه والذي يرغب في تغييره عن طريق الفعل.»

10

غير أن ذلك يظهرنا على أنه ليس ثمة طريقة نرسم بها حدا للفعل كشيء متميز عن سلسلة الأحداث، التي لا حصر لها، والتي سوف تتوالى يقينا، اللهم إلا بالإشارة إلى غرض الفاعل. وفكرة الغرض - مرة أخرى - تتضمن الفرق كله والاختلاف بأسره بين الفعل البشري على نحو ما يقوم به الفاعل السيكوفيزيقي، وبين سلسلة الحوادث المتتالية التي يعقب بعضها بعضا كما هي الحال في حوادث الطبيعة، التي يحاول الكاتب أن يتمثلها. (11) الفرد في حالة الفعل يكون فاعلا، أعني نشاطا إيجابيا فعالا؛ ذلك لأن الفعل إنما يعني إحداث تغير في الوجود. والفعل وقد انتهى، أعني الفعل وقد تم

act «العنصر الثاني من عناصر الفعل» هو التغير الذي يحدث. وهو نتيجة هذا الفعل التي يستطيع الملاحظ مشاهدتها، سواء عن طريق الملاحظة الخارجية، إن كان هذا التغير هو حركة جسمية، أو عن طريق الاستبطان، إذا كان فكرة. غير أن الفعل في حالة الأداء

acting «الطرف الأول، أو العنصر الأول من الفعل»، فهو جانب داخلي، لا يستطيع أحد على الإطلاق ملاحظته، وإنما يمكن للفاعل نفسه أن يخبره حين يكون في عملية الفعل، وأن يستنتجه حين يفحص الموقف فحصا استرجاعيا، أعني حين يسترجع ما حدث. وفكرة العمل في حالة الأداء نفسها تعني أن ما يتم عمله يعتمد في وجوده على حالة العمل: «وينتج من ذلك أن كل تحليل لفعل يجعل من نشاط الذات - في حالة الفعل - ومن التغير في العالم الخارجي حدثين يرتبط كل منهما بالآخر ارتباطا «خارجيا» - سوف يسيء فهم طابع الفعل وخاصيته. وعلى سبيل المثال فإن التحليل الذي يرى أن الفعل مركب من حادثتين إحداهما؛ حادثة ذهنية، والأخرى حادثة مادية، مع علاقة قائمة بالفعل تربط بينهما - مثل هذا التحليل ليس تحليلا ناقصا فحسب، لكنه يلغي الفعل إلغاء تاما؛ لأنه يعني أن في استطاعتنا أن ننظر إلى نتيجة الفعل في استقلال كامل عن الفعل الذي تمت به هذه النتيجة. وهو يعني أيضا إمكان النظر إلى نتيجة الفعل، لا على أنها فعل تم، بل على أنها حادث وقع مصادفة.»

11

صحيح أننا لا بد أن نحلل الفعل إلى جانبين؛ أحدهما داخل الفاعل نفسه، والثاني هو الحادثة الخارجية - أو الحادثة الفيزيائية - التي أحدثها الفعل. لكن المشكلة كلها، إنما تكمن في الانتقال من أحد هذين الجانبين إلى الجانب الآخر، المشكلة هي الانتقال بين هذين الجانبين؛ ذلك لأن الفعل في حالة الأداء «أو الجانب الداخلي من الفعل» يعتمد على هذا الانتقال نفسه.

الفرد في حالة الانتباه يقوم بفعل ما، أعني أنه يعمل شيئا ما، وهذه الفكرة تؤدي بنا إلى النتيجة الآتية:

إن الفرد يرتبط - على نحو ما - بموضوع أو بفكرة، وتعتمد طبيعة الانتباه على طبيعة هذه العلاقة نفسها. ونحن نعترف بعجزنا عن السير في هذا التحليل أبعد من ذلك. وكل ما نستطيع أن نقول ونؤكده بصدد هذه العلاقة وهو أنها ليست مجرد سياق متتابع: «حين تكون فاعلا ... فإن ذلك يعني أنك «سبب حر ولست سببا طبيعيا»، أعني أنك لست مجرد حد في سلسلة متتابعة لا يدركها إلا الملاحظ وحده. لكنك تكون عالما يعيد تشكيل نفسه بفضل طبيعته وبفضل مضمونه، وأنت حين تفعل ذلك فإنك توسع من نطاق حدودك، وتمتص وتطبع بطابعك شيئا كان من قبل غريبا عنك.»

12 (12) ونعود الآن إلى الفعل وقد انتهى

act «الطرف الثاني الخارجي من الفعل»، الذي هو نتيجة الفعل ومحصلة العمل أو موضوع الانتباه؛ لأن موضوع الانتباه هو عمل انتهى، أو فعل تم في صورة فكرة أو حركة متكاملة. وبين أن نقابل في تمايز واضح بين الفعل وقد انتهى «أو نتيجة الفعل» وبين الحادثة. فكلاهما معا تغيرات تحدث في الوجود، ويمكن للمشاهدة ملاحظتها، لكن الفعل شيء عمل، في حين أن الحادثة من حوادث الطبيعة لا يمكن تصورها على هذا النحو، بل نتصورها فحسب على أنها شيء حدث. والتفرقة بين الفعل والحادثة التي تقع في العالم الخارجي لا تكمن في أي اختلافات فيما نلاحظه من تغيرات، وإنما تعتمد على نوع الحدوث. وبعبارة أوضح: إن التغير الذي نلاحظه لا يمكن أن نطلق عليه اسم الفعل إلا إذا قصد إليه فاعل وأحدثه، أما إذا افترضنا أن حدوثه لم يكن نتيجة قصد فاعل، أعني أنه يخلو من الغرضية، فهو في هذه الحالة يصبح حادثة وليس فعلا، ويمكن أن ننظر إلى وفاة شخص ما بطريقتين؛ أن ننظر إليها على أنها فعل، وأن ننظر إليها على أنها حادثة. فهي فعل، إن كان الفعل قصد إليها، كما هي الحال مثلا في عملية الانتحار، وهي حادثة، إن وقعت من غير قصد، كما هي الحال حين تدهمه سيارة في الطريق. ونحن نعرف أن الإنسان في مرحلته الأولى من التفكير - مرحلة التفكير البدائي - يميل إلى رد جميع أنواع التغيرات التي يشاهدها إلى فاعل ما، فما يشاهده من تغير في العالم الخارجي هو أيضا فعل قام به فاعل، سواء أكان هذا الفاعل بشرا مثله، أم كان إلها، أو ما شئت من قوى يتصور أنها فوق البشر وفوق الطبيعة، وهكذا يعتقد أن كل تغير في الوجود عبارة عن فعل، ويستبعد إمكان وقوع حادثة بغير فاعل قصد إخراجها إلى حيز الوجود. (13) إننا لا نستطيع - إذا فحصنا التغيرات التي يمكن أن نلاحظها - أن نجد فرقا بين الفعل والحادثة ما لم يظهر هذا الفارق عن طريق الفاعل نفسه، الذي يخبر الفعل في الحالة التي يكون فيها التغير نتيجة لفعل قام به. وإذا لم يكن ثمة فاعل يخبرنا أن التغير الثلاثي كان نتيجة لفعله هو، فإنه من المستحيل أن نقدم دليلا حاسما يقطع بأن التغير المشار إليه هو فعل وليس حادثة. غير أننا غالبا ما نعتمد على خبرتنا الخاصة في الحكم بأن التغيرات الفلانية التي حدثت في العالم الطبيعي قد تضمنت فعلا مشابها لفعلنا، هو الذي أخرجها إلى حيز الوجود، فأنا أستطيع أن أقول - وأنا على يقين تقريبا من صدق قولي - إن الكتابة الموجودة أمامي الآن على الورق هي فعل لفاعل ما؛ لأنني قد خبرت بالفعل مثل هذا العمل. لكنني لا أستطيع مطلقا أن أكون على مثل هذا اليقين، حين أحكم بأن التغير الفلاني هو حادثة وليس فعلا أحدثه فاعل؛ لأن اعتمادي على خبرتي في مثل هذه الحالات لن يكون سوى اعتماد سلبي، بحيث تكون حجتي على النحو التالي: إن ذلك التغير لا يمكن أن يكون فعلا أحدثه فاعل، لأنني في خبرتي الشخصية لم يحدث لي قط أن قمت به، كلا، ولم أر شخصا آخر يحدث مثل هذا التغير، صحيح أن في استطاعتي أن أقطع في يقين بأن التغيرات ليست أفعالا أحدثتها موجودات بشرية، مثل الكسوف الذي يحدث للشمس أو الشهب التي تنقض من السماء، غير أن ذلك لا يجعلنا ننتهي إلى القول - في حسم قاطع - إنها ليست فعلا لفاعل أعلى من الإنسان. ومهما يكن من شيء فإن مرجعنا باستمرار هو خبرتنا الخاصة بالفعل - سواء أكانت خبرة مباشرة أم غير مباشرة - حين نحكم على بعض التغيرات في العالم الطبيعي بأنها فعل وليست حادثة. (14) ومن المهم أن نلاحظ أننا حين نقول عن بعض التغيرات التي نلاحظها إنها فعل، فإن ذلك يعني بالتالي تفسيرا لها، لكن إذا قلنا إنها حادثة، فإن ذلك يعني إما أنها لا يمكن تفسيرها، أو أنها تحتاج إلى تفسير أبعد «إن ميل الجنس البشري، بصفة عامة، هو ألا يقنع ولا يكتفي بأن يعرف أن واقعة من الوقائع هي بشكل دائم مقدمة يعقبها واقعة أخرى تكون نتيجة لها، لكنه يسعى إلى البحث عن شيء آخر، عساه أن يفسر له وضعهما هذا.»

13

ويقول «مل» معلقا على أحد النقاد الذين يذهبون إلى أن الإغريق أرادوا أن يعرفوا السبب في أن مقدمة فيزيائية معينة لا بد أن ينتج عنها نتيجة خاصة - فيقول: «لم يكن الإغريق وحدهم هم الذين بحثوا عن مثل هذه المبررات، فمن بين الفلاسفة المحدثين نجد ليبنتز يضع مبدأ اعتبره بديهية يقول: إن جميع الأسباب الفيزيائية، بغير استثناء، لا بد أن تحوي في طبيعتها الخاصة شيئا يجعل من الواضح جدا أنها لا بد أن تكون قادرة على إحداث النتائج التي تحدثها.»

14 (15) والقول بأن وقوع حادثة من الحوادث لا يفسر نفسه بنفسه، وإنما يحتاج إلى شيء آخر يفسره، هو الذي أدى إلى ظهور فكرة السببية، ويمكن أن نصور الطريقة التي ظهرت بها هذه الفكرة على النحو التالي: إذا لم يكن هذا التغير الذي حدث فعلا لفاعل، فإننا لا بد في هذه الحالة أن نبحث عن مصدر آخر له: «والاسم الذي أطلق في الفكر الحديث على هذا المصدر البديل للتغير هو كلمة «السبب»، وفكرة السبب هي فكرة مصدر آخر للتغير غير الفاعل، وهو مصدر لا يتضمن قصدا. ومعرفة الفرق بين الفاعل والحادثة - يظهرنا على أن القضية القائلة بأن: «لكل حادث سببا» تتناقض تناقضا صارخا مع القضية التي تقول: «ليس ثمة سبب للفعل». والواقع أنه إذا كان «كل فعل ليس حادثة»، و«كل حادثة ليست فعلا» قضايا صادقة، وإذا كانت كلمة السبب تعني مصدرا للتغير غير الفاعل، فإن هاتين القضيتين في هذه الحالة تتضمن كل منهما الأخرى ، وينتج من ذلك أنه ليس ثمة تناقض قاطع حين نتحدث عن سبب للفعل؛ لأننا حين نفعل ذلك، فإننا نعني أن ما نتحدث عنه ليس فعلا

action .

15 (16) ومن الجدير بالذكر أن فكرة السببية - كما شرحناها فيما سبق - فكرة تناقض نفسها بنفسها، ويبدو أن هذا هو السبب في أن العالم يحاول الآن أن يتخلص منها تماما، وأن يحل محلها فكرة القانون، على اعتبار أن القانون ليس إلا وصفا لتتابع منظم للحوادث كما نلاحظها. وذلك لأن الفكرة التي تقول إن للحادثة سببا هو الذي أحدثها هي: «محاولة للتفكير في الحادثة بطريقة مماثلة للتفكير في الفعل، بينما نحاول في نفس الوقت أن ننكر أنه يمكن ردها إلى فاعل، فالسبب هو المسئول عن وقوع الحادثة، وهو في نفس الوقت شيء غير الفاعل، وبالتالي لا يمكن أن يكون مسئولا عن شيء، ولا يمكن أن يحدث شيئا. وهكذا نجد أن السبب هو - في آن معا - فاعل وغير فاعل.»

16 (17) والتفرقة بين الأفعال والحوادث لها أهميتها البالغة بالنسبة للمذهب الجبري؛ إذ من المستحيل - كما لاحظنا من قبل - أن نفرق عن طريق الملاحظة الخارجية، بما هي كذلك، بين التغير الذي نعتبره فعلا، والتغير الذي نعتبره حادثة. فليس ثمة شيء يمكن ملاحظته في التغير، بحيث يجعلنا ننسبه تماما إلى فعل فاعل. وهذه الحقيقة تجعل من الممكن للفيلسوف الجبري أن يزعم أن جميع التغيرات ليست إلا سلسلة من الحوادث التي تتشكل منها قوانين الطبيعة عن طريق الملاحظة التجريبية لانتظام تتابعها. ومثل هذا الزعم لا يمكن تفنيده من الناحية المنطقية، طالما أن التغيرات التي نبحثها لا تشملني بوصفي فاعلا، فأنا بوصفي فاعلا أكون على يقين تام من أن نتائج نشاطي الخاص ليست مجرد حوادث. «وهذا لا يعني سوى القول بأنه من الممكن قبول موقف الفيلسوف الجبري دون أن يكون من الممكن تفنيده من الناحية المنطقية، اللهم إلا في نقطة واحدة - وهي النقطة التي يشملني فيها تقرير المذهب الجبري بوصفي فاعلا لفعل. فعند هذه النقطة يكون تقرير المذهب الجبري ليس تقريرا على الإطلاق، طالما أن الجبرية هي إلغاء للقصدية ، والتقرير غير القصدي ليس إلا لغوا.»

17 (18) الذات هي الفاعل السيكوفيزيقي بمقدار ما ينتبه إلى شيء ما، فهو حين ينتبه يفعل، ونشاطه نفسه يعني أنه سبب كاف لما ينتج عن فعله: «يقال عن السبب أنه «كاف» للنتيجة، إذا كان من الممكن إدراكه بوضوح وتميز بوصفه سببا لهذه النتيجة وحدها: ويقال عن السبب إنه «غير كاف» أو «ناقص» بالنسبة للنتيجة التي لا يمكن أن تفهم من خلاله هو وحده فحسب. وبالتالي فإذا ما وقع حادث لذهننا أو جسمنا واستطعنا أن نفهم في وضوح وتميز أنه نتيجة لطبيعتنا الجوهرية وحدها، فإننا نكون في هذه الحالة سببه «الكافي».

ومن ثم فإننا نقول إننا «نفعل» حين يكون الحادث نتيجة ضرورية لنشاطنا وطاقتنا ... أعني حين نكون نحن الذين خلقنا هذا الحدث.»

18 (19) ويعتقد «برادلي» أن هذا النشاط هو ظاهر فحسب، وليس حقيقيا؛ لأن فكرته تؤدي إلى نتائج متناقضة. ويذهب إلى أن النشاط يعني أن التغير الذي يظهر فيه هو - في آن معا - له سبب وليس له سبب. وهو لكي يبين لنا أن التغير الذي يتضمنه النشاط لا بد أن يكون قد سببه شيء آخر غير الشيء النشط نفسه. يقول: «النشاط يعني تغير شيء ما إلى شيء آخر مختلف عنه. وهذا واضح فيما أعتقد، لكن النشاط ليس مجرد تغير أو تبدل بلا سبب. والواقع ... أن ذلك لا يمكن لنا أن نتصوره؛ لأن «أ ب» لكي تصبح «أ ج»، فلا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب «أ ب»، وإلا فسوف نكون أمام تناقض ذاتي صريح. وهكذا فإن انتقال النشاط يتضمن باستمرار سببا ما.»

19

لكنه يستمر في حديثه ليبين لنا أن التغير الذي يتضمنه النشاط لا بد من ناحية أخرى، ألا يكون قد سببه شيء آخر غير طبيعة الشيء النشط نفسه. وهو يقول في هذا المعنى: «النشاط هو تغير له سبب، لكنه لا بد أن يكون أيضا أكثر من ذلك؛ لأن الشيء المعين إذا ما غيره شيء آخر، فإنه لا يقال عنه عادة إنه نشط فعال

active ، بل يقال على العكس إنه سلبي أو متقلب

passive ، أما النشاط فهو يبدو بالأحرى تغيرا يشتمل في ذاته على السبب

self-Caused ، فالانتقال الذي يبدأ بالشيء نفسه ويظهر من الشيء نفسه، هو العملية التي نشعر فيها أن هذا الشيء نشط فعال، والنتيجة لا بد بالطبع أن تعزى إلى الشيء على أنها صفة له؛ إذ ينبغي أن ينظر إليها، لا على أنها تنتمي إلى الشيء فحسب، بل على أنها بدأت وخرجت منه، والشيء حين يحقق طبيعته الخاصة يسمى شيئا نشطا فعالا.»

20 (20) وعبارة «برادلي» الأولى هي ما يهمنا هنا؛ ذلك لأن الزعم بأن التغير الذي يتضمنه النشاط يحتاج إلى شيء آخر غير الشيء النشط، يعني إنكار كل معنى لكلمة النشاط. فلماذا تصف «الشيء» بصفة «النشاط» إذا لم يكن في نيتك أن تنسب لهذه الصفة أي معنى؟ إنه لو صحت التفرقة - التي سبق أن ذكرناها - بين الفعل والحادثة، ولو أننا وضعنا في ذهننا هذه التفرقة، فإننا لن تضللنا بعد ذلك عبارة «برادلي» التي تقول: «إن «أ ب» لكي تصبح «ب ج»، فإنه لا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب «أ ب».» فهذه العبارة صحيحة إذا ما طبقت على الحوادث، لكنها كاذبة إذا ما طبقت على الأفعال. فهذا الكرسي الموجود في الجانب الأيسر من الغرفة لكي يصبح في الجانب الأيمن منها، فلا بد أن يكون هناك شيء آخر إلى جانب الكرسي هو الذي ينقله من هنا إلى هناك، لكن الإنسان الذي يوجد في الجانب الأيسر من الغرفة ويريد أن ينتقل إلى الجانب الأيمن منها لا يحتاج إلى شيء آخر بجانبه. فحركة الكرسي حادثة تتطلب شيئا آخر يفسرها، فيما حركة الإنسان - لو أنه كان فاعلا لهذه الحركة - تفسر نفسها بنفسها، ولا تحتاج إلى شيء آخر يفسرها، بمجرد ما نعرف أنها نتيجة لعمل الإنسان أو فعله أو أنها الموضوع الذي اختاره لحظة انتباهه. (21) مشكلتنا الرئيسية هي ذي: افرض أننا كتبنا مجملا مختصرا للذات على النحو التالي «أ - ب» بحيث تكون «أ» هي الفاعل المنتبه و «ب» هي الموضوع الذي ينتبه إليه. فالسؤال الآن هو: ما الذي يجعل الفاعل يلتقط «ب» لتكون موضوعا لانتباهه في لحظة معينة ويستثني موضوعات أخرى ممكنة، مثل «ج، س، د» ... إلخ؟ هل الفرد حين ينتبه يكون مبتدئا أم منتهيا؟ أعني هل يكون محصلا أم مبدعا؟ أهو نتيجة لظروف سابقة أم أنه سبب فحسب؟ هل لا بد للخلية أو الخلايا العصبية التي تمد حركات العين بالطاقة العصبية لكي تنظر مثلا إلى موضوع معين - هل لا بد أن يثيرها بالضرورة مقدم فيزيائي، وهذا المقدم يثيره شيء آخر ... وهكذا حتى نصل - نصل إلى أين؟ أم هل يمكن لهذه الإثارة أن تبدأ دون أن يسبقها بالضرورة مقدم فيزيائي، أعني أن تبدأ مع شروع التكوين الطبيعي للفاعل السيكوفيزيقي في الانتباه؟ وبعبارة أخرى، لو أننا أخذنا حاسة الإبصار مرة ثانية: فهل نحن ننتبه إلى هذا الموضوع أو ذاك لأن عيوننا قد تحولت، أردنا أو لم نرد، نحوه، أم أن عيوننا تتحول نحو الموضوع المعين لأننا نقرر أن ننتبه إليه؟

الرأي الذي ندافع عنه هو أن الفرد في حالة الانتباه مجبر ذاتيا، أعني أنه محدد بذاته، فالفاعل في حالة الانتباه يكون نشطا، أعني أنه يكون سبب نفسه

self-caused ؛ أي إنه يحمل سببه في ذاته، فهو ينتقي بطريقة نشطة ما يبدو أنه يساعد على البقاء، أو ما يحفظ وجوده: «إنه في اللحظة التي يفكر فيها المرء في هذا الموضوع سرعان ما يتكشف له زيف الفكرة التي تجعل الخبرة مساوية لمجرد ظهور نظام خارجي أمام الحواس، إن هناك ملايين الأجزاء من النظام الخارجي تظهر أمام حواسي، لكنها لم تدخل قط في خبرتي: لماذا؟ لأنها لا نفع فيها ولا غناء بالنسبة لي. إن خبرتي هي ما أوافق على الانتباه إليه. والأجزاء التي ألاحظها أو ألتفت إليها هي وحدها التي تشكل ذهني، ومن ثم فالخبرة تصبح عماء مطبقا دون النفع الانتقائي. إن النفع وحده هو الذي يضفي خبرة وتأكيدا وضوءا وظلا، ومقدمة ومؤخرة - هو الذي يعطي للكلمة منظورا واضحا.»

21

ولقد لاحظ «سير تشارلز شرنجتون» كيف يشرع الفرد في القيام ببعض الأعمال وكتب يقول:

22 «تستمد حركة الفرد من مصدرين: العالم الخارجي من حوله، والعالم الداخلي الخاص به، وهو في كلتا الحالتين يستخدم نشاطه الانتقائي، وهو نشاط يحكمه إلى حد ما الفعل العصبي، الذي ينشأ تلقائيا داخل المراكز العصبية نفسها، ويمكن أن ينظر إليه على أنه جهاز، يحدث بفضل تنظيمه، عددا من الأشياء، وهو يتركب على هذا النحو الذي يجعل العالم الخارجي يستطيع أن يشد زناد الحركة فيه. غير أن شروطه الداخلية تلعب دورا في تلك الأشياء التي يستغلها في حدود معينة وفي كيفية عملها، وهذه الشروط الداخلية قد تبدع بدورها بعض الأفعال.» (22) وكدليل على صحة هذا الرأي، نستطيع أن نلجأ من الناحية الإيجابية إلى الخبرة، أما من الناحية السلبية فسوف نحاول في الفصول القادمة أن نبين أن وجهة النظر البديلة، أعني المذهب الجبري هي وجهة نظر بغير أساس. (23) الخبرة هي مرجعي النهائي للبرهنة الإيجابية، على أنني في حالة الانتباه لا أسلك في فعلي بسبب عوامل خارجية؛ ذلك لأنني حين أنتبه أكون شيئا، ولا أكون ممتلكا لشيء ما، أعني أنني أنتقي، وأقبل بديلا من البدائل الموجودة أمامي، فأختاره وأجعله ملكا لي، وأوحد بينه وبين ذاتي، وذلك هو الجبر الذاتي، أو التحديد الذاتي، الذي يصنع فيه المرء ذاته ويجعلها على ما هي عليه.

ونحن لدينا في خبرتنا هذه بالفعل، في حالة الأداء، المثل العيني الوحيد للفاعلية الحرة، لكنا حين نحلل هذا الموقف بعد ذلك، ترانا نقسمه إلى عاملين ثم علاقة بينهما. أما العلاقة فهي علاقة الاختيار، وبالتالي فنحن نجرد من الخبرة العينية علاقة الاختيار، وبمجرد ما يتم تجريد مثل هذه العلاقة يكون في استطاعتنا أن نطبقها على أي عاملين آخرين. وهكذا نستطيع أن نفسر بعض مظاهر التغير في العالم الخارجي بأنها أفعال قام بها أشخاص آخرون. وبهذه الطريقة نفسها أيضا نستطيع أن نرى الغرضية في العمليات البيولوجية في النبات، وفي السلوك الغريزي عند الحيوانات، ولا شك أننا في جميع هذه الحالات عرضة لتفسير الوقائع تفسيرا خاطئا ، بحيث نطلق اسم الأفعال الغرضية على أمور هي في الحقيقة مجرد حوادث، لكن حتى لو كان ذلك صحيحا فإنه لا ينفي القول بأننا نجرد علاقة معينة - هي علاقة الاختيار أو الانتقاء - من خبرتنا الخاصة ونطبقها - إن صوابا أو خطأ - على موضوعات أخرى. والواقع أنك كلما أكدت بإصرار أن كل ما يقع في الوجود ليس إلا مجموعة من الحوادث، وأن إطلاق كلمة الفعل على أي منها ليس إلا عملية يقوم بها خيالنا - فإنك تبرهن - في الوقت ذاته، وعلى نحو قاطع - أنني أدرك الفعل في خبرتي الخاصة، وإلا فمن أين جاءت علاقة الاختيار المجردة هذه؟ إن هذه الفكرة لا توجد في العالم الخارجي بناء على افتراضك نفسه، لكنها موجودة عندي فمن أين جاءت؟ لا بد - بالتالي - أن أكون قد جردتها من خبرتي الخاصة حين اخترت شيئا معينا ليكون موضوعا لانتباهي. (24) بالتالي فإن فكرة الحرية بالمعنى الذي تفهم به في نظرية الجبر الذاتي على أنها تظهر في فعل الفاعل حين ينتبه ويختار موضوعه - هذه الفكرة مستمدة مباشرة من خبرتي العينية، كما أن فكرة الضرورة - من ناحية أخرى - مستمدة من الفكرة الأصلية عن الحرية. وفكرة القانون التي هي أساس العلم - وبالتالي أساس المذهب الجبري - ليست إلا تصفية وتنقية للوقائع العينية الموجودة في خبرتي الخاصة. فالقانون العلمي، هو شيء لا نستطيع بالفعل أن نخبر المثل الدقيق الذي يقدمه؛ لأن ما نخبره باستمرار، وهو واقعة فردية عينية، وليست القوانين إلا تجريدات من أمثال هذه الوقائع الفردية العينية، والواقع أنه في الاختلاف بين وجهات النظر حول العلاقة بين الوقائع العينية والقوانين المجردة يكمن الفرق بين المذهب الآلي والمذهب الديناميكي، «كلما نظر صاحب النزعة الديناميكية إلى أعلى، اعتقد أنه يدرك وقائع تفلت من قبضة القانون، وهكذا يضع الواقع على أنها الحقيقة المطلقة، ويعتبر القانون مجرد تعبير رمزي - كبر أو صغر - عن هذه الحقيقة. أما النزعة الآلية فهي على العكس، تكتشف داخل الواقعة الجزئية عددا معينا من القوانين التي تكون هذه الواقعة بالنسبة لها مجرد نقطة التقاء ولا شيء غير ذلك، وعلى أساس هذا الفرض يصبح القانون هو الحقيقة الأصلية الأساسية.»

23

إن وقائع الخبرة الفردية والعينية هي الحقيقة، أما القوانين فهي تجريدات. ولا يمكن مطلقا أن تكون التجريدات في اتفاق كامل مع وقائع الخبرة الجزئية، فهي يمكن فحسب أن تتفق معها اتفاقا كبيرا أو صغيرا، لا اتفاقا كاملا، والقوانين من هذه الزاوية تشبه الأشكال الهندسية، التي يزيل الفكر ما فيها من نقائص كانت موجودة في الجزئيات العينية للخبرة، فنحن لا نستطيع على الإطلاق أن نخبر الخط المستقيم استقامة مطلقة، أو الدائرة الكاملة الاستدارة، ومع ذلك فنحن نكون هذه الأشكال تكوينا فكريا مثاليا على أساس الوقائع العينية. وتلك هي الحال نفسها مع قوانين الطبيعة، فنحن لم نلاحظها أبدا تتحقق في كمال مطلق، لكنا نستطيع فحسب أن نزيل بالفكر النقائص الموجودة في ملاحظاتنا الجزئية، ومن ثم فقوانين الطبيعة التي هي حجر الزاوية في بناء المذهب الجبري ليست إلا تجريدات من خبرتنا، التي هي وحدها الحقيقية. وفي استطاعتك أن تنظر إلى الطبيعة على أنها جهاز ينظمه قوانين لا ترحم. لكنك قبل أن تفعل ذلك عليك أن تسلم أولا بأن مثل هذا التصور مستمد من شيء آخر، وأن خبرتك بالوقائع العينية هي الأصل الذي اشتق منه، وطالما أن خبرتك هي في النهاية خبرة بفعل ما، أعني خبرة بالانتباه والانتقاء، فإنها بالتالي خبرة بالجبر الذاتي أو التحديد الذاتي. ولا شك أن تصور الحرية، بالمعنى الذي نفهم به هذه الكلمة في نظرية الجبر الذاتي، هو تصور مسبق قطعا، تصور الضرورة، فالأول يدرك مباشرة عن طريق الخبرة، بينما الثاني جاء نتيجة تصفية بعدية. «لو أننا تساءلنا لماذا يضفي أحد الفريقين «أصحاب النزعة الديناميكية»، حقيقة عليا على الواقعة، بينما يضفي الفريق الآخر «دعاة النزعة الآلية» مثل هذه الحقيقة على القانون، لوجدنا أن النزعة الآلية والنزعة الديناميكية تأخذ كل منهما كلمة البساطة بمعنيين مختلفين أتم الاختلاف. أما الفريق الأول فيرى أن المبدأ يكون بسيطا لو أمكن لنا أن نرى نتائجه وأن نحسب آثاره، وهكذا - حسب هذا التعريف نفسه - تكون فكرة المقصود الذاتي أكثر بساطة من فكرة الحرية، ويكون التجانس أكثر بساطة من اللاتجانس، ويكون المجرد أكثر بساطة من العيني. غير أن النزعة الديناميكية لا تسعى إلى وضع الأفكار في أنسب النظم وأكثرها ملاءمة للعثور على الخيط الحقيقي الذي يربط بينها ... ومن هذه الوجهة من النظر تصبح فكرة التلقائية بلا نزاع أبسط من فكرة القصور الذاتي، طالما أن الثانية لا يمكن أن تفهم وأن تحدد إلا عن طريق الأولى، في حين أن الفكرة الأولى تكتفي بذاتها.»

24 (25) لا نستطيع أن نجاوز القول بأن خبرتنا، كما ندركها إدراكا مباشرا، وكما نحللها عن طريق الاسترجاع، تظهرنا على أننا في حالة الانتباه نكون مجبرين ذاتيا في اختيار موضوع الانتباه، كلا، وليس ثمة إمكان لوجود معرفة - أية معرفة - بمعزل عن خبرتنا الخاصة؛ لأن الخبرة هي مرجعنا النهائي، والعالم هو عالم بالنسبة لنا، ومهما حاولنا أن نقول عكس ذلك فإننا مقيدون في النهاية بما صادفناه في خبرتنا. يقول وايتهد: «معطياتنا هي العالم بالفعل، بما في ذلك أنفسنا نحن، وهذا العالم الفعلي ينتشر أمامنا للملاحظة في شكل موضوعات لخبرتنا المباشرة، وتوضيح هذه الخبرة المباشرة هو المبرر الوحيد لأي تفكير، ونقطة البداية أمام الفكر هي الملاحظة التحليلية لمكونات الخبرة.»

25

وكتب «أفلنج

Aveling »

26

في هذا المعنى يقول: يمكن أن نضع مبدأ عاما لا يسمح بأي استثناء مهما كان نوعه، هذا المبدأ هو: جميع معطيات الاعتقاد - حتى تلك المعطيات التي بلغت حدا كبيرا من الإتقان والإحكام في طابعها العلمي أو الفلسفي - تستمدها مباشرة من خبرتنا التجريبية المباشرة، أو هي على الأقل ترتبط بهذه الخبرة بطريقة محددة تماما بحيث يمكن التأكد منها.»

27 (26) غير أننا حين نقول إن الفرد في حالة الانتباه يكون نشطا فعالا دون أن يكون لنشاطه سبب خارجي، لكنه محدد بذاته في إحداث حركات جسمه هو - ألا نكون بذلك قد اعتدينا على الأرض المقدسة لقانون بقاء الطاقة؟ إن في استطاعة أحد علماء الطبيعة أن يثير الاعتراض الآتي: إن إحداث حركة في الجزئيات المادية للجسم يعني أن النشاط الذاتي المزعوم قد أضاف قدرا جديدا من الطاقة الحركية

Kinetic energy

دون أن يختفي قدر مساو لهذه الإضافة من صورة أخرى من صور الطاقة، وهذا تحطيم واضح لواحد من أعظم القوانين المعترف بها في علم الطبيعة، وهو قانون بقاء الطاقة، الذي يذهب إلى أن الطاقة لا تزيد ولا تنقص، بل تتحول فقط إلى صور مختلفة. (27) ويمكن أن نشرح قانون بقاء الطاقة في إيجاز شديد على النحو التالي:

إذا ما درسنا الطرق التي تؤثر بها المادة في حواسنا لوجدنا أن هناك حالات متعددة للمادة يمكن قياسها، هي التي نسميها بصورة الطاقة. وهكذا نجد لدينا: طاقة الحركة، وطاقة الوضع، والحرارة، والضوء ... إلخ، ونحن نلاحظ أنه في حالة اختفاء إحدى هذه الصور تظهر بدلا منها صورة أخرى، وفي كل حالة من هذه الحالات هناك معدل ثابت لتحول صورة من الصور إلى صورة أخرى. فلو أننا استخدمنا الطاقة الكيميائية لتوليد الحرارة، فإن عدد الوحدات الحرارية التي نحصل عليها من كل وحدة من وحدات الطاقة الكيميائية الضائعة يظل ثابتا. ولو أننا لاحظنا كل التحولات التي تطرأ على أي مجموعة من مجموعات الطاقة، لوجدنا أن المجموع الكلي للوحدات الذي نحسبه بمصطلحات إحدى هذه الصور - يظل ثابتا باستمرار. ويمكن أن نوضح ذلك بهذا المثال الآتي: افرض أن شخصا يملك مبلغا معينا من المال، وأنه أحيانا يستبدل القروش بالشلنات، وأحيانا أخرى يستبدل العملة الفضية بعملة ورقية ... إلخ، لكن المبلغ يظل مع ذلك ثابتا، فالمجموع الكلي يبقى كما هو، سواء أكان محسوبا بالشلنات أم بغيرها، وعلى الرغم من أن المبلغ كله كان في لحظة من اللحظات مجموعة من القروش، وفي لحظة أخرى كان كله فضة، وفي لحظة ثالثة كان كله أوراقا مالية، أو كان في لحظة رابعة خليطا من ذلك كله - فإن المجموع الكلي للمبلغ يظل واحدا في جميع هذه الحالات. (28) وعلى ذلك في استطاعة عالم الطبيعة أن يقول إن الأعصاب أجسام مادية، مثلها مثل الحجارة سواء بسواء، وانتقال التيارات العصبية هي نفسها عملية فسيو-كيمائية، تشبه تماما عملية احتراق الشمعة، ولا بد من تفسيرها تفسيرا ماديا . ولو أننا افترضنا أن شيئا ما يحدث في حالة الانتباه داخل لحاء المخ؛ حيث لا يمكن أن يحدث بنفس الطريقة في حالة أخرى، بوصفه محصلة لظروف مادية خالصة، فإننا بذلك نحطم الاتصال، الذي لا يتحطم، للتفسير الفيزيائي، فالطاقة الموجودة في العالم المادي لا تفنى ولا تخلق، بل يعاد توزيعها فحسب، وبالتالي فلا يمكن أن يكون صحيحا ما نقول من أن النشاط الذاتي يحدث حركة - لأنه بذلك لا بد أن يزيد أو ينقص من كمية الطاقة الموجودة في العالم المادي - وبالتالي يحطم قانون بقاء الطاقة. (29) وردا على هذا الاعتراض، سوف أجيب بادئ ذي بدء، بالشك في الشمول المزعوم لهذا القانون، وسوف أحاول - ثانيا - أن أبين أن نشاط الانتباه لا يتعارض بالضرورة مع هذا القانون. (30) هناك واقعة تعارض الزعم القائل بأن الطاقة لا بد أن يقابلها قدر من العمل مساو لها تماما، وهي أن بعض الطاقة الحرارية يتبدد دون أن يحدث أي قدر من العمل مساو له، وطالما أننا لا نعرف شيئا عن الطريقة التي تعود بها هذه الطاقة المبددة إلى مصدرها الأصلي، ألا يمكن أن تكون الطاقة المتاحة لنا مستمدة من مصدر خفي، لا يمكن فيزيقيا أن ترد إليه؟ (31) وهذا السؤال يبرز أمامنا فكرة إمكان الرد

reversibility ، أو إمكان التحول، وهي الفكرة التي تزعمها النظرة الآلية، ويدعمها قانون بقاء الطاقة. فهم يزعمون أن أيا ما كان التغير الذي يحدث في العالم فإن من الممكن أن يعود كل شيء من جديد إلى وضعه السابق، لكن الوقائع تظهرنا على أن هذه النظرية المزعومة لا تستطيع - على الأقل - أن تجد لها تطبيقات في مجالات معينة. «إن لا معقولية الرد «أو التحول إلى الوضع السابق» واضحة في العمليات العضوية، فليس من المعقول أن تتقلص الشجرة وتعود القهقرى إلى البذور، ولا أن تبدأ الحياة مع جثة الإنسان وتنتهي بالميلاد، ولا تعود سلسلة الأنساب إلى الوراء.»

28

والواقع أن إمكانية الرد هذه لا يمكن - فيما يبدو - أن تنطبق إلا على نظام يمكن لأجزائه بعد أن تتحرك أن تعود إلى أوضاعها السابقة، أعني نظاما يمكن لأجزائه بعد أن تتحرك أن تعود إلى أوضاعها السابقة، أعني نظاما لا يلعب الزمان أي دور في ماهيته. «لكن الأمر على خلاف ذلك تماما في مجال الحياة، فها هنا تبدو الديمومة - يقينا - وكأنما تقوم بدور السبب، ومن ثم فإن الفكرة القائلة بالعودة بالأشياء إلى الوراء بعد انقضاء زمان معين هي ضرب من المستحيل، طالما أن مثل هذه العودة إلى الوراء لا تحدث قط في حالة الكائن الحي.»

29 «وفي حين أن النقطة المادية - كما يفهمها دعاة النزعة الآلية - تظل في حاضر أبدي. فإن الماضي قد يكون حقيقة بالنسبة للأجسام المادية، وهو يقينا حقيقة أكيدة بالنسبة للموجودات الواعية. وإذا كان الماضي لا يمثل أدنى كسب ولا أدنى خسارة، بالنسبة إلى أي نظام نزعم له البقاء، فإنه قد يمثل كسبا بالنسبة إلى الكائن الحي، وهو بدون شك كسب محقق للوجود الواعي. وإذا كان الأمر على هذا النحو: أليس هناك الشيء الكثير مما يمكن أن يقال حول افتراض القوة الواعية أو الإرادة الحرة، التي تخضع لفعل الزمان وتستغرق ديمومة، حتى إنه ليمكن أن تفلت من قانون بقاء الطاقة؟»

30 (32) إن كل ما في استطاعة عالم الطبيعة أن يؤكده بواسطة قانون بقاء الطاقة هو أن القدر المعين الموجود من الطاقة في الصورة «أ»، يساوي القدر المعين الموجود من الطاقة في الصورة «ب». «غير أن التأكد من المتساويات الآلية للصور المختلفة من الطاقة، وتقرير الثبات المطلق لهذه المتساويات كجزء من المسلمة العامة التي تقول إن الطبيعة مطردة شيء، والزعم بأن كمية الطاقة الموجودة في الكون محدودة، ولأنها محدودة فهي لا تزيد ولا تنقص تبعا لقانون ما أو لمبرر كاف شيء مختلف عنه أتم الاختلاف ... «إن عالم الطبيعة لا يعرف إلا أن معدلات التحول والتبدل ثابتة ومنتظمة داخل نطاق الحدود الضيقة جدا لملاحظته، وهو حتى داخل هذه الحدود مقيد تماما بمعدل النتائج لعدد لا حصر له من العمليات الفردية».»

31 (33) وفضلا على ذلك كله، وبغض النظر عن مشكلة الصعوبة الكمية : فكيف يستطيع العلم أن يتأكد من أن صور الطاقة المعروفة هي وحدها الصور الممكنة فحسب؟ إننا حين نقول: إن «أ» يمكن أن تتحول تماما إلى «ب»، فإننا لا نستبعد بذلك إمكان وجود صور أخرى من الطاقة تتوسط هذه الدورة. وسواء أكانت كمية الطاقة الموجودة في الكون ثابتة كلها أم لا، فسوف يبقى علينا أن نتأكد من أن قائمة صور الطاقة التي نعرفها قائمة شاملة تماما، قبل أن يحق لنا أن نرفض نظرية جديدة. (34) وإلى جانب ذلك كله: افرض أننا سلمنا بأن قانون بقاء الطاقة صحيح وشامل، فهل لا بد أن يكون هناك تعارض بين مثل هذا القانون وبين النشاط الذاتي؟ يمكن أن يقال بادئ ذي بدء إن قانون بقاء الطاقة يختص فحسب بإعادة توزيع الطاقة داخل إطار النظام المادي، لكنه يظل صامتا أمام الأحداث الأخرى التي يقال إنها ليست مادية. إن ما يؤكده هذا القانون هو أن الطاقة لا يمكن أن تزيد أو تنقص في أية ظروف مادية، لكنه لا يخبرنا ما الذي عساه أن يحدث لو تدخل عامل غير مادي ليلعب دورا في هذه الأحداث. (35) ثانيا - وربما كانت تلك نقطة أكثر أهمية - إن من الممكن تماما أن تكون فاعلية الذهن مجرد فاعلية موجهة، بحيث تقود إلى إعادة توزيع الطاقة دون أن يكون لها أدنى أثر على كمية هذه الطاقة زيادة أو نقصانا. والحق أن المرء ليغريه تماما أن يسوق اقتراحا جريئا مؤداه أن الحياة تعتمد على توجيه وضبط الطاقة دون أن تكون هي نفسها إحدى صورها، ويمكن أن تكون لمجرد إعادة التنظيم نتائج مذهلة، فنحن نجد فيما يسمى بفعل الإنسان في الطبيعة أن «خواص المادة هي التي تعمل كل شيء بمجرد ما توضع الأشياء في وضعها الصحيح. وكل ما يفعله الإنسان في المادة، بل كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يقوم بهذا العمل، أعني أن يضع الأشياء في وضعها الصحيح، بحيث يمكن أن تؤثر فيها قواها الداخلية الخاصة، كما تؤثر فيها تلك الأشياء الطبيعية الأخرى الباقية. فالإنسان لا يفعل شيئا سوى أن يحرك شيئا من شيء آخر أو إلى شيء آخر. وأوامره كلها على قوى الطبيعة لا يمكن أن تقاس قوتها بتلك القوة التي يحصل عليها هو نفسه حين ينظم الأشياء في تلك التركيبات والتفاعلات التي نشأت عنها القوى الطبيعية ذاتها، كما هي الحال - مثلا - حين يضع عود ثقاب مشتعلا على وقود، أو حين يضع الماء فوق مرجل من نار، بحيث يتولد عنها قوة البخار التمددية التي أدت بشكل واسع إلى تحقيق الأغراض البشرية.»

32

يقول: «ماكسويل

Maxwell » لو أننا افترضنا وجود عفريت من نوع خاص، بلغت ملكاته من الدقة حدا يمكنه من تتبع الجزئيات في مسارها، بحيث يكون قادرا على أن يعمل ما يستحيل علينا الآن عمله، فسوف نظل مع ذلك نتخيله محدودا في صفاته مثلنا تماما؛ لأن «الجزئيات في إناء مملوء بالهواء وفى درجة حرارة مطردة تتحرك بسرعات ليست مطردة على الإطلاق، رغم أن أدنى سرعة لأي عدد كبير منهم نختاره اختيارا تعسفيا هي سرعة مطردة في الغالب تماما. ودعنا الآن نفترض أن مثل هذا الإناء يقسم قسمين هما: «أ، ب»، وأن أحد القسمين به ثقب صغير، وأن هناك كائنا يستطيع أن يرى الجزئيات الفردية، يفتح هذا الثقب الصغير ويغلقه بحيث يسمح فقط للجزئيات السريعة بالعبور من «أ» إلى «ب»، والجزئيات البطيئة بالعبور من «ب» إلى «أ». إن مثل هذا الكائن سوف يستطيع على هذا النحو - دون أن يبذل أدنى جهد - أن يرفع درجة حرارة «ب»، وأن يخفض درجة حرارة «أ».»

33

غير أن ذلك ليس إلا تشبيها مجازيا يمكن أن يساء فهمه، فأنا لا أفترض وجود أي كائن متوسط يقوم بعمل التوزيع من أجل الفاعل السيكوفيزيقي على النحو الذي اقترح فيه «ديكارت» وجود غدة صنوبرية تقوم بوظيفة مماثلة.

34

كلا، ولست أفترض وجود ذهن مستقل يعمل في البدن ويتفاعل معه. فأنا أعتقد أن هناك كائنا واحدا فحسب هو: الفاعل السيكوفيزيقي، وواحديته هي اتحاده العضوي، أو هي وحدته العضوية، ومثل هذا الفاعل له وظيفة تختص بطريقة عجيبة بالجسم الحي، وهذه الخاصية العجيبة تعتمد أساسا - كما قلنا - على انتباه الفرد إلى الوجود، وانتقاء عناصر معينة ورفض عناصر أخرى، والفرد في إحداثه لحركته يكون نشطا فعالا محددا بذاته فحسب، وكل أنشطة الفرد - أيا كان نوعها - تفترض مقدما وظائف الانتقاء والاختيار المتضمنة في الانتباه.

بقي أن نعرف: متى يعتبر فعلا من أفعال الانتباه إرادة، ومتى لا يعتبر كذلك.

الفصل الثالث

الإرادة

(1) الإرادة هي الانتباه إلى موضوع يتصف بخصائص معينة. (2) ليس هناك ملكة تسمى ب «الإرادة»، ولكن هناك أمثلة للإرادة فحسب. (3) الانتباه سابق على الإرادة. وجهة نظر «برادلي» التي تقول العكس. (4-6) نقد وجهة نظر «برادلي». (4) من أين يأتي الانتباه حين يصاحب الإرادة دون أن يكون هو نفسه مرادا مباشرا؟ (5) لا يتضح ما إذا كان «برادلي» يعتقد أن الانتباه مصاحب ضروري للإرادة أم أن الإرادة يمكن أن توجد بدونه. (6) التناقض في قوله إن الانتباه يصبح الموضوع المباشر للإرادة حين تكون العقبة في تحقيق فكرتي هي شرود الذهن. (7) كيف نفسر الحالات التي أشعر فيها أن الانتباه هو الموضوع المباشرة لإرادتي. (8) جميع الأمثلة الممكنة للأفعال الإرادية تعتمد على الانتباه إلى فكرة لها خصائص معينة. (9) يكون الموقف حالة من حالات الإرادة: (أ)

إذا كانت الفكرة التي أنتبه إليها هي فكرة تغيير الوجود. (ب)

وإذا كان التغير لا بد أن يحدث بناء على الفكرة. (ج)

وبوساطة هذه الفكرة. (د)

ويشترط أن يحقق الفاعل نفسه حين يحقق الفكرة (10-14) مناقشة هذه النقاط: (10) لا بد أن يكون هناك وجود ذو طبيعة معينة داخلية أم خارجية. تغير هذا الوجود لا بد أن يبدأ الآن. (11) لا بد أن يكون هناك صراع بين فكرتي عن التغير وبين طبيعة الوجود. لا بد أن يكون التغير في نطاق قدرة الفاعل. (12) لا بد أن يحدث التغير طبقا لمضمون الفكرة - السماح بالزيادة الضرورية في التغير. (13) لا بد أن يكون التغير نهاية عملية، كانت بدايتها الفكرة التي انتبهت إليها، العلاقة بين البداية والنهاية يجب ألا تكون مجرد تتابع، بل أن تكون نفسها العلاقة بين الفعل في حالة الأداء

acting

والفعل وقد انتهى

Act . (14) الفاعل يحقق نفسه في حالة الإرادة، لأنه يتحد مع فكرة التغير، ما المقصود بهذا الاتحاد؟ (15) أنا أختار فكرة التغير لأنها تناسب حياتي ككل. هل هناك نظام مثالي؟ (16) الأخلاق هي العمل تحت سلطان العقل. (17) الهوة بين فكرتي عن التغير وبين الوجود الواقعي يختلف مداها؛ فكلما اتسعت ازداد الجهد الذي يبذل في الفعل الإرادي. (18) الفرق بين الإرادة والتفكير. (1) حاولت في الفصول السابقة أن أبين أن كل واقعة سيكولوجية تعتمد على الانتباه إلى شيء ما، والانتباه هو الجانب الذاتي، وما ننتبه إليه هو الجانب الموضوعي، ومن الجانبين معا - الذاتي والموضوعي - تتألف الذات. والأفعال السيكولوجية كلها ليست إلا تنوعا للجانب الموضوعي من الانتباه، فليس هناك سوى فعل أساسي واحد هو الانتباه ثم موضوعات متعددة ننتبه إليها في أوقات مختلفة: ففي الإدراك الحسي ننتبه إلى موضوع يتسم بخصائص معينة وهكذا ... وسوف أحاول في هذا الفصل أن أعرض للخصائص النوعية التي تميز الموضوع الذي ننتبه إليه في حالة الإرادة. (2) غير أن القول بأن الجانب الذاتي هو الانتباه دائما، وأنه ليس ثمة سوى مجموعة من الخصائص هي التي تطبع بطابعها موضوع الانتباه في حالة الفعل الإرادي، يعني في الحال أنه ليس ثمة «ملكة» تسمى بالإرادة؛ لأن تصور مثل هذه «القوة» لن يعني - في هذه الحالة - إلا أننا نقوم بتعميم مجرد من الأمثلة للمواقف الإرادية، كما هي الحال بالضبط في تصور «الإنسان» الذي لا يدل إلا على تعميم مجرد من الأفراد الجزئية التي تشترك جميعا في خصائص معينة. وبمعنى آخر، ليست هناك «إرادة» تريد في مناسبات معينة أشياء محددة، ولا تريد هذه الأشياء في مناسبات أخرى. بل هناك فقط أمثلة منوعة للمواقف الإرادية. وافتراض وجود ملكة للإرادة هو الذي يجعلنا نريد في مواقف معينة ولا نريد في مواقف أخرى، سوف يبدو أشبه ما يكون «بافتراض «ملكة للغناء» هي التي تجعلنا نغني، و«ملكة للرقص» هي التي تجعلنا نرقص ...»

1 (3) ولو أن الانتباه من ناحية أخرى كان موجودا في كل واقعة سيكولوجية - بما في ذلك حالات الإرادة - فسوف يتضح في هذه الحالة أن الانتباه لا بد أن يكون سابقا على الإرادة. غير أن «برادلي» يأخذ بوجهة النظر المعارضة، فهو يعتقد أن الانتباه النشط يتضمن الإرادة، أعني أنني في كل مرة أنتبه فيها انتباها نشطا إيجابيا إلى شيء ما، فلا بد أن يكون هناك فعل للإرادة يسبق فعل الانتباه. لكنه يضيف «أن الانتباه - يقينا - لا يعني الإرادة بالمعنى الذي يكون فيه كل انتباه مرادا بشكل مباشر. ذلك لأن الانتباه نفسه ليس هو باستمرار هدف إرادتي، فقد يكون في بعض الحالات هدفي وقد لا يكون ... فإذا ما حققت غرضا ما، خارجيا أو داخليا، فإنني قد أكون منتبها بغير شك، ومع ذلك فما دمت لا أشعر بأي ميل على الإطلاق إلى الشرود ذهنيا عن هدفي، فإنني لا أنتبه مطلقا انتباها مرادا مباشرة ... ومن ثم فإن الانتباه باختصار حالة قد تكون هي نفسها مرادة مباشرة، لكنها يقينا ليست بحاجة إلى أن تكون كذلك.

2

وعلى ذلك فإن «برادلي» يرى أن هناك نوعين من الحالات: (أ) إما أن يكون الانتباه نفسه هو موضوع الإرادة. (ب) أو أن يصاحب ممارسة الإرادة فحسب، دون أن يكون هو نفسه مرادا. وهو يكون موضوعا للإرادة: «حين ندرك أن التمهل أو التأني أو الصعوبة أمام تحقيق فكرتي، تعتمد بطريقة ما على فشلي وشرود ذهني، أما الانتباه نفسه فهو موجود وتشتمل عليه صراحة فكرتي عن الغاية أو الهدف، وفي هذه الحالة يكون الانتباه نفسه مرادا بطريقة مباشرة، وليس كما كان من قبل موجودا وجودا عرضيا.»

3

وسوف أثير ضد وجهة نظر برادلي هذه الاعتراضات الآتية: (4) (أ) فهو لم يفسر لنا كيف ينشأ الانتباه في الحالات التي يوجد فيها وجودا عرضيا، أعني الحالات التي لا يكون فيها هو نفسه مرادا بطريقة مباشرة، الحالات التي «قد أكون فيها - بغير شك - منتبها، ومع ذلك لا أشعر على الإطلاق بأي ميل إلى الشروط ذهنيا عن هدفي، وقد لا أنتبه انتباها مرادا بطريقة مباشرة.» وحتى أوضح اعتراضي هذا سوف أستخدم الرموز الآتية: افرض أن (أ) تمثل الإرادة ، و(ب) تمثل الانتباه و(ج) تمثل الموضوع المراد، عندئذ في الحالات التي يكون فيها الانتباه مصاحبا فحسب لممارسة الإرادة، دون أن يكون هو نفسه مرادا، فسوف تكون الصيغة على النحو التالي:

أ - ج (ب). وهي تقرأ هكذا: الإرادة (أ) موجهة إلى غرض معين (ج)، والانتباه (ب) متضمن بطريقة ما في الموقف. أما في الحالة التي يكون فيها الانتباه نفسه مرادا فسوف تكون الصيغة على النحو التالي: أ - ب ج فنقول عندئذ إن الانتباه تشتمل عليه صراحة فكرة الغاية أو الهدف.

والسؤال الآن هو: في الحالة السابقة التي يوصف فيها الموقف بأنه أ - ج «ب»، من أين يأتي الانتباه؟ لا يمكن أن يقال: إنه جزء ضروري من الإرادة، إذ يمكن أن يكون هو نفسه مرادا، ولا يمكن أن يقال: إنه شرط ضروري للموضوع المراد، لأنه - بناء على رأي «برادلي» نفسه - يمكن تصور الانتباه شاردا عن الموضوع، بحيث يمكن أن يعود إليه بواسطة الإرادة. وعلى ذلك ففي الحالة التي يكون فيها الانتباه نفسه ليس هو الموضوع المباشر للإرادة، أعني حين يوجد وجودا عرضيا، فإنه لا يمكن أن يكون جزءا ضروريا من أ (أعني من الإرادة)، ولا جزءا ضروريا من ج (أعني من الموضوع المراد). ومع ذلك كله فلا يزال برادلي يرى أنه من الضروري أن يكون الانتباه موجودا ليساهم في عملية الإرادة! والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما السبب الذي يجعل الانتباه موجودا في هذه الحالة؟ إنه إما أن يكون موجودا بسبب الإرادة على الإطلاق. فلو أنه كان موجودا بسبب الإرادة بطريقة غير مباشرة، فلا بد أن يكون ناتجا من الإرادة وموضوعها، غير أننا لا يمكن أن نتصور كيف يمكن أن يحدث ذلك. افرض مثلا أن موضوع إرادتي هو قراءة قصيدة من القصائد وفهمها، إن الإرادة والقصيدة قد استدعيا معا الانتباه إلى القصيدة. وإذا لم يكن ذلك هو المعنى المقصود، فإنني لن أستطيع أن أفهم كيف يمكن للانتباه أن يكون موجودا بطريقة أخرى بسبب الإرادة وبشكل غير مباشر. لكن إذا لم يكن للانتباه صلة بالإرادة على الإطلاق، فلا يمكن أن يقال عنه إنه بعد الإرادة، ولا يمكن على الإطلاق أن نتصور أنه يطيع اتجاهات الإرادة. (5) (ب) لا يتضح ما إذا كان «برادلي» يعتقد أن الانتباه مصاحب ضروري للإرادة، أم إن الإرادة يمكن أن توجد بدون الانتباه. فكلامه يدل - من ناحية - على أن الانتباه لا بد أن يتبع كل حالة من حالات الإرادة، لكنه يكون أحيانا مرادا بطريقة مباشرة، وأحيانا أخرى يكون مرادا بطريقة غير مباشرة. وكلامه يدل من ناحية أخرى على أنه يتصور حالات تكون فيها الإرادة موجودة مع غايتها لكن بدون انتباه، وذلك حين يقول: إن شرود الذهن، أعني عدم الانتباه إلى الموضوع المراد، قد يعوق أو يعرقل تحقيق فكرتي. وذلك يعني بعبارة أخرى أنه قد يكون لدي إرادة الوصول إلى غاية معينة، فكرتها موجودة في ذهني، غير أن عدم الانتباه إلى هذه الغاية يعوق أو يعرقل عملية الوصول إليها. (6) ومن ناحية أخرى فإن قول «برادلي»: إن الانتباه قد يكون هو الموضوع المباشر للإرادة «حين ندرك أن الإعاقة أو العقبة أمام تحقيق فكرتي تعتمد بطريقة ما على فشلي وشرود ذهني» - هذا القول يبدو أنه يحتوي على تناقض ذاتي؛ لأنه يعني ببساطة أنني أدرك أن هدفي لم يتحقق لأنني كنت شارد الذهن، وهكذا أعود فأجعل انتباهي موضوعا مباشرا للإرادة، غير أن «الإدراك» لا يكون ممكنا بدون الانتباه إلى الموقف المدرك، وعلى ذلك فيمكن أن تصاغ وجهة نظر «برادلي» على النحو التالي: حين أجد، من خلال الانتباه، أن انتباهي ليس موجها الوجهة الصحيحة، فإنني أقوم بتصحيحه بإرادتي. والقول بأن الانتباه يكتشف أنه هو نفسه قد ضل، ليس إلا خلفا واضحا. (7) ومن هنا فإن القول بأسبقية الإرادة على الانتباه قول لا يمكن الدفاع عنه، ولهذا فأنا أعتقد أن الصيغة لا بد أن تكون باستمرار على النحو التالي: ب - ج، بحيث تمثل «ب» - كما سبق أن قلنا - الانتباه، كما تمثل «ج» موضوع الانتباه. ويقال عن «أ» التي تمثل الإرادة: إنها توجد حين تكون هناك خصائص معينة تتصف بها «ب»، أعني موضوع الانتباه، وهي خصائص سوف نبحثها بعد قليل.

والقول بأن الانتباه يسبق الإرادة يعفينا من الربط غير الضروري بين الانتباه والوعي؛ فقد يكون الانتباه شعوريا في حالتي الإرادة والتفكير، وقد يكون لا شعوريا في حالة النزوع البسيط. وحتى في حالتي الإرادة والتفكير اللتين يكون فيهما الانتباه شعوريا، فإنني قد أشعر بالعمل الرئيسي الذي أقوم به، في الوقت الذي تحدث فيه أشياء أخرى كثيرة بطريقة لا شعورية. فأنا الآن مثلا أشعر بأنني أكتب، لكني لا أستطيع أن أشعر بمئات الآلاف من الألياف العصبية والعضلية التي تتكامل معا وتركز نفسها في فعل الكتابة. ومن ناحية أخرى، فليس كل فرد عضوي يستطيع أن يشعر تماما بالعمل الرئيسي الذي يقوم به في وقت معين: ويبدو أن تقسيم «ليبنتز» للجواهر العضوية إلى جواهر لا واعية وجواهر واعية، وجواهر واعية بذاتها - تقسيم صحيح؛ فالنبات - مثلا - يعمل ككل عضوي، لكنه يعمل بطريقة لا شعورية، أما الكائنات الحية، فيمكن أن يقسم نشاطها إلى ثلاثة مجالات: مجال النشاط اللاشعوري، كنشاط العقل الفسيولوجي، ومجال الوعي الغامض، كوعينا بضوضاء الطريق، أو أثر الضغط على جلدنا في الوقت الذي ننظر فيه بانتباه إلى موضوع معين. وأخيرا مجال الوعي الواضح، وهذا المجال الأخير هو ما يسمى عادة بالانتباه. لكن تبعا للنظرية التي نأخذ بها، فإن هذه التقسيمات الثلاثة تحتاج كلها إلى الانتباه من جانب الفرد، أعني الانتباه إلى الموقف الحاضر، حتى يستطيع أن يعمل وفقا لما يبدو له أنه نافع لحياته وسعادته.

ويتكامل المجموع الكلي لنشاط الفاعل - في حالة الفعل المراد - في كل واحد. سواء أكان هذا الفعل فعلا خاصا بالتفكير أو بحركة الجسم. والفعل المراد ليس إلا قمة للانتباه. وأين عسانا نجد مثالا للصلابة والتماسك في كائن حي معقد، أكثر مما نجده عند إنسان عاكف ومنصب على فعل عنيف من أفعال الإرادة؟ غير أن الفعل المراد عند الإنسان يظهر في صورتين واضحتين: فهو قد يكمن تحت صورة مساهمة الجهاز العضلي للجسم كله وكل قناة من قنوات الإحساس، أو قد يستبعد تقريبا الفعل العضلي، كما يستبعد الجهاز الحسي.

4

وهذه الصورة الثانية هي من الناحية العملية، صورة خاصة بالإنسان وحده، حين يمعن الفكر مثلا في حل مشكلة من المشكلات.»

5

غير أننا يجب علينا أولا أن نفسر تلك الحالات التي نشعر فيها أن الانتباه نفسه مراد، وأنا أعتقد أن ما يضللنا في مثل هذا الشعور، هو أننا بدلا من أن ننتبه إلى «ج» ننتبه إلى موضوع آخر «ء» مثلا حين نشعر أن هذا الموضوع الأخير أكثر نفعا لنا في هذه اللحظة نفسها من الموضوع السابق. عندئذ تشكل الرغبة في العودة إلى الموضوع السابق «ج» جانبا من المركب الموضوعي، أعني أن محتوى انتباهي سيكون عندئذ مركبا يشمل «ء + رغبة في العودة إلى ج». وهذه الحالة قد يعقبها عودة فعلية إلى «ج» فينشأ موقف أتوهم فيه أن رغبتي قد أدت إلى تغيير اتجاه انتباهي، في حين أن رغبتي نفسها ليست إلا جانبا من موضوع الانتباه، ومن هنا فإن كل ما حدث هو تغير لاتجاه الانتباه لخدمة نفعي الخاص أو مصلحتي الخاصة. (8) لا توجد حالة واحدة من حالات الإرادة لا تتوقف عند نهاية تحليلها على الانتباه إلى فكرة لها خصائص معينة: «حين نعقد العزم على أن نتبع لونا معينا من ألوان السلوك، فإننا نكون فكرة واضحة - بقدر الإمكان - عن هذا اللون من السلوك، ثم نضع هذه الفكرة بجهد من الانتباه أمام الذهن ... وقل مثل ذلك في حالة الاسترجاع الإرادي لواقعة ما كنا قد نسيناها، كاسم شخص نفكر فيه مثلا فإن إرادتنا في هذه الحالة تضع فكرة هذا الشخص أمام الوعي، حتى يكون لديه الفرصة لتطوير جوانبها المختلفة، والأوضاع المرتبطة بها؛ الزمان، والمكان، والبلد الذي سبق أن رأينا فيه هذا الشخص ... إلخ، وهذه الأمور كلها - بالطبع - تزيد من فرصة استرجاع اسمه ...»

6

وفي استطاعتنا أن نسوق أمثلة لا حصر لها من المواقف الإرادية، وسوف نجد أنها كلها تعتمد باستمرار على الانتباه إلى شيء ما. والانتباه كما سبق أن ذكرنا له جانبان: جانب إيجابي وجانب سلبي، فهو إيجابي حين يأخذ فكرة التغير المطلوب، وهو سلبي حين يستبعد الأفكار الأخرى، التي تعرقل تحقيق الفعل المراد؛ إذ لا بد أن يكون هناك دائما أكثر من خط واحد ممكن للفعل المراد، على الأقل: الإقدام على هذا الفعل والإحجام عنه، يختار الفاعل من بين البدائل الممكنة بديلا واحدا ويحتفظ بفكرته في الانتباه حتى يتحقق. وسوف نعود إلى هذه النقطة بعد قليل. (9) لكن ذلك كله ليس إلا تعميما يحتاج إلى تخفيض وتحديد؛ فإذا كان الموقف الإرادي عبارة عن فعل من أفعال الانتباه إلى موضوع يتسم بخصائص معينة، فما هي تلك الخصائص التي تطبع بطابعها موضوع الانتباه حين يكون الموقف السيكولوجي إراديا؟ لا بد أن نقول بادئ ذي بدء: إن الفكرة التي تكون موضوع الانتباه في حالة الإرادة هي بصفة عامة فكرة التغير، أعني فكرة شيء يختلف عما هو موجود بالفعل. وإذا ما حللنا هذه الفكرة لوجدنا أنها تتألف من العناصر الآتية: (1) أن يكون هناك وجود له طبيعة معينة. (2) أن تكون هناك فكرة عن تغير يراد إحداثه في هذا الوجود. (3) أن يتم إحداث التغير بالفعل طبقا لمضمون الفكرة. (4) أن يتم التغير بفضل نشاط الفرد المنتبه إلى الفكرة التي تتحدث عنها دون مساعدة العوامل الخارجية. (5) أن تتحقق ذات الفاعل من خلال تعبيره عن طبيعته في الفكرة.

7 (10) (1) الخاصية الأولى للموقف الإرادي هي أن يكون هناك وجود له طبيعة معينة، وجود «أريد» له أن يتغير طبقا لمضمون الفكرة التي أنتبه إليها. وقد يكون هذا الوجود المطلوب تغييره وجودا داخليا أو خارجيا: وهو حين يكون خارجيا فإنه يعني جانبا من الواقع موجودا في زمان معين ومكان محدد، وهو إما أن يكون «هنا» و«الآن» أو امتدادا لهما. وهو حين يكون داخليا فإنه يعني واقعة سيكولوجية معينة موجودة الآن أو امتدادا لها.

وفي كلتا الحالتين لا بد من توافر شرطين؛ الأول: أن تكون فكرتي عن التغير مخالفة لهذا الوجود، بمعنى أنني أريد لهذا الوجود أن يكون خلاف ما هو عليه. والثاني: أن تبدأ عملية التغير الآن . وإذا لم يتحقق هذان الشرطان - أحدهما أو كلاهما - فلن تكون هناك إرادة. أعني أنه لم يظهر الوجود على أنه التغير المطلوب تماما، فلن يكون ثمة إرادة، وكذلك لا تكون هناك إرادة لو كان عندي فكرة التغيير لكني أنوي أن أبدأها في لحظة ما في المستقبل. صحيح أنه في الحالة الأخيرة سوف يكون هناك عزم أو تصميم، لكن العزم والتصميم شيء والإرادة شيء آخر، ولا أستطيع في هذا الصدد أن أوافق على ما يقوله «جيمس» من أن مجرد وضع الفكرة في الانتباه هو كل شيء في الإرادة، وأن الأمر بعد ذلك «مجرد حادثة فسيولوجية، فما أن يوضع الموضوع المنتبه إليه بهذا الشكل حتى تنشأ عنه في الحال نتائج حركية.»

8

ويتفق أفلنج

Aveling

مع «جيمس» في هذه الفكرة، فهو يقول: «إننا نستطيع أن نريد تماما حتى ولو لم نستطع تحقيق إرادتنا بالفعل.»

9

لكن الرأي الذي آخذ به هو أنه ما لم يحدث تغيير الوجود المنتبه إليه كاملا فلن تكون هناك إرادة؛ فالوضع المطلوب للوجود لا يمكن أن يظل فكرة غامضة في الذهن أن أريد تحقيقه بفعل من أفعال الإرادة، بل يتجه التغير الذي تتضمنه الفكرة إلى أن يكون أكثر تخصيصا شيئا فشيئا، كلما تطورت الفكرة، حتى إذا ما وصلت إلى أكثر حالات التخصيص عينية وجدتها ترتبط ارتباطا مباشرا مع «الآن» الموجودة حاليا، يقول أرسطو: «لو كان عندي هدف معين أريد تحقيقه فإنني أبحث عن الوسائل التي تمكنني من بلوغ هذا الهدف، ولو ظهر أن هناك عدة وسائل، فإنني أبحث عن أسهلها وأفضلها. أما إذا ظهر أنه ليس ثمة سوى وسيلة واحدة فإنني أبحث عن كيفية بلوغ غايتي بهذه الوسيلة، وكيف يمكن لي أن أطمئن إلى هذه الوسيلة ذاتها ... وهكذا حتى أصل إلى أول حلقة في سلسلة الأسباب التي هي في نفس الوقت آخر حلقة وصلت إليها في اكتشافي لهذه السلسلة.»

10

ويقول: «روس

Ross » في شرحه لهذه الفقرة: إن ذلك يعني «أننا في هذه الحالة نرتد من الغاية إلى الوسيلة، ومن وسيلة إلى أخرى، حتى نصل في نهاية الأمر إلى وسيلة يمكن أن نتبناها هنا والآن.»

11 (11) (2) الخاصية الثانية للموقف الإرادي أن تكون لدي فكرة عن التغير ضد الوجود الفعلي، أعني أنه لا بد أن يكون هناك صراع بين فكرتي من ناحية، وبين ذلك الجانب من الواقع الموجود، إما هنا والآن، وإما أن يكون امتدادا لهما. وبديهي أن التغير المراد لا بد أن يكون شيئا ممكنا. فلو أنني تصورت تغيرا لا يكون من الممكن تحقيقه فإن مثل هذا التغير لا يسمى إرادة لكنه رغبة. ولقد ذكر أرسطو بعض التحديدات في هذا الصدد، يجمل بنا أن نقتبسها فهو يقول: «إننا لا نستطيع أن نختار المستحيل أو أن نريده عملا، ومن يفعل ذلك لا بد أن يكون أحمق، لكننا نرغب فقط فيما هو مستحيل؛ كالفرار من الموت مثلا ... وقد نرغب كذلك فيما لا تستطيع فاعليتنا أن تحققه «كنجاح ممثل أو فوز رياضي معين» لكنا لا نختار عن عمد أبدا أمثال هذه الأشياء، وإنما نختار فحسب تلك الأشياء التي نعتقد أن في استطاعتنا تحقيقها.»

12

وهو يقول كذلك: «أعتقد أننا لا بد أن نفهم من تغيير «العمد أو الروية» ما يستطيع الموجود العاقل - لا الأحمق أو المجنون - أن يعقد العزم عليه، ومن هنا فإنك لن تجد أحدا يعقد العزم على تغيير أشياء أبدية، أو أشياء لا يمكن أن تتغير: كنظام الأجرام السماوية. أو امتناع القياس بين شيئين لعدم وجود خاصية مشتركة بينهما، كما هي الحال في ضلع المثلث وقطر المربع.

ومن ناحية أخرى، فإنك لن تجد أحدا يعقد العزم حول أشياء تتغير، لكنها تتغير باستمرار بطريقة واحدة ... مثل الانقلاب الشمسي، وشروق الشمس، كلا، ولا يعقد العزم حول أمور غير منتظمة على الإطلاق؛ كالجفاف والمطر، ولا على أمور تخضع للصدفة كالعثور على كنز.»

13

وعلى ذلك فالتغير المطلوب لا بد أن يكون أولا: شيئا ممكنا، ولا بد ثانيا: أن يكون مما نستطيع بقدرتنا الخاصة تحقيقه. لكن قد يعترض على ذلك بأننا قد لا نحتاج في بعض المواقف الإرادية إلى تغيير الوجود؛ لأن الوجود الحاضر المستمر قد يكون هو نفسه أن يستمر على هذا النحو، وبالتالي فلن يكون هناك تغيير مع أن هناك إرادة. لكن ذلك خطأ، لأن الحاضر لو كان سيستمر من تلقاء نفسه فلن يكون للإرادة معنى - وبالتالي فلو أنني قلت: «إني أريد» هذا الحاضر المستمر نفسه، فلن يكون لهذا القول معنى، ما لم يكن يعني أنه بدون فعل الإرادة فإن هذا الوجود الحاضر سوف ينتقل إلى وجه آخر مخالف لما هو عليه، وإذا كان ذلك كذلك فإنني في منعي تغيير الحاضر أكون قد تسببت في تغيير ما. (12) (3) لا يكفي للموقف الإرادي أن تكون عندي فكرة عن تغيير ما، ولا يكفي أن يحدث هذا التغير في الموجود، وإنما لا بد أن يحدث التغير كما هو موصوف في مضمون الفكرة. ويجمل بنا هنا أن نلفت النظر إلى أن فكرة التغير أو التغير ذاته، نادرا ما يتحدان، هذا إذا اتحدا على الإطلاق؛ فالتغير عادة يتضمن شيئا أكثر بكثير من فكرته. والواقع أن التغير معقد للغاية لدرجة يصعب معها تحديد ما يشمله تحديدا دقيقا. فلو أنني أردت أن أذهب إلى المكتبة لكي أقرأ فيها كتابا، فمن الواضح أن الفعل الذي سأقوم به سوف يشتمل على عدد غير معين من الحركات التي لم أكن أقصدها بطريقة مباشرة. وعلى ذلك فنحن حين نقول إن التغير لا بد أن يحدث كما هو موصوف في مضمون الفكرة، فإننا مع ذلك نسمح بزيادة كبيرة تعرف بالتداعي اللازم لمضمون الفكرة، ومثل هذه الزيادة لا بد أن ينظر إليها على أنها مرادة هي الأخرى، إذ على الرغم من أنها ليست جزءا جوهريا من الفكرة، فإنها لا تكون مرادة: افرض - مثلا - أن صيادا أراد أن يصطاد بعض الطيور، لكنه حين أطلق الرصاص قتل شخصا تصادف مروره لحظة إطلاق النار، إن هذه الواقعة الأخيرة، لا هي التغير المقصود، ولا هي تداعيه اللازم؛ ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون مرادة. (13) (14) وفضلا عن ذلك فإن التغير الذي يحدث طبقا لمضمون الفكرة لا بد أن يكون نهاية لعملية كانت بذاتها فكرة التغير الموجودة في الانتباه. وهذا التغير لا يكون إرادة إلا حين يتحقق بنشاط الفرد المنتبه، بحيث يكون الفرد إيجابيا، أعني سببا كافيا لإحداث العملية، وعلى ذلك فإننا في حالة إحداث تغير معين يكون لدينا من ناحية: فرد منتبه إلى فكرة تغير، ويكون لدينا من ناحية أخرى: تحقق هذا التغير نفسه، والانتقال بين هذين الجانبين هو الذي يكون الفعل، وهذا الانتقال نفسه هو الذي سبق أن اعترفنا بفشلنا في تحليله، لكن من الواضح تماما أنه ليس مجرد تلاحق سببي.

افرض أن لدي فكرة عن شخص، نسيت اسمه، لكني أريد أن أتذكره، إنني في هذه الحالة لدي فكرة الشيء المطلوب، لكن ليس لدي وجوده، فحالتي الجسمية الراهنة تخالف المضمون المطلوب، ولإحداث النتيجة التي أريدها فإنني أقلب هذه الفكرة الموجودة في ذهني، بحيث تستدعي الأوضاع التي ترتبط بها شيئا فشيئا، حتى يحضر الاسم الذي كنت أبحث عنه، وهذه النتيجة وصلت إليها عن طريق الفكرة الأولى الأصلية التي كانت بداية لعملية نهايتها النتيجة المطلوبة. وهذه العملية أحداثها الفرد المنتبه إلى فكرة أصلية، لكن لو أن الاسم عرض لذهني دون أن يكون مطلوبا، فلن يكون هناك إرادة في هذه الحالة لأنه ليست هناك فكرة تحققت عند وقوع الاسم؛ ومن ثم فإن ورود الاسم إلى ذهني سوف يكون حادثة وليس فعلا إراديا، سيكون حادثة دون فاعل أحدثها. ولنكرر ما سبق أن قلناه من أنه في حالة الإرادة لا بد أن يكون هناك شيء مطلوب، بحيث يكون الحصول عليه مؤديا إلى تغير في تسلسل الظواهر، وبحيث يكون ظهوره إلى الواقع نتيجة للفكرة نفسها التي كانت موضوعا لانتباه الفرد، الذي كان لهذا السبب فردا نشطا وفعالا. ومن ثم فإن تداعي الأفكار لا يكون إرادة، ما لم تكن نهاية السلسلة تعتمد على وجود فعلي كان مقصودا في بدايتها، وما لم تبدأ العملية من الفكرة الأصلية.

وحين ينصب التغير المراد على العالم الخارجي، كإحداث حركة معينة في الأجسام المادية - سواء اقتصرت على جسم الفاعل نفسه، أو امتدت إلى أجسام أخرى - فإن هذا التغير لا بد أن يحدث نتيجة لفكرة عن التغير انتبه إليها الفرد. إذ إن حدوث الحركة التي تفكر فيها ليس تسلسلا طبيعيا للظواهر الموجودة أمامي وإلا لكانت الظواهر عبارة عن «أحداث» ولا يقدم وجود الفعل. والفرد حين ينتبه إلى التغير المطلوب، وهو إحداث الحركة لا يكون فقط سابقا على هذه الحركة لكنه يكون فاعلها وسببها الكافي ومحدثها. يقول وليم جيمس: «إن أي تمثل للحركة يوقظ إلى حد ما الحركة الفعلية التي هي موضوع هذا التمثل، وهو يوقظها إلى أقصى درجة إذا لم يعقبه عن مثل هذا العمل تمثل مضاد يوجد في الذهن مع التمثل السابق في آن واحد.»

14

وهذا حق بشرط أن نفهم قوله عن استيقاظ الحركة بتمثلها على أنه فعل يقوم به فاعل يحدث الحركة التي نتحدث عنها، وليس المقصود مجرد التداعي بين الجانب السيكولوجي والجانب الفيزيقي.

وعلى ذلك فإذا افترضنا أن الإرادة تعتمد على تتابع الحركة وتسلسلها دون وجود فاعل يمارس الفعل، لكان معنى ذلك أن أي سلوك حركي سيكون حالة من حالات الإرادة، خذ مثلا التنويم المغناطيسي، نجد أن الفكرة المفروضة على الشخص النائم يعقبها حركات معينة لكن ذلك ليس إرادة، لأن تحقق الفكرة لا يتضمن للتغير عن طبيعة الفاعل، ولكي يعبر الفاعل عن طبيعته لا بد أن يكون خالقا نشطا المتغير. ومن هنا فإنه ليس من الضروري في حالة الإرادة أن تعقب الحركة الفكرة فحسب، لكن من الضروري أن تعقبها لأنني أقرر أنه يجب أن يحدث ذلك، أي إن معيار الإرادة هو مدى سيطرة الفاعل على الفكرة، فإذا لم يسيطر عليها، أو إذا لم يكن في قدرته أن يخلق - أو يوقف - الحركة المناسبة التي تحقق الفكرة، فإن معنى ذلك أن مؤثرات خارجية قد تدخلت، وأن الفاعل - بالتالي - ليس هو السبب الكافي للفعل. ولقد عبر «برادلي» عن ذلك تعبيرا جميلا بقوله: «إذا لم يكن لي حيلة في هذا الأمر، فلا يمكن أن أريد.»

15

فالفعل لا يمكن أن يكون فعلا من أفعال الإرادة، ما لم يكن في قدرة الفاعل ألا يفعله. وبعبارة أخرى: في حالة الإرادة لا بد أن يكون هناك أكثر من خط واحد ممكن للفعل، لا بد أن يكون هناك على الأقل بديلان؛ أن أفعل الفعل، أو ألا أفعله، فالخط الواحد للفعل لا يمكن أن يكون مرادا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ومن ثم فالفعل المنعكس - سواء أكان بسيطا أم مركبا - ليس فعلا مرادا، وكذلك أفعال العادة التي تتبع مجرى مألوفا لا روية فيه ولا اختيار، لكن ذلك لا يعني إنكار الإرادة على سلسلة الأفعال الأولى التي كونت هذه العادة.

وفي عملية الروية التي تسبق الفعل، تراني أتأمل نفسي في الوضع الذي سأكونه لو أنني نفذت هذا الفعل وجعلته جزءا من تاريخ حياتي الواقعية، ثم أتأمل نفسي - من ناحية أخرى - في حالة تركي إياه بلا تنفيذ. وبعبارة أخرى: إنني أربط نفسي - فكريا - بخط معين من الفعل، ثم أرى ما إذا كان يتناسب مع شخصيتي ككل متكامل. يقول أفلنج: «فيما يمكن أن نسميه بالإرادة الحق ... هناك وعي الذات بنزوعها للارتباط بممكنين عينيين وهما: النزوع للارتباط بالحادثة «أ» أو الحادثة «ب».»

16

وقد يقال - خطأ - إنه إذا كانت الإرادة تعتمد على تحقيق فكرة معينة، فإن التمني إذا تحقق كان فعلا من أفعال الإرادة، طالما أنه هو نفسه كان فكرة ثم تحقق، وبالتالي فلو كان لدي فكرة كسب مائة جنيه في وقت معين، ثم حصلت على المال ملقى في الطريق ووضعته في جيبي، فإنني أكون قد حققت فكرتي، غير أن ذلك واضح البطلان، لأنني في هذه الحالة لا أكون قد حققت فعلا إراديا؛ لأن نتيجة الفكرة «وهي الحصول على المال»، أحدثتها عوامل أخرى، غير فاعليتي ونشاطي «حين وجدت المال ملقى في الطريق». إن الفعل الإرادي - كما سبق أن لاحظنا - لا بد أن يكون نهاية لعملية كانت بدايتها الفاعل نفسه، متخذا خطا معينا من السلوك للوصول إلى تلك النتيجة.

لكن قد يقال: افرض أن فكرة التثاؤب جعلتني أتثاءب؛ ألا تكون تلك حالة من حالات الإرادة؟ والإجابة هي أن هذا الفعل يكون إراديا - يقينا - إذا ما انتبهت إلى فكرة التثاؤب لكي أتثاءب فعلا، ففي هذه الحالة سيكون تثاؤبي مرارا، لكن لو تصادف أن وردت الفكرة على خاطري، ثم أعقبتها حركات معينة بلا هدف مقصود مني، فلا تكون في هذه الحالة إرادة. (14) (5) وتحقق فكرة التغير عن طريق نشاط الفاعل المنتبه إليها - وهي سمة الموقف الإرادي - لا بد في نفس الوقت أن يكون تحققها للفاعل: فهو يحقق نفسه، لأن الفكرة التي ينتبه إليها تعبر عن شخصيته. فأنا أستطيع - مثلا - أن أنتبه على التوالي إلى الفكرة التي تحكم بها بلادي الآن.

17

وإلى فكرة الطريقة التي ينبغي أن تحكم بها، وكلما انتبهت إلى الوجود الفعلي «أو الحكم القائم الآن» شعرت بصراع بينه وبين شخصيتي، بينما أشعر بارتياح إلى فكرة الدولة التي أتخيلها! أو طريقة الحكم التي أفضلها، وأجد أن هذه الدولة تلائم طبيعتي وشخصيتي، وأنها أفضل لتحسين وجودي. ومعنى أنني أشعر براحة لفكرة التغير، أنني لا أجد مثل هذا الشعور مع فكرة الوجود الواقعي القائم، بل على العكس أجد أن هذا الوجود القائم غريب عن شخصيتي.

لكن قد يحدث أن تكون فكرة الوجود القائم، وفكرة الوجود المتغير، كلتاهما معا موضوعا لاانتباهي في آن واحد. فقد يكون الموضوع المثالي الذي أنتبه إليه مركبا من أفكار منوعة - أو حتى متضادة - تتحد كلها في لحظة من لحظات الانتباه؛ لأنها كلها أجزاء يتألف منها الموضوع الذي أنتبه إليه في هذه اللحظة، إذ يمكن أن يكون الجانب الموضوعي عندي في لحظة معينة هو فكرة الأوضاع القائمة مع فكرة تغيرها في آن معا. ومع أن الفكرتين تمثلان معا الموضوع، لا الذات. إلا أن فكرة الوجود - مع ذلك - تبدو موضوعية من مسافة أبعد، لو أن فكرة التغير كانت تتلاءم أفضل مع شخصيتي. ولو صح ذلك فإن الراحة التي أشعر بها مع فكرة التغير ومعارضة هذه الفكرة للوجود القائم لن تكون وقائع سيكولوجية يمكن الفصل بينها، لكنهما سيكونان وجهين لا ينفصلان لواقعة واحدة بعينها، وحين أختار أحدهما أدخل - في الحال - في صراع مع الوجه الآخر.

ويمكن أن نفهم فهما سليما - بهذا المعنى الأخير - الصراع بين الدوافع المختلفة؛ فلو أن الفرد أخذ بفكرة التغير كهدف له، معارضا بذلك فكرة الوجود القائم، فمن الواضح - في هذه الحالة - أن الذات ككل - أعني الفاعل المنتبه، والمركب الفكري الذي ينتبه إليه - سوف تكون ذاتا نشطة إيجابية، بطريقة أو بأخرى. فليست هناك تلك الحالة التي فيها أخذ ورد «أشبه ما يكون بحالة شد الحبل.» بحيث تتجاذب الذات في اتجاهات متعارضة بواسطة قوتين متضادتين، كما لو كانت أشبه بالمسرح الذي تمارس عليه هذه الدوافع المختلفة نشاطها. «إن محاولة تصور «الدوافع» على أنها تعمل في الذهن بقوة باطنية من ذاتها - مثلها مثل الجزئيات المادية بالنسبة للكتلة التي تتألف منها - هو تصور ظاهر البطلان.»

18

إنه إذا ما تذكرنا أن الفكرتين معا - فكرة الخير التي أعتنقها، وفكرة الوجود القائم التي أرفضها - يمثلان الجانب الموضوعي من الذات، أعني أنهما المكونات الضرورية للذات، أو أنهما الذات بمعنى ما - أقول إننا إذا ما تذكرنا ذلك فإننا لن نستطيع بعد هذا أن نعتبر الموقف صراعا بين دافعين، بينما يظل الفاعل نفسه متفرجا سلبيا ينتظر النتيجة، فهو ليس صراعا بين الإنسان في صراع مع نفسه؛ إنه الخصوم المتنازعة وأرض القتال في آن معا.

19 (15) وإذا تساءلنا لماذا يأخذ الفرد بفكرة التغير، معارضا بذلك الوجود الفعلي القائم؟ كانت الإجابة: أن الفكرة تلائم حياته بطريقة أفضل إذا ما أخذت في كل منظم. لكن ذلك يثير مشكلة؛ فالذات يمكن أن تنظم بأكثر من صورة، والنسق المتكامل للحياة يمكن أن يختلف باختلاف الناس، بل إنه قد يختلف مع الشخص الواحد باختلاف أحواله، فقد أجد أن فعلا معينا يلائم البيئة التي أعيش فيها، ثم فجأة تتغير هذه البيئة فيصبح نفس هذا الفعل غير قادر على تحقيق شخصيتي، وهذه الأحوال المختلفة، أو هذه الأنظمة المختلفة للذات، هي ما أطلق عليه «ماكنزي» اسم «عوالم الرغبة

universes of desire »، وهو يقول عنها: «كل رغبة تنتمي إلى عالم خاص، وتفقد معناها لو انتقلنا من هذا العالم إلى عالم آخر . وهذا العالم الذي تنتمي إليه الرغبة هو العالم الذي يتكون من مجموع ما نسميه بخلق الإنسان أو شخصيته

Man’s character ، وهذا الخلق يعبر عن نفسه في نفس اللحظة التي نشعر فيها بالرغبة، إنه باختصار: عالم النظرة الأخلاقية للإنسان، في اللحظة التي نبحثها ... وينبغي علينا جميعا أن نكون على وعي بالرغبات المختلفة التي تسيطر على أذهاننا في الأمزجة المختلفة، وفي الظروف المختلفة، وفي حالات الصحة المختلفة ... فهذا العالم يمكن جدا أن يتغير فجأة عند الشخص الواحد بسبب تحول فجائي للظروف التي يعيش فيها. فأي تغير فجائي؛ كنبأ وفاة صديق، أو تذكر موعد، أو الإيحاء بمبدأ أخلاقي ... إلخ، يمكن أن تنقلنا - في الحال - من عالم إلى عالم آخر ... ولهذا فإن هذا التعبير يمكن ببساطة أن يعتبر انتقالا من أحد عوالم الرغبة إلى عالم آخر.»

20

ومن هنا كانت الأفعال التي تساعد البخيل مثلا في زيادة ثروته، يمكن أن تناسب نظام حياته ككل، أكثر من تلك الأفعال التي تساعده في تنمية المعرفة أو الفضيلة. وقد تكون الحال مختلفة مع شخص آخر.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن أن يكون هناك نظام مثالي من بين هذه الأنظمة المختلفة للحياة، تتحقق عن طريقه الذات المثالية؟ قد يكون واضحا أن هذه الطرق المختلفة للحياة ليست كلها على مستوى واحد، مهما يكن المعيار الخلقي الذي نستخدمه: فإذا كنا نعتقد أن النظام «أ» أعلى من النظام «ب»، وأن «ب» أعلى من «ج»؛ فلا بد أن يكون هناك معيار من الكمال هو الذي نقارن على أساسه بين هذه النظم، ونقيمها به ... ولست أريد أن أدخل في تفصيلات فرعية حول وجهات النظر المختلفة عن المعيار الأخلاقي، لكني سأقول إن المعيار الخلقي الذي آخذ به واعتبره صادقا، هو الآتي: «إن الذات الحق هي التي يمكن أن توصف حقا بأنها ذات عاقلة، إنها ذلك العالم الذي نشغله في أعمق لحظات حياتنا حكمة وروية وبصيرة.»

21

ومعقولية النسق «أو النظام» الذي يسير عليه السلوك لا بد أن تدوم دوام قوانين المنطق ، وإذا ما سار الفاعل وفقا لنسق آخر غير النسق العقلي، فإن هذا النسق الجديد لا بد أن يكون وجها مؤقتا للذات، إذ يمكن أن تستبدل بالنظام العقلي أي نظام آخر في اللحظة التي يغير فيها الفاعل وجهة نظره. وحين نقول إن فعلا من الأفعال، أو إن النسق كله ليس إلا نسقا مؤقتا، فإن ذلك يدل على أن هذا النسق ليس هو الكل المتكامل المثالي الذي ينبغي أن تتفق معه الأفعال الإرادية، وقد لا يكون في وسع المرء أن يسلك باستمرار سلوكا عقليا طوال حياته، ومع ذلك يظل الاتساق العقلي هو المقياس. وكلما اقترب هذا السلوك من هذا المقياس ارتفع من وجهة النظر الأخلاقية؛ لأن الفاعل حين يسلك سلوكا عقليا يعبر عن طبيعته الحقيقية، لأن احترام المرء لطبيعته هو السبب أو المبرر، وإذا كان من المشروع أن نسأل: لماذا ينبغي علينا أن نطيع الله أو الدولة، فإنه لا معنى لسؤالنا عن السبب الذي من أجله يجب أن نحقق طبيعتنا. (16) على الرغم - إذن - من تعدد الأنظمة المختلفة للحياة، فإن هناك نظاما مثاليا يمكن أن يتحقق عن طريق الذات المثالية «وهي الذات العاقلة»، فالأخلاق تعني السلوك تحت سيطرة العقل، والفاعل بهذا السلوك يحقق ذاته الحق. وليس معنى ذلك أن كل فعل إرادي لا بد أن يكون فعلا أخلاقيا؛ لأن الفعل الإرادي ليس إلا تحققا لذات الفاعل فحسب. لكن هناك بالطبع فارقا كبيرا بين الفاعل الذي يحقق ذاته فقط، وبين الفاعل الذي يحقق ذاته المثالية. والمقصود بالذات التالية هنا هو الذات العاملة، فكلما سار المرء في أفعاله وفقا للعقل، سما من الناحية الأخلاقية. لكن المرء يستطيع أن يسلك سلوكا إراديا، حتى ولو كان هذا السلوك منافيا لمطالب العقل «وبالتالي منافيا لمبادئ الأخلاق»، وهو في هذه الحالة إنما يعبر عن نفسه لحظة حدوث الفعل، لكنه لا يعبر عن ذاته العليا. والتغير الذي يحدثه سلوك ذلك الشخص قد يكون تغيرا إلى أسوأ لا إلى أحسن، ولكنه يظل - مع ذلك - فعلا من أفعال الإرادة. (17) والتباين بين الحالة الراهنة، وبين فكرتي عن التغير، قد تختلف في درجتها اختلافا عظيما؛ فقد تتسع الهوة بينهما وقد تضيق، لكنه كلما اتسعت قوى الصراع واشتد، وصعب المجهود الذي نحتفظ به بفكرة التغير في الانتباه حتى يتحقق التغير المطلوب. والصعوبة هنا سيكولوجية لا فيزيقية: «من السهل - فيزيقيا - أن تتحاشى معركة، أو أن تبدأها، على حد سواء، كما أنه من السهل أن تحتفظ بالمال أو تبعثره على ملذاتك الخاصة، ومن السهل أيضا أن تطرق باب امرأة أو أن تبتعد عنها، جميع هذه الأمور يسهل القيام بها على حد سواء، لكن الصعوبة عقلية، فهي تكمن في الاحتفاظ بفكرة السلوك الأكثر حكمة لتظل في ذهننا باستمرار.» ويبدو أن اتساع الهوة بين فكرة التغير - لو جاءت مطابقة للعقل - وبين الموجود الفعلي القائم لو كان هذا الوجود يشبع ميلنا الطبيعي، هذا الاتساع - فيما أعتقد - يزيد السلوك من الناحية الأخلاقية سموا، ولهذا فقد تظهر هنا مشكلة أخلاقية هي: «إذا كان صحيحا أنه كلما قوي الجهد الذي نحتفظ به بفكرة الواجب العقلي في الانتباه ضد ميلنا الطبيعي، ارتفع السلوك من الناحية الأخلاقية: ألا ينتج من ذلك أن الشخص الذي تحول الواجب عنده إلى مجرد عادة - وهو بذلك يلغي مقاومة الرغبة - لا يسلك في هذه الحالة سلوكا أخلاقيا لأن الصراع بين الواجب والهوى قد اختفى أو قلت حدته؟» حين يقال إن فعل الواجب لا بد أن يتضمن بالضرورة مقاومة للرغبة فإننا نصل بذلك إلى هذه المفارقة وهي: «أن تكون عادة خيرة، طالما أنه سيؤدي إلى تقليل من مقاومة الرغبة شيئا فشيئا، سوف يعني أنه كلما ازداد نمو هذه العادة، قل إحساسنا بالواجب، وبالتالي فإن تكوين عادة خيرة يؤدي بالشخص إلى سلوك أقل خيرية، ويجعل هذا الشخص - من ثم - أقل خيرية.»

22

ولهذا - فقد يقال كما قال «روس» - إن الفعل لا يقل في خيريته كلما أصبح سهلا عن طريق العادة؛ لأن «الخيرية لا تقاس بشدة الصراع، وإنما بقوة التكريس للواجب، فكلما كانت الدوافع التي تعارض فعل الخير قوية، كنا على يقين من أن الإحساس بالواجب لا بد أن يكون قويا، لكنه قد يكون قويا أيضا حتى حين تكون الدوافع المعارضة ضيقة أو غير موجودة.»

23

ويمكن أن نوضح ما يعنيه «روس» بقولنا: إن الجيش القوي يظل قويا، صادفته مقاومة أم لم تصادفه؛ فالمقاومة - إن وجدت - لا تخدم إلا في إظهار مدى قوته، لكنا إذا تساءلنا هل يستحق الجيش الثناء سواء برهن على قوته في لهيب المعركة أم لا؟ فأنا أميل إلى رأي مخالف، إذ يصعب علي جدا أن أفهم كيف يمكن أن تظل القيمة الأخلاقية باقية كما هي سواء كانت المقاومة ضعيفة أم قوية. وإذا سلمنا بأن السلوك الخير يظل خيرا، فهل تظل القيمة الأخلاقية التي تعزى إلى هذا السلوك في الظروف المختلفة هي هي؟ هل نبدي نفس الإعجاب للرجل الفاضل الذي يعيش وسط إغراءات الغواية، ولكنه مع ذلك يسلك سلوكا فاضلا، والرجل الذي يسلك سلوكا فاضلا دون أن تكون حوله غواية ولا إغراء يشدانه إلى الاتجاه الخاطئ؟

في اعتقادي أنه كلما أصبح الفعل الأخلاقي سهلا عن طريق العادة، ظلت سلامته الأخلاقية تامة غير منقوصة، لكن قيمته الأخلاقية تتناقص بالتدريج مع تناقص الجهد المطلوب، أعني في الحالات التي نحكم فيها على هذا الفعل بأنه أصبح سلوكا معتادا. لكن لماذا ينبغي علينا أن نفعل ذلك؟ لأننا نعتبر سلوكا خيرا بناء على الجهد الأخلاقي الذي يبذل في هذا السلوك قبل أن يتحول إلى عادة سهلة ميسورة، فإذا ما تكرر نفس هذا السلوك الخير في نفس الظروف، فليس ثمة ما يدعونا إلى أن نعكس حكمنا الأخلاقي.

ومن هنا كان الفعل الأخلاقي - فيما أعتقد - أشبه ما يكون بالإنتاج الفني، أعني أنه لون من الخلق الحقيقي الأصيل، يعزى في هذه الحالة إلى الأفعال الأولى في السلسلة، بينما لا تكون الأفعال التالية سوى «تقليد» أو محاكاة. وإنه لمن الخطأ أن نعزو خصائص واحدة لجميع أفعال الفرد المتشابهة، على اعتبار أنها جميعا لها بالضرورة هوية واحدة، في حين أنها في الواقع لا تتشابه إلا من حيث نتائجها فحسب، أما النشاط الذي يبذل فيها فهو مختلف أتم الاختلاف، صحيح أن الأفعال التالية لها نفس شكل الفعل الأول، لكنها تنقصها الماهية التي تجعلها فعلا أخلاقيا حقيقيا، أعني ينقصها؛ ذلك الجهد الذي يبقي المثل الأعلى في الانتباه ويطرد الرغبة. ومقارنة الرجل الفاضل الذي تقل خيرية سلوكه شيئا فشيئا كلما أصبح هذا السلوك سلوكا معتادا - لا تصبح بعد ذلك مفارقة. ولقد ظهرت هذه المفارقة أمام «روس»؛ لأنه عالج جميع الأفعال في سلسلة الفعل الذي يتكرر معالجة واحدة، في حين أننا ينبغي أن ننظر إلى كل فعل كشيء عيني يدرس ويحكم عليه بذاته. وخيرية الرجل الفاضل لا تقل ولا تنقص إذا حكمنا عليه بأنه خير وفاضل بناء على أفعاله الأولى، أعني تلك الأفعال التي كان فيها جهد وصراع. (18) إذا نظرنا إلى الإرادة على أنها تحقق لفكرة الوجود المتغير - داخليا أو خارجيا - وهي الفكرة التي يحقق الفاعل من خلالها ذاته المثالية، يعبر بالتالي عن هذه الذات - أقول إننا إذا نظرنا إلى الإرادة على هذا النحو لاتضح لنا - في الحال - الفرق بين الإرادة والفكر. ففي الإرادة لا بد أن تخرج الفكرة من حدودها العقلية، بحيث تتحقق في الوجود، بينما نجد أن الفكرة من حدودها العقلية بحيث تتحقق في الوجود، بينما نجد أن الفكر، على الرغم من أنه يطور نفسه في سلسلة، فإنه مع ذلك قد لا يتحقق. ومن ناحية أخرى نجد أن الفكرة في حالة الإرادة لا بد أن تحتوي على توقع للنتيجة، بينما نجد في حالة الفكر أن النتيجة ليست متوقعة، وإذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك، فلنأخذ «جمهورية أفلاطون»، لنجد أنها فكرة وليست إرادة. صحيح أن الفكرة فيها تتطور، لكنها لا تتحقق، وحتى لو أنها تحققت عن طريق شخص ما، أو عن طريق «أفلاطون» نفسه، لما كانت إرادة أيضا؛ لأنها لا تكون إرادة إلا إذا تحققت الفكرة وجاء تحققها هذا من داخل مضمونها نفسه، بحيث تحقق وجودها الخاص.

وفضلا عن ذلك فإن الفكرة المنتبه إليها في حالة الإرادة، لا بد أن تكون فكرة تغير ينصب على الوجود، بينما الفكرة في حالة التفكير قد تكون انعكاسا للوجود، كما هو بالفعل، أو كما ينبغي أن يكون. و«الحقيقة» هي الفهم العقلي لنظام الكون، بينما الفضيلة هي وضع الكون في نظام عقلي، والإرادة - بهذا المعنى - تعتمد على الفكر، فالفكر يكون المثل الأعلى، والإرادة تحققه ... فلا يمكن أن يكون ثمة فعل من أفعال الإرادة بغير فكرة تسبقه؛ والأفكار بالطبع لها طبيعة الفكر. والنظرية التي تقول إن المعرفة والإرادة شيء واحد، لا يمكن أن تفهم إلا مع بعض التحفظات؛ فأولا: الإرادة تتضمن المعرفة، لكن المعرفة لا تتضمن الإرادة، بالمعنى الذي شرحنا فيه كلمة الإرادة في هذا الفصل. صحيح أن المعرفة تتضمن إثباتات، وكل إثبات فعل، لكن ليس كل فعل مثلا للإرادة. لقد قلنا إن الفعل هو الأساس في كل واقعة سيكولوجية، لأن الانتباه صورة من صور الفعل، لكن الفعل لا يصبح فعلا إراديا إلا إذا اتسم الموقف بالخصائص التي سبق أن ذكرناها. وأي موقف يمكن معرفته معرفة جيدة إذا ما وجد الفكر لا الإرادة. والعبقرية العقلية لا تتناقض مع انحطاط الحياة الأخلاقية، لكن العكس غير صحيح، أعني أن الامتياز الأخلاقي العظيم يتضمن بالضرورة بصيرة عقلية عليا. وكثيرا ما يقال - في معرض الاعتراض على ذلك - إن القديس قد لا يكون ممتازا من الناحية العقلية، فهو لا يحتاج إلى عبقرية عالم الرياضة أو الفيلسوف، لكن ذلك لا يبرهن إلا على أن الامتياز العملي في مجال معين، لا يتضمن بالضرورة القدرة العقلية اللازمة لمجال آخر. ولسنا نزعم أن الخير العملي، أو السمو الخلقي، يتضمن القدرة الرياضية، وإنما نقول فحسب إن الفضيلة تتضمن، في كل حالة من الحالات، درجة معينة من البصيرة لها طابع المعرفة، على الرغم من أنها؛ لا هي نظرية، ولا هي علمية، وما لم تكن الفضيلة محصلة هذه البصيرة، فسوف تكون أمرا من أمور المصادفة والاتفاق، وسوف يكون من الممكن أن يرتكب الفاعل الشر بدلا من أن يفعل الخير، دون أدنى فارق في موقفه الأخلاقي.

وهناك ثانيا: قصور آخر في النظرية العقلية للإرادة؛ هو أنه حتى إذا كان الارتباط ضروريا بين المعرفة والإرادة، فإن ذلك لا يعني أنهما متحدان في هوية واحدة: فالنزوع ليس هو المعرفة، على الرغم من أنهما قد يرتبطان برباط لا يتغير، والعلاقة بين المعرفة والإرادة هي علاقة التواجد معا، لكنها ليست علاقة الهوية.

وهناك ثالثا: فارق آخر بين المعرفة والإرادة؛ فالفاعل - في حالة الإرادة - يوجد نفسه مع البديل الذي يختاره، بينما نجده لا يفعل ذلك في حالة المعرفة؛ ذلك لأن هناك في حالة الإرادة والمعرفة معا قرارا للاختيار بين بدائل. وأنا أختار في حالة الإرادة خطا معينا للفعل وأستبعد الآخر، وأنا في حالة المعرفة. ذلك لأن هناك في حالة الإرادة والمعرفة معا قرارا للاختيار بين بدائل. أنا أختار في حالة الإرادة خطا معينا للفعل وأستبعد الآخر، وأنا في حالة المعرفة إما أن أثبت أو أنفي اتصافا موضوعيا ما بصفات معينة، لكني في حالة الإرادة أختار «أ» وأستبعد «ب» لأني أوجد نفسي مع أحدهما وأستبعد الآخر؛ ذلك لأنني أجد أن «أ» تعبر عن شخصيتي في لحظة السلوك أفضل من «ب». يقول ريبو

Ribot : «إننا إذن نتفق تماما مع أولئك الذين ينكرون تفسير الإرادة بسيطرة دافع من الدوافع فحسب ... فهذا الدافع لا تكون له فاعلية إلا حين نختاره، أعني حين يصبح جزءا متكاملا مع المجموع الكلي للحالات التي تتألف منها الذات في لحظة في اللحظات ... بحيث يكون معها شيئا واحدا.»

24

ومن ناحية أخرى، فإنني حين أصدر حكما على قضية من القضايا، أظل محايدا لكل من البديلين، ولأن أحدهما لا يعبر عن شخصيتي الفردية أكثر من الآخر، فالحقيقة هي وحدها التي تفرض نفسها علي في هذه الحالة، بحيث لا يكون لي دخل حقيقي في الموضوع. قل لي ما هي الأفعال الإرادية التي حققتها طوال حياتك، وأنا أستطيع - يقينا - أن أقول لك أي نمط من الناس أنت. لكنك لو ذكرت لي ما أصدرته من أحكام طوال حياتك لكان من الصعب علي أن أغوص في شخصيتك لكي أكشف عن الجوانب الخبيئة منها. ومن هنا فإن حياة القديس تكشف عن الفرد أكثر مما تكشف عنه نظريات عالم الرياضة. ففي استطاعتك أن تعرف من خلال دراستك لنسق رياضي إلى أي حد أصاب عالم الرياضة أو أخطأ في هذا النسق، لكنك لن تستطيع أبدا أن تعرف هل كان خيرا أم شرا.

الإرادة هي إذن الانتباه إلى فكرة التغير حتى يظهر التغير المطلوب فعلا إلى الوجود بنشاط الفاعل المنتبه إلى الفكرة، وبشرط أن يشعر الفاعل أن ذاته قد تحققت في هذا الفعل: لكن ما الذي يجعل الفرد ينتبه إلى هذه الفكرة؟ لقد بينا في الفصل السابق أن الفاعل السيكوفيزيقي يكون نشطا إيجابيا في حالة الانتباه، وهو حين يأخذ بهذه الفكرة أو تلك، إنما ينتقي ويختار، وهذا الاختيار تحدده طبيعته الخاصة. والتمسنا في الخبرة تأييدا لهذه النظرية، وسوف نقدم في الفصول الثلاثة القادمة مزيدا من الدعم والتأييد، ونحاول أن نبين أن النظرية المعارضة - وأعني بها المذهب الجبري - لا تقوم على أساس متين.

الفصل الرابع

المذهب الجبري: التحدد

(1) ثلاثة معان للجبرية: (أ) من المستحيل على أي شيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (ب) مبدأ السببية هو المبدأ السائد. (ج) كل شيء يمكن التنبؤ به إذا ما توافرت معطيات معينة ... (2) النظرية التي تقول إنه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (3) تفسيران لهذه النظرية: (أ) رأي ليبنتز. (ب) رأي اسبنوزا. (4) مناقشة التفسير الأول. (5) مناقشة التفسير الثاني: هذا التفسير يتضمن مغالطة منطقية. ••• (1) يذهب دعاة الجبرية إلى أنها تعني ثلاثة معان مختلفة، وإن كان كل منها يعتمد على الآخر اعتمادا كبيرا. فهي تعني (أ) أنه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (ب) أن مبدأ السببية هو المبدأ السائد في الطبيعة. (ج) أن كل شيء يمكن التنبؤ به إذا توافرت معطيات معينة. وسوف أحاول في هذا الفصل، وفي الفصلين القادمين، أن أقدم عرضا نقديا لهذه المزاعم الثلاثة، وهو عرض سوف ينتهي بنا إلى القول بأن المذهب الجبري - فيما يتعلق بهذه المزاعم الثلاثة - يقوم على غير أساس. (2) ولكي نشرح المعنى الأول للمذهب الجبري، وهو المعنى الذي يقول إنه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه، يجمل بنا أن نقدم تعريفا للجبرية، أعتقد أن دعاتها يقولون به:

أفرض أن «ج» ترمز إلى الجوهر، و«ص» ترمز إلى «الصفة»، و«ل» ترمز إلى أية لحظة من اللحظات. هناك في هذه الحالة ثلاثة بدائل ممكنة تطرد بعضها بعضا بالنسبة لوضع الجوهر «ج» والصفة «ص» واللحظة «ل» بعضها مع بعض. وهذه البدائل هي: «أ» أن «ج» ليس لها «ص» في «ل» «معناها أن هذا الجوهر ليس له هذه الصفة المعينة في تلك اللحظة المحددة». (ب) أن «ج» لها «ص» في «ل». «أي إن الجوهر له هذه الصفة في هذه اللحظة». (ج) أن «ج» فيما يتعلق بعلاقته ب «ص» يتغير في «ل». تلك هي الحالات المنطقية الثلاث الوحيدة الممكنة بالنسبة للجوهر «ج» من حيث علاقته بالصفة «ص» في اللحظة المعينة «ل». ومن الضروري - منطقيا - أن يوجد واحد فحسب من هذه البدائل الثلاث؛ لأنه من المستحيل منطقيا أن يوجد أكثر من بديل واحد في وقت واحد. وسوف أشير إلى هذه البدائل الثلاثة بالرموز الآتية على التوالي: أ، ب، ج.

وعلى ذلك فإنه يمكن تعريف الجبرية على النحو التالي: الجبرية اسم يطلق على النظرية التي تقول إنه لو كان الجوهر «ج» هو من حيث الواقع في الحالة «ل» فيما يتعلق بالصفة «ص» في اللحظة «ل»، فإن الافتراض المركب الذي يقول إن كل شيء آخر في العالم لا بد أن يكون بالضبط كما كان في الواقع، على حين أن الجوهر «ج» لا بد - بدلا من أن يقع كما وقع - أن يكون في إحدى الحالتين البديلتين الأخريين «أ» أو «ج» فيها يتعلق بالصفة «ص» - أقول: إن هذا الافتراض المركب افتراض مستحيل.

1 (3) هناك موقفان يمكن للفيلسوف الجبري أن يأخذ بأحدهما فيما يتعلق بالتعريف السابق: (أ) كما لاحظ دكتور «برود

C. D. Broad »: «أن الفيلسوف الجبري ليس بحاجة إلى أن يقرر - وهو بصفة عامة لا يفعل ذلك - لا ضرورة ولا استحالة كل من الفقرتين المنفصلتين اللتين يتألف منهما هذا الافتراض المركب، فهو لا يقول: لا بد لكل شيء آخر في العالم حتى اللحظة «ل» أن يكون بالضبط كما كان عليه في الواقع. وهو لا يقول: إنه من المستحيل للجوهر «ج» أن يكون في حالة مختلفة بالنظر إلى الصفة «ص» في اللحظة «ل»، أعني حالة مختلفة عن الحالة التي كان عليها بالفعل في تلك اللحظة. لكن ما يقوله هو أن التركيبة المؤلفة من كون بقية أجزاء العالم لا بد أن تظل كما هي في الواقع حتى هذه اللحظة مع إمكان أن تختلف حالة الجوهر «ج» بالنظر إلى الصفة «ص» في اللحظة - تركيبة مستحيلة. فكل فقرة على حدة في هذا المركب لا يقول الجبري عنها أنها ضرورية أو مستحيلة، لكنه يعلن أن الجمع بينهما مستحيل.»

2

وهذا الموقف يذكرنا برأي «ليبنتز» فيما يتعلق بالإمكان المطلق والتوافق في الإمكان

Compossible

3 ... عند حديثه عن الحقائق الحادثة أو العارضة في مقابل الحقائق الضرورية. فالحادث أو الحقيقة العارضة - وضدها كلاهما ممكن؛ فالقضية التي تعارض الحقيقة التي تقول «إني جالس ها هنا في هذه اللحظة» - قضية ممكنة لأنها لا تناقض نفسها تناقضا مباشرا. وبالتالي فإن حقيقة الأشياء العارضة لا تقوم على مجرد إمكانها؛ ذلك لأنها ليست - دون أضدادها - حقيقة أو واقعة بفضل ماهيتها ذاتها أو فكرتها، بل إن سببها الكافي يكمن فيما يجاوز ذاتها، إذ يكمن في علاقتها بغيرها من الأشياء. فالحقائق العارضة في ذاتها - وكذلك أضدادها - كلاهما ممكن على حد سواء، لكننا إذا نظرنا إليها في علاقتها بغيرها من الأشياء، وجدنا أن الحقيقة المعينة قد تكون ممكنة وهي قائمة وحدها. حتى إذا ما نظرنا إلى الأشياء المتعلقة بها وجدناها قد أصبحت مستحيلة الحدوث في تلك المجموعة المرتبطة بها، فمثلا لو نظرنا إلى الحقيقة القائلة «بأني جالس هنا في هذه اللحظة» لا في حد ذاتها، بل في علاقتها بعدد غير معين من الحقائق الأخرى مثل: عاداتي، خلقي، عملي، هذه الساعة من النهار ... إلخ، فسوف نجد أن الحقيقة وحدها هي الممكنة ، وأن ضدها في هذا السياق مستحيل. فعلى الرغم من أن أضداد الحقائق العارضة ليست متناقضة ذاتيا، فإنها تناقض النسق بصفة عامة ... أعني أنها تناقض المجموعة المرتبطة بها، فكل منها ممكن الحدوث، لكنها ليست ممكنة في اتصالها، فهي إذا ما ارتبطت ناقض بعضها بعضا. أو بعبارة ليبنتز: «إن الحادثة العارضة المعينة قد تكون ممكنة في حد ذاتها، لكنها لا تكون ممكنة إذا وضعت في سياق معلوم من حادثات أخرى تكون لها سياق حدوثها، وبالتالي فإن معية الإمكان

Compossibility

أو الاطراد مع نسق الأشياء الفعلي، هو المقياس الصحيح للحقيقة، هو السبب الكافي. فكل شيء ممكن له ماهية أو معنى، لكن نحفظ ما هو ممكن بالتوافق مع غيره

Compossible

هو الذي يتحقق بالوجود.»

4 (ب) لكن ليس كل الجبريين من هذا الطراز؛ إذ يعتقد فريق منهم أن الافتراض نفسه القائل بأن الجوهر يمكن أن يكون في حالة مختلفة عن تلك الحالة التي كان عليها من قبل - لا بد أن يكون هو نفسه افتراضا مستحيلا، وبناء على رأي هذا الفريق، فإن الجوهر الذي يكون في حالة مختلفة في لحظة معينة عن الحالة التي كان عليها «ج» في «ل» فإن هذا الجوهر لا بد بالضرورة أن يكون جوهرا مختلفا عن «ج».

ولا بد أن يذهب دعاة هذا الرأي أيضا إلى القول بأن جميع العلاقات بين الأشياء علاقات داخلية، أعني أن العلاقة بين جوهر ما وجوهر آخر، إنما تقوم في طبيعة الجوهر نفسه،

5

وبالتالي فإذا ما عرفت جوهرا من الجواهر معرفة دقيقة وشاملة، فإنك سوف تعرف - قطعا - الكون كله، طالما أن معرفة الجوهر الأول تتضمن معرفة العلاقات، كذلك معرفة الحدود التي تربط بينها هذه العلاقات على حد سواء. وماذا عساها أن تعني تلك المعرفة، إن لم تكن تعني معرفة الكون كله؟ ولما كان من المستحيل - في رأى هذا الفريق - أن توجد حدود تقوم بذاتها مستقلة عن العلاقات التي ترتبط بها، وطالما أن «... كل علاقة ... تكيف حدودها بكيف ما ... وهذه العلاقة صفة لهذه الحدود ...»

6

أقول لما كان ذلك كذلك، فإنه لا يمكن أن نتصور حدا من الحدود متصفا بصفات مختلفة في لحظة بعينها - أي في نفس اللحظة - لأن ذلك لا بد أن يعني كونا مختلفا أتم الاختلاف ... «إن أولئك الذين يقولون إن جميع العلاقات داخلية. يقولون في بعض الأحيان. لو أن «ص» كانت تمثل خاصية علائقية وأن «أ» يمثل حدا له تلك الخاصية، فسوف يكون صحيحا باستمرار أن «أ» لا يمكن أن تكون «أ» لو أنها فقدت «ص». وفي ظني أن تلك طريقة مصطنعة للقول إن كل شيء يمكن أن يكون حقيقيا إذا ما تضمن القضية المتناقضة ذاتيا، وهي أنه إذا كان «أ» الخاصية «ص» فإنه لا يمكن أن يكون صحيحا أن «أ» ليست لها الخاصية «ص»، لكنها رغم ذلك طريقة طبيعية - قليلا أو كثيرا - للتعبير عن قضية يمكن أن تكون صادقة تماما: افرض أن «أ» لها الخاصية «ص»، عندئذ فإن أي شيء ليس له الخاصية «ص» لا بد بالضرورة أن يكون شيئا مختلفا عن «أ».»

7 (4) هذان هما التفسيران لرأي الفيلسوف الجبري الذي يزعم استحالة أن يكون أي شيء خلاف ما هو عليه، بينما يظل بقية العالم على ما هو عليه. وسوف أناقش الآن الحجج الممكنة التي يمكن أن تقوم لتأييد هذا الرأي في صورتيه السابقتين: (أ) ما الدليل الذي يقدمه الفيلسوف الجبري الذي يعتقد أن الجمع بين الفقرتين الآتيتين مستحيل، برغم أن كلا منهما ممكنة على حدة وهما: (1) أن الجوهر «ج» لا بد أن يكون في حالة مختلفة عما كان عليه بالفعل. (2) وأن كل شيء آخر في العالم لا بد أن يظل كما كان عليه بالفعل؟ يمكن أن يكون دليله إما قبليا أو تجريبيا. غير أن الدليل التجريبي مستبعد تماما، إذ ليس ثمة دليل من هذا النوع يمكن أن يقوم في هذه الحالة، وإلا فأين يمكن أن نجد الدليل التجريبي عما إذا كان الافتراض القائل بأن «ج» لا بد أن يكون في حالة مختلفة عن الحالة التي كان عليها بالفعل يتناقض مع افتراضات أخرى؟ واضح أنه لا شيء يمكن أن يوجد داخل نطاق التجربة يؤيد هذه الدعوى.

والدليل القبلي لا بد أن يعني أن القضية التي يقول بها الفيلسوف الجبري - كما عرضناها من قبل - صدقها واضح بذاته، وأن القضية المعارضة كذبها واضح بذاته. وأود - قبل كل شيء - أن أذكر القارئ بالمغالطة المشهورة والشائعة، وهي مغالطة اعتبار شيء ما واضحا بذاته، في الوقت الذي يكون فيه هذا الشيء مجرد زعم يفتقر إلى البرهنة، وهناك مصدر آخر للخطأ شبيه بهذا الخطأ، وأعني به ذلك الموقف الذي تعتبر فيه قضية نتيجة ضرورية لقضية أخرى مفترضة ضمنا، مع أن هذه القضية المضمرة حين تظهر إلى العلن يمكن جدا أن نكتشف أنها نفسها ليست ضرورية. وسوف نناقش الآن رأي الفيلسوف الجبري لنرى ما إذا كان رأيه قضية واضحة بذاتها أم أنها نتيجة ضرورية لقضية أخرى يقال إنها واضحة بذاتها. وإذا ما اتضح أن رأيه يعتمد على قضية أخرى، فسوف نرى هل هذه القضية الجديدة واضحة بذاتها، أعني هل هي بديهية لا تحتاج إلى برهان أم أنها ليست كذلك.

ويمكن أن نوضح رأي الفيلسوف الجبري على النحو التالي:

إذا كانت الوقائع هي «ج» أ ب ج، فإنه من المستحيل أن تكون هذه الوقائع «ج»

1

أ ب ج. و«ج» هنا تمثل شيئا ما في وقت ما له صفة ما. أما أ ب ج فهي تمثل بقية العالم في نفس هذه اللحظة. و«ج»

1

تمثل الشيء نفسه مع صفة مختلفة. وإذا نظرنا إلى «ج» وحدها وجدنا أنها يمكن أن توجد على النحو الذي تقول هذا الوجهة من النظر. إذ يمكن أن تكون ممكنة، لكنها لا يمكن أن تكون ممكنة بالمشاركة

Compossible

مع بقية أجزاء العالم ولم؟ لا بد أن تكون الإجابة - كما هو واضح - أن هناك مجموعة معينة من العلاقات تربط بين «ج» وبين أب ج بطريقة تجعلها كلها تؤلف كلا واحدا. وهكذا يتضح في الحال أن وجهة نظر الفيلسوف الجبري التي نناقشها تفترض الواحدية كأساس تقوم عليه، وبالتالي فهذه الوجهة من النظر ليست ضرورية ضرورة ذاتية ، لكنها نتيجة ضرورية لافتراض آخر أو لمجموعة من الافتراضات.

وفكرة الواحدية التي تمثل أحد الافتراضات الكامنة خلف قضية الفيلسوف الجبري تحتاج إلى برهان؛ فهي ليست فكرة واضحة بذاتها. فليس هناك اتفاق في الرأي بين الفلاسفة عما إذا كان الكون واحديا أم ثنائيا أم متعددا، وهذا الاختلاف - في حد ذاته - يشير إلي أن كل فريق يؤيد وجهة نظره بمجموعة من الأدلة، في حين أن الحقيقة البديهية تفرض نفسها على ذهن الإنسان ولا تحتاج إلى دليل يؤيدها؛ إذ لا بد أن تكون واضحة بذاتها.

وبغض النظر عن قبول هذه القضية على أنها واضحة بذاتها - أعني القضية التي تقول إنه إذا كانت الوقائع هي «ج» أ ب ج، لكان من المستحيل أن يوجد بدلا منها «ج»

1

أ ب ج - أقول بغض النظر عن ذلك كله فإن «وليم جيمس» يقول في دفاعه عن الصدفة: «ما الذي أعنيه حين أقول إن اختياري للطريق الذي سأسلكه في عودتي إلى منزلي بعد الانتهاء من هذه المحاضرة أمر مهم وهو يرجع إلى الصدفة فيما يتعلق باللحظة الراهنة؟ إنه يعني أنني تذكرت طريق دفينتي

Divinity Avenue

وشارع أكسفورد

Oxford Street

لكني سأختار أحدهما فحسب، سأختار أيا منهما وأترك الآخر، وإني لأطلب منكم الآن جادا أن تفترضوا أن هذا الغموض في اختياري للطريق الذي سأسلكه غموض حقيقي، ثم أن تفترضوا بعد ذلك الافتراض المستحيل، وهو أنني قمت بعملية الاختيار مرتين، وأن الاختيار قد وقع في كل مرة على شارع مختلف ... وبعبارة أخرى افترضوا أنني سرت أولا في طريق دفينتي، ثم افترضوا أن القوى المتحكمة في الكون قد أزالت عشر دقائق من الزمان وأزالت معها كل ما وقع فيها، وأعادتني إلى باب هذه القاعة، كما كنت قبل أن أقوم بعملية الاختيار، ثم افترضوا بعد ذلك أنني الآن قد اخترت طريقا آخر - وكل شيء آخر ظل على ما هو عليه - فسلكت شارع أكسفورد. إنكم - بوصفكم مشاهدين سلبيين - في استطاعتكم أن تنظروا وتروا عالمين بديلين؛ أحدهما أسلك فيه طريق دفينتي، والآخر أسير فيه أنا أيضا خلال شارع أكسفورد. والآن، لو أنكم من دعاة الجبرية فسوف تعتقدون أن أحد هذين العالمين مستحيل منذ الأزل، وتعتقدون أنه مستحيل لما يتضمنه ذاتيا من لا معقولية أو لما فيه من مصادفة أو اتفاق. ولكن إذا نظرتم إلى هذين العالمين من الخارج، فهل في استطاعتكم القول أيهما هو العالم المستحيل، عالم المصادفة والاتفاق، وأيهما العالم المعقول والضروري؟»

8

وفضلا عن ذلك، فحين يزعم الفيلسوف الجبري أنه إذا كان الواقع هو: «ج» أ ب ج، فإن وجود «ج»

1

أ ب ج مستحيل، بمعنى أن «ج» بذاتها ممكنة لكنها ليست ممكنة بالمشاركة

Compossible

مع أ ب ج، فيبدو أنه يأخذ تعريف الممكن على أنه «ما لا يخالف قوانين الطبيعة رغم مخالفته لوقائع الطبيعة.» غير أن هذا التعريف أضيق جدا من أن يستبعد قضايا هي في آن معا لا تخالف قوانين الطبيعة، وهي أيضا لا تخالف وقائع الطبيعة، وطالما أن كل قضية صادقة تتفق مع قوانين الطبيعة كما تتفق مع وقائع الطبيعة سواء بسواء، فإن كل قضية صادقة - فيما يبدو - يستبعدها هذا التعريف بوصفها غير ممكنة. ولو أننا عدلنا التعريف بحيث نجعله على النحو التالي: «تكون «ق» ممكنة حين لا يوجد قانون من قوانين الطبيعة ينتج عنه منطقيا «لا - ق».» وتكون «ق» مستحيلة حين نجد أن قانونا من قوانين الطبيعة ينتج عنه: منطقيا «لا - ق» ... لأصبح واضحا أن القضية التي يقول بها الجبريون وهي أن «ج»

1

أ ب ج مستحيلة، لا تكون صادقة إلا إذا وجدنا قانونا من قوانين الطبيعة ينتج عنه منطقيا لا «ج»

1

أ ب ج، وكل قانون من قوانين الطبيعة هو تعميم «سواء أكان تعميما دقيقا أم ترجيحيا.» ومن ثم فلا يمكن أن نعتبر «ج»

1

أ ب ج مستحيلة بسبب أن الوقائع التي كانت موجودة هي «ج» أ ب ج؛ وذلك لأكثر من سبب: أولا: لأن «ج» أ ب ج هي مجموعة متعاصرة من الحوادث وليست قانونا من قوانين الطبيعة. وثانيا: لأن كلا من «ج» أ ب ج و«ج »

1

أ ب ج يمكن أن يكونا في آن معا مظهرين ممكنين مختلفين لقانون واحد. وثالثا: قد يصح أن تكون «ج» أ ب ج، و«ج»

1

أ ب ج - على حد سواء - تطبيقات لقانونين مختلفين يعملان معا في الطبيعة، رغم أنهما لا يعملان معا في وقت واحد ولا على شيء واحد، وهذا لا يعني بالضرورة استحالة أحدهما إذا حدث الآخر بالفعل؛ ذلك لأن ما لم يحدث يظل مع ذلك ممكنا؛ لأنه لا يتناقض مع قوانين الطبيعة: افرض مثلا أنني وضعت إناء به ماء على النار، إن الماء في هذه الحالة سوف يغلي، وفقا لقانون معين من قوانين الطبيعة. لكنني إذا لم أضع هذا الإناء على النار، فإن الماء لن يغلي، وفقا لقانون آخر من قوانين الطبيعة. والآن: إن القول بأنني وضعت الإناء على النار لا يلغي، أن الاحتفاظ بالإناء بعيدا عن النار ليس ممكنا، إن ذلك يظل ممكنا، رغم أنه لم يحدث، والإمكان هنا يعني أنه - تبعا للتعريف السابق - ليس ثمة قانون من قوانين الطبيعة ينتج عنه - منطقيا - «لا - ق».

وحين يقال إن المذهب الجبري يعني أن كل شيء هو على ما هو عليه، فيبدو أن ثمة خلطا في استخدام الكلمات، وهو خلط بين كلمتي «محتم

determined » و«معين

determinate ». فمن المسلم به أن كل شيء يحدث هو شيء معين

determinate ، لكن هل هذا دليل أيضا على أنه محتم

determined ؟ إن القول بأن المستقبل سوف يكون على نحو ما سيكون، لا يتفق إطلاقا مع التساؤل عما إذا كان المستقبل محتما منذ الآن، فهو قد يكون كذلك وقد لا يكون، فكل ما يؤكده هذا القول هو أن حوادث المستقبل حين تقع فسوف يكون لها شكل معين، سوف تكون معينة

determinate ، وهذا يختلف عن القول بأنها محتومة

determined

منذ اللحظة الراهنة ... (5) (ب) وسوف نناقش الآن التفسير الثاني للمذهب الجبري، وهو التفسير القائل بأن الجبرية تعني استحالة أن يكون الشيء خلاف ما هو عليه. ترى الجبرية - في هذه الحالة - أنه إذا كان الجوهر «ج» موجودا في لحظة معينة، فإنه لا يمكن في نفس هذه اللحظة أن يكون «ج»

1

بدلا من «ج»؛ والسبب في ذلك هو أنه لا يوجد شيء يقوم بذاته مستقلا عن العلاقات التي تربطه بغيره من الأشياء، وإذا كان الشيء يرتبط على هذا النحو بغيره من الأشياء، فإن أية لحظة من اللحظات يقابلها حالة معينة للأشياء، وبالتالي فلو تغير «ج» وأصبح «ج»

1

فلا بد أن يؤدي ذلك إلى وضع مخالف تماما للعلاقات بالأشياء الأخرى. ومن ثم فلا بد أن يكون العالم على نحو مخالف لما هو عليه. ويقال إن «العلاقة الخارجية الخالصة هي في نهاية الأمر علاقة مستحيلة ولا معني لها.»

9

لأنه «... لو كان كل من أ وب حقا موجودا بسيطا تماما ومستقلا عن الآخر، فمن اللغو عندئذ أن تقول إنهما يرتبطان كذلك ارتباطا حقيقيا.»

10

وإذا كانت العلاقات داخلية في طبيعة الحدود التي يرتبط بعضها ببعض، وإن كل حد من هذه الحدود لا يمكن أن يكون بذاته خاليا من علاقات معينة تربطه بغيره من الأشياء، فإن ذلك يعني - إذا ما افترضنا أن الحد «أ» له خاصية علائقية هي «ب» في لحظة معينة - أقول إن ذلك يعني أن كل شيء ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون مختلفا عن «أ». ذلك أن الحدين المرتبطين بعلاقة نوعية خاصة لا يمكن لهما أن يكونا على نحو ما هما عليه بدون هذه العلاقة الفرعية الخاصة. وعلى كل حال فإن ذلك لا يصدق - فيما يبدو - إلا على العلاقات الكمية، وعلاقات التشابه والاختلاف والتساوي، وما إلى ذلك. فلو أن «س» كانت مساوية ل «ص» لنتج عن ذلك أنه إذا ما غابت علاقة التساوي، فإن «س» و«ص» لا يمكن لهما معا أن يكونا على نحو ما هما عليه في الواقع. وقل مثل ذلك عن علاقة التشابه والاختلاف، فلو أن «س» كانت مشابهة ل «ص» لنتج عن ذلك أنه إذا غابت هذه العلاقة فإن «س» و«ص» لا يمكن لهما معا أن يكونا على نحو ما هما عليه الآن.

لكن يمكن لكل حد منهما - وحده وبدون الآخر - أن يوجد كما هو في غياب العلاقة التي تربطه بالحد الآخر، فلو كانت «س» مساوية ل «ص»، فإننا نقول - في هذه الحالة - أن «س» ترتبط مع «ص» بعلاقة التساوي، لكن لا ينتج من ذلك أن «س» لا بد أن تظل على نفس هذه العلاقة إذا ما تغيرت «ص» عن وضعها الحالي.

وعلى ذلك فإننا يمكن أن نتفق على ما يأتي:

إذا افترضنا أن الحد «أ» له خاصية علائقية محددة مع الحد «ب» في لحظة معينة، فإن معنى ذلك أن أي شيء ليس له هذه الخاصية المعينة لا بد بالضرورة أن يكون شيئا مختلفا عن «أ»، ولكي يتضح معنى هذه القضية فإننا سوف نصوغها في صورة القياس الآتي: «أ» لها خاصية علائقية ب في ل. «ج» ليس لها الخاصية العلائقية ب في ل.

11 ∴

ج ليست أ.

لكن لا بد أن نحتاط لمغالطة من المحتمل جدا أن تقع في هذا السياق؛ فالقول بأن «ح» ليست في هوية واحدة مع «أ»، أو ليست هي «أ»، إنما ينتج بالضرورة من المقدمتين معا؛ المقدمة «1» التي تقول إن «أ» لها خاصية علائقية ب في ل، والمقدمة «2» التي تقول إن ح ليس لها هذه الخاصية العلائقية نفسها في ل. وعلى ذلك فمن الخطأ تماما أن نستنتج مثل هذه النتيجة من المقدمة الثانية وحدها؛ ذلك لأن النتيجة هي أن ح التي ليست لها الخاصية العلائقية «ب» في «ل» «وهي الحالة التي تتميز بها أ» لا بد بالضرورة أن تكون مختلفة عن «أ»، التي لها مثل هذه الخاصية. والسبب ببساطة أن «أ» لها بالفعل هذه الخاصية و«ح» ليس لها هذه الخاصية. كنا لا نستطيع أن نستنتج من مجرد القول بأن شيئا ما ليس له علاقة نوعية في لحظة ما - لا نستطيع أن تستنتج أن هذا الشيء لا بد أن يكون مختلفا عن «أ». وعلى كل حال فإنه يمكن تطبيق مثل هذه الحجة على الكائنات التي لها ديمومة والتي يمكن أن تتصور معها إن شيئا ما أو آخر يمكن أن يحدث في وقت معين، لكن لا يمكن تطبيقها على الماهيات الخالدة أو الحقائق اللازمانية، ونحن هنا معنيون بصفة خاصة بالفاعل الذي له ديمومة. إن ما نناضل من أجله هو أنه ليس صحيحا أنه إذا كان هناك فاعل معين ليس له خاصية علائقية نوعية معينة كانت له بالفعل، فإنه لا بد بالضرورة أن يختلف عن ذلك الفاعل الذي كانه من قبل، فنحن نذهب إلى أن الفاعل يمكن أن يرتبط بعلاقة مختلفة أتم الاختلاف عن العلاقة التي يرتبط بها بالفعل مع شيء آخر، ويظل هو نفسه.

ولقد ناقش جورج مور

G. E. Moore

12

بإفاضة تامة المغالطة المنطقية في الزعم بأنه إذا ما افترضنا أن الحد «أ» له خاصية علائقية «ب» في لحظة معينة، عندئذ فإن أي شيء ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون مختلفا عن «أ». وسوف يكون من المفيد جدا أن نلخص وجهة نظره في هذا السياق.

يجمل بنا قبل أن نناقش هذا الزعم أن نحدد معنى عبارتين هامتين جدا، وهما «أ» «لا بد بالضرورة أن يكون» و«ب» «مختلف عن أ». ومعنى عبارة «لا بد بالضرورة أن يكون» يمكن أن نشرحه على النحو التالي: «حين نقول عن زواج من الخواص مثل «ب» و«ك» أن أي حد له الخاصية «ب» فإنه لا بد بالضرورة أن يكون له الخاصية «ك»، فإن هذا القول يساوي قولنا إنه في كل حالة - من القضية القائلة بأن أي حد معين له الخاصية «ب» - ينتج أن هذا الحد له الخاصية «ك». وكلمة ينتج تفهم بمعنى يكون فيه من القضية الخاصة بأي حد معين - مثل أنه زاوية قائمة - ينتج أنها زاوية. ومن القضية القائلة بأن الحد أحمر ينتج أن له لونا ما. حين نقول عن الخاصية العلائقية «ب» إنها شكل أو إنها داخلية مع الحد المعين «أ» الذي يملكها، فإن ذلك يعني أنه من القضية القائلة بأن شيئا ليس له «ب» ينتج أن هذا الشيء مختلف عن أ. وبعبارة أخرى، إنه يعني أن نقول إن خاصية عدم ملكية «ب»، وخاصية الاختلاف عن «أ»، يرتبط كل منهما بالآخر بطريقة خاصة يكون فيها خاصية كون المثلث القائم الزاوية مرتبطا بكونه مثلثا، أو أن كون الشيء أحمر مرتبط يكون له لون.»

13

والقول بأن ب «تختلف عن أ» يمكن أن يكون له معنيان مختلفان: «فقد يعني فحسب أن «أ» تختلف عدديا عن «ب»، فهي غير «ب»، أو لا تتحد مع «ب» في هوية واحدة. أو قد يعني أن تلك ليست هي القضية فحسب، لكن أيضا أن «أ» ترتبط ب «ب» بطريقة يمكن أن نعبر عنها بقولنا: إن «أ» يختلف اختلافا كيفيا عن «ب». وأولئك الذين يقولون «إن جميع العلاقات تجعل اختلافا لحدودها» يعنون دائما - فيما أعتقد - الاختلافات بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فحسب. أي إنهم يقصدون القول بأنه إذا كانت «ب» خاصية علائقية ل «أ» عندئذ فإن غياب «ب» يستلزم لا فقط اختلافا عدديا عن «أ»، بل اختلافا كيفيا كذلك.»

14

لكن علينا أن نلاحظ أنه إذا كان شيء ما يختلف اختلافا كيفيا عن شيء آخر، فإنه ينتج من ذلك أنه يختلف عنه اختلافا عدديا.

وسوف نرى الآن ما إذا كان صحيحا أنه إذا كانت «ب» خاصية علائقية و«أ» حدا له مثل هذه الخاصية، فإذن (1) أي حد ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون شيئا آخر يختلف - عدديا عن «أ» - و(2) أي حد ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون شيئا آخر غير «أ». (1) ولكي نعرف ما إذا كان صحيحا - لو أن «أ» لها الخاصية «ب» - فإن أي حد عندئذ - ليس له الخاصية «ب» - لا بد أن يكون شيئا آخر غير «أ»: «فلنأخذ مثلا الخاصية العلائقية التي نقرر انتماءها إلى معطى حسي مرئي، حين نقول عنه إن معطى حسيا مرئيا آخر بوصفه جانبا مكانيا: التقرير - مثلا - الذي يتعلق بقطعة ملونة؛ نصفها أحمر ونصفها أصفر: هذه القطعة كلها تحتوي هذه القطعة (حيث تكون عبارة «هذه القطعة» اسما خاصا بالنصف الأحمر). إنه لمن الواضح هنا تماما - فيما أعتقد - أننا نستطيع أن نقول، بمعنى واضح وصريح تماما، إن أي كل

Whole

لا يحتوي على تلك القطعة الحمراء لا يمكن أن يتحد في هوية واحدة مع الكل الذي نتحدث عنه، وأنه من القضية الجزئية، ينتج أن هذا الحد شيء آخر غير الكل الذي نتحدث عنه، رغم أنه ليس من الضروري أن يكون مختلفا عنه اختلافا كيفيا. فهذا الكل المعين لم يكن من الممكن أن يوجد دون أن تكون هذه القطعة الجزئية جزءا منه، لكن يبدو أنه لا يقل عن ذلك وضوحا - لأول وهلة - أن هناك خواص علائقية كثيرة لا يصدق عليها ذلك. ولكي نأخذ مثلا فما علينا إلا أن نتدبر علاقة القطعة الحمراء بالقطعة كلها، بدلا من أن نتأمل - كما حدث من قبل - علاقة الكل بها، ويبدو من الواضح تماما أن القطعة الحمراء - رغم أن الكل ما كان له أن يوجد دون أن تكون القطعة الحمراء جزءا منه - يمكن أن توجد تماما دون أن تكون جزءا من هذا الكل المعين.»

15 (2) نصل الآن إلى التساؤل عما إذا كان صحيحا أنه إذا كان الحد «أ» له الخاصية «ب» فإن أي حد عندئذ ليس له تلك الخاصية لا بد بالضرورة أن يكون مختلفا عن «أ»، أعني أن «خاصية عدم امتلاك «ب» وخاصية كونه مختلفا عن «أ» ترتبط كل منهما بالأخرى بطريقة خاصة، تكون فيها خاصية كون المثلث قائم الزاوية مرتبطة بخاصية كونه مثلثا. أو خاصية كونه أحمر مرتبطة بخاصية كونه ذا لون» ولا يمكن أن يكون هناك شك في أنه إذا كانت «أ» لها «ب» فإن أي حد عندئذ ليس له «ب» لا بد أن يكون شيئا آخر غير «أ»، لكن هل ينتج من ذلك أنه إذا كانت «أ» لها «ب» فإن أي حد لم يكن له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون مختلفا عن «أ»؟ يبدو أنه بينما القضية الأولى صادقة، فإن القضية الثانية كاذبة، وأن مصدر الخلط بين النصين هو النظر إلى العبارتين: «لا بد أن» «ولا بد بالضرورة أن يكون » على أن معناهما واحد، في حين أن ما تعبر عنه كلمة «لا بد» هنا هو فحسب أن القضية التي تتضمنها تنتج من القضية القائلة بأن «أ» لها «ب»، ليست هي بذاتها قضية ضرورية. وسوف أشرح لماذا كان من الخطأ أن نعتقد أنه من القضية: «إذا كانت «أ» لها «ب» فأي حد ليس له «ب»، لا بد أن يكون شيئا آخر غير «أ».» تنتج القضية الأخرى «إذا كانت «أ» لها «ب» فإن أي حد ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون مختلفا عن «أ».»

16

ولنبدأ أولا وقبل كل شيء بتحديد بعض الرموز التي سوف نستخدمها. سوف نعبر فيما يتعلق بالخاصتين «ب» و«ق»: عن القضية القائلة بأن أية قضية تقرر عن شيء معين أن له الخاصية «ب» تستلزم القضية القائلة بأن الشيء الذي نبحثه له أيضا الخاصية «ق» على النحو التالي:

س ب تستلزم س ق.

وسوف نعبر في حالة أية قضية عن نقيض «ب» بالرمز «ب»، وبالتالي فإن صيغة كهذه «س ب» تستلزم «س ق» سوف تعني أن أية قضية تتكرر على شيء ما أن له الخاصية «ب» تستلزم القضية فيما يتعلق بالشيء الذي تتحدث عنه، أن له «ق».

ومن ناحية أخرى فيما يتعلق بشيئين «ب» و«أ»، فإننا سوف نعبر عن القول بأن ««ب» تتحد في هوية واحدة مع «أ»» بالرموز «ب = أ». وعن القول بأن «ب» لا تتحد في هوية واحدة مع «أ»، بالرموز «ب = أ».

وبناء على الرموز السابقة، فإن الصيغة الآتية:

س ب تستلزم «س = أ».

سوف تعني: «كل قضية تقول عن شيء ما إنه ليس له الخاصية «ب» تستلزم - فيما يتعلق بهذا الشيء - القول بأنه شيء آخر غير «أ».»

وهذه القضية تساوي منطقيا: «س = أ» تستلزم «س ب».

وهي تقرأ على النحو التالي: «أي شيء يتحد في هوية واحدة مع «أ» لا بد - في أي عالم يمكن تصوره - أن يكون له بالضرورة «ب».» أو بعبارة أخرى: ««أ» لا يمكن لها أن توجد في أي عالم ممكن دون أن يكون لها «ب».»

وسوف نستخدم كذلك الصيغة ك ⋆

ق، لتعني أنه «من الخطأ أن تقول ك صادقة وق كاذبة.» وبالتالي فإن التعبير الآتي:

أ ق ⋆

أ ر.

سوف يعني أن «من الخطأ أن نقول «أ ق» صادقة و«أ ر» كاذبة في آن معا.» من ناحية أخرى، فإن التعبير الآتي:

س ق ⋆

س ر.

سوف يعني أنه «إذا كان أي شيء له ق، فإن هذا الشيء بالتالي له «ر»» دون أن نقرر أن الشيء له ق.

والآن دعنا نستعد من جديد النقطة موضع الخلاف؛ فنحن نذهب إلى أنه بينما تكون القضية «إذا كانت «أ» لها «ب» «في الواقع» فإن أي حد عندئذ ليس له «ب»، لا بد أن يكون شيئا آخر غير «أ»» قضية صادقة بغير شك. والقضية الأخرى «إذا كانت «أ» لها «ب»، فإن أي حد عندئذ ليس له «ب» لا بد بالضرورة أن يكون شيئا آخر غير «أ»» قضية كاذبة. غير أن أولئك الذين يقولون إن جميع العلاقات داخلية بالنسبة للحدود، يفترضون أن القضية الثانية تنتج من القضية الأولى. وإذا ما استخدمنا الرموز السابقة، فإن القضية الأولى تكتب على هذا النحو: (1) س ب تستلزم « ⋆ ».

وتقرأ على النحو التالي: «لو أن شيئا ما «س» له «ب»، فإن ذلك وحده يستلزم في هذه الحالة القضية: «إنه من الخطأ في آن معا القول بأن شيئا آخر «و» وليس له «ب» هي قضية صادقة، وأن «و» ليست متحدة في هوية واحدة مع «س»» قضية كاذبة.»

وإذا ما استخدمنا الرموز مرة أخرى، فإن القضية الثانية تكتب على هذا النحو: (2) س ب ⋆ « » يستلزم « ».

وتقرأ على النحو التالي: «إنه لمن الخطأ في آن معا القول بأن شيئا ما ليس له «ب» «قضية صادقة، وإن غياب «ب» عن «و» يستلزم أن تكون «و» شيئا آخر غير س» قضية كاذبة.»

ونحن نذهب إلى القول بأنه في حين أن القضية رقم «1» صادقة، فإن القضية رقم «2» كاذبة، بينما تعني نظرية العلاقات الداخلية - من ناحية أخرى - أن القضية رقم «2» هي أيضا قضية صادقة، وأنها تنتج من القضية رقم «1»، غير أن القضية رقم «2» لا يمكن أن تنتج من القضية رقم «1»، اللهم إلا من قضية لها صورة:

ق تستلزم «ك ⋆

ر».

فهنا تنتج القضية المقابلة لها في صورة:

ق ⋆ «ك تستلزم ر». «أما القول بأن ذلك خطأ، فمن السهل - فيما أعتقد - أن تتبينه إذا ما تأملنا القضايا الثلاث الآتية: افرض أن ق = «جميع الكتب الموجودة على هذا الرف، زرقاء اللون» و«ك» = «نسختي من «مبادئ الرياضة» هي كتاب موجود على هذا الرف» و«ر» ⋆ «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون». والآن فإن «ق» لا تستلزم مطلقا «ك ⋆

ر». أعني أنه ينتج تماما من «ب» أن القضية «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة ليست زرقاء اللون» لا تصدقان معا من حيث الواقع. لكنه لا ينتج من ذلك - على الإطلاق - أن ق ⋆ «ك تستلزم ر»، ذلك لأن هذه القضية الأخيرة تعني أنه «من الخطأ أن القول في آن معا أن «ق» صادقة، وأن «ك تستلزم ر» كاذبة» لأن «ك تستلزم ر» قضية كاذبة تماما من حيث الواقع؛ ذلك لأنه لا ينتج من القضية القائلة بأن «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة موجودة على الرف» القضية القائلة إن «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون». وببساطة فمن الخطأ القول بأن القضية الثانية من هاتين القضيتين يمكن أن تستنبط من القضية الأولى وحدها، ومن الخطأ القول بأنها على نفس العلاقة التي عليها القضية الشرطية المتصلة: «كل الكتب الموجودة على هذا الرف زرقاء اللون، ونسختي من كتاب مبادئ الرياضة موجودة على هذا الرف»، هذه القضية الشرطية المتصلة تستلزم في الواقع القضية التالية: «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون»، لكن القضية القائلة بأن «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة موجودة على هذا الرف» وحدها لا تستلزم يقينا القضية القائلة بأن «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون». وإنه من الخطأ القول بأن نسختي من كتاب مبادئ الرياضة يمكن ألا تكون موجودة على هذا الرف دون أن تكون زرقاء اللون. وبالتالي فإن القول بأن «ك تستلزم ر» قول كاذب، ومن ثم فإن «ق ⋆ «ك تستلزم ر»» يمكن أن تنتج فحسب من «ق تستلزم «ك ⋆

ر»» إذا كانت ق تنتج من هذه القضية الأخيرة. لكن «ق» يقينا لا تنتج من هذه القضية: من واقعة أن «ك ⋆

ر» يمكن استنباطها من «ق» ولا ينتج من ذلك على الأقل أن «ق» صادقة. ومن الواضح إذن أنه من الخطأ القول بأن أية قضية لها الصورة الآتية:

ق تستلزم «ك ⋆

ر».

تستلزم القضية المقابلة في صورة:

ق ⋆ «ك تستلزم ر».

طالما أننا وجدنا قضية جزئية واحدة من الصورة الأولى لا تستلزم القضية المقابلة من الصورة الثانية.»

17

ويبدو الآن واضحا أن زعم الفيلسوف الجبري بأنه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه بالفعل، زعم لا يمكن تبريره بأي معنى من المعنيين المعروضين فيما سبق في رقم «أ» و«ب».

الفصل الخامس

المذهب الجبري: السببية

(1) رأي الفيلسوف الجبري في فكرة السببية (2-10) حجج الفيلسوف الجبري: (2) قوانين الطبيعة لا تلين، والسلوك البشري - في الغالب - يماثل الطبيعة. (3) لو كان هناك لون من اللاحتمية فهو يرجع إلى الجهل. (4) الأفعال الإرادية كما نراها عند الآخرين يمكن تفسيرها. (5) التاريخ ليس حركة عشوائية. (6) نحن نفترض في حياتنا اليومية اطراد السلوك البشري. (7) البناء الاجتماعي يفترض مقدما درجة من الاطراد: «الشخصيات» في الحياة وفي النقد الأدبي يفترض فيها باستمرار الاطراد أو الانتظام قليلا أو كثيرا. (8) إذا كنت أشعر بقدرتي على أن أفعل كما أرغب، فهل أرغب كما أرغب؟ (9) إننا لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا، لكنه يسرنا لأننا نرغب فيه. (10) حجة مستمدة من المسئولية الأخلاقية، ويقال إنها في صالح المذهب الجبري. (11) حجج الفيلسوف الجبري تتلخص في أربع نقاط: (أ) السببية تسود الطبيعة وتتحكم فيها. (ب) الأحداث الذهنية لا تتدخل في السلسلة السببية. (ج) السلوك البشري مطرد. (د) حجة مستمدة من المسئولية الخلقية. (12، 13) مناقشة «أ» لمبدأ السببية. (14) مبدأ السببية ليس إلا مسلمة. (15) العلماء يرغبون في التخلص منه. (16) التتابع المنظم الذي نلاحظه تجريبيا يحل محل السببية. (17) تقديم مثل للإرادة لكي نرى ما إذا كان يمكن أن تنطبق عليه فكرة التتابع أو فكرة «العلاقات ذاتها». (18) التتابع ليس واضحا ولا مفهوما في حالة الإرادة. (19) لا بد لنا من التعرف على الترابط الغائي - تقسيم «كانط» للسببية إلى سببية ظاهرة وسببية نيومائية. (20) مناقشة لإمكان تطبيق المعادلات الدالية على الموجودات البشرية. مثل هذه المعادلات لا تعمل إلا إذا أمكن رد جميع الحوادث في حياة الإنسان إلى كميات أو إذا ارتبطت هذه الحوادث بكميات. (21) أربعة أنواع من المقدار؛ المقدار التعدادي والمقدار الامتدادي يدرسان كميات، أما المقدار الاختلافي، والمقدار الكثافي، فيدرسان الكيفيات. الكيفيات التي يمكن قياسها في المقدار الاختلافي يمكن أن ترتبط بكميات، لكن المقادير الكثافية لا يمكن أن ترتبط ارتباطا ذا معنى بالأعداد أو الأرقام. وبالتالي فهي لا يمكن أن تكون مكونات لمعادلة. (22) مناقشة المشكلة من حيث ارتباطها بالإحساسات. (23) مناقشة المشكلة من حيث ارتباطها بالوجدانات. (24) مناقشة المشكلة من حيث ارتباطها بالانتباه النشط. (25) النتيجة هي أن المعادلة الدالية كالمعادلة الآتية:

م ل = د «م

1 ، ل

1 ، م

2 ... م، ل ن، ل» لا يمكن أن تنطبق على الموجودات البشرية. (26) مناقشة «ب» القول بأن الحوادث الذهنية لا تتدخل في السلسلة السببية. (27) مناقشة «ج» القول بأن السلوك البشري مطرد. الفعل الإرادي فعل فريد في نوعه

unique . (28) الشخصية لا يمكن أبدا تحديدها تحديدا مطلقا. وتحديدها النسبي هو - على أية حال - من صنع الفاعل. (29) مناقشة «د» القول بأن الحرية - لا الجبرية - هي التي تتناقض مع المسئولية الخلقية. (30) الأخلاق ليست علاقة اجتماعية فحسب - الفرد الحي بمعزل عن المجتمع مسئول أمام نفسه. (31) الواجب يعمل من أجل ذاته. (32) رأي الفيلسوف الجبري في كلمتي «ينبغي» و«يستطيع». (1) وصلنا الآن إلى الزعم الثاني للفيلسوف الجبري، وهو القول بسيادة مبدأ السببية في الطبيعة. والواقع أن المذهب الجبري يأخذ القول بأن الشيء لا يمكن أن يبدأ في الوجود إلا لسبب أحدثه - على أنه بديهية مسلم بها. ولقد أخذ لابلاس

Laplace

بمثل هذا الموقف وانتهى إلى القول: «بأننا ينبغي علينا أن ننظر إلى حالة الكون الحاضرة على أنها نتيجة لحالة متقدمة سبقتها، وعلى أنها سبب لحالة قادمة ستتلوها. ولو أنه أتيح لعقل ما في لحظة من اللحظات أن يتعرف على سائر القوى المنتشرة في الطبيعة، وموقف كل موجود من الموجودات التي تتركب منها، وإذا كان هذا الفعل فضلا عن ذلك من السعة، بحيث يستطيع أن يخضع هذه الوقائع للتحليل، فإنه لا بد أن يكون قادرا على التعبير في صيغة واحدة عن حركات أضخم الأجسام في الكون، وأضأل ذرة فيه. وعندئذ لن يكون ثمة شيء مجهول لديه، بل سيكون المستقبل - كالماضي سواء بسواء - حاضرا أمام عينيه.»

1

يقول «جيفونز

Jevons » مدعما هذه الوجهة من النظر: «إننا يمكن أن نقبل بأمان تام - كافتراض علمي مقنع - النظرية التي قدمها لابلاس ببراعة، والتي تقول إن المعرفة الكاملة للكون - كما هو موجود في أية لحظة معينة - لا بد أن تعطينا معرفة كاملة عما سوف يحدث من الآن فصاعدا، وإلى الأبد. إن الاستدلال العلمي يعد مستحيلا ما لم ننظر إلى الحاضر على أنه حصيلة الماضي، وسبب لما سيأتي. فليس ثمة شيء مجهول لدى العقل الكامل.»

2

ودعاة هذه النظرية قد يعتدلون في بعض الأحيان فيقنعون بأن يقصروا مجال نظريتهم على العالم المادي فحسب، لكنهم في أحيان أخرى يبلغ بهم الحماس حدا لا يجعلهم يقنعون بحصر أنفسهم في جانب واحد من جوانب الكون، يقول «هكسلي»: «إن من له أدنى دراية بتاريخ العلم سوف يسلم بأن تقدم العلم في جميع العصور، كان يعني - وهو الآن يعني أكثر من أي وقت مضى - توسيع نطاق ما نسميه بالمادة والسببية

Causation

وما صاحبهما من استبعاد تدريجي لما نسميه بالروح والتلقائية من جميع مجالات الفكر البشري ... وكما أن من المؤكد أن كل مستقبل يخرج من جوف الحاضر والماضي، فكذلك سوف يمد الفسيولوجيا في المستقبل نطاق المادة والقانون تدريجيا حتى يصبح متساويا في الامتداد مع المعرفة والوجدان والفعل.»

3

ويقول المؤلف نفسه أيضا: «إننا ... لسنا سوى حلقات في سلسلة عظيمة من الأسباب والنتائج تؤلف - في اتصال لا ينقطع - ما هو كائن ، وما قد كان، وما سيكون - أعني جملة الوجود ومجموعه.»

4

وليس معنى ذلك أن الجبريين لا ينكرون بالضرورة وجود الذهن ولا يعترفون بشيء خلاف المادة، فهم في حقيقة الأمر قد يقرون وجود الذهن وجودا حقيقيا، لكنهم في هذه الحالة يصرون على القول بأن الحالات النفسية لا بد أن تكون دائما، وبصفة شاملة محتومة وفق الحالات العصبية، لا بل محتومة بتلك الحالات العصبية، والعكس هنا غير صحيح؛ إذ تستحيل في أية حالة من الحالات أن تكون الحالة النفسية هي الحاتمة، والحالة العصبية هي المحتومة لها. «قد يفترض ... أن التغيرات الدقيقة جدا في المخ هي سبب جميع حالات الشعور عند الحيوان، فهل هناك أدنى دليل على أن حالات الشعور هذه يمكن على العكس أن تسبب التغيرات الدقيقة جدا التي تؤدي إلى الحركة العضلية؟ إنني لا أرى مثل هذا الدليل، ومن المؤكد تماما أن الحجة التي تنطبق - على قدر حكمي - على الحيوان، يصبح انطباقها كذلك على الناس. ومن ثم فإن جميع حالات الشعور عندنا - كما هي عند الحيوان - قد سببتها مباشرة التغيرات الدقيقة جدا في المخ ... ويبدو لي أنه لا يوجد برهان عند الإنسان - ولا عند الحيوان - على أن الحيوان - على أن أية حالة من حالات الشعور هي سبب التغير في حركة مادة الكائن الحي.»

5

وبالتالي فإن أية حالة معينة في المخ - تبعا لافتراض «مذهب الظاهرة المصاحبة» هذا - يقابلها باستمرار كمصاحب لها، حالة معينة من حالات الذهن. ويمكن أن نلخص النقاط الأساسية في هذه النظرية في ثلاثة: هناك أولا سلسلة من التغيرات الفيزيائية أو عمليات المخ. ثم هناك ثانيا سلسلة مصاحبة لها من التغيرات أو العمليات النفسية، تحدث معها في آن واحد، وهنالك بعد ذلك العلاقة بين السلسلتين، وهي علاقة يزعم لها أنها علاقة المصاحبة في الحدوث، مع انفراد كل من الفعلين بخط مستقل في مساره «علينا أن نتأمل موسيقارا غير مرئي، يعزف قطعة موسيقية من وراء الستار «أو خلف الكواليس»، بينما الممثل يلمس أصابع البيانو دون أن يحدث صوتا : إننا ينبغي علينا أن نفترض أن الشعور إنما يأتي من منطقة مجهولة، وإنه يفرض على تذبذبات الجزئيات تماما كما يفرض اللحن على حركات الممثل الإيقاعية.»

6

وعلى ذلك فلو صح وكانت كل حالة معينة من حالات المخ يقابلها حالة معينة من حالات الذهن، فإنه من الصحيح أيضا أن كل حالة معينة من حالات مخ معين يقابلها حالة معينة للكون المادي كله. ومن هنا فإن العوامل المتحكمة بالمثل في المخ، بوصفه جزءا من الكون يتبع ذلك أن تتحكم فيما يسمى بالحالات الذهنية التي هي مصاحبات ضرورية لحالات المخ. «إنه لمن الصحيح - كما لاحظ مستر رسل

Russell - أن التقابل بين الذهن والمخ قد لا يكون علاقة واحد بواحد، لكنه قد يكون علاقة كثير بواحد، أو واحد بكثير، إلا أن الكون لا بد أن يظل في هذه الحالة حتميا «رغم أن محتماته قد تكون أكثر تعقيدا من ذلك» بشرط أن يكون نطاق التقابل في الجانب المتعدد حتميا.»

7

وأنا هنا معني أساسا بالسلوك البشري بصفة عامة، والإرادة البشرية على وجه الخصوص، وقد لا يستثنى السلوك البشري - في بعض الأحيان - من التحديد السببي. يقول هكسلي: «إنني أعتقد أنه يمكن البرهنة على استحالة إثبات التلقائية الحقيقية لأي فعل، ذلك لأن الفعل التلقائي في الحقيقة هو فعل - حسب الافتراض نفسه - ليس له سبب. ومحاولة البرهنة على مثل هذا الجانب السلبي في مواجهة المادة هي محاولة عابثة ممتنعة

Absurd »

8

ويؤكد لنا هكسلي أن أفعالنا الإرادية محددة تحديدا سببيا في أي شيء آخر، وإن «الإرادات» تصاحب ببساطة سلسلة الأسباب، لكنها لا تتدخل فيها على الإطلاق. (2) ويدعم الجبريون وجهة نظرهم بأدلة تجريبية لا بد أن نسلم أن بعضها لا يمكن رفضه بسهولة، وما يعطي لحججهم وزنا هو أنك تجد من بينهم مفكرين ممتازين وعلماء لامعين. والحتمية الصارمة هي دائما عندهم فوق كل مظنة للشك، خصوصا فيما يتعلق بالطبيعة، وهم غالبا ما يعقدون مماثلة بين السلوك البشري والطبيعة. (3) وإذا كان يبدو في بعض الأحيان أن هناك لونا من اللاحتمية بالنسبة لحوادث معينه تقع للأذهان البشرية، لا سيما في بعض قراراتها الإرادية، فليس ذلك في رأيهم إلا مظهرا من مظاهر جهلنا بالعوامل الدقيقة المتحكمة في هذه القرارات، لكنه لا يعني قط انعدام هذه العوامل، وهناك مبرر قوي للاعتقاد بأنه ليست كل الحوادث الذهنية يمكن أن تخضع للاستبطان أو التأمل الباطني، وبالتالي فلو كانت بعض هذه الحوادث الذهنية هي السبب - كليا أو جزئيا - لظاهرة ذهنية معينة، فإن هذه الحوادث لا بد أن تكون مجهولة لنا، كما أنه لا يمكن اكتشافها عن طريق الاستبطان.

وغالبا ما يقال إن بواعثنا هي التي تتحكم في اختياراتنا، وعلى ذلك فلو أنك عرفت البواعث الموجودة في اختيار أحد الناس و«القوة» النسبية لكل باعث من البواعث، فإن الفيلسوف الجبري يعتقد أن اختيار الإنسان يرد إلى مسألة رياضية بحتة، هي حل معادلة أو مجموعة من المعادلات، فهو لا يعني سوى نقص عارض، يرجع إلى الرحلة الراهنة التي وصلت إليها معرفتنا حتى الآن. (4) والأفعال الإرادية التي نراها عند غيرنا من الناس يمكن تفسيرها، فنحن نميل عادة إلى البحث عن هذا السبب أو ذاك لتفسير سلوك الآخرين. ونحن نعتقد في إمكان التنبؤ بنوع الفعل، فإذا فشلنا فإننا نعزو مثل هذا الفشل إلى التحليل الناقص، لا إلى القول بأن السلوك البشري لا علاقة له بالتحديد السببي. وحتى أفعالنا الإرادية التي نشعر لحظة إنجازها بأننا أحرار في تحديدها، تبدو لنا - إذا فحصناها فحصا تراجعيا - حلقات ضرورية في سلسلة منطقية من الحوادث. (5) لا يعتقد أحد على الإطلاق - في تفسير عملية التاريخ، أو في محاولة تنسيق فئة معينة من الظواهر الاجتماعية - أن الظواهر الاجتماعية عبارة عن «عماء مطلق» “Absolute Chaos”

إننا قد نفسر هذه الظواهر عن طريق نظرية خاطئة، فقد نعتقد - مثلا - أن الجنس البشري محكوم - آليا - بالظروف الاقتصادية، أو محكوم - غائيا - ببلوغ مثل أعلى. وقد نكتشف غلطة في النظرية التي نأخذ بها، لكننا نعلم علم اليقين في هذه الحالة أن علينا أن نبحث عن نظرية أخرى لكي نفسر بها الوقائع، وبهذا ترانا نستبعد تماما احتمال أن تكون مثل هذه الظواهر غير قابلة للتفسير ، أو أنها لا تخضع لنسق منتظم. (6) ونحن نفترض اطراد السلوك البشري في حياتنا اليومية: «وهكذا ترانا نعتمد على الآثار الرادعة للعقوبة، أو الأثر المقنع للإعلان ... إلخ ... من ناحية أخرى فنحن على قدر معرفتنا الحقيقية بأعدائنا نظن في أنفسنا القدرة على مواجهة سلوكهم في المواقف التي لم تظهر بعد.»

9

ويقول بيلي

Bailey

بحماس موجها حديثه إلى أولئك الذين يشكون في اطراد السلوك البشري: «إنه لمن الغريب حقا أن الصلة بين البواعث والأفعال لم يناقشها أحد قط من الناحية النظرية، في حين أن كل موجود بشري يعتمد في كل يوم من أيام وجوده - عمليا - على هذه الحقيقة. في حين أن الناس يجازفون على الدوام باللذة أو الثروة أو السمعة أو الصيت، أو حتى بحياتهم نفسها من أجل المبدأ الذي يرفضونه من الناحية النظرية ... وهو يعتمد على المبدأ الذي يرفضونه من الناحية النظرية ... إن الاقتصاد السياسي هو إلى حد كبير بحث في عمل البواعث، وهو يعتمد على المبدأ القائل بأن الإرادات البشرية تخضع لتأثير أسباب محددة دقيقة يمكن التحقق منها.»

10 (7) والواقع أن أساس البناء الاجتماعي نفسه يفترض مقدما على الأقل درجة من اطراد السلوك البشري، وإمكان محاسبة الناس عليه: منذ أن عاش الناس في مجتمع وهم يعتادون التنبؤ بسلوك بعضهم البعض، معتمدين في ذلك على الماضي. والطابع أو الخلق الذي يثبت لفرد من الناس، بحيث يشمل حياته الناضجة بأسرها، لا يمكن أن تقوم له قائمة، اللهم إلا على أساس مبدأ الاطراد. فنحن حين نتحدث عن أرسيتديز

Aristides

11

ونقول عنه إنه عادل، وعن سقراط ونقول عنه إنه بطل أخلاقي، وعن نيرون

Nero

12

ونقول عنه إنه كان وحشا كاسرا في قسوته، وعن قيصر نيقولا

Czar Nicolas ... ونقول عنه إنه كانت لديه شهوة للاستيلاء على مزيد من الأرض

grasping of territory

فإننا في هذه الحالة نعتقد أنه من المسلم به أن هناك بواعث معينة تعمل بشكل دائم وبانتظام، وتلك هي الحال نفسها حين نعزو صفات معينة إلى أجسام مادية، فنقول: إن الخبز مادة غذائية، وإن الدخان يصعد إلى أعلى

13 ... ونحن في ميدان النقد الأدبي لا نفترض مطلقا أن الكاتب حر تماما في تحريك شخصياته كيفما يشاء، لكنه مضطر أن يجعل شخصياته تسلك في المواقف المختلفة بتلك الطريقة التي تلائم نماذج متعددة بحيث تكون لها طبيعة حقيقية. ولأننا نسلم بأن الناس في حياتهم العملية يظهرون في سلوكهم درجة معينة من الانتظام. ولو أن كاتبا سمح لشخصية من شخصياته أن تتحرك بحرية لا اكتراث فيها، لاعتبرنا ذلك في الحال علامة على النقص؛ لأن الشخصية التي لا شكل لها ليست شخصية على الإطلاق. (8) صحيح أنني حين أقرر السير في خط معين من السلوك، أشعر أن في استطاعتي أن أعمل بطريقة مخالفة لو حلا لي ذلك.

لكن هذه الجملة الشرطية المبدوءة بكلمة «لو» هي التي تغير الموقف تغييرا كاملا، فهل «يحلو» لي ما يحلو، وفق مشيئتي وحدها، أم أنني مجبر على أن تحلو لي الأشياء على نحو محدد من السلوك؟ «ليس ... واقعة أصيلة من وقائع الخبرة أنني أشعر أن في استطاعتي خرق جميع العادات التي سرت عليها في حياتي، وأن أرتكب جميع ألوان الجرائم، وأن في استطاعتي أن أكره وأهمل تماما الاهتمامات التي ينبغي علي أن أكرس نفسي لها. أستطيع أن أفعل ذلك كله لو شئت

If I please ، لكن قبل استطاعتي أن أشأ

please ، فإنني ينبغي علي أن أصبح إنسانا آخر؛ إذ من الخلف الواضح أن أقول - وأنا على نحو ما أنا عليه الآن - إن في استطاعتي أن أعبر في سلوكي عن الأغراض التي تكون فرديتي أو أن أعبر عن أضدادها على حد سواء.»

14

والواقع «أننا حين نتأمل أنفسنا مفترضين أننا قد سلكنا على نحو آخر غير السلوك الذي سرنا عليه، فإننا نفترض دائما اختلاف المقدمات. فنتصور مثلا أننا عرفنا شيئا لم نكن نعرفه، أو أننا لا نعرف شيئا كنا نعرفه.»

15 (9) إننا لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا. بل على العكس، إنه يسرنا لأننا نرغب فيه، والرغبات تتحكم فيها عوامل معينة، والناس يعتقدون عادة أن أفعالهم الإرادية حرة لأنهم يشعرون برغباتهم، لكنهم لا يشعرون بجميع العوامل التي تتحكم في هذه الرغبات : «تخيل - إن استطعت - أن حجرا في حركته المتصلة كان يعي - في حدود قدرته - بمحاولته البقاء في حالة الحركة. إن هذا الحجر طالما أنه يشعر بحركته الخاصة، ويهتم بها اهتماما عميقا سوف يعتقد أنه حر حرية كاملة، وسوف يواصل حركته لا لشيء إلا لأنه يريد ذلك. وتلك هي الحال نفسها مع حرية الإرادة البشرية التي يباهي كل فرد بامتلاكها، والتي لا تتألف إلا مما يأتي: إن الناس يشعرون برغباتهم ويجهلون الأسباب التي تتحكم في هذه الرغبات.»

16 (10) وهناك جانب نقد آخر مستمد من الأخلاق، كثيرا ما يوجه إلى المذهب الجبري وهو: أن إنكاره حرية الإرادة يجعل المسئولية الأخلاقية بلا معنى، ويحرم فكرة الثواب والعقاب من كل مبرر منطقي. فإذا لم يكن لي حيلة فيما فعلت فسوف يتنافى مع العقل أن أكون مسئولا عنه، ومن ثم فلن يكون هناك مجال للوم أو ثناء.

إنني أدعوك يا من نكرا

بشباك الغي منهاج الورى

عتبا، تغري بنا ما قدرا

من شرور بقضاء حتما

ثم تعزو الإثم جورا للأنام

17

لكن «لو ذهب دعاة الحرية إلى القول بأن مشاعرنا وأحكامنا الخلقية تتضمن تصور الفاعل «الحر» طالما أنه من غير المعقول أن نستهجن الأذى الإرادي بعد ذلك أكثر مما نستهجن الأذى اللاإرادي لو كان الاثنان معا على حد سواء آثارا ناتجة عن قوى الطبيعة المعقدة، فإن الفيلسوف الجبري يرد بقوله: إن المعقولية تعتمد على نتيجة الاستهجان التي تميل - كما هو واضح - إلى منع لون معين من الفعل دون غيره، وهو يرد الحجة قائلا: كلا، إن السخط لا يكون معقولا إلا على افتراض أن أفعال الإنسان تحكمها البواعث التي من بينها الخوف من سخط الآخرين.»

18

إن فكرة الثواب والعقاب الأخلاقي لا يكون لها مبرر أخلاقي إلا إذا ساهمت في تعديل خلق الفرد بتلك الطريقة التي تجعله يستجيب بطريقة مناسبة للظروف المقبلة، لكن إذا كان خلق الفرد لا يمكن تعديله بهذا الشكل، لو أنه كان كما يفترض دعاة الحرية لا يمكن مطلقا حسابه أو التنبؤ به أو بعبارة أخرى: «لو كانت أفعال الإنسان الإرادية لا تحكمها أساسا الظروف التي يشملها نظام تكوينه الذهني، فإن أساس عقابه لن يكون في هذه الحالة إلا انفعال استياء أو انتقام. لأنه لو كانت مسائل الصراع الأخلاقي تتحكم فيها - لا ظروف طبيعتنا الخاصة - بل بعض البدايات الجديدة ... فإنه من الواضح - في هذه الحالة - أننا لا نستحق لا لوما ولا ثناء، ولا عقابا ولا ثوابا، ومن العبث أن نحاول تعديل منشأة هذه الصراعات بأن نعدل من طبيعتنا عن طريق هذه المؤثرات.»

19

والحجة المستمدة من المسئولية الخلقية تبدو من ثم حجة في صف الفيلسوف الجبري. (11) حاولت في الصفحات السابقة أن أسوق ما اعتقدت أنه شرح سليم لوجهة نظر الفيلسوف الجبري فيما يتعلق بالحجة التي تعتمد على سيادة السببية.

وهذه الحجة يمكن تلخيصها في أربع نقاط أساسية: (أ)

ينظر إلى مبدأ السببية على أنه القاعدة العامة السائدة في الطبقة، وهو أحيانا يشمل السلوك البشري. (ب)

الحوادث الذهنية كالإرادة - مثلا - لا تتدخل في السلسلة الآلية، فهي ليست إلا ملازمات تصاحب الحوادث المادية. (ج)

السلوك البشري مطرد، وهذه واقعة يمكن ملاحظتها. (د)

ينظر إلى الحجة المستمدة من المسئولية الخلقية على أنها حجة في صالح المذهب الجبري.

فلنناقش الآن هذه النقاط الأربع في شيء من التفصيل: (12) (أ) يمكن تعريف مبدأ السببية بأنه الافتراض السابق القائل بأن هناك تطابقا للقانون في جميع الظواهر الطبيعية بحيث يعني «القانون» أي تعميم «دقيق أو ترجيحي».

20

ومن الواضح أن مثل هذا التعميم هو نتيجة لشهادة التجربة. ومن هنا فإن الانتظام والاطراد في الطبيعة ليس رابطة ضرورية: «ليس ثمة ضرورة منطقية في قانون الطبيعة، فهو بذاته ليس يقينا من الناحية الحدسية، كلا، ولا هو يمكن استنباطه من مقدمات منطقية يمكن هي نفسها أن تكون يقينية حدسا؛ فالشك في هذا القانون أو إنكاره لا يستلزم الوقوع في التناقض.»

21

والواقع أن مبدأ السببية ليس إلا مسلمة، وهو مسلمة مقيدة وضرورية لتقدم العلم، لكنك لا تستطيع أن تصفه وصفا مشروعا أكثر من ذلك. فنحن نعبر عن معرفتنا بعالم الواقع في قضايا عامة هي التي نسميها بالقوانين العلية، وهي لا يمكن أن تكون ممكنة إلا على افتراض أن الحوادث تقع في اطراد دقيق. لكن علينا أن نضع في أذهاننا أن مبدأ السببية - وإن كان قد برهن على أنه مفيد من الناحية المنهجية - فإنه لا يبرهن على أنه صحيح من الناحية الانطولوجية. كلا، ولا ينبغي أن نزعم أنه كلما زاد تطبيقنا لمبدأ السببية في النظريات التي تقال حول الكون، اقتربت هذه النظريات من الحقيقة. ونحن نذكر ذلك هنا لكي نلفت النظر إلى واقعة أن أولئك الذين يأخذون بالنظرية الآلية، يعتمدون في الغالب على إمكان التطبيق الدقيق لمبدأ السببية على العالم المادي.

إن السببية هي اسم يطلق على الاطراد الذي نلاحظه في تسلسل الأحداث وتتابعها، ولو أننا فهمنا من هذا اللفظ شيئا أعمق من ذلك، فإننا في هذه الحالة نستخدمه ليعبر عن مثلنا الأعلى أكثر مما نستخدمه كتسجيل للواقع. إنه سوف يكون «اسما فارغا يخفي فحسب مطلبا لنا هو أن تسلسل الحوادث وتتابعها سوف يظهر يوما ما نوعا أعمق من الارتباط بين شيء وشيء آخر أكثر من مجرد التجاور الاعتباطي الذي تبدو عليه الظواهر الآن.»

22 (13) والواقع أن لفظ السببية أسيء استخدامه بكثرة، حتى إن العلماء قد قاموا أخيرا بمحاولة جادة لحذفه تماما من مصطلحاتهم. يقول أحد هؤلاء العلماء: «إني لآمل أن يستغني العلم في المستقبل عن فكرة السبب والنتيجة؛ لأنها فكرة غامضة.»

23

يقول رسل في نفس المعنى: «أود ... أن أؤكد أن كلمة «السبب» قد ارتبطت بشكل معقد بارتباطات سيئة الفهم مما جعل حذفها التام من مصطلحات الفلسفة أمرا مرغوبا فيه.»

24

ويقول الكاتب نفسه: «إن ما جعل علم الطبيعة يقلع عن البحث وراء الأسباب هو أنه لا وجود لمثل هذه الأمور في الواقع.»

25 (14) لكن ما القانون أو القوانين، التي يمكن أن توجد لتحل محل قانون السببية المزعوم؟ طرح «برتراند رسل» هذا السؤال وحاول أن يجيب عليه.

26

ويمكن أن نلخص إجابته على النحو التالي:

إننا قد نسلم بأنه من المرجح استقرائيا - إذا ما لاحظنا تتابعا في عدد كبير جدا من الحالات دون أن نفشل مرة واحدة في ملاحظة هذا التتابع - أن يتكرر هذا التتابع نفسه في حالات مقبلة. وقد نقول عندئذ - في مثل هذا التتابع الذي نلاحظه بكثرة - إن الحادثة السابقة هي السبب، وإن الحادثة التالية هي النتيجة. ومهما يكن من شيء فإن هناك اعتبارات متعددة تجعل هذا التتابع الخاص مختلفا أتم الاختلاف عن العلاقة التقليدية بين السبب والنتيجة: (1) فالتتابع في الحالات التي لم نلاحظها حتى الآن ليس أكثر من ترجيح، بينما ترانا نفترض أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة ضرورية. (2) لن يزعم أحد أن كل مقدم يسبق الحادثة هو سببها بهذا المعنى. لكننا سوف نؤمن فحسب بالتتابع السببي حيثما وجدناه، دون أن نفترض أنهما معا «أي الحادثتين المتتابعتين» توجدان باستمرار على هذا النحو. (3) أي حالة من حالات التتابع الذي يتكرر بشكل كاف سوف تكون حالة سببية بالمعنى الذي ذكرناه، أعني أننا لن نرفض القول بأن الليل هو سبب النهار. (4) مثل هذه القوانين الخاصة بالتتابع المرجح رغم أنها مفيدة في الحياة اليومية وفي طفرة العلم، تتجه إلى أن يحل محلها قوانين مختلفة أتم الاختلاف بمجرد ما يصبح العلم ناجحا. فقانون الجاذبية سوف يوضح ما يحدث في أي علم متقدم ففي حركات الأجسام التي يجذب بعضها بعضا لا يوجد شيء اسمه سبب ولا شيء اسمه نتيجة، لكن هناك مجرد صيغة فحسب.

ليس ثمة تساؤل حول تكرار القول بأن «نفس» السبب يحدث نفس «النتيجة»؛ فالقوانين العلمية لا تعتمد في دوامها على أي تشابه للأسباب والنتائج لكنها تعتمد على تشابه العلاقات، وحتى عبارة «تشابه العلاقات» عبارة مبسطة للغاية، والقول ب «تشابه المعادلات التفاضلية» هي وحدها العبارة الصحيحة. (15) والآن إذا ما كانت هناك مجموعة من الحوادث لا نلاحظ فيها نفس التتابع يتكرر، أو لا يمكن أن تصالح حولها معادلات تفاضلية، فإننا في هذه الحالة لا يكون لنا الحق في إدراج مثل هذه المجموعة تحت قانون السببية بالمعنى الذي شرحناه آنفا.

ولننظر الآن في الإرادة كما عرفناها في فصل سابق: الإرادة هي فعل من أفعال الانتباه إلى فكرة تغيير الوجود حتى تتحقق هذه الفكرة نفسها، بهذه الطريقة يعبر الفاعل عن ذات نفسه، فافرض مثلا أنني أردت أن تكون الاشتراكية نظاما للحكم في بلادي،

27

إنني في هذه الحالة أحتفظ في الانتباه بفكرة تغيير الأوضاع القائمة، بحيث تبدأ الفكرة في تطوير نفسها من الغاية إلى الوسيلة حتى أصل إلى أقرب وسيلة آخذ بها هنا والآن. ولتكن هذه الوسيلة القريبة هي - مثلا - كتابة وطبع نشرات وكتيبات صغيرة تحوي مبادئ الاشتراكية وأسسها وفوائد تطبيقها ... إلخ، ثم تتلو هذه الخطوة خطوة ثانية وثالثة ... إلخ. وهكذا أظل أسير في خطوات مرسومة إن أردت لفعلي الإرادي أن يتحقق حتى يتولى أحد الاشتراكيين السلطة ... وهذه السلسلة من الأحداث تشكل فعلا إراديا واحدا، والحلقة الأولى فيها هي الانتباه إلى فكرة تغيير الوضع القائم: فهل نستطيع أن نجد في هذه السلسلة «أ» تتابعا يمكن ملاحظته «ب» أو نفس العلاقات التي يمكن أن نعبر عنها في شكل معادلة؟ (16) وخذ الآن فعل الانتباه الذي اعتبره الخطوة الأساسية في العملية بأسرها، فما الذي يعنيه التتابع هنا؟ هل يعني أنه قد حدث لي مرات عديدة طوال حياتي أن فعلت فعلا معينا كتناول طعام معين، أو قراءة كتاب معين، أو حركت جسمي بطريقة معينة، وأنه في كل حالة من هذه الحالات كان هذا الفعل يعقبه الانتباه إلى فكرة إدخال النظام الاشتراكي في بلادي؟ هل يعني أن شيئا معينا حدث في العالم الخارجي و«جذب» انتباهي إلى الفكرة، وأنه قد لوحظ دائما أن مثل هذا الحدث يعقبه باستمرار الانتباه إلى فكرة تغيير الأوضاع الاجتماعية في بلادي بهذه الطريقة المحددة؟ أم إن هناك شيئا في تركيب جسمي - كعملية الهضم مثلا أو دقات القلب - ظهر من الخبرات الماضية أنه يعقبها باستمرار انتباهي إلى هذه الفكرة؟ لا بد لي من الاعتراف أنني لا أستطيع على الإطلاق أن أرى نوعا من أنواع التعاقب السببي بين حدث معين - عقلي أو فيزيقي - كمقدم، وبين انتباهي إلى فكرة التغيير الإرادي كنتيجة لهذا المقدم.

ومع ذلك كله دعنا نسلم بهذا الفرض المحال، وهو أنه قد حدث لي مرات عديدة طوال حياتي أن انتهيت إلى فكرة جعل بلادي دولة اشتراكية، وأن الفكرة قد تحققت في كل مرة ... دعنا نفترض هذا الفرض المحال، فهل نستطيع أن نسلم بالإضافة إلى ذلك أن المقدم - وهو الأوضاع القائمة التي لا بد أن تكون في جانب منها على الأقل ذهنية - كانت دائما واحدة؟ وإذا كان يمكن أن يقال عن العالم المادي أن مبدأ «نفس السبب يؤدي إلى نفس النتيجة» لا لزوم له على الإطلاق، لأنه ما إن تعطى المقدمات التي تمكن النتيجة من أن تحسب، حتى تصبح هذه المقدمات معقدة أو متشابكة، بحيث لا يكون من المحتمل أن تتكرر.

28

أقول إذا كان يمكن أن يقال ذلك عن العالم المادي الخالص، أليس من الأجدى أن يقال عن تلك الحالة التي يكون فيها الفاعل السيكوفيزيقي النشط جزءا من المقدم، وتكون فيها النتيجة حالة سيكولوجية معينة؟ ليس هناك شيء أفضل لتوضيح هذه النقطة من أن نقتبس النص الآتي من «برجسون»: «إن القول بأن نفس الأسباب الداخلية سوف تحدث نفس النتائج، يعني أنك تفترض أن نفس السبب يمكن أن يتكرر حدوثه على مسرح الشعور، وإذا كانت الديمومة هي على نحو ما ذكرنا، فإن الحالات النفسية العميقة الجذور ليس بينها وبين بعضها الآخر إلا تنافر جذري، ومن المستحيل أن يتشابه اثنان منهما تشابها تاما طالما أنهما لحظتان مختلفتان من لحظات تاريخ حياتي. وفي حين أن الموضوع الخارجي لا يحمل طابع الزمان المنصرم، وهذا هو ما يتيح للرجل الفيزيقي، رغم اختلاف الزمان، أن يجد نفسه إزاء حالات أولية تتشابه ذاتها، فإننا نجد الديمومة شيئا واقعيا بالنسبة للشعور الذي يحتفظ بأثرها، ولا يحق لنا من ثم أن نتحدث هنا عن حالات تتشابه، ذاتيا؛ لأن اللحظة الواحدة لا يتكرر حدوثها مرتين.»

29

وإذا ما اتفقنا على تعريف مبدأ السببية بأنه تلخيص لحالات التتابع المطردة وغير المشروطة التي لاحظناها في الماضي، فبأي حق إذن نطبقه على الحالات الذهنية، أعني على الإرادة مثلا التي لم يكتشف فيها بعد تتابع منظم؟ كيف يقيم الفيلسوف الجبري حجته على هذا المبدأ ليبرهن على حتمية بعض الحالات السيكولوجية، حين تكون - في رأيه - حتمية الوقائع التي لاحظناها هي المصدر الوحيد لهذا المبدأ نفسه؟ (17) إننا يقينا لدينا دافع لا يقاوم للبحث عن «السبب» في كل مكان، إن شئنا استخدام تعبير برادلي.

30

غير أن لونا معينا من «السبب» هو الذي يثير جميع المتاعب: «إننا قد نقول إن هناك لونا واحدا من «السبب»، واحدا فحسب، وعندئذ يوضع الإنسان والطبيعة على صعيد واحد. سواء أخذت فكرتك عن «السبب» من المذهب الآلي، أو بدأت من الإرادة، ووضعت الإنسان والطبيعة على صعيد واحد، فليس ثمة فارق عملي بين الاثنين، طالما أنك لا تميز بين الحالتين ... إننا قد نسلم بوجود «السبب»، لكنا قد نقول إن هناك أكثر من نوع واحد من «السبب» فهناك «سبب» آلي، لكنه لا يكفي لتفسير أدنى أنواع الحياة، دع عنك تفسير الذهن».

31

يقول تيلور

Taylor : «من المؤكد أنه ليس صحيحا أن التحديد السببي عن طريق المقدمات هو الصورة الوحيدة للرابطة العقلية. إذ يبدو واضحا أن هناك نمطا آخر من العلاقة ... وأعني به الترابط الغائي.»

32

ويؤدي بنا ذلك إلى تقسيم «كانط» للسببية: إلى سببية ظاهرية، وسببية نيومائية

noumenal . والسببية الظاهرية هي التي تختص بالتتابع المنظم للحوادث وتنطق على عالم الطبيعة. أما السببية النيومائية - وهي تتميز تماما عن هذه السببية التجريبية - فيسميها كانط بسببية الحرية أو العقل

intelligence ، والسببية النيومائية هي التي تنتمي إلى الإنسان. والسلوك الذي يقوم على أساس من العقل يقدم مثلا كافيا لمثل هذه السببية، لأن العقل كما يقول كانط: «لا يستسلم للدافع المعطى تجريبيا، ولا يتبع نظام الأشياء كما تبدو بوصفها ظواهر، لكنه يشكل لنفسه بتلقائية تامة، نظاما جديدا طبقا لأفكار يطوع لها الظروف التجريبية.»

33 «لو أنني - في هذه اللحظة - قمت من على الكرسي بحرية كاملة، وبغير أثر ضروري محدد للأسباب الطبيعية، فإن معنى ذلك أن سلسلة جديدة قد وجدت بدايتها المطلقة في هذا الحدث .»

34

وعلى ذلك فالخاصية الجوهرية للسببية الظاهرية «أو سببية الظواهر» هي النظام الزمني الموضوعي طبقا لقانون عام. لكن الخاصية الأساسية للسببية النيومائية «أو السببية الخاصة بالأفعال البشرية» هي المبادرة الذاتية «طالما أنها «أي السببية النيومائية» تدخل بحرية تلك «الحلقات في سلسلة الطبيعة» فإنها لا يمكن أن تكون ... جزءا من النظام الزمني ... إن أفعال (مثل هذه الأسباب النيومائية) ليست «حوادث» تبدو ناتجة من الأحداث التي سبقتها في العملية الزمنية

Time-process : إنها بالأحرى «متوسطات»

interventions ، تظهر في عملية السير هذه وتكون تطورها التالي. ومن هنا فإن كلمة «ينبغي» يكون لها معنى بالإشارة إليها - وإليها وحدها. لأننا كما يقول كانط بحق: «لو نظرنا إلى مجرى الطبيعة وحده، لوجدنا أن كلمة «ينبغي» ليس لا معنى أيا كان ... فهي تعبر عن فعل ممكن، لا يمكن أن يكون أساسه شيئا آخر غير تصور فحسب». أي إنها لا يمكن أن تكون ظاهرة، وهذا التصور ... هو تصور غائي لما هو قيم

worth

ولما هو خير، وبذلك فإن عالم الغايات الذي تحصل فيه، لا يزال يتميز عن عالم الطبيعة الذي تكون فيه بغير معنى. ففي أحد هذين العالمين تظهر الحوادث متحدة مع الحوادث التي سبقتها، وفي العالم الآخر تبدأ الأفعال في تحقيق غايات مقبلة ...»

35

والغاية التي علينا أن نصل إليها هي أساس المشاركة الفكرة في فعل الإرادة. لكن هذه الغاية هي جزء من الفكرة نفسها. ولا بد لي من أن أركز على هذه الحقيقة حتى لا تفهم الغاية كأمر مفروض على الفاعل، وإلا فسوف تكون الغائية الخارجية

Teleology

نفسها، في هذه الحالة صورة جديدة من صور الحتميات وكل الفرق هو أن الفاعل بدلا من أن يدفع «من الخلف فإنه سوف «يشد» من الأمام. لكن الفاعل - في الحالتين - ليس هو الذي يبدأ الفعل.» إن التطبيق الدقيق لمبدأ الغائية

finality - مثله مثل مبدأ السببية الآلية - يؤدي في النهاية إلى القول بأن: «كل شيء معطى.»

36

ولست أعني بالسبب الغائي

Final cause

العنصر الغائي الخارجي

Teleological element ، الذي نفترض أنه جزء مكون لفكرة التغير التي تحقق نفسها في حالة الإرادة؛ إذ ليس ثمة شيء وراء الفكرة التي تطور نفسها وتظهر، فلو أنني أنجزت الفعل «س» من أجل الغاية «ص» فإن «س» و«ص» نفسهما قد كانا عنصرين مثاليين في الفكرة. وليس صحيحا أن «ص» هي سبب «س»، والتتابع الزمني في هذه العلية ليس هو «ص - س». أما من حيث الواقع، فإن التتابع هو فكرة «ص» ثم فكرة «س» بوصفها وسائل ممكنة، ثم إنجاز الفعل «س» وبلوغ الغاية «ص» ... ففكرة «ص» تأتي أولا، لكن «ص» نفسها تأتى فيما بعد، أي تتحقق أخيرا. وفكرة «ص» ليست بالطبع هي نفسها «ص». ولا يمكن في عملية السير هذه أن تكون «ص» نفسها سببا ل «س»، والواقع أنها ليست سببا قط لأي شيء في مثل هذه العملية. (18) (ب) رأينا أنه لا يمكن تطبيق السببية على الأفعال الإرادية إذا ما كنا نعني بهذه السببية تتابعا مرجحا للحوادث يقوم على أساس الملاحظة. وسوف نرى الآن ما إذا كان يمكن تطبيق السببية على هذه الأفعال، لو كنا نعني بها ما يعنيه العلم الأكثر تطورا، أعني: علاقات دالية بين الحوادث. «المذهب الجبري فيما يتعلق بحرية الإرادة - هو النظرية التي تقول إن الإرادة تنتمي إلى لون من النسق الحتمي ...»

37

و«يوصف النسق بأنه «حتمي» حين تكون معطياته معنية مثل: م

1 ، م

2 ، ... م ن في لحظات: ل

1 ، ل

2 ... ل ن - على التوالي، تتعلق بهذا النسق، إذا ما كانت م ل هي حالة النسق في أية لحظة ل، فهناك علاقة دالية على الصورة الآتية: م ل = ل (م أ، ل أ، م

2 ، ل

2 ... م ن، ل ن، ل).»

فإن النسق سوف يكون «حتميا» خلال فترة معينة «لو كانت ل في الصيغة السابقة يمكن أن تكون في أية لحظة داخل تلك الفترة، رغم أن وجودها خارج تلك الفترة يجعل الصيغة غير صحيحة.»

38

من الواضح - الآن - أنه لكي يمكن للعلاقة الموالية أن تتركب على الإطلاق في الصيغة السابقة فإن المعطيات: م1، م2 ... م ن لا بد بالضرورة أن تكون كميات، أو كيفيات يمكن أن يكون لكمياتها معنى ... لأن الكيفيات بما هي كذلك لا يمكن أن تدخل كمحددات

determinants

في الصيغة السابقة ومن الممكن - على أية حال - استخدام الكيفيات بطريقة غير مباشرة كعناصر مكونة في مثل هذه الصيغة أعني بأن نشير إليها بأرقام معينة كما هي الحال مثلا حين نفترض أن «اللون الأزرق» كان واحدا من المحددات في النسق الذي ندرسه؛ إذ نستطيع في مثل هذه الحالة أن نربط بين «اللون الأزرق» وطول موجة معينة، أو أن نرتب أطوال الموجات. ومثل هذا الكم يمكن أن يدخل في علاقة دالية بوصفه ممثلا للكيف وهو «اللون الأزرق» وحين نصل إلى مثل هذه النتيجة النهائية للعلاقة، نستطيع بالطبع أن نعيد تفسير الكم إلى كيفه المساوي ل.

دعنا الآن نفترض أن النسق الذي نبحثه هو الموجود البشري.

يقال إنه لو كانت م ل هي حالة ذلك الموجود البشري في أية لحظة فإن: م

1 ، م

2 ... م ن في لحظات: ل

1 ، ل

2 ... ل ن تعني على التوالي معطيات معينة من تاريخ حياة ذلك الشخص الذي نتحدث عنه؛ ومن ثم فهناك علاقة دالية بالصورة السابقة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل صحيح أن جميع الحوادث - الذهنية والفيزيائية - التي يتألف منها تاريخ حياة شخص ما يمكن ردها إلى كميات؟ لو وجدنا أن هناك كيفيات معينة لا يمكن ردها بهذا الشكل، أو يمكن أن نشير إليها إشارة ذات معنى عن طريق الكميات - فإن مثل هذا النسق لا بد أن ينظر إليه على أنه نسق لا حتمي. (19) وإذا ما سألنا نفس السؤال بطريقة أخرى قلنا: هل يمكن أن نطبق على المقدار الكثافي

intensive magnitude

نفس منهج القياس المستخدم في أنواع أخرى من المقادير؟ ذلك لأن هناك أربعة ألوان من المقادير هي: (1)

المقدار التعدادي

extensional mag

الذي يعالج الكميات التي يكون أعضاؤها بنودا منفصلة يمكن قياسها بالعد كما هي الحال في أعضاء فئة ما. (2)

المقدار الامتدادي

extensive mag

الذي يعالج كميات تقاس عادة بانطباق مقياس يؤخذ كوحدة قياس

a unit

كما هي الحال في قياس الخطوط بالمسطرة. (3)

المقدار الاختلافي

distensive mag

الذي يعالج درجة الاختلاف بين كيفيات يمكن التمييز بينها وهي مرتبة بتحديد واحد

same determinable

كما هي الحال - مثلا في الاختلاف بين اللونين: الأحمر والأصفر بمقارنتها مع الاختلاف بين اللونين: الأخضر والأزرق. (4)

وأخيرا المقدار الكثافي

intensive mag

الذي يعتبره كانط مساويا للوجود أو الواقع

reality

حتى إن الشيء كلما عظم دمجه عظم وجوده كما هي الحال مثلا في ارتفاع الصوت أو انخفاضه، أو في الإحساس حين يكون ضعيفا أو قويا.

وعلينا أن نلاحظ أن المقدار التعدادي والمقدار الامتدادي يعالجان كميات، في حين أن المقدار والكثافي يعالجان كيفيات، والكل التعدادي يقاس مباشرة بالأعداد، أعني عن طريق عد الأعضاء كما هي الحال مثلا حين نقول: إن الجيش الفلاني يتألف من كذا من الجنود، والكل الامتدادي يقاس بعدد وحدات القياس التي يشملها كما هي الحال مثلا حين نقول إن المسافة الفلانية طولها كذا من الياردات. والمقدار الاختلافي بنفس الطريقة يقدر بكميات ترتبط بالأعداد، فنحن نعني بأعداد معينة ألوانا معينة، وهكذا نصل إلى معرفة أن الفرق بين اللونين: الأحمر والأصفر أكبر أو أقل من الفرق بين اللونين؛ الأخضر والأزرق. ومن ثم ترانا نستخدم الأعداد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لنقدم قياسا دقيقا لهذه المقادير الثلاثة، والسؤال الآن هو: هل يمكن للمقدار الكثافي أن يقاس بمثل هذه الدقة؟ سوف أقسم الإجابة عن هذا السؤال إلى ثلاثة أقسام: أناقش في القسم الأول المشكلة من حيث علاقتها بالإحساسات، وأناقش في القسم الثاني المشكلة من حيث علاقتها بالوجدانات، وأناقش في القسم الثالث المشكلة من حيث علاقتها بالانتباه النشط، وهذه الأقسام الثلاثة تغطي - على وجه التقريب - ما يعرف تقليديا بجوانب الشعور الثلاثة: الإدراك، والوجدان، والنزوع. (20) (ب-أ) لا شك أنه من الصواب أن نقول إن الإحساس قابل للزيادة والنقصان، ففي استطاعتي - يقينا - أن أقول إنني أشعر بالدفء قليلا أو كثيرا. لكن ألا يمكن أن يكون ثمة إحساسان أو أكثر من نوع واحد يمكن قياسهما بدقة تامة، حتى إننا نستطيع أن نقول إن شدة أحدهما تعادل ضعف أو ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف؟ «لو كان للامتداد الكيفي مقدار فإن ذلك يعني افتراض أن الامتدادات من نوع واحد يمكن مقارنتها بعضها ببعض من حيث الكبر والصغر ... ويبدو أن علماء الرياضة الذين كتبوا في هذا الموضوع متفقون في الرأي على أن المقدارين، وإن كان يمكن مقارنتهما من حيث الكبر والصغر، فإنه لا يمكن قياسهما بلغة الأعداد أو الأرقام. لكن لو كان هناك امتدادان يطرد الواحد منهما الآخر فإنني لا أدري بأي معنى يمكن مقارنتهما من حيث الكبر والصغر ما لم يكن لدينا مقياس كيفي، وحين يظهر مثل هذا المقياس الكيفي فسوف يتلوه مباشرة - فيما أعتقد - ظهور القياس العددي.»

39

ويبدو لي أنه بمثل هذا الاعتقاد بدأ «فيبر وفخنر

weber and Fechner » عملهما التجريبي للكشف عن منهج أو طريقة القياس العددي الذي يمكن أن نقدر على أساسه المقادير المدمجة. ولقد بدأ فخنر

Fechner

عمله بقانون اكتشفه فيبر

Weber

يقول: «توجد لكل نوع من الإحساسات نسبة ثابتة بين المنبه الحسي والزيادة الصغرى التي يجب أن تضاف إليه لكي يصبح الفرق محسوسا به.»

وبالتالي فلو كانت

40

تمثل المثير الأصلي الذي يقابل الإحساس س، وب تمثل النسبة التي لا بد أن تضاف إلى المثير الأصلي حتى تستطيع الذات إدراك الفرق في الإحساس فسوف يكون لدينا المعادلة الآتية: ب / أ = ثابت (1).

ولقد أخذ فخنر

Fechner

بوجهة النظر القائلة بأن مقدار الإحساس نحصل عليه عن طريق الإضافة، التي تكون فيها الوحدات المتساوية هي التي يمكن أن ندركها في الحال. وإذا ما قارنا بين مقدار الإحساس الناتج وبين مقدار الإحساس كما يقاس فيزيائيا وصلنا إلى النتيجة التي تقول إنه في حين أن الإحساسات تزداد أو تنقص على شكل متوالية حسابية فإن المثيرات المقابلة تتغير على شكل متوالية هندسية، ويمكن أن نعبر عن هذه الصيغة بسهولة أكثر بقولنا: إن مقدار الإحساس يختلف بوصفه لوغارتم المثير.

وقد يؤدي بنا هذا الخط من البحث في يوم من الأيام إلى أرض صلبة وأساس متين نستطيع منه أن نحسب - إذا ما أخذنا المثيرات الحسية الدقيقة - في يقين الإحساسات المقابلة. لكني مع ذلك سوف أثير النقاط الآتية لكي أبين أن هذه النظرية على ما هي عليه الآن هي على أحسن الفروض مشكوك في صحتها. (1) إننا إذا ما عرفنا النسبة بين المثير الأصلي والزيادة التي نحس بها، فإن هذه المعرفة تخدمنا - على ما أعتقد - في تحديد الإحساس المقابل، ما لم نعرف أن مقدار المثير الذي يقابل صغر الإحساس واحد عند جميع الناس أو حتى عند الفرد الواحد. لكن من المسلم به كحقيقة واقعة أنه يختلف باختلاف الأفراد كما يختلف عند الشخص الواحد في أحوال مختلفة. فلو كنا لا نستطيع أن نعرف درجة الإحساس عند فرد معين في لحظة معينة إلا إذا فحصنا هذا الفرد نفسه في هذه اللحظة الجزئية المعينة، فإن ذلك يعني أن كل لحظة من تاريخ حياة الفرد عبارة عن حالة عينية قائمة بذاتها قد تشبه - أو لا تشبه - حالته في لحظة أخرى. (2) افرض أنني خبرت الإحساس «س»، وأنه بزيادة هذا الإحساس باستمرار شعرت بهذه الزيادة بعد مدة معينة بحيث أصبح الإحساس «س

1 » من الطبيعي في هذه الحالة أن نقول إن الإحساس الأول وهو «س» قد تغير إلى إحساس آخر هو الإحساس، بهذا الكل فإن إحساسك يكون «س»، وحين يزداد الإحساس بهذا الشكل يصبح إحساسك «س

1 »، لكن هناك حالة انتقال بين «س» و«س

1 » يكون فيها الإحساس أقوى من «س» وأضعف من «س

1 »، ولا شك أن شدة الإحساس في هذه الحالة تختلف عن شدة الإحساس في حالة «س» و«س

1 » ويبدو أن القانون الذي نناقشه يعجز عن حساب هذا الفرق. وبعبارة أخرى فإنه يقال إن مقدار الإحساس يمكن حسابه في بعض الأوقات ولا يمكن حسابه في أوقات أخرى. (3) إن الإشارة إلى الشدة بالأرقام تعني أن المقدار المدمج يمكن تقسيمه إلى حدات بنفس الطريقة التي نقسم بها الأعداد. غير أن الوحدات التي سيتكون منها العدد تتحد مع بعضها في هوية واحدة، في حين أن القول بأن الشدة تتألف من وحدات تتحد في هوية واحدة هو تناقض ذاتي لأن الشدة تعني أن الوحدة الأولى من السلسلة هي أقل «كثافة

dense » أو أكبر «كثافة» من الوحدة الثانية. أعني أن الوحدات في المقدار المدمج ليس بينها تغير متبادل لأنها لا تتحد في هوية واحدة. وفضلا عن ذلك فإن الإحساسين من نوع واحد لا يمكن أن يقال إنه يمكن قياسهما على الإطلاق ما لم يكن من الممكن أن يقال بطريقة لها معنى إنهما متساويان أو إن أحدهما يتضمن من الوحدات أكثر أو أقل مما يتضمنه الآخر ... لكنه من الصعب أن نرى كيف يمكن لهذين الإحساسين أن يكونا متساويين ما لم يكونا متحدين: «لا شك أن المساواة في العالم الطبيعي لا ترادف الهوية. غير أن السبب هو أن كل ظاهر، وكل موضوع يمثل هنا بوجهين؛ أحدهما كيفي، والآخر امتدادي. وليس ثمة ما يمنع من أن نضع جانبا الوجه الأول، ولن يبقى في هذه الحالة سوى حدود يمكن انطباقها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة الواحد على الآخر، وبالتالي تبدو وكأنها متحدة في هوية واحدة ... وهذا العنصر الكيفي الذي بدأنا بحذفه من الموضوعات الخارجية لكي نقيسها هو نفس العنصر الذي يحتفظ به السيكوفيزيقيون، ويزعمون أنهم يقيسونه ... وباختصار: يبدو من ناحية أن الإحساسين المختلفين لا يمكن أن يقال إنهما متساويان ما لم تبق البقية المتحدة في هوية واحدة بعد استبعاد اختلافهما الكيفي. لكن هذا الاختلاف الكيفي من ناحية أخرى هو كل ما ندركه، ولا نعرف ما الذي يمكن أن يبقى إذا ما حذفناه.»

41 (4) القول بأن عملية نمو الإحساس إذا كانت تتألف من وحدات متساوية أضيف بعضها إلى بعض، وكل وحدة من هذه الوحدات مساوية للفرق المدرك، هذا القول يعني أننا نتحدث عن مثل هذه العملية السيكولوجية بألفاظ تناسب الظواهر المكانية. ولا ينبغي التفكير في الإحساس في صورة خط يمكن قسمته إلى أجزاء متساوية؛ ذلك لأن الأول يتضمن ديمومة، بينما الثاني لا يتضمن ديمومة. فالإحساس تتال، يزداد شدته بالتدريج، أما الخط فهو مجرد إضافة للأجزاء، يمكن أن ينظر إلى أولها كما ينظر إلى آخرها «نحن نضع حالات شعورنا جنبا إلى جنب بتلك الطريقة التي ندركها بها في تأن، لكنا لا نضع الواحدة في الأخرى، بل الواحدة بجانب الأخرى. ونحن باختصار نسقط الزمان على المكان، ونعبر عن الديمومة بألفاظ الامتداد. والتتالي «أو التعاقب» يتخذ في هذه الحالة شكل الخط المتصل أو السلسلة التي تتلامس حلقاتها دون أن تتداخل ...»

42 (21) (ب-2).

لكن إذا كان من الصعب أن نرى كيف يمكن للإحساسات أن تقاس أو أن تحسب بدقة، فإن الموقف بالنسبة للوجدانات أشد سوءا. ولنأخذ اللذة على سبيل المثال. إن «روس

Ross » يمثل جيدا وجهة النظر التي تزعم إمكان قياس اللذة قياسا دقيقا فهو يقول: «إننا قد نتساءل عما إذا كانت اللذات يمكن مقارنتها بعضها ببعض، وعما إذا كان من الممكن لنا أن نقول إن إحدى اللذات أعظم أو أكثر لذة من الأخرى. وإني لأعتقد أن ذلك أمر لا شك فيه. ومن ينكر ذلك يبدأ عادة بأن يسألنا أن نخبره أي اللذتين المنفصلتين تماما أعظم من الأخرى. صحيح أننا لا نستطيع - في الأعم الأغلب - أن نخبره بذلك. غير أن الباحث الذي يؤكد إمكان المقارنة بين اللذات ليس مضطرا لبيان أنه يستطيع أن يقول أي اللذتين أعظم من الأخرى. فقد لا نكون مثلا قد استمتعنا بهما حديثا، ولا شك أن تذر شدة اللذة عمل غدار خصوصا إذا كان قد انقضت على ذلك فترة زمنية. ومن ناحية أخرى فقد تكون إحدى اللذتين - أو هما معا - معقدة غاية التعقيد. وقد يكون الاستبطان الضروري لتقدير حلاوتها صعبا. غير أن ذلك يتضح بصورة أكبر أنه إذا ما قارنا بين لذتين بسيطتين نسبيا، وبين لذتين متشابهتين نسبيا كنا قد خبرناهما حديثا، هنا قد لا تكون لدينا أية مشكلة في أن نبين أن إحداهما أعظم لذة من الأخرى. ويكفي ذلك دليلا على تفاوت اللذائذ في شدتها ... وإذا ما اتضح ذلك، فقد تعود إلى المجادلة في إمكان قياس اللذات، قد تكون بالضبط ضعفها في الشدة ... لأنه إذا ما كانت إحدى اللذات أعظم شدة من الأخرى، فإنه لا بد أن يكون لها قدر معين من زيادة الشدة ...»

43

وسوف أثير الاعتراضات الآتية ضد هذه الوجهة من النظر: (1) إن قياس درجة معينة من اللذة بمعامل ارتباط امتدادي

extensive correlate

يعني الاعتقاد بأننا نحصل على اللذة بإضافة عدد من اللذائذ الصغيرة، غير أن اللذة ليست إلا واقعة قائمة بذاتها لا يمكن قياسها، وليست مكونة من مجموعة من الأجزاء كل منها حالة من اللذة. (2) إذا سلمنا بأنه يمكن قياس حالة لذة ما بمعامل ارتباط امتدادي

ex correlate

فما هي معاملات الارتباطات

Correlates

هذه التي يمكن أن يقال إنها ممكنة؟ أعتقد أن هناك بديلين، وبديلين فحسب؛ فهذه الحالة يمكن أن تقاس إما بمقدار السبب الموضوعي - وبالتالي يمكن قياسه - الذي أظهرها إلى الوجود، وإما بقياس الحركات الدقيقة جدا للجسم

molecular movements ، وهي الحركات التي يفترض مصاحبتها لكل حالة نفسية. وسوف نناقش الافتراض الأخير فيما بعد حين نعرض لمذهب الظاهرة الثانوية

epiphenomenalism ، أما بالنسبة للافتراض الأول فأنا أريد أن أسوق عدة ملاحظات: (أ)

إننا لا نعرف أن حالة نفسية معينة قد ازدادت شدتها من خلال زيادة السبب الموضوعي، بل على العكس، فشدة الحالة النفسية هذه ذاتها هي التي تقودنا إلى افتراض خاص بعدد الأسباب وطبيعتها. (ب)

غالبا ما يحدث أن يرجع الفرق في الشدة إلى حالة نفسية أخرى لا تخضع للقياس. (ج)

حالة اللذة يمكن ردها في بعض الأحيان إلى سبب خارجي لا يبدو أنه يخضع للقياس، كما هي الحال مثلا في إحدى الصور التي يمكن أن تقدم لنا لذة أعظم في شدتها من إحدى الصور الأخرى. (3) إن أي قياس دقيق للذة لا بد أن يستعمل الأرقام أو الأعداد، وهذه لا يمكن تصورها بدون فكرة عن المكانية

Spatiality ... في حين أن الشدة مستقلة عن مثل هذه الفكرة. والأعداد لا بد أن تشير في نهاية تحليلها إلى مقدار امتدادي، في حين أن شدة الوجدان لها طبيعة الديمومة. وأنت حين تقول إن شدة الوجدان يمكن الإشارة إليها بالأرقام، فإنك تزعم في هذه الحالة أن الديمومة يمكن قياسها بالمكان: «ما إن نرغب في تصور العدد لأنفسنا ... حتى نضطر إلى الاستعانة بتصوير ذهني امتدادي ... ومن المؤكد تماما أنه يمكن أن ندرك في الزمان - وفي الزمان وحده - تعاقبا لا يكون شيئا آخر سوى تعاقب، لا إضافة، أعني تعاقبا يصل إلى قمته في جملة أو مجموع؛ لأنه على الرغم من أننا نصل إلى الجملة أو المجموع بأن نضع في اعتبارنا تعاقبا لحدود مختلفة، فإنه لمن الضروري مع ذلك أن يبقى كل حد من هذه الحدود حين نصل إلى التالي، وأن ينتظر إذا لم يكن سوى لحظة من لحظات الديمومة؟ وأين يمكن له أن ينتظر ما لم نضعه في مكان؟»

44

وبالتالي فالأعداد يمكن أن تستخدم فقط لعد الوحدات المكانية، ولا فائدة من المجادلة والقول بأننا نستطيع أن نعد لحظات الزمان المتتالية منفصلة عن المكان؛ لأن معنى العد هو إضافة وحدات، والقول بأنك تضيف إلى اللحظات الحاضرة تلك اللحظات التي سبقتها يتطلب بالضرورة ربط اللحظات الماضية بالآثار المكانية

patial traces ، طالما أن اللحظات نفسها قد اختفت إلى الأبد، والنتيجة التي تقودني إليها هذه المناقشة هي شدة الوجدان لا يمكن تقديرها برموز عددية طالما أننا نقول إن لها طبيعة الديمومة. وفضلا على ذلك فإننا لا نستطيع أن نتصور إمكان قسمة المقدار المدمج، لأن «الجزء» من لذة معينة لا بد أن يكون واقعة سيكولوجية تختلف أتم الاختلاف عما كان على «الكل»، لا لأنه لا بد أن يكون أقل من الكل من حيث الكمية، بل لأن الكيف لا بد أن يكون مختلفا. فالإفراط في اللذة قد يحولها إلى ألم. ومن هنا جاءت وجهة نظر «روس

Ross » الخاطئة حين ظن أن هناك لذات معينة يمكن شطرها نصفين؛ فهو يقول: «صحيح ... إن الفرق بين لذتين ليس هو نفسه لذة، كما هي الحال في الفرق بين طولين، فهذا الفرق هو نفسه طول، لكن الفرق بين شدة لذتين هو قدر من الشدة، وهو بالطبع قدر معين. وقد يساوي ذلك شدة اللذة الأقل، ولو كان ذلك كذلك، فإن اللذة الأعظم تساوي في عظمها ضعف اللذة الأقل.»

45

وإذا لم يكن في استطاعتي أن أتصور كيف يمكن لأية لذة أن تنقسم، فإنني لا أستطيع أن أتصور أي جزء من لذة أعظم يكون مساويا للذة الأقل.

غير أن السؤال يظل قائما وهو: كيف يمكن أن نفكر في لذتين بألفاظ «الأعظم شدة»، و«الأقل شدة»، ما لم يكن لدينا فكرة محددة عن معنى «الشدة المتساوية»؟ ما الذي يجعلنا بالضبط نحكم على إحدى اللذات بأنها أعظم من الأخرى؟ الجواب هو أنه كلما كثرت الحالات النفسية التي يحدثها وجدان معين، عظم ظهوره، فاللذة الأعظم تخترق عددا واسعا من العناصر النفسية. وحين نكون في حالة لذة فإن نظرتنا للكل المحيط بنا تتغير - فيما يبدو - تغيرا جذريا. والموضوعات الواحدة لا تؤثر فينا بطريقة واحدة، فالذكريات الواحدة قد تنقل إلينا وجدانات مختلفة، ولا تتطلب حركاتنا بذل جهد واحد بعينه، وهكذا تتغير حالاتنا النفسية من حيث الكيف. لكن عدد الحالات النفسية التي تتأثر يمكن أن يزداد أو ينقص في حالات اللذة المختلفة؛ ففي مناسبة من المناسبات يمكن لحالة من حالات اللذة أن تصبغ بلونها جميع الحوادث النفسية طوال اليوم، وفي مناسبة أخرى يمكن أن تستغرق فحسب بضع ساعات قليلة، وعلى الرغم من أن الفرق بين الحالتين هو أساسا فرق في عدد الأحداث النفسية، فإنه مع ذلك فرق في الكيف لا يمكن أن نشير إليه عدديا وهذا هو السبب في أننا نعرف تماما أن لذة معينة أعظم من لذة أخرى، دون أن نحسب بدقة مقدار الزيادة بألفاظ من وحدات معينة. (22) (ح-2) يبدو أن الإحساسات والوجدانات لا يمكن حسابها بلغة الأرقام والأعداد. وقل مثل ذلك في نشاطنا، فنحن قد نعزو في غموض بعض الحدود الكمية إلى الانتباه، كما هي الحال مثلا في «التركيز

concentration » أو «الاسترخاء

relaxaton »، ولكن من الواضح أن الإشارة الكمية ترجع إلى الموضوعات التي ننتبه إليها، فموضوع الانتباه هو أحيانا بالغ التعقيد، وأحيانا أخرى أقل تعقيدا، لكن الإحساس هو واحد باستمرار.

وحتى موضوعات الانتباه يمكن الإشارة إليها كميا بمعنى غامض فحسب لهذه الكلمة، لأن الدقة العددية لا يمكن تصورها هنا، خذ مثلا لذلك حالة الإرادة: إن موضوع الانتباه في حالة الإرادة هو فكرة التغيير، وقد تكون لهذه الفكرة تفصيلات كثيرة أو قليلة، كما أن التباين بين الفكرة والوجد قد يكون كبيرا أو صغيرا. لكن ما زلنا نفتقر مع ذلك للقياس الدقيق للهوة بينهما بل إن مثل هذا القياس الدقيق لا يمكن التفكير فيه، ما لم نعتقد أن الفرق بين الاستبداد والديمقراطية - مثلا - هو فرق يمكن قياسه بالأرقام. ودعنا نفترض ذلك الفرض المحال، وهو أن مضمون الانتباه في لحظة معينة يمكن قياسه؛ واضح أن ذلك لا يكون ممكنا إلا في حالة واحدة، هي إذا ما كان الانتباه يوجد على الإطلاق لهذا الموضوع المعين في تلك اللحظة المعينة، لكنا سبق أن رأينا في الفصل الثاني أن الانتباه نشط، أعني أنه يحمل سببه في جوفه

self-caused ، ولو صح ذلك فلن نستطيع التنبؤ بأنه في هذا الوقت أو ذاك سوف ينتبه هذا الفرد المعين إلى ذلك الموضوع المحدد. (23) دعنا الآن نعد إلى الزعم الأصلي: «المذهب الجبري - فيما يتعلق بالإرادة - هو النظرية التي تقول إن إرادتنا تنتمي إلى نسق حتمي معين» و«يكون النسق حتميا حين تتعلق معطيات معينة مثل: م

1 ، م

2 ... م ن في لحظات ل

1 ، ل

2 ... ل ن، على التوالي بهذا النسق. فإذا كانت م ل تمثل حالة النسق في أية لحظة ل، فهناك علاقة دالية بالصورة الآتية:

م ل = (م

1 ، ل

1 ، م

2 ، ل

2 ... م

ن ، ل

ن ، ل).»

ورأيي هو أن مثل هذه المعادلة يمكن أن يكون لها معنى على الإطلاق، في حالة واحدة فقط هي: إذا كانت م1، م2 ... م ن يمكن قياسها كميا. ولو وجدنا أن فقرة معينة - أو مجموعة - من هذه الفقرات لا يمكن التعبير عنها بألفاظ الكم الامتدادي فإن المعادلة تصبح بغير معنى. لكنا سبق أن أظهرنا، في الصفحات السابقة، أن الإحساسات والوجدانات، ونشاط الانتباه، هي كلها أمور تجاوز مثل هذا التقدير الكمي؛ ومن ثم فإن المعادلة تتحطم وتنهار من حيث انطباقها على الموجودات البشرية. (24) (ب) نصل الآن إلى الدعوى الثانية للفيلسوف الجبري وهي القائلة بأن الأحداث الذهنية لا تتدخل في السلسلة السببية الآلية، وأنها ليست إلا مصاحبات فحسب للأحداث المادية ... وهذا يعني بعبارة أخرى أن الذهن ليس إلا ظاهرة ثانوية للمادة. وفي اعتقادي أن هذه النظرية لا يمكن الدفاع عنها. ولقد سبق أن أثبت إيجابيا، في الفصل الثاني، أن الانتباه نشط

active ، وهذا يعني أنه يتسبب في تغير ما، دون أن يكون له نفسه مسبب، فهو يحول السلسلة الآلية ويوقفها ثم يبدأ سلسلة جديدة. ولقد بينا أن ذلك لا يعني خروجا على قانون بقاء الطاقة، إذا ما اعتبرنا هذا القانون ممثلا لحقيقة نهائية. أما من الناحية السلبية فإن مذهب الظاهرة الثانوية التي تفسر الذهن على أنه نتاج ثانوي للمادة يتضمن نقاط ضعف كثيرة. وسوف أشير الآن إلى بعض هذه النقاط. (1) يذهب الفيلسوف الجبري إلى أن كل عصاب

neurosis ، ولنرمز له بالرمز «أ» يقابله ذهان

psychosis «مرض عقلي» «أ

1 » كمصاحب كامن أو كمجرد ظاهر ثانوية. فافرض مثلا أن «أ

1 » هي حالة من حالات الشعور: فما الذي نشعر به في هذه الحالة؟ يقينا ليس هو العصاب نفسه؛ لأننا قد نشعر بالعالم الخارجي، أعني العالم الذي يقع خارج التيار العصبي تماما. ونحن هنا نواجه هذا الإحراج المنطقي

Dilemma . إن الواقعة الفعلية الوحيدة هي عملية المخ مع ظاهرتها الثانوية، ومن ثم العالم الذي ندركه قد يكون مجرد وهم. ومع ذلك فإن معرفتنا الوحيدة بأن هناك عمليات للمخ مع مصاحب لها - هذه المعرفة ليست إلا استدلالا من ذلك الذي افترض الآن أنه مجرد وهم كاذب. وبعبارة أخرى فإن الدليل الذي يقدمه الفيلسوف الجبري في هذه النقطة دليل دائري، أعني أنه يتضمن دورا منطقيا، فنحن نعلم أن هناك عالما خارجيا يقع خارج جسمنا لأن عمليات معينة تحدث في المخ، لكنا في الوقت نفسه نعلم أن هذه العمليات تحدث لأننا نعرف أن هناك عالما خارجيا يقع خارج المخ. (2) إن حجة الفيلسوف الجبري تشبه قولنا بأن الجزء يطابق الكل. ويمكن أن نرى ذلك على النحو التالي: لا شيء يدخل الجهاز العصبي أو يخرج منه إلا إذا كان في صورة حركة، وطالما أن جسمنا ليس إلا جزءا من الكون المادي كله، وحركة المادة في هذا الكل تشكل سلسلة مترابطة. فإن الحركات في جهازنا العصبي لا يمكن أن تخلق أو تنشأ بداخله، لأنها أجزاء من كل أكبر. والآن. يطلب منا أن نعتقد بأن الحركة في الجهاز العصبي، التي هي ليست إلا جزءا من الحركة كلها، تطابق هذا الكل، لأنها تعكسه. (3) وتطالبنا هذه النظرية بأن نفترض أن جميع الإدركات الحسية، والوجدانات والإرادة هي رموز لحركات الجزئيات في المخ، غير أن الحركة بمعنى النقلة في المكان

Locomation

هي من نوع واحد، فالحركة الواحدة يمكن تمييزها عن غيرها تمييزا كميا فحسب، وبالتالي فإن تأليف مسرحية هاملت أو التألم من وجع الضرس، وكونك في حالة فرح، ومشاركتك في سباق الخيل، هي كلها فقرات من نوع واحد. والفرق الوحيد بينها هو فرق في كمية الحركة الموجودة. (4) لو أن جميع حالات ذهني يمكن أن ترتبط بحركات معينة في المخ: فكيف يمكن لي أن أبرهن أن هناك مقابلا فيزيقيا في العالم الخارجي؟ إن من يلاحظ حركة الجزئيات في المخ مع ظواهرها الذهنية الثانوية، لن يجد أدنى فارق بين حالة الحلم وحالة اليقظة، ففي كلتا الحالتين سوف يرى حركات الأعصاب

Neurons

مصحوبة بمصاحبات ذهنية، وسوف يكون من التعسف أن نفترض أنه في إحدى هذه الحركات يوجد عالم خارجي مقابل، وفي بعض الحركات الأخرى لا يكون لهذا العالم وجود. (5) إذا سلمنا بأن كل حادثة فيزيقية ولتكن «أ» يصاحبها حدث سيكولوجي هو «أ» فما الذي يبرهن على أن أحدهما ظاهرة، بينما الثاني ظاهرة مصاحبة، وليس العكس ... يتساءل جميس وورد

J. Ward

بصدد هذه النقطة قائلا:

46 «أيهما الحقيقي وأيهما الرمزي؟» ثم يضيف مقدما إجابة مخالفة لإجابة الفيلسوف الرمزي: «إذا ما وجهنا هذا السؤال بصراحة، فإن الجواب - فيما أعتقد - يسير إلى أقصى حد. فمن المسلم به تماما أن الواقعي عيني باستمرار، في حين أن الرمزي مجرد دائما. فكلمة الواقعي تعني الفردية بدرجة كبيرة أو صغيرة، في حين أن الرمزي يعني دائما الكلي المنطقي، والواقعي يتضمن باستمرار تاريخا في نطاق خبرتنا، أعني أماكن، وتواريخ، وتجاوبا مع البيئة العينية. أما الرمز فهو خلق منطقي ... وإنه لمن الخلف الواضح أن نقول - مطبقين هذا المقياس - عن عزم قيصر لعبور نهر روبيكون

Rubicon ،

47

أو عزم «لوثر» على الذهاب إلى «ورمز

Worms »

48 - إنه رمز لتراقص الجزئيات في مخ كليهما.» (6) ولست أدري من الذي يتوقع أن يلاحظ حركات جزئيات مخي لكي يتحقق من تواريخها مع حالات ذهني؟ لا بد من استبعادي - كملاحظ - عن هذا الموضوع، طالما أنني لا أستطيع إدراك مخي الخاص. ومن ناحية أخرى فإن كل ما يستطيع عالم الفسيولوجيا أن يراه هو التغيرات التي تحدث في مخي، أعني الحوادث المادية، وهي بوصفها حوادث مادية، لا تقدم فرضا

ex hypothesi ، أي دليل على مصاحباتها الذهنية. وإن كان عالم الفسيولوجيا يشير إلى خبرته الخاصة حين يلاحظ مخي، فإن التوازي عندئذ لا بد أن المستحيل - عمليا ونظريا - للملاحظ الواحد أن يفحص ألوان العصاب

neuroses

أو ألوان الذهان

psychoses

عند شخص واحد مرة واحدة، ومن ثم فالافتراض لا يمكن أن يكون أكثر من افتراض قيم «لا يمكن التحقق منه بأية وسيلة من الوسائل». (7) تطلب منا هذه النظرية أن نعتقد أن جميع حركات الأجسام البشرية - بما فيها تلك الحركات التي تعزى عادة للإرادة - يمكن تفسيرها تفسيرا تاما بالأسباب الفيزيقية. فإذا ما وجدنا أن الإرادة يعقبها بصفة عامة الحركة الرادة، فينبغي ألا نفهم من ذلك أن الإرادة هي سبب الحركة، أما تفسير مثل هذه الواقعة فهو أن عوامل فيزيقية معينة يشملها السبب الإجمالي للحركة الجسمية - لها آثار ذهنية، كما أن لها آثارا فيزيقية سواء بسواء. والحركة الجسمية المشار إليها هنا ما كان لها أن تحدث ما لم تسبقها حالة معينة من الحالات الفيزيائية، وهذه الحالة الفيزيائية لا يمكن أن تحدث دون أن يصاحبها رغبة في هذه الحركة الجسمية، وتبعا لهذه النظرية فإن جميع ألوان الإرادة هي مصاحبات ضرورية لحالات فيزيائية معينة، ومن ثم فإنها لا بد أن تكون محددة تحديدا تاما مثل الحالات الفيزيائية ذاتها.

والمغالطة هنا - كما كشف عنها دكتور برود

C. D. Broad - هي على النحو التالي: «إذا ما وجدنا أن هناك أنواعا معينة من الحركات الجسمية لم يحدث لها قط أن ظهرت دون أن يسبقها إرادات مقابلة مثلما يسبقها حالات فيزيائية معينة، فإننا لا نستطيع أن نعرف أن الإرادات ليست أسبابا مناسبة، أعني أن نفس الحركات الجسمية كان يمكن أن تحدث لو أن ظروفا فيزيائية سابقة كانت هي نفسها، في حين كانت الإرادة غير موجودة. إنه من الممكن أن تكون الإرادة ليست سببا مناسبا للحركات الإرادية، لكن اعتقادنا بأنها كذلك في حالة الأمثلة السلبية هو عمل من أعمال الإيمان الخالص ... وحسب الافتراض ليس ثمة أمثلة سلبية.»

49 (25) (ج) والزعم الثالث للفيلسوف الجبري فيما يتعلق بسيادة السببية هو الاطراد الذي نلاحظه في السلوك البشري. وإنه لمن التهور - حقا - إنكار وجود درجة معينة من الاطراد في السلوك البشري. فالأفعال المنعكسة، والسلوك الغريزي الذي يبرز الجانب النزوعي البدائي للغريزة غير المعدلة، والأفعال المعتادة التي تسير في طريق ممهد مطرق، والتجليات الظاهرة للاشعور - هذه كلها تظهرنا على الاطراد إلى حد معين على أقل تقدير. لكن يكفي جدا أن يكون للإنسان دور معين في سلوكه - مهما يكن صغيرا - دور يجاوز دائرة هذا التحديد، لكي يفسد الحتمية ويبطلها: «99 بالمائة - إن صح التعبير - من حياة الإنسان يمكن أن ترجع إلى الوراثة، والتربية، والبيئة، والتكوين الأصلي، لكن إذا كان هناك واحد في المائة فقط هو الذي يمكن أن يعود إلى أفعال الاختيار اللاحتمية، فإن ذلك يكفي لتبرير مسلمة الحرية

postulate .»

50

إن ما أدافع عنه هو أن الفعل الإرادي الأصيل فعل فريد في نوعه

Unique ، أي إنه لا يعقب مقدمات. وفكرة التغيير التي تتضمنها الإرادة الحقة لا بد أن تطور نفسها لأول مرة، فلأول مرة أفكر في سلسلة الوسائل التي يمكن أن تظهر إلى الوجود التغير المطلوب. ومثل هذا الفعل الإرادي يمكن أن يتكرر وهكذا يصبح فعلا معتادا بالتدريج، وكلما ازدادت عادة الفعل قل كونه إراديا. والاطراد الذي نلاحظه في سلوك الإنسان - بما في ذلك ما يسمى بالأفعال الإرادية - يدل على أن مثل هذا السلوك ليس أصيلا، وهذا في حد ذاته دليل كاف على أنه يفتقر إلى العنصر الأساسي في الإرادة الحقة. (26) ومهما يكن من شيء فإن الاطراد في سلوك الإنسان لا يبرهن على أن السلوك تتحكم فيه تماما العوامل الخارجية على نحو ما يعتقد الجبريون ويريدون منا أن نعتقد في ذلك، وإنما سلوك الإنسان من صنع الإنسان نفسه

self-made ، وهو منسوج في الداخل

home-spun ، إن صح التعبير. والخلق إذا ما فهناه على أنه يعني ألوان السلوك المطردة، هو من صنع الفاعل نفسه ... إننا إذا ما افترضنا أن «أ - ص» تشمل جميع الأفعال التي أنجزتها بالفعل «من هذه الأفعال الممكنة» وحولتها إلى عادات كلما أصبح خلقه أكثر صلابة، وهذه الصلابة النسبية للخلق ترجع إلى القول بأن ظروف الحياة التي يمكن أن تظهر هذه الأفعال الإرادية قد استغلت بنسبة درجة صلابة الخلق، وتصبح الذات شيئا فشيئا أكثر تحديدا لأنها قد تحققت أكثر فأكثر، وهكذا تطرد التحققات الفعلية الممكنات، ويحل الاطراد محل التفرد

originality ، والأصالة

uniqueness .

ورغم ذلك فالاطراد نسبي فحسب، فهناك من ناحية إمكان مستمر لتغيير ما هو ثابت بالفعل، وهناك من ناحية أخرى ظروف الحياة التي لا يمكن أن نستنفدها تماما، بحيث نستطيع أن نقول في يقين إن الأشياء سوف تمثل أمام فرد معين بطريقة معينة، وأن الفرد سوف يرد بهذه الطريقة أو تلك على هذا المثير الجزئي المعين.

وحتى إذا ما سلمنا بأن خلقي المشكل على النحو الحالي يتحكم في إلى حد ما، أو جزئيا، فيجب علينا ألا ننسى أنه خلقي أنا، فهو لا يمكن تحليله إلى عوامل تستبعد الذات الفاعلة النشطة التي شكلت هذه العوامل في فرد واحد متحدة في هوية مع نفسه. واستخدام كلمة «الاطراد» في مجال السلوك البشري بنفس المعنى الذي تستخدم فيه في ميدان العالم المادي، استخدام محال لا يقبله عاقل. ونحن إن فعلنا ذلك فإننا نهمل فردية العقول البشرية، غير أن ذلك لا يعني أن العقول المختلفة يمكن أن ينظر إليها على أنها مؤلفة من عناصر مشتركة، تتجمع بنسب متفاوتة وبترتيبات مختلفة: «إننا لكي نكشف عن القوانين السببية التفصيلية التي تتحكم في ذهن شخص معين فريد مثلا، فإننا لا بد أن نبحث في زيد نفسه. وليس ثمة قدر من المعرفة للكيفية التي يعمل بها ذهن خالد أو عمر يمكن أن تساعدنا في معرفة - إما بالتعميم الاستقرائي المباشر أو بالاستدلال الاستنباطي غير المباشر - القوانين التفصيلية التي يعمل بها ذهن زيد.»

51

وإذا ما حاولت أن تقطع خلق شخص ما إلى عناصر تتجمع بطريقة معينة، فإنك في هذه الحالة تستبعد ذاته الفاعلة النشطة التي التقطت هذه العناصر ونسجتها في خلقه الخاص، إنك ترد الإنسان تقريبا إلى لا شيء أو إلى لا كائن

nonentity ، أنت بعملك هذا إنما تحلل «ذاته» إلى عناصر بغير ذات

selfless elements «إنك قد تخبر أن خلقه ... قد تطور ... لكن عليك عندئذ أن تضيف ... أنه هو الذي طوره ... ولو كان في استطاعة شخص آخر أن يفسر - من معطيات معينة ومن قواعد كلية - تكوينه كما يفسر مسألة حسابية فأين ذهبت ذاته هو؟ اعتدى عليها شخص آخر، وحطمها إلى عناصر بغير ذات، ثم جمعها من جديد، وسيطر عليها تماما، كما يسيطر الإنسان على الشيء الميت للسكين. وإذا صح ذلك فإن هذا الشخص يشعر شعورا غير واضح أنه لو أن شخصا آخر يستطيع على هذا النحو أن يفكه وأن يعيد تركيبه

unmake and remake ، فإنه هو نفسه يمكن بالمثل أن يكون أي فرد أو أي شخص منذ البداية طالما ألا شيء قد تبقى ليكون خاصا به هو.»

52

إن خلق الإنسان لا يمكن مطلقا أن يكون نتاجا منتهيا، لا يمكن مطلقا أن يكون كائنا محددا يخضع للحساب الرياضي فهو ليس «وجودا» على الإطلاق، لكنه «صيرورة باستمرار»، فهو على الدوام في عملية تطور، وهو لا يتوقف قط من مجموع معين أو مضمون محدد. ونشاط الانتباه هو الفعل الواحد المستمر، هو الفعل الذي يوحد كثرة المادة وتعددها في فرد واحد في هوية مع نفسه ... لكن موضوع هذا الفعل الموحد،

unitary

ليس ساكنا أبدا، وإنما في تدفق مستمر لا ينقطع، وهذا هو السبب في أنه من المستحيل لخلق ما أن يصنع من مادة

stuff

معينة لا تزيد ولا تنقص. فهناك باستمرار إمكانية الخلق التي تفترض نمطا جديدا، ويستجيب بطريقة جديدة تماما: «ليس في استطاعة أحد أن يعبر عن خلقه تعبيرا تاما بواسطة سلوكه الفعلي في الماضي؛ لأن الخلق لا بد أن يشمل باستمرار الإمكانيات التي لم تتطور بعد. كما أن الاستجابة التي سوف يرد بها الخلق على مثير جديد، أو حتى على تكرار مثير قديم لا يمكن مطلقا استنتاجها بيقين كامل من الاستجابة التي رد بها على مثير سابق. ولا يعني التبدل الفجائي لسلوك الإنسان المعتاد بالضرورة أن مؤثرا خارجيا جديدا غير معتاد قد بدأ يؤثر فيه. لأن خلق الإنسان يمكن أن يكون على هذا النحو الذي يجعله يرد بطريقة واحدة على مثير 99٪ من المرات، وبطريقة مخالفة 1٪، ذلك لأن الخلق هو بالضبط هذه النسبة الضئيلة 1٪. ويمكن أن يكون الإنسان قد ركب على هذا النحو: يصيخ السمع بلا حراك لألف موعظة، ومع ذلك تتغير حياته كلها من الموعظة السابقة. في حين أنك قد تجد شخصا آخر تتشابه حياته الخارجية وحتى الداخلية في جميع مظاهرها السابقة، يمكن كذلك ألا يتأثر بأي عدد من هذه النداءات

apeals .»

53 (27) ج. والحجة الرابعة للفيلسوف الجبري فيما يتعلق بالضرورة السببية مستمدة من المسئولية الخلقية؛ فهو يعترف بأن حرية الإرادة وليس الجبر

determination

كما يفترض عادة، هي التي تتناقض مع المسئولية، فإذا كان من الممكن أن يعاقب الإنسان أخلاقيا، أعني إذا ما كان مسئولا بحسب ذلك يرجع إلى أن فعله الخاطئ هو محصلة طبيعته؛ أي تتحكم فيه الظروف، وأعظم هذه الظروف أهمية يكمن في تكوينه الذهني، ولأننا يمكن أن نأمل بطريقة معقولة أن يغير هذا العقاب من طبيعته إلى أحسن. «ولو صحت وجهة النظر العارضة، أعني لو كانت أفعال الإنسان الإرادية لا تتحكم في أساسها ظروف يتضمنها نسق تكوينه الذهني، فإن الأساس الوحيد لعقابه لا بد أن يكون في هذه الحالة انفعالا من انفعالات الغل

resentement

أو الانتقام

revenge ».

54 (28) ومن المؤكد أن ذلك لا بد أن يكون صحيحا لو كانت الأخلاق علاقة اجتماعية فحسب بحيث تفسر المسئولية بألفاظ العقوبة التي يوقعها الناس في مجتمع ما على المخطئ، أو المكافأة التي يقدمونها إلى المصيب. فالمسئولية هنا تعني المسئولية أمام الآخرين الذين يبدون استحسانا أو استهجانا لسلوك شخص ما حتى يغيره إلى الصورة المقبولة اجتماعيا. و«ربنسن كروزو» الذي لم يكن يعيش معه أحد ليعاقبه أو يكافئه عما يفعل ليس مسئولا - عند هذه النظرة - عن أعماله مسئولية أخلاقية. وهو حر تماما أن يفعل وأن يسلك كما يشاء وبأية طريقة يشعر - عن طريقة الرغبة - بميل نحوها. غير أن هذه النظرة تستبعد ما أعتقد أنه أعظم النقاط جوهرية في الأخلاق - وهو ما يمكن أن أسميه بالمسئولية الذاتية

self-responsibility ، أعني مسئولية الفاعل عن نفسه.

إن الفرد المنعزل يمكن أن يظل مع ذلك - ولا بد أن يظل - موجودا أخلاقيا، وإذا ما كان فاعلنا المنعزل مجبرا على السلوك بطريقة معينة، فهو ليس بحاجة إلى أن يعتبر نفسه مسئولا أمام نفسه، وما كان يمكن أن يكون له الحق في الاستمتاع بالفعل في طريق معين، أو التألم من وخز الضمير بسبب فعل آخر، إن فاعلنا المنعزل لو أنه مجبر لا يحتاج إلى ممارسة أي جهد أخلاقي حتى يتبع طريقا معينا من الفعل ويتجنب طريقا آخر. (29) ويمكن أن يسألنا سائل: «لكن لماذا ينبغي على الفاعل المنعزل أن يفعل الفعل الصواب

right act ؟» والجواب هو: «لأن واجبنا أن نفعل الفعل الصواب.» والسؤال لماذا ينبغي علينا أن نفعل واجبنا هو سؤال لا معنى له؛ لأن الفعل الذي يكون واجبي يعني أنني ينبغي على أن أفعله، وسلطة الفعل الواجب لا يمكن أن ترد الغرض، ما لم يفهم الغرض ليعني التعبير عن ذاتنا المثالية. إننا نبذل جهدا أخلاقيا في أفعالنا الإرادية لا لأننا نريد أن نصل إلى غاية موضوعية، لكن لأننا نشعر أنه من المحتم علينا أن نحقق طبيعتنا الحقة، بأن نسلك سلوكا عقليا. صحيح أن أفعالنا الإرادية يمكن أن يتصادف أن تشبع ميلنا، لكن حتى في هذه الحالة فنحن لا ننجزها لأنها تخدم ميلنا، بل ننجزها لأن من واجبنا - فحسب - أن ننجزها، ولا نستطيع أن نذهب أبعد من سلطة الواجب. فالجهد الأخلاقي لا يبذل لأنه مفيد أو نافع. لكنه يبذل لأن سلطة الواجب تتطلبه، كما أنه لا يبذل بروح الخضوع للسلطة، لكنه يبذل طواعية واختيارا، وبطاعة حقيقية لما يمليه عليه العقل: إن عبارة «ينبغي عليك

Thou shalt » لا تعني من المفيد لك أو من صالحك كذا، إنها لا تعني شيئا سوى القول بأن فعلا معينا لا بد من تحقيقه طاعة لباعث الواجب.

إننا نفعل الأفعال التي يحتمها واجبنا لا لنتجنب العقاب أو نستمتع بالمكافأة، بل لكي نعبر عن طبيعتنا الحقة فحسب. إن مكافأة العمل الفاضل أو الخير تكمن في هذا العمل نفسه، وقل مثل ذلك في عقاب الشر، فهو يكمن في الشر المرتكب نفسه. إن الفاعل حين يسلك سلوكا فاضلا يستمتع بالإشباع الذاتي «أو الاكتفاء الذاتي» الذي هو مكافأة كافية. ومكافأة العمل الخير تنبع من هذا العمل نفسه بالضرورة، كما تنبع من طبيعة المثلث أن زواياه الثلاث يساوي مجموعها قائمتين. ولقد كتب اسبينوزا في رده على بلينبرج

Blyenbergh

يقول: «لا أستطيع أن أمسك عن القول بأنني دهشت غاية الدهشة من قولك: إنه ما لم يعاقب الله على الجريمة ... فأي اعتبار يمكن أن يمنعني من أن أرتكب بشغف جميع ألوان الجرائم؟ يقينا أن من يمتنع عن ارتكاب الجرائم خوفا من العقاب فحسب ... لا يكون سلوكه صادرا عن المحبة على أي نحو، وسلوكه هذا يتضمن أدنى فضيلة ممكنة. أما بالنسبة لي فأنا أتجنب ارتكاب الجرائم - أو أحاول أن أتجنبها - لأن طبيعتي الخاصة تعافها صراحة، ولأنها لا بد أن تؤدي بي إلى الضلال بعيدا عن محبة الله وعن معرفته.»

55

لكن لو أن إنسانا ذا طبيعة خيرة حقق تلك الطبيعة في أعماله الخيرة، واستمتع بالسعادة الناجمة عنها، فلماذا لا بد للإنسان ذي الطبيعة الشريرة أن يعاني من أعماله، لو أن هذه الأعمال كانت لا تعبر إلا عن ماهية طبيعية فحسب؟ ولا نستطيع أن نفعل شيئا بصدد الإجابة عن هذا السؤال خيرا من اقتباس نص من المراسلات التي دارت بين «أولدنبرج»

56

واسبينوزا، الأول يسأل، والثاني يجيب إجابة مقنعة.

وهذا ما كتبه «أولدنبرج »: «لو كان مثلنا نحن الموجودات البشرية في جميع أفعالنا الأخلاقية والطبيعية - على حد سواء - بين يدي الله، مثل قطعة الصلصال بين يدي صانع الفخار، فبأي حق يمكن لأي واحد منا أن يلام لأنه سلك بهذه الطريقة أو تلك، حين يكون من المستحيل عليه استحالة مطلقة أن يسلك بطريقة أخرى؟ أليس في مقدورنا جميعا أن نرد على الله قائلين: إن قدرك المحتوم، وقوتك التي لا تقاوم قد اضطرتنا أن نسلك على هذا النحو، وجعلت من المستحيل علينا أن نفعل على نحو آخر، فلماذا إذن، وبأي حق تسلمنا إلى مثل هذه العقوبات المرعبة، التي لا نستطيع اجتنابها بأية طريقة من الطرق، إننا نرى أنك تفعل كل شيء وتوجه كل شيء وفقا لضرورة عليا تتفق مع إرادتك ومشيئتك؟ لو أنك أجبت بأن الناس لا عذر لهم أمام الله، لا لسبب آخر سوى أنهم بين يدي الله. فإني سوف أرد هذه الحجة - يقينا - وأقول: إن الناس لهم عذرهم الواضح بالضبط بسبب أنهم بين يدي الله. لأنه من اليسير على كل إنسان أن يحتج قائلا: آه! يا إلهي. إنها قوتك التي لا راد لها! ومن ثم يبدو أنني لا بد لي من أن أعذر إن لم أفعل على نحو آخر.»

57

ولقد كتب «اسبينوزا» يقول في رده على هذه الرسالة: «ما قلته من أننا ... لا عذر لنا لأن مثلنا بين يدي الله مثل قطعة الصلصال بين يدي صانع الفخار أردت أن يفهم منه أن أحدا لا يستطيع أن يلوم الله لأنه منحه بنية هشة أو عقلا ضعيفا؛ لأن مثل هذا اللوم سوف يكون عبثا

absurd ، أشبه بعبث شكوى الدائرة من أن الله لم يمنحها خصائص الكرة

sphere ، أو شكوى الطفل الذي آلمه حجر من أن الله لم يمنحه جسدا سليما من الناحية الصحية، ومن المعرفة الحقة ومن محبة الله، وأنه أعطاه طبيعة بلغت من الوهن حدا جعله لا يستطيع أن يكبح جماح رغباته أو أن يجعلها معتدلة. إذن لا شيء ينتمي لطبيعة كل موجود غير ما ينتج بالضرورة من سببه المعطى. لكنك تصر على القول بأنه لو كان الناس يخطئون بضرورة طبيعتهم، فإنهم في هذه الحالة لهم عذرهم؛ لكنك لم تفسر لي ما الذي تريد أن تستنتجه من ذلك؟ لم تفسر لي ما إذا كنت تريد أن تستنتج من ذلك أن الله لا يكون على حق في غضبه عليهم، أو ما إذا كانوا هم يستحقون الغبطة، أعني يستحقون معرفة الله ومحبته. لو كنت تقصد الأولى فسوف أسلم تماما بأن الله ليس غاضبا، وأن جميع الأشياء تسير وفقا لقراره. لكني أنكر أنه ينبغي لهم من ثم أن يكونوا سعداء؛ لأن الناس يمكن أن يكون لهم عذرهم، ويفتقرون مع ذلك إلى السعادة، بل عليهم أن يكونوا معذورين بطرق شتى. فالحصان له عذره في كونه حصانا وليس إنسانا، ومع ذلك فهو لا بد أن يكون حصانا لا إنسانا. من يصيبه مس من جنون بسبب عضة كلب هو في الواقع معذور، لكن غيره من الناس لهم الحق - مع ذلك - في خنقه.

58

وأخيرا فإن من يعجز عن ضبط رغباته وكبح جماحها خشية القانون، فإنه يعجز - مع أنه لا بد من أن يعذر لضعفه - عن الاستمتاع بصفاء الذهن، ومعرفته الله ومحبته، لكنه لا بد بالضرورة أن يهلك.»

59

وأنا أتفق مع وجهة نظر اسبينوزا بقدر ما تذهب إلى أن العقاب والمكافأة بالمعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين، هما نتيجتان ضروريتان لأعمال الفاعل، التي هي بدورها المحصلة الضرورية لطبيعته؛ فالعقاب والمكافأة لا يحددان - كما يزعم الفيلسوف الجبري - السلوك المقبل للفاعل. لكنهما يحددان نتيجة سلوكه في الماضي. والعقاب والمكافأة من ناحية أخرى لا يحتاجان إلى فرضهما على الفاعل من سلطة خارجية، بل على العكس، لا بد أن يفرضهما الفاعل على نفسه

Self-Imposed .

ولكن وجهة النظر التي يأخذ بها هذا البحث تختلف عن وجهة النظر التي تنسب عادة لاسبينوزا، وهذا الاختلاف يكمن في أن البحث الحالي لا ينظر إلى طبيعة الفاعل على أنها معطاة ومقدرة سلفا، لأن طبيعة الفاعل - إلى حد معين - من صنعه. (30) حين نقول للفيلسوف الجبري: إنه بناء على وجهة نظرك، فإنه لا يمكن أن يكون هناك وجود لكلمة «ينبغي»؛ لأن هذه الكلمة تتضمن كلمة «أستطيع»، وكلمة «أستطيع» تعني الاختيار، فإنه قد يسمح بمعنى واحد فقط تتضمن فيه كلمة «ينبغي» كلمة «أستطيع»، فهو قد يقول إن الإنسان مقيد أخلاقيا فحسب بأن يفعل «ما في قدرته»، وما «يستطيع الإنسان أن يمسك عنه» هي تلك الموضوعات التي تخضع للعقاب أو الإدانة الأخلاقية. لكنه يفسر كلمة «يستطيع» وعبارة «ما في قدرته» بأنها تعني فحسب غياب جميع العقبات التي لا يمكن التغلب عليها، ما عدا الحاجة إلى باعث كاف

60

لكن إذا كان الفيلسوف الجبري يوافق على أنه يمكن أن تكون هناك حالة يستطيع فيها الفاعل أن يمتنع عن فعل شيء ما، أفلا يعني ذلك أن نظريته ليست مقنعه بما فيه الكفاية بحيث تشمل جميع الحالات الممكنة؟

الفصل السادس

المذهب الجبري: إمكان التنبؤ

(1) ما المقصود بإمكان التنبؤ؟ (2) مغالطة إمكان التنبؤ التراجعي. (3) مبدأ اللاحتمية في العلم. (4) أيا ما كان تفسير هذا المبدأ فهو يعارض الحتمية المطلقة. (5) لا نهدف إلى البرهنة على عدم إمكان التنبؤ بالسلوك البشري من عدم إمكان التنبؤ في العالم الطبيعي. لكنا نقدم هذا المبدأ ضد أولئك الذين يرغبون في البرهنة على التنبؤ بالسلوك البشري من التنبؤ في العالم الطبيعي. ••• (1) أما وقد ناقشنا المذهب الجبري في معنيين له هما (1) القول بأنه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (2) القول بأن مبدأ السببية هو المبدأ السائد في الطبيعة، فإن علينا الآن أن نناقش المعنى الثالث لهذا المذهب، وهو الزعم القائل بأن كل شيء يمكن التنبؤ به لو توافرت لدينا معطيات معينة كافية:

يرى المذهب الجبري - فيما يتعلق بإمكان التنبؤ - بأن حالة الكون الحاضرة تعتمد تماما على ما حدث في لحظة ماضية، فكل شيء موجود، وكل حدث يحدث بالضرورة وليس ثمة بدائل ممكنة تتعلق بمستقبل سير الحوادث، بل هناك طريق واحد مفتوح: وهو التتابع الضروري لما قد كان موجودا بالفعل، وخطة الكون كله من أضأل التفصيلات موضوعة مقدما وضعا تاما، فلا شيء جديد، ولا يمكن أن تتوقع شيئا جديدا.

يوم بدء الخلق أنشا الصانع

آخر الناس، وألقى الزارع

بذرة يبدو جناها اليانع

آخر الدهر، وما قد رقما

مبدأ يتلى حسابا في الختام

1

والواقع أن المذهب الجبري كان يعني تماما إمكان التنبؤ عند عالم الطبيعة الذي عاش منذ نصف قرن. يقول بروفيسور «إدنجتون»: «إن المذهب الجبري الذي كان يأخذ به عالم الطبيعة في الماضي كان نوعا خاصا هو ما أسميه بإمكان التنبؤ، وهو يفترض أن هناك نسقا منظما من القوانين، بحيث لو أعطيت لنا وقائع كاملة عن حالة العالم خلال اللحظة الأولى من عام 1600 - مثلا - فإننا نستطيع أن نتنبأ بالمعطيات الكاملة عن حالة العالم لأي تاريخ لاحق «وكذلك طبعا لأي تاريخ ماض» ...»

2 (2) وسؤالنا الآن هو: هل يلاحظ المتنبئ بالفعل الخاصية «ص» في اللحظة «ل»، وبالتالي يخبرنا مقدما أن خاصية أخرى «س» سوف تظهر إلى الوجود في اللحظة «ل2»، أم أنه غالبا ما يلاحظ «س» في لحظة «ل2»، ثم يستدل منها تراجعيا أنه لا بد أن يكون قد كان هناك «ص» في لحظة «ل1»؟ إننا إذا ما وجدنا أن ما يحدث أحيانا هو الحالة الأخيرة، فإن رأي المتنبئ يمكن أن يكون له ما يبرره، إذا - وإذا فقط - كان من الممكن اكتشاف وجود «ص» في اللحظة «ل1» اكتشافا مستقلا، أعني من خلال وسائل أخرى غير «س». لكن إذا لم يكن هناك وسائل أخرى نعرف بها أن «ص» لا بد أن تكون قد وجدت في الماضي، اللهم إلا بواسطة الملاحظة الأخيرة «س»، فلا يمكن أن يكون هناك في هذه الحالة تنبؤ.

والواقع أن المغالطة التي تكمن خلف وجهة نظر الفيلسوف الجبري فيما يتعلق بإمكان التنبؤ هي - فيما يبدو - على النحو التالي: أنه يلاحظ «س» في لحظة «ل»، ثم يستدل منها أنه لا بد أن يكون قد كانت هناك «ص» في لحظة «ل1»، ثم يسير أبعد من ذلك ليقرر أننا إذا ما عرفنا «ص» في لحظة «ل1»، فإننا نستطيع أن نتنبأ ب «س» في «ل2»، دون أن نبحث فيما إذا كانت «ص» في لحظة «ل1» كانت موجودة كعامل حقيقي أو كعنصر خرافي، والفيلسوف الجبري يتلاعب «بالتسليم بخاصية أنها كانت «ص». افرض أن لدينا نسقين هما «س1»، «س2» كانا يتشابهان تشابها تاما حتى لحظة «ل»، ثم في لحظة «ل1» اختلف النسقان، إما تلقائيا أو استجابة لاختبار مماثل طبق عليهما معا بحيث عبر أحدهما عن خاصية «س1» بينما عبر الآخر عن خاصية «س2». إن في استطاعتنا في هذه الحالة أن نأخذ عن الخاصية «س1» في لحظة «ل» لنحدد أنها كانت «ص1»، والتعبير عن خاصية «س2»، في لحظة «ل» لنحدد أنها كانت «ص2». ونحن نكون بهذا الشكل قد أظهرنا أن النظامين ليسا بالضبط متشابهين أتم التشابه قبل لحظة «ل»، طالما أن «س1» كانت لها الخاصية «ص1» و«س2» كانت لها الخاصية «ص2» وأن اختلاف سلوكهما ليس مثلا على مبدأ اللاحتمية.»

3

تلك هي حجة الفيلسوف الجبري. غير أننا لا بد أن نميز الحالات التي تستنتج فيها «ص» من «س» بحيث يمكن اكتشافها بطرق أخرى قبل أن تظهر «س»، أقول إننا يجب أن نفرق بين هذه الحالات الأخيرة وبين تلك الحالات التي نعرف فيها «ص» فقط من خلال «س»، وبالتالي يمكن تحديدها بواسطتها. وفي الحالة الأخيرة لا يكون هناك تنبؤ: لكن هل هناك مثل هذه الحالة؟

ولكي نبين كيف يمكن تفسير ذلك عمليا، يقول بروفيسور إدنجتون: «دعنا نفترض أن نترات الفضة هو اسم مشترك لنوعين مختلفين من الملح (فرضا) هما: ف ن أ 3، وف ن- أ 3، وأن العلامة الوحيدة على اختلافهما هي سلوك مختلف بواسطة اختبار يحطم الملح بحيث لا يمكن أن يتكرر على الإطلاق. ولا بد لي من أن أقول إن النتيجة المستخلصة من الاختبار في هذه الحالة بأن الملح كان نترات فضة هي استدلال أصيل طالما أنه يحدد خاصية كان يمكن التحقق منها بطريقة أخرى في اللحظة التي نفترض فيها وجود هذه الخاصية، في حين أن النتيجة القائلة بأن الملح كان ف ن - أ 3 وليس ف ن أ 3 ليست استدلالها لكنها إعادة تقرير ما قد حدث تحت شكل أو على هيئة التحديد التراجعي للخاصية. والحقيقة هي - على ما نعرف - أن سلوك نترات الفضة فيما يتعلق بهذا الاختبار الجزئي المعين هو سلوك غير محدد، والرموز ف ن، وف ن ليست إلا مجرد إشارة إلى سلوكين محتملين لها.»

4

علينا إذن أن نفرق تفرقة واضحة تماما بين هذين الشرطين الممكنين: (1) حين نستدل تراجعيا من ظهور «س» في «ل2» أن الخاصية «ص» لا بد أنها كانت توجد في «ل1» فها هنا تسليم ضمني بأن الخاصية «ص» في اللحظة «ل» يمكن التحقق من وجودها تحققا مستقلا قبل حدوث «س» في «ل2». وبالتالي يمكن التنبؤ بدقة و«س» من «ص». (2) لكن حين نفترض وجود خاصية «ص» في «ل1» لا يمكن معرفتها إلا بعد أن تظهر «س1» في «ل2» وأكثر من ذلك لا يمكن تحديدها بأية طريقة من الطرق إلا بالإشارة إلى حدوث «س» في لحظة ما فيما بعد، فلا معنى إذن للقول بأن «ص» هي التي كانت تحدد «س»، ومن هنا كان من المشروع تماما أن نقول إن ظهور «س» لا يمكن التنبؤ به.

وسوف نقتبس النص الآتي من بروفيسور إدنجتون لكي نقدم أمثلة عينية لهاتين الحالتين: «دعنا الآن نقارن بين ظاهرتين؛ إحداهما نفترض فيها أنها غير محددة. والأخرى - لأغراض عملية، رغم أن ذلك ليس مطلقا - نفترض فيها أنها محددة، وسوف آخذ كمثل على الظاهرة غير المحددة تحطيم ذرة الراديوم. هذه الذرة في اللحظة الحاضرة ل صفر، لا نعرف ما إذا كانت سوف تتحطم في اللحظة «ل1» أو في لحظة أخرى «ل2» فذلك غير محدد ... قارن بين هذا المثل وبين ظاهرة محددة «على وجه التقريب» كالقول بأن الكوكب «بلوتو

» سوف يصل إلى مركز معين في السماء في اللحظة «ل1» وليس في اللحظة «ل2». إننا حين نلاحظ ذرة الراديوم تتحطم في اللحظة «ل1» فإن في استطاعتنا لو شئنا أن «نستدل» خاصية «ص1» استدلالا تراجعيا من لحظة «ل صفر». غير أننا إذا ما وجدنا أنه ليس ثمة طريقة أخرى لوصف «ص1»، إلا بربطها بتحطيم الذرة في لحظة «ل1» فإننا لا نفعل شيئا سوى تقرير الظاهرة التي لاحظناها في كلمات مختلفة. فمن ملاحظة الكوكب «بلوتو».

نستطيع بالمثل أن نستنتج الخاصية ص1 في لحظة ل صفر غير أن «ص1» في هذه الحالة هي استدلال أصيل ؛ لأنها لا تحدد بالإشارة لما استنتجناه منها. وعلى ذلك فالخاصية «ص1» يمكن أن تكون أن الكوكب «بلوتو» كان في وضع معين في المساء في لحظة ل صفر، أو أنه عندئذ مارس بعض الآثار المشوشة على الكوكب نبتون

Neptune ، وهذه الخصائص يمكن تحديدها بالإشارة إلى بعض الظواهر التي حدثت في وقت سابق على «ل1» ... لقد قابلت بين لا حتمية تحطيم ذرة الراديوم، وبين حتمية وضع الكوكب بلوتو

، لكني لا بد أن أوضح أن ذلك اختلاف في الدرجة لا في النوع ... وإني لأعتقد أن أولئك الذين يفترضون خاصية «ص» المجددة في ذرة الراديوم، ويتوقعون أن ينظر إلى افتراضهم هذا على أنه شيء أكثر إلهاما من التخمين الطائش، يتأثرون بوجهة النظر التقليدية التي تقول إنك لو سلمت بأن هناك ظاهرة ما غير محددة «أو لا حتمية» فلا بد أن تسلم بوجود استثناء في سير الطبيعة المنتظم. وليس ذلك صحيحا. فكل ظاهرة - في التخطيط الحالي لعلم الطبيعة - لها درجة معينة من اللاحتمية. والحسابات التي تجري من الصيغ تعطينا في آن واحد نتيجة مرجحة وقياسا لا يقينيا. والترجيحات ترتب من الشواذ الظاهرة حتى المصادفات لكنها لا تصل قط إلى يقين كامل.»

5 (3) ويؤدي بنا ذلك إلى مبدأ اللاحتمية، وهو المبدأ السائد الآن في العلم؛ لأن العلم «لم يعد يبحث عن اليقين، لكنه يبحث فقط عن الاحتمال المرجح في وقوع حادثة ما، أو أن قانونا من قوانين الطبيعة قانون صحيح ... وهذا يعني أن جميع قضاياه لها طابع إحصائي؛ فسلوك الوحدات التي يعزى إلى الإحصائيات هو سلوك غير حتمي، والنتائج الإحصائية لا تعطينا سوى احتمالات ترجيحية فحسب.» ويصاغ مبدأ اللاحتمية في صورتين: ولقد انتشرت الصورة القديمة منهما حين افترض العلماء أن الذرة تتألف من نواة شمسية مع إلكترونات كوكبية تدور حولها في عدد من المحاور، وتبعا لمثل هذا الافتراض، فإن إشباع الذرة يحدث حين يقفز الإلكترون من محور آخر في لحظة معينة يفترض فيها أنها غير محددة.

لكن هناك صورة حديثة أكثر من ذلك لمبدأ اللاحتمية لخصها «دكتور برود» على النحو التالي: «هناك مقادير يمكن قياسها «ك وق» ذات أهمية أساسية في علم الطبيعة الأولى لها طبيعة الوضع، أما الثانية فلها طبيعة اللحظة. وقيمة «ق» في لحظة معينة وفي مكان محدد - بالنسبة لوقائع معينة، هي التي سوف أشير إليها ب «ط ق» - يمكن أن تقع داخل أو خارج نطاق صغير معين و

Δ

ق

على حد سواء، وبالنسبة لنفس هذه الوقائع نفس الزمان والمكان فإن قيمة ق يمكن كذلك أن تقع خارج أو داخل نطاق صغير هو

Δ

ق ، وبما أن المعطى ط ق ك يتغير في جوانب أخرى معينة تغيرا متصلا فإن النطاق

Δ

ك

ينكمش بغير حدود. لكن هذين النمطين من التغير في المعطيات يرتبطان ارتباطا وثيقا لدرجة أن أي تغيير ينقص من نطاق

Δ

ك

يزيد من نطاق

Δ

ق ، وأي تغير ينقص من نطاق

Δ

ك

يزيد من نطاق

Δ

ق ، والعلاقة المتبادلة بينها هي أن الناتج صفر

Δ

ق

الذي يحدثه

Δ

ك

له قيمة متميزة معينة مستقلة عن التغيرات التي تحدث للمعطى ط ق ك.»

6

والمبدأ الذي تقرره هذه الصورة يمكن شرحه بإحدى طريقتين؛ الطريقة الأولى أبستمولوجية «معرفية»، والطريقة الثانية أنطولوجية «وجودية». (أ) والشرح الأول يتعلق بعدم يقين القياس، فحين تقاس مقادير معينة مجاوزة درجة معينة من الدقة، فإن أثر آلة القياس على العملية المراد قياسها يصبح ملحوظا. فالآلات نفسها بما أنها مصنوعة من المادة النهائية

ultimate stuff

للشيء المراد قياسه ذاته، فمن المحتمل أن تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها هذه المادة، وعلى ذلك فمن المحتمل جدا أن أية محاولة لرد الأثر المزعج للآلة من حيث أنها تقيس «ق» لا بد بالضرورة - بعد حد معين - أن تزيد من أثرها المزعج، من حيث أنها تقيس ك، والعكس صحيح أيضا . ولو صح ذلك فإن الناتج

Δ

ق

Δ

ك

لا بد أن تكون له قيمة حق معينة لا تتعلق بالمنهج المستخدم في قياس ق د ك. (ب) إن القول بوجود قيمة معينة يمكن تحديدها في نقطة معينة أو لحظة محدودة هو قول مصطنع إلى حد كبير. خذ مثلا انحناء القوس في نقطة معينة، قد تقول إن القوس ليس فيه انحناء عند هذه النقطة، أو فيه انحناء لا متناه، أو فيه انحناءان مختلفان. وقد يكون ذلك صحيحا بالنسبة لجميع المحددات

determinable

ذات الأهمية في علم الطبيعة. (4) ولو أننا فهمنا مبدأ اللاحتمية بالمعنى الذي يمكن فيه للإلكترون في إحدى الذرات أن يقفز - بغير تنبؤ - من محور إلى محور آخر، فإن ذلك يضعف - في الحال - حجة الفيلسوف الجبري الذي يقيم إمكان التنبؤ بالسلوك على أساس إمكان التنبؤ في العالم الطبيعي. وإذا كان الأخير لا يمكن التنبؤ به، نتج عن ذلك أنه لا يمكن التنبؤ بالأول أيضا.

وإذا ما أخذنا مبدأ اللاحتمية من ناحية أخرى، على أنه يعني عدم الدقة في القياس، مهما تكن الأدوات المستخدمة في عملية القياس، فإن ذلك أيضا سوف يكون حجة ضد أولئك الذين يعتقدون أن السلوك البشري يمكن حسابه لو أننا توقفنا فحسب عن الاستبطان، وقسنا الظواهر البشرية قياسا كميا كما نفعل في بقية العالم الطبيعي.

وإذا ما أخذ هذا المبدأ على أنه يعني إمكان معرفة قيمة محدد معين

certain determinable

في نقطة معينة أو في لحظة محددة، فسوف يكون من اللغو أن نقول: «إننا إذا ما قدمت لنا المعطيات الدقيقة في لحظة معينة» فسوف يكون من الممكن التنبؤ بالظروف في لحظة «لاحقة». لأن «المعطيات في لحظة معينة» لا يمكن أن تعطى بدقة. (5) لكنا لم نقدم الحجة السابقة لكي نبرهن على أن السلوك البشري لا يمكن التنبؤ به لأن حوادث العالم الطبيعي قد وجدنا أنها تجاوز عملية التنبؤ. فذلك لا بد أن يعني أن الأحداث الذهنية معتمدة على الأحداث المادية، وأن مبدأ اللاحتمية المفترض في المادة دليل في صالح لا حتمية الذهن، أعني أن خصائص الذهن يمكن استنباطها من خصائص المادة. والواقع أن الحجة السابقة تهدف إلى تفنيد النظرية التي تعزو - بيقين مطلق - حتمية للعالم غير العضوي، ثم تفترض بعد ذلك عن طريق المماثلة والتشابه، أن الحتمية تصدق كذلك على الحوادث الذهنية رغم مظهرها الذي يوحي بعكس ذلك.

سوف أقتبس النصوص الآتية من برفيسور إدنجتون وأوجهها إلى أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أنه من الصعب التخلص من الحتمية بوصفها تصورا صادقا للعالم المادي - يقول إدنجتون: «لا بد لي أن أوضح أن النظرة العلمية للمذهب اللاحتمي لا تعني أن هناك أحيانا استثناءات للقانون الحتمي، لكنها تعني أن كل ظاهرة هي لا حتمية بدرجة كبيرة أو صغيرة.»

7

وهو يقول كذلك: «إني أعتقد أننا ننظر إلى المذهب الحتمي الآن على أنه زعم بغير أساس.»

8

وهو يقول أيضا: «طالما أن الحتمية قد أزيحت من وضعها الذي يبدو منيعا في علم الطبيعة، فإن - من الطبيعي - أن نشك في قولها حين تزعم أنها اتخذت لنفسها وضعا مؤكدا في مناطق أخرى من الخبرة.»

9

ويلاحظ الكاتب نفسه، وهو يلخص حججه في صالح المذهب اللاحتمى: «(1) يبدو أننا نقوم بتعقيد لا مسوغ له حين نفترض وجود الحتمية في العمليات الذهنية واللاحتمية في العمليات الطبيعية. (2) من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تنطبق الحتمية على حالة ذهنية معينة وحالة ذهنية أخرى، لا سيما إذا كانت حالة ذهنية لفرد معين - أعني وحدة

unit ، قد لا يكون لها نظير في الكون على الإطلاق - فهي تلغي مشكلة المماثلة الوثيقة مع إمكان التنبؤ في النظم الفيزيائية. (3) الحالات الذهنية بطبيعتها ذاتها ومن خصائصها نفسها ليست معطيات للتنبؤ الدقيق».

10

لكني أكرر القول بأنني لا أريد أن أستنبط حريتنا من اللاحتمية في العالم الطبيعي. فحتى إذا ما كان العالم المادي تحكمه حتمية مطلقة من أضأل التفصيلات، فسوف أظل على اقتناع تام بأن الإرادة البشرية تحدد نفسها بنفسها ولا يمكن التنبؤ بها. وفضلا على ذلك فإن تطوير هذه النقطة سوف يكون موضوع الفصل القادم.

الفصل السابع

الجبر الذاتي

(1) المذهب اللاحتمي مرفوض - عرض هذا المذهب . (2) الحرية تعني انعدام القيود - أن تكون حرا من كل شيء معناه أن تكون لا شيء. (3) مذهب اللاحتمية يهدم المسئولية الخلقية لأنه هدم الهوية الذاتية. (4) الثواب والعقاب لا بد أن يكون ظالما وعقيما. (5) كل من الفيلسوف الجبري والفيلسوف اللاحتمي قد يكون محقا فيما يؤكده، مخطئا فيما ينكره. فمن الممكن أن يكون للإرادة سبب، وأن يكون هذا السبب نفسه، ذلك حرا. (6) التفرقة بين الشرط الذي يكون ضروريا للمشروط

conditionate ، وبين الشرط الذي يكون في آن معا ضروريا وكافيا. (7) عرض السببية الميتافيزيقية. (8) عرض السببية التجريبية - مقارنة بين التصورات الميتافيزيقية والتصورات التجريبية للسببية. (9) التصور الثالث الذي يقع بين الطرفين الأقصيين. الشرط قد يكون ضروريا للمشروط دون أن يتبعه المشروط بالضرورة. (10) هذه الوجهة من النظر تختلف عن وجهة نظر كل من اسبينوزا وليبتنز - وجهة نظر اسبينوزا. (11- 12) نقد وجهة نظر اسبينوزا: (11) كيف يمكن للأحوال

modes

الزمانية المتناهية أن تنتج من جوهر خال لا متناه. (12) وبناء على ذلك فإن رأي اسبينوزا في أن الإرادة ضرورية رأي مرفوض. (13) وجهة نظر ليبنتز في أن الإرادة حادثة لكنها يقينية؟ (14-16) نقد وجهة نظر ليبنتز. (14) المشكلات التي أثارها «أرنولد» مشكلات حقيقية. (15) التنبؤ بالمستقبل تناقض في الألفاظ. المستقبل المتنبأ به عبارة عن ماض. المعرفة الإلهية المسبقة تهدم حرية الله كما تهدم حرية الإنسان. (16) اقتباس قصة سكستوس تاركونيس لتوضيح نظرية ليبنتز. (17) كلتا النظريتين تجعل الشعور لا معنى له. (18) المذهب الآلي مرفوض هو الآخر؛ لأن التطور عنده تطوير غير خالق. (19) نقد تصور دارون للتطور. (20) الأخذ بنظرية لامارك. (21) التطور الحقيقي لا بد أن يتضمن خلق شيء جديد. (22) الحياة تنبثق في جدة مطلقة. (23) مقارنة الحياة بعملية الخلق عند الفنان. (24) خلق الإنسان ليس شيئا ثابتا ومحددا. (25) يمكن التنبؤ بالواقعة دون الفعل. (26) فشل كل محاولة للتوفيق بين العلم الإلهي بكل شيء، والحرية الإنسانية. (27-31) مناقشة حجج مختلفة بهذا الصدد: (27) القول بأن المعرفة المسبقة لا تعني حدوث الحادثة المتنبأ بها. (28) القول بأن الله يوجد في «آن» أبدي. (29) تصور المعرفة الإلهية المسبقة بمماثلتها بالفن. (30) مشكلة الشر على نحو ما نوقشت في المراسلات بين بلينبرج واسبينوزا. (31) محاولة جيمس للتوفيق بين المعرفة الإلهية المسبقة وبين الحرية الإنسانية - عرض هذه المحاولة ونقدها. (32) أي تصور لواقع ثابت هو تجريد يقوم به العقل البشري. الواقعة دائما في صيرورة، وهي تخلق باستمرار شيئا جديدا. (33) مفارقة العلم الإلهي السابق وحرية الإنسان لا بزوال العنصر غير الحقيقي، أعني المطلق والاحتفاظ بالعنصر الحقيقي، أعني العنصر النسبي الناقص. (34) إذا ما أراد شخص ما على الإطلاق فإن إرادته لا بد أن تكون حرة. ••• (1) إذا كنا قد رفضنا المذهب الجبري باعتباره مذهبا يقوم على غير أساس، فإننا نرفض - لنفس السبب - مذهب اللاجبرية الخالص، فهو مذهب لا يمكن الدفاع عنه: وأنا أعني بمذهب اللاجبرية الخالص، تلك النظرية التي ترى أنه ليس ثمة شيء ترى أنه ليس ثمة شيء في طبيعة «س» - أو في طبائع الأشياء التي ترتبط بها - يلزم «س» أن تكون لها الخاصية «ص» في اللحظة «ل». وبناء على هذه النظرية فإن «س» يمكن أن تكون أي شيء في أية لحظة دون أن يكون هناك ارتباط على الإطلاق بين الحاضر من ناحية، وبين الماضي والمستقبل من ناحية أخرى.

ويقول «جيمس» عن تطبيق هذا المذهب على الكون بصفة عامة: «يرى المذهب اللاجبري أن لأجزاء الكون مقدارا معينا من تأثير بعضها في بعض تأثيرا لا تحديد فيه ولا تعيين، بحيث إن وجود أحدها لا يحدد بالضرورة الكيفية التي ستوجد عليها الأجزاء الأخرى. وهذا المذهب يسلم بأن الممكنات قد تزيد على الوقائع، والأشياء التي لم تنكشف لمعرفتنا بعد قد تكون في ذاتها مبهمة أو مزدوجة الدلالة. وقد نتصور بديلين للمستقبل كلاهما الآن ممكن الحدوث، ولكن لا يصبح أحدهما مستحيلا إلا في لحظة يستبعده فيها الآخر حين يتحقق ويصبح واقعيا».

1

أما فيما يتعلق بالسلوك البشري فإن هذا المذهب يرى أن الفاعل حين يسلك سلوكا معينا مثل «أ»، فإنه لا يكون مقيدا في فعله هذا بأي شيء داخليا كان أم خارجيا، فهو لا يسلك سلوكه هذا ويفعل الفعل «أ» لأنه يحقق أعلى رغبة من رغباته، ولا لأنه يجلب أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولا لأنه صادر عن سلطة الواجب الداخلية، ولهذا فهو يختاره ويفضله على جميع الأفعال الأخرى، وهو ليس مقيدا في فعله هذا بتركيبه الجسمي أو العقلي، أو الوراثة، أو البيئة التي نشأ فيها. إنه باختصار شديد يفعل الفعل «أ» بلا سبب، فليست هناك مقدمات من أي نوع تضطره أن يفعل «أ» ويستبعد البدائل الأخرى، فهو لا يرتبط بغاية تغريه بهذا السلوك، ولا بمقدمات تضطره إليه. إن فعله هو ببساطة وبوضوح: مجرد صدفة.

ونحن نرفض مثل هذه اللاجبرية الخالصة، أو حرية اللامبالاة وعدم الاكتراث؛ لأنها تعني ببساطة العشوائية، التي هي سلب للعقل والقانون، فكل شيء عند هذا المذهب ممكن ولا شيء مستحيلا. ولن يكون هناك شيء مؤكد في حياة الإنسان لأن الرجل الفاضل قد ينقلب فجأة إلى رجل سيئ السلوك، ومن ثم فكل محاولات المربي تصبح بغير جدوى. (2) إذا كانت الحرية لفظا خاصا يعني - بمعنى من معانيه - انعدام القيود، فإن الحرية المطلقة لا بد أن تعني أن تكون حرا من جميع القيود؛ أن تتحرر من الأشياء الخارجية ومن الطبيعة، ومن الناس من حولك، ومن القانون، ومن العقل، ومن الوراثة. لكنك من ناحية أخرى: «لو تحررت من كل شيء لكان معنى ذلك أنك لا شيء؛ فاللاشيء أو العدم هو وحده الحر حرية مطلقة: الحرية المطلقة هي العدم المجرد، ومن هنا فإذا كان الإنسان بالموت يتوقف عن أن يكون شيئا، فإنه - بالموت أيضا - يكون لأول مرة حرا حرية مطلقة لأنه سيصبح لا شيء.»

2 (3) إنه لمن الخطأ أن نظن أن المذهب اللاجبري يجعل المسئولية الخلقية واضحة بنتائجها في الثواب والعقاب؛ إذ الواقع أنه لا شيء يهدم المسئولية الخلقية كما تهدمها حرية اللامبالاة. «إن ما يطلبه دعاة الحرية عادة من حيث الأساس هو «القدرة على الفعل بطريقة أخرى» وهو في نفس الوقت أن يفعل أو يقوم بالفعل وأيضا ألا يفعل، وذلك إنكار - لا قبول - للمسئولية، أعني تكيف الذات بكيف عن طريق سلوكها. إنه يقدم ما يتظاهر بالسؤال عنه، وهو أن الفعل الذي سيقدم عليه سيكون فعله هو وسيكون ذاته نفسها. وهو يهرب من مطلبه في اللحظة التي يواجه فيها معناه، في كل فعل بل حتى في لحظة أداء الفعل فإن عليه أن يكون كما لو لم يفعل شيئا ولا قام بفعل شيء، فهو غير ملتزم وغير متطور. قد يقال لكنه «غير ملتزم قبل الفعل لا بعده» لكن ذلك ليس إلا مراوغة وتملصات. فلو أنه كان غير ملتزم بعدة آلاف من الأفعال، وقبل الفعل الواحد بعد الألف فهو غير ملتزم على الأقل بعد الفعل الواحد بعد الألف. إن وجهة نظر هذا المذهب ليست هي أن الفعل يصف الذات بسمة معينة، بل هي بالأحرى أن الفعل لا يصف الذات بأية صفة.»

3

إن اللاجبرية المطلقة تعني أن فعلي في لحظة معينة لا يرتبط على الإطلاق بما حدث أو بما وجد في اللحظة الماضية أو لحظات الزمان؛ لأنه لو كانت هناك مثل هذه الرابطة بين الماضي والحاضر لكان معنى ذلك أن الفعل - كليا أو جزئيا - محدد بالمقدم. لكن القول بأني في كل لحظة شخص جديد تماما تصدر عني أفعال في استقلال عن ماض يؤدي إلى هدم الهوية الذاتية، ويعفيني بالتالي من المسئولية.

إن الهوية لا تعني شيئا ما لم تعن التشابه الذاتي مع الاختلاف في آن معا، وما لم نتصور الفاعل على أنه تشابه ذاتي «أو نفس الشخص» مع اختلافات في عرض هذه الشخصية فإننا لن نستطيع أن نحمل عليه أية صفة. يقول برادلي في هذا المعنى: «إن اسم شخص ما هو اسم لفرد معين يبقى موجودا وسط التغيرات الجزئية».

4

فوجود الفاعل لا يعني مجرد تتابع لحظات جزئية، لكنه يعني هوية تجاوز هذه اللحظات الجزئية. «لأنه ما لم يكن الشخص متميزا فسوف يصعب أن يكون له اسم خاص يعتمد على بقائه هو نفسه وسط التغيرات، ونحن لا نستطيع أن ندرك شيئا ما لم تكن له خاصية معينة أو مجموعة من الخصائص نستطيع من وقت لآخر أن نوحد بينها، فالفرد يبقى هو نفسه وسط تغير الظاهر ، وهذا يعني أن له هوية حقيقية.»

5

والفيلسوف اللاجبري حين ينكر وجود أي ارتباط بين الماضي والحاضر فإنه بذلك ينكر دوام التشابه الذاتي للفاعل، وهو بالتالي يلغي الهوية ومعها - بالطبع - المسئولية؛ ذلك لأن وجود الهوية مرتبط بالمسئولية، لأنك حين تقول عن شخص ما إنه مسئول عن أفعاله، فإنك تعني أنه يظل في هوية مع نفسه في الماضي والحاضر، وإذا ما بقي الفرد في هوية مع نفسه في لحظتين مختلفتين - إذا كان غدا هو نفسه بهويته الحاضرة - فلا شك أن هناك ارتباطا بين الماضي والمستقبل، أي إنه سيكون مقيدا في سلوكه غدا بما هو عليه الآن. ومن هنا فإن مذهب اللاجبرية الخالصة يتناقض مع المسئولية الخلقية، لأنه ما لم يكن هناك ارتباط بين اللحظات المتتالية في حياة الإنسان، فسيكون من الخلف أن تنسب إليه مسئولية خلقية في لحظة ما عما فعله في لحظة سابقة: «إن الشرط الأول لإمكان أن أكون مذنبا أو غير مذنب، أعني أن أصبح موضوعا لحكم أخلاقي، هو التشابه الذاتي: أن أكون أنا نفسي باستمرار شخصا واحدا في هوية ذاتية مع نفسي.»

6

وفضلا عن ذلك «فإنه من المستحيل أن ننظر إلى الوجود على أنه يتكون من وحدة مع اختلاف المضمون، ونفترض مع ذلك أن طبيعة المضمون هي أن يكون غير مكترث، وأنه ليست له طريقته المعينة في الاستجابات وتحول الكل.»

7 (4) كلا، ولا يمكن أن نجد في مثل هذه النظرية أساسا معقولا لفكرتي الثواب والعقاب، أو استحسان واستهجان ما يفعله شخص ما. فلو كان الفعل الخاطئ الذي ارتكبه الآن ينفصل تماما عن ماضي ومستقبلي فلا بد أن يكون عقابي ظالما بقدر ما هو عقيم مجدب، فهو ظالم لأنني في لحظة العقاب - وهي لحظة لا بد بالضرورة أن تكون مختلفة عن اللحظة التي ارتكبت فيها الفعل الخاطئ - لا أكون الشخص الذي كنته عند اقتراف الخطأ، وهو عقيم مجدب لأنه لن يكون له أدنى أثر على سلوكي في المستقبل. والواقع أنه «لو كانت أفعال الإنسان الإرادية غير مقيدة بالظروف التي يتضمنها نسق تكوينه الذهني، فإن الأساس الوحيد لعقابه في هذه الحالة لا بد أن يكون انفعالا من انفعالات الحنق أو الانتقام.»

8

وهذا الانفعال نفسه موجه توجيها خاطئا.

وهكذا يتضح أن مذهب اللاجبرية الخالصة لا ينقذ المسئولية الخلقية كما يزعم عادة، فقد ذهب دعاته إلى القول بأن الإنسان مسئول فحسب لأنه ليس ثمة مبرر يدعوه إلى أن يفعل هذا الفعل وأن يمتنع عن ذاك. وهم يقولون إن كون الإنسان مسئولا يعني أنه يستحيل عليه هو نفسه، كما يستحيل على أي شخص آخر أن يعرف ما الذي سيفعله في اللحظة القادمة. إننا لا يمكن أن نعرف ما هي أفعاله إلا بعد أن يفعلها بالفعل، وعندئذ نعرف أن هذه الأفعال كان يمكن أن تكون الضد على خط مستقيم: «إنه بمقدار ما تهتم بإنقاذ المسئولية ... فإنها تحطم شروطها ذاتها ... إنها تصف ذلك الشخص الذي ليس مسئولا، إنه الشخص المعتوه.»

9 (5) ومن ذلك يتضح أن الجبرية التامة، واللاجبرية الخالصة مذهبان خاطئان. «فأحدهما «المذهب الجبري» يزعم أن لكل شيء سببا، وينتهي إلى إنكار حرية الإرادة، بينما يفترض الآخر الحرية كحقيقة مقررة وينكر أن يكون للإرادة سبب. وقد يجوز أن يكون كل مذهب منهما محقا فيما يؤكده مخطئا فيما ينكره، أعني أنه من الممكن أن يكون للإرادة سبب، وأن يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حرا.»

10

والقول بأن الإرادة مشروطة وحرة في آن معا هو ما نعنيه «بالجبر الذاتي»؛ فالأفعال الإرادية ترتبط ارتباطا سببيا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه، ما دامت هذه الأفعال تعبر عن طبيعة الفاعل وتحقق ذاته، وهي في نفس الوقت حرة، لأنها ليست نتاجا ضروريا لشيء آخر خارج طبيعة الفاعل نفسه، فبمقدار ما يكون الفاعل مكتفيا بذاته في تفسير الفعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحد في هذا الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو يكون محددا بذاته أو مجبرا ذاتيا. غير أن هذه النقطة تحتاج إلى توضيح أكبر. (6) كلمة «الشرط» إما أنها تعني مقدما ضروريا، أو مقدما ضروريا وكافيا في آن معا. والشرط الضروري هو شيء إذا تحقق جعل تحقق النتيجة ممكنا. أعني أن «النتيجة» لا يمكن أن تتحقق دون أن يسبقها الشرط الذي هو سببها، في حين يمكن التفكير في الشرط مستقلا عنها. لكن الشرط الضروري والكافي هو شيء، إذا تحقق جعل تحقق النتيجة المشروطة ضروريا ولازما. وفي هذه الحالة لا يمكن التفكير في أي من الحدين بمعزل عن الآخر، لأن العلاقة بين الاثنين مطلقة. (7) وهذا الطابع المطلق للعلاقة بين الحدين في الحالة الثانية والضرورة التي بها يتبع «المشروط» الشرط تؤلف ما يمكن أن نسميه بالسببية الميتافيزيقية وهي التي نجد فيها أن الترابط الضروري بين السبب والنتيجة يمكن معرفته معرفة أولية عن طريق تحليل التصورات؛ أي إن معرفته لا تتوقف على التجربة التي لا تكشف إلا عن العلاقات العرضية وحدها. وهذه السببية الميتافيزيقية - فضلا على أنها تعني ضرورة العلاقة بين السبب والنتيجة - تتضمن وحدة كامنة وراء ثنائيتهما: «إذ كيف يمكن للضرورة المتبادلة بين تصور حد مع حد آخر، وهي الضرورة التي بواسطتها لا يكون تحقق النتيجة إلا تحققا ضروريا للسبب - كيف يمكن لنا أن نتصورها، ما لم تتحد ثنائية الحدين في وحدة أساسية واحدة؟ حين لا نستطيع تصور السبب بدون النتيجة، أو حين تتضمن ماهية السبب ماهية النتيجة. عندئذ لا يصبح التصوران بعد ذلك اثنين، لكنهما يمتزجان في تصور واحد. وفي هذه الحالة يصبح السبب ضروريا للنتيجة والنتيجة ضرورية للسبب؛ ومن ثم تصبح النتيجة في هوية واحدة مع السبب، والعكس صحيح أيضا.»

11 (8) أما التصور التجريبي للسببية فهو عكس هذا التصور الميتافيزيقي: فبدلا من الرابطة الضرورية بين السبب والنتيجة نجد أن العلاقة بينهما حادثة أو عرضية تماما. وإذا كان التصور الميتافيزيقي يميل نحو الوحدة وراء الكثرة، فإن التصور التجريبي يتجه نحو الكثرة، فالأول يهتم بهوية السبب والنتيجة، والثاني يهتم بالتتابع البسيط. والقضايا التي يصدرها الأول عن الواقع قضايا تحليلية لا يضيف فيها المحمول إلى الموضوع شيئا جديدا، حتى إنه ليمكن منطقيا استنباط الموضوع من المحمول. بينما القضايا التي يذكرها الثاني قضايا تركيبية، حتى إننا نجد أن التحليل الكامل للموضوع لا يؤدي إلى استخراج المحمول منه: القضايا الأولى أولية يمكن معرفتها بمعزل عن التجربة، أما الثانية فهي بعدية لا يمكن معرفتها إلا عن طريق التجربة وحدها. وبناء على التصور الأول للسببية نجد أن الشرط «أو السبب» لا يمكن تصوره بدون المشروط أو النتيجة التي تعقبه، أما في حالة التصور الثاني فإن تتابع الحدين لا يمكن ملاحظته إلا في الماضي فحسب، وقد يتكرر - أو لا يتكرر - في المستقبل، فهو تتابع بغير علة

Reason

تبرره، والأساس الوحيد الذي يقوم عليه هو تعودنا على ملاحظته. وإذا كان ثمة وحدة تضم التعدد المطلق للواقع، فهي وحدة - بناء على المبدأ التجريبي - تفرضها الذات على الواقع، لكنها هي نفسها ليست وحدة داخلية تقوم في قلب هذا الواقع. (9) لكن ألا توجد حلقة وسطى بين هذين الطرفين الأقصيين، أعني بين التصور الميتافيزيقي والتصور التجريبي للسببية، بحيث تشكل تصورا ثالثا للعلاقة السببية؟ هناك بالفعل خطوة وسط؛ ففي حين أن المقدم في السببية الميتافيزيقية ضروري وكاف، وفي السببية التجريبية لا هو ضروري ولا كاف، فهو في هذا التصور الثالث: تصور ضروري لكنه ليس كافيا.

سبق أن ذكرنا - في الفصل الثالث - أن الإرادة يمكن أن تحلل إلى الانتباه وإلى فكرة التغير، بشرط أن يتحقق وفقا لمضمون الفكرة وبنشاط الفاعل نفسه على نحو يشعر معه أنه يتحقق ذاته في هذا الفعل. ورأينا أن الفرد المنتبه لمثل هذه الفكرة يكون نشطا، أعني أنه يوجه نفسه، ويتميز عن ذلك الذي يوجهه غيره. ولكي ندعم هذه الفكرة لجأنا إلى التجربة من ناحية، وحاولنا أن نبين - من ناحية أخرى - أن النظرية المعارضة، وهي نظرية المذهب الجبري، نظرية لا تقوم على أساس سليم. إن الفاعل حين ينتبه إلى فكرة التغير يحدد نفسه لأنه قبل فعل الانتباه لم يكن ثمة شيء يؤثر فيه، بحيث يجعله ينتبه إلى هذه الفكرة الجزئية، فتلك هي الوظيفة الأساسية لفرديته العينية. ومعنى ذلك أن العملية التي تبدأ من الانتباه إلى فكرة معينة وتنتهي بتحقيق هذه الفكرة مشروطة بشخصية الفاعل. لكن العلاقة هنا بين الشرط والمشروط تجعل من الممكن تصور الأول بدون الثاني، على الرغم من أن الثاني لا يمكن تصوره بدون الأول؛ فالعلاقة بين شخصية الفاعل وفعله الإرادي ليست هي نفسها العلاقة بين المثلث وخواصه. كلا، ولا هي كالعلاقة السببية بين الجدار وبياضه، لكنها علاقة من نوع خاص؛ فهي تعني أنه بدون هذه الشخصية العينية للفرد لا يمكن أن يصدر على الإطلاق مثل هذا الفعل الإرادي. لكن هذه الشخصية العينية نفسها يمكن أن توجد دون أن يكون هذا الفعل الإرادي نتيجة ضرورية لها. (10) وهذه النظرية تختلف عن النظرية التي تنسب - عادة - إلى اسبينوزا، كما تختلف عن نظرية ليبنتز. فاسبينوزا يقول في القضية الأولى من كتاب الأخلاق: «الجوهر بطبيعته سابق على أحواله

its affections »

12

وهو بذلك يسعى إلى البرهنة على أن ذلك الجوهر الذي يتألف من صفات لا متناهية يوجد وجودا «ضروريا». ومن ضرورة الطبيعة الإلهية لا بد أن تنتج أعدادا لا متناهية من الأشياء بطرق لا متناهية «أعني جميع الأشياء التي يمكن أن يتصورها عقل متناه».

13

إذ من الواضح أنه يمكن أن ينتج عدد من الخصائص بطريقة ضرورية من التعريف الذي نقدمه لأي شيء. وكلما كان تعريف الشيء يعبر نسبيا عن واقع أعظم، استنتجنا منه خصائص أكثر. لكن الطبيعة الإلهية تمتلك صفات لا متناهية بطريقة مطلقة؛ ومن ثم لا بد أن تنتج جميع الأشياء التي يمكن أن نتصورها من ضرورة الطبيعة الإلهية. وبعبارة أخرى «أعني الجوهر» هو السبب الكامن في جميع الأشياء:

14 «وأي شيء يضطر إلى فعل ما فهو مضطر إلى ذلك عن طريق الله بالضرورة، والشيء الذي لا يضطر عن طريق الله على هذا النحو لا يمكن أن يحدد نفسه لأي فعل.»

15

ومن ثم «فليست هناك إرادة يمكن أن توجد أو أن تتحدد للفعل، ما لم يتحكم فيها سبب آخر، ويتحكم في هذا السبب الجديد سبب آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية.»

16 (11) دعنا الآن نسلم بالوجود الضروري للجوهر لنرى ما إذا كانت حالات الفرد يمكن استنباطها استنباطا ضروريا من هذا الجوهر دون الوقوع في التناقض. إن الجوهر هو بالضرورة أزلي ولا متناه، في حين أنه من المفروض أن حالات الفرد متناهية وعابرة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: طالما أن كل ما ينتج بالضرورة عن المتناهي والأزلي لا بد أن يكون مثله متناهيا وأزليا، فكيف يمكن أن تكون هناك أحوال

Modes

متناهية وعابرة؟ إنه وفقا لما يقول اسبينوزا نفسه «فإن الفرد أو الشيء المتناهي أو ما له وجود متعين، لا يمكن أن يوجد أو أن يتجدد للفعل ما لم يتحدد للوجود، والفعل عن طريق سبب آخر يكون هو بدوره متناهيا وله وجود متعين. وهذا السبب بدوره لا يمكن أن يوجد ولا أن يتحدد للفعل إلا عن طريق شيء آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية.»

17

ولو أننا الآن بدأنا بشيء معين متناه وتعقبناه عائدين القهقرى إلى سببه المتناهي، أو من هذا الأخير إلى سببه المتناهي، وهكذا إلى ما لا نهاية، لبدا مستحيلا أن تصل هذه العملية إلى اللامتناهي، ولست أجد أية عملية أخرى يمكن أن تصل بنا إلى اللامتناهي من خلال المتناهي.

18

وإذا لم يكن ثمة حل لإزالة مفارقة خروج المتناهي من اللامتناهي، فإن مذهب اسبينوزا كله سوف يحكم عليه بالفشل. ولا شيء يمكن أن ينقذ مذهب اسبينوزا كله من إنكاره الكامل للحقيقة التي تنسب للأشياء المتناهية. ولا بد أن تبدو الأحوال

Modes

بغير وجود متميز عن وجود الجوهر، كما أن الوجود الزماني الذي ينسب إلى هذه الأحوال لن يكون إلا مظهرا وهميا مصطنعا للوجود الآلي. بل إنه لن يكفي الزعم بأن الجوهر يخفف الفوارق بين الأحوال، لكنه لا يلغيها. أقول لا يكفي ذلك لأن هذه الأحوال المتناهية سوف تظل وقائع متميزة ومنفصلة. وباختصار فإن مذهب اسبينوزا لكي يتسق مع نفسه فلا بد ألا يكون هناك جوهر له أحوال على الإطلاق، بل لا بد أن يتركنا مع الوجود البارميندي فحسب. (12) إننا بإظهار ضعف نظرية اسبينوزا القائلة بأن جميع التحولات تنبع بالضرورة من ماهية الجوهر، فإننا نهدف إلى أن نرفض بصفة خاصة قضيته القائلة بأنه «لا يمكن أن تسمى الإرادة سببا حرا، لكنها يمكن أن تسمى فحسب سببا ضروريا.»

19

وسوف نلاحظ أولا أن «الإرادة تستخدم في هذا الكتاب بمعنى يختلف عن المعنى الذي استخدم فيه اسبينوزا هذه الكلمة؛ فهي عنده تعني «حال من أحوال الفكر فحسب»،

20

في حين أننا نستخدمها في هذا البحث لنعني العملية كلها التي تبدأ من «حال معينة من حالات الفكر» وتنتهي بالتحقق الكامل لمضمون هذه الحال من أحوال الفكر.»

وواضح ثانيا أن اهتمامنا ينصب على الإرادة بوصفها نتيجة أكثر منها سببا، فهي بوصفها نتيجة سببها شخصية الفاعل - حرة، بمعنى أن شخصية الفاعل التي هي سبب الإرادة ضرورية، لكنها ليست كافية. أعني إذا كان الفعل المراد لا يمكن تصوره بدون سببه، فإن هذا السبب نفسه يمكن تصوره دون أن يستتبع ذلك بالضرورة الفعل المراد. ومعنى ذلك أن السلوك الإرادي هو النتيجة الممكنة - لا الضرورية - لسبب ضروري، وهذا السبب الضروري نفسه ليس كافيا، أعني أنه يمكن تصوره دون تصور النتيجة، لكن العكس غير صحيح. (13) كلا، ولا تتفق وجهة نظرنا مع نظرية ليبنتز التي ترى أن الإرادة حادثة، لكنها يقينية. إذ يرى ليبنتز أن تصور الجوهر الفردي يشمل مرة واحدة وإلى الأبد كل شيء يمكن أن يحدث له. وحين ينظر المرء إلى هذا التصور سيكون قادرا - فيما يعتقد ليبنتز - على أن يرى كل ما يمكن أن يقال عن الفرد، تماما كما يستطيع المرء أن يرى في طبيعة الدائرة جميع الخواص التي يمكن أن تستخرج منها. ثم تساءل ليبنتز: «لكن ألا يبدو أن الفرق بين الحقائق الحادثة والحقائق الضرورية سوف يتحطم بهذه الطريقة، وأنه لن يكون مكان للحرية البشرية، وأن قدرية مطلقة

absolute fatality

سوف تسود جميع أفعالنا كما تسود جميع الحوادث في العالم؟»

21

ولقد أجاب هو نفسه على سؤاله يقول: «لا بد أن يكون هناك تمييز بين ما هو يقيني وما هو ضروري ... إن الرابطة أو التتابع نوعان؛ الأول ضروري ضرورة مطلقة، وهو الذي ضده يتضمن تناقضا، يحدث في الحقائق الأزلية

eternal veritites ، مثلما يحدث في حقائق الهندسة

Truths of Geometry ، أما الثاني فهو ضروري فرضا

exhypothesi ، أو هو كذلك بالصدفة

by accident ، إن صح التعبير، وهو في ذاته عرضي، طالما أن ضده ليس متضمنا.»

22 (14) وواضح أن ليبنتز بهذه النظرية يحاول أن يضمن علم الله السابق وحريته وكذلك حرية الموجودات البشرية. لكني أعتقد أن المشكلات والصعوبات التي أثارها «أرنولد » في مراسلاته مع «ليبنتز» حول هذا الموضوع هي مشكلات وصعوبات حقيقية. فلو كان التصور الفردي لكل شخص يتضمن مرة واحدة، وإلى الأبد، كل ما يمكن أن يحدث له، «كان الله حرا في أن يخلق آدم أو لا يخلقه. لكن افرض أنه قرر أن يخلقه، إن كل ما قد حدث للجنس البشري، وكل ما سوف يحدث له، قد حدث وسوف يحدث بضرورة أكثر منه بقدر. لأن التصور الفردي لآدم يتضمن أنه لا بد أن يكون له مثل هذا العدد الكبير من الأطفال، والتصورات الفردية لهؤلاء الأطفال تتضمن كل ما سيفعلونه، كما تتضمن جميع الأطفال الذين سيولدون لهم ... وهكذا. ومن ثم فإن الله ليست لديه حرية بالنسبة لهذا كله - بشرط أنه أراد أن يخلق آدم - أكثر من حريته في أن يخلق طبيعة عاجزة عن التفكير على افتراض أنه أراد أن يخلقني.»

23

ويقول أرنولد

Arnauld

في رده على شرح «ليبنتز» الذي يقول فيه إنه من بين العدد اللامتناهي من «فئة آدم

Adams » الممكنة اختار الله آدم، هذا الجزئي الذي كانت له خصائص فردية معينة؛ لأن مثل هذا الاختيار سيجعل من العالم أفضل العوالم الممكنة، يقول «أرنولد» في رده على ذلك: «وسط موجودات ممكنة، وجد الله في أفكاره عدة شخصيات يمثلونني

several me’s ، واحدة من هذه الشخصيات لها عدة محمولات: أن يكون لها مجموعة من الأطفال، وأن تكون طبيبا، وشخصية أخرى لها محمولات أن يحيا حياة أعزب وأن يكون لاهوتيا. ولقد قرر الله أن يخلق الشخصية الأخيرة، وهي أنا بوضعي الراهن، مشتملا في تصوره الفردي أن أعيش أعزب وأن أكون لاهوتيا، في حين أن الشخصية الأولى لا بد أنها كانت تشتمل في تصورها الفردي أن أكون متزوجا وأن أكون طبيبا. أليس واضحا أن أمثال هذه العبارات لا تحمل معنى؛ لأنه طالما أن شخصيتي الراهنة لها بالضرورة طبيعة فردية معنية ... فإنه سيكون مستحيلا أن نتصور محمولات متناقضة في التصور الفردي الحالي لشخصيتي، استحالة أن نتصور شخصيتي مختلفة عني؟ ومن ثم فعلينا أن ننتهي إلى أنه ... طالما كان من المستحيل علي ألا تظل شخصيتي هي نفسها، سواء تزوجت أم عشت أعزب، فإن التصور الفردي لشخصيتي لم يكن يتضمن أيا من هاتين الحالتين.»

24 (15) إن الله حين يختار أفضل العوالم الممكنة فإنه ليس فقط لم يتركني حرا لأختار نصيبي الخاص، لكنه هو نفسه ليس حرا في أن يختار لي ذلك. إن أفضل العوالم الممكنة قد وجد وجودا مثاليا - وإن لم يكن فعليا - قبل أن يريده الله. وإرادة الله له لم تضف شيئا لألوهيته، فهو في واقعيته الكاملة ليس أقل من المثل الأفلاطونية، وبالضبط لأن كل شيء كان موجودا فإن الله يستطيع أن يرى مقدما ما سوف يحدث فيما نسميه بالمستقبل. والواقع أن مثل هذا المستقبل ليس مستقبلا على الإطلاق، لكنه ماض، لأنه قد انتهى. وعبارة «الرؤية السابقة» هي تناقض في الألفاظ، فنحن ننتبه بمقدار ما نعرف، وحين نعرف كل شيء عن واقعة أمامنا منتهية، فليس ثمة فارق في هذه الحالة بين الماضي والحاضر والمستقبل. ذلك لأن الماضي والمستقبل. يمكن إدراكهما في الحاضر. إن المستقبل يوجد حقا ويمكن التنبؤ به، لكن لا على أساس أنه لم يحدث بعد، وسوف يحدث، بل على أساس ما هو موجود بالفعل، أعني إذا ما كانت الواقعة التي نتحدث عنها واقعة تامة وكاملة.

وعلم الفلك يزودنا بمثل جيد للتنبؤ بالمستقبل، حين لا يكون هذا التنبؤ أكثر من مجرد معرفة للماضي. فالتنبؤ في علم الفلك ليس إلا نتيجة للحساب الرياضي للوقائع التي حدثت بالفعل. إنه معرفة موضوعية لأماكن موجودة فعلا ومسافات وسرعات ... إلخ إلخ، حتى إن ما يبدو وكأنه تنبؤ ليس في الحقيقة إلا إسقاطا في المستقبل لما هو موجود بالفعل قبل عملية التنبؤ: «بقاعدة معنية من الاستدلال - مثل قانون الجاذبية - أستطيع أن أستدل على الوجود الحاضر أو الماضي تابع معتم

Dark Companion

لنجم معين، وبتطبيق أكثر بساطة لنفس قاعدة الاستدلال هذه أستطيع أن أستدل على الوجود عام 1999م وترتيب شكل الشمس والأرض والقمر الذي يقابل الكسوف الكلي، وظل القمر على مدينة «كورنوول

Cornwall » في عام 1999م موجود بالفعل في عالم الاستدلال. وليس من اليسير أن نعرف بأية طريقة سوف يبلغ الظل هذا الموضع حين تأتي عام 1999م ويلاحظ الكسوف أن كل ما سنفعله هو أن نستبدل حالة من حالات استدلال الظل بحالة أخرى.»

25

وباختصار: إن تأكيد العلم السابق بشيء ما، هو في نفس الوقت تأكيد بأن هذا الشيء واقعة تمت بالفعل، ومحاولة التنبؤ بالمستقبل تلغي مستقبله بنفس الفعل الذي تؤكده به.

وإذا ما استبدلنا «الضرورة المفترضة» ب «الضرورة المطلقة» عند اسبينوزا، فإن «ليبنتز» لن يجد ضمانا لا لحرية الله ولا لحرية الإنسان، لأنه لا يمكن أن تكون هناك حرية حين يكون كل شيء مؤكدا، كل شيء يسير في مجراه المعلوم مقدما. إنه لمن الممتع أن نقرأ القصة الآتية

26

التي بدأها «فالا

Valla »

27

وأكملها «ليبنتز» لكي نكون فكرة دقيقة عن نظرية الأخير فيما يتعلق بأفعال الإنسان. (16) تخيل أن سكستوس تاركونيوس

Sextus Tarquinius

قد أتى لزيارة معبد دلفي

Delphi

ليستشير كاهنة أبولو

Apollo ، وأنها أجابته على النحو التالي: سوف تموت منفيا يائسا ويلقى بك خارج المدينة في سخط. واستجابة لضيقه وشكواه قالت له كاهنة أبولو إنها مع علمها بمستقبله فإنها لم تصنعه. لكن افرض أن «سكستوس» لجأ بعد «أبولو» إلى الإله «جوبتر»

28

فكيف يمكن لجوبتر أن يبرر له نصيبه القاسي، وما ينتظره من بؤس وشقاء؟ بالكبرياء المتغطرس ل «تاركونيس» وما يلزم عنها من سيئات مقبلة؟ قد تقول كاهنة أبولو: «كما أن جوبتر خلق الذئب المفترس، والأرنب الجبان، والأسد الجسور، والحمار الحرون، والكلب البري، أو الغنم الوديع، فإنه كذلك خلق بعض الناس غليظي القلب، وبعضهم الآخر رقيقي القلب، كما أنه خلق بعض الناس ولديهم استعداد للجريمة، وبعضهم الآخر ولديهم استعداد للفضيلة، وهو بينما خلق بعض الناس بعقول متفتحة متقبلة للحق، منح بعضهم الآخر روحا شريرة لا يمكن لأي عون خارجي أن يجعلها طيبة.» ومن الواضح أن ذلك يعفي سكستوس من كل المسئولية وكل القيمة وينسب سلوكه إلى جوبتر.

غير أن «ليبنتز» لم يقتنع بهذا الحد من القصة، فأكملها مفترضا أن سكستوس جاء إلى «بودونا

Bodona » في حضرة جوبتر

Jupiter ، باحثا عما عساه أن يغير من نصيبه وأن يغير من قلبه. ورد عليه «جوبتر» قائلا: «لو أنك وافقت على التخلي عن عرش روما، فإن آلهة الأقدار

Fates

سوف تعزل سكستوس: «لماذا ينبغي علي أن أتخلي عن الأمل في التاج؟ أليس في استطاعتي أن أكون ملكا طيبا؟» ويجيب الإله «كلا، يا سكستوس، وأنا أعلم منك بما يمكن أن تصلح له، ولو أنك ذهبت إلى روما فسوف تفقد كل شيء.»

وعندما لم يستطع «سكستوس» أن يقتنع بمثل هذه التضحية العظيمة غادر المعبد واستسلم لمصيره المرسوم. لكنه حين ذهب، كان تيودورس

Theodorus ، رئيس الكهنة يعرف لماذا لم يستطع «جوبتر» أن يمنح «سكستوس» إرادة تختلف عن تلك الإرادة المخصصة له بوصفه ملكا على روما، ويستشهد «جوبتر» بحالة «بلاس

»، الذي كان نائما في معبده بأثينا، وحلم أنه موجود في بلاد مجهولة، حيث رأى قصر آلهة الأقدار

Fates ، الذي سمحت له الآلهة بزيارته: وعلى جدران هذا القصر نقشت جميع الأحداث؛ لا التي وقعت فحسب، بل أيضا كل ما هو ممكن الحدوث، واستطاع أن يرى في هذه النقوش كل جزئية يمكن أن تتحقق متفقة في نسق مع جميع الجزئيات الأخرى في عالمها الخاص الممكن. ويقول «بلاس

ل «تيودورس

Theodorus »: «أنت تعرف أنه حين لا تتحدد شروط ما تحديدا كافيا، وحين يكون هناك عدد لا متناه من هذه الشروط، فإنها كلها تقع في دائرة ما يسميه علماء الهندسة بالمكان أو الموضع

Locus ، وهذا الموضع - غالبا ما يكون خطا - هو على الأقل محدد، وعلى ذلك ففي استطاعتنا أن نمثل سلسلة منتظمة من العوالم، وهي كلها سوف تتضمن الحالة التي نتحدث عنها، وسوف تتنوع ظروفها ونتائجها.» وجميع هذه العوالم موجودة في فكرة مصورة بدقة في قصر الأقدار. وفي كل غرفة من غرف هذا القصر ينكشف عالم أمام عيني تيودورس، وفي كل عالم من هذه العوالم كان يرى دائما سكستوس، دائما نفس سكستوس، لكن مع ذلك يختلف من حيث علاقته بالعالم الذي ينتمي إليه. ومن ثم فقد كان سكستوس في جميع هذه العوالم حاضرا بحالات لا متناهية، ومن عالم إلى عالم ، أعني من غرفة إلى غرفة كان «ثيودرس» يرتفع قمة هرم عظيم، والعوالم تصبح أكثر جمالا، «وأخيرا وصل إلى أعلى العوالم، وصل إلى قمة الهرم، أكثر العوالم جمالا ذلك لأن ... الهرم كانت له قمة، لكن لم يكن له سفح مرئي، إنه يضرب بجذوره في اللانهائية»؛ وذلك بسبب أنه - كما أوضحت الآلهة - «وسط عوالم ممكنة لا نهاية لها، يوجد أفضل العوالم، وإلا لما كان في استطاعة الله أن يحدد أي العوالم هو الذي سيخلفه، لكن لم يكن هناك عند السفح عالم يعتبر أدنى العوالم كمالا، وهذا هو السبب في أن الهرم يغوص في اللانهائية»، ودخلا - وثيودور مشدوه - إلى الغرفة العليا، وهي غرفة العالم الحقيقي

real world ، وقال بلاس

«انظر ها هو سكستوس كما هو الآن وكما سيكون في المستقبل. انظر إليه كيف يخرج من المعبد وقد تملكه الغيظ. وكيف احتقر نصيحة الآلهة. انظر إليه وهو يذهب إلى روما يثير الاضطراب في كل شيء، ويغتصب زوجة صديقه، انظر إليه بعد ذلك وهو يطرد مع والده، محطما يائسا. لو أن جوبتر كان قد وضع شخصا مثل سكستوس سعيدا في كورنثة

Corinth ، أو ملكا على تراقية

Therace ، لما كان هذا العالم على هذا النحو. لكنه مع ذلك لم يكن في استطاعته إلا أن يختار هذا العالم الذي يفوق في كماله جميع العوالم الأخرى، والذي هو قمة الهرم، وإلا لكان جوبتر فقد حكمته، ولكان قد طردني أنا طفلة. أنت تدري إذن أن والدي ليس هو الذي جعل سكستوس شقيا، فقد كان سكستوس شقيا منذ الأزل، ولسوف يكون كذلك باستمرار. ومن هنا فإن جوبتر لم يفعل شيئا سوى أن كفل له الوجود، الذي لا يمكن أن تتنكر حكمته للعالم الذي يشمله . وهو الذي جعله ينتقل من عالم الممكنات إلى الوجود الفعلي.»

من هذه القصة التي توضح توضيحا رائعا وجهة نظر ليبنتز - يتضح لا أنه قد تحدد لسكستوس - بناء على رأى ليبنتز - خلقه الخاص ومصيره الذي لا مفر منه في أفضل العوالم الممكنة التي منحها «جوبتر» وجودها الواقعي. ولو أننا أضفنا إلى ذلك القول بأن جوبتر لم يكن في استطاعته إلا أن يختار هذا العالم لاتضح لنا كيف حرم الله والرإسان من حريتهما على يد ليبنتز، فعلم الله السابق - بدرجة لا تقل عن مذهب اسبينوزا - ليس إلا علما بواقعة قائمة، وحرية الإنسان لا وجود لها. (17) ومن هنا فإن كلا من مذهب ليبنتز واسبينوزا مرفوض، لأنهما يصوران الكون، والوجود الإنساني كوقائع مكتملة أكثر منهما أفعالا في طريق الإنجاز. وكل من النظرتين تبدو وكأنها تبدأ من مسلمة هي ألا شيء من الواقع

really

يمكن أن يضيع وألا شيء جديد يمكن أن يضاف إلى هذا الواقع. وأمثال هذه الآراء تجعل التطور بلا معنى. إن كل فلسفة تبدأ من شيء محدد ومتعين تماما من جميع الوجوه، شيء تحددت سماته وشكله نفسه، هي: فلسفة تبدأ بواقعة ميتة لا يطرأ عليها أي تطور حقيقي. وبناء على هذه الفلسفات فلن ينبثق شيء جديد، لكن عملية السير سوف تكون مجرد فض لما هو متضمن بالفعل. وسوف يتصور المستقبل كل - على حد تعبير وليم جيمس - بأنه «قعقعة قائمة لسلسلة انصهر فيها عدد لا حصر له من العصور الماضية.»

29 (18) وعلى الأساس نفسه فإننا نرفض كذلك المذهب الآلي المطلق

ultimate

الذي يخلو من التطور الخالق، فكل تغير عند وجهة النظر الآلية ليس إلا تعديلا في توزيع عناصر الكل. وما نسميه «جديدا» ليس جديدا حقيقة، لكن معادلة رياضية لهذا «الجديد» مع مقدماته، فمجموع العناصر في اللحظة «ل» يساوي مجموع العناصر في اللحظة «ل − 1» ويساوي أيضا مجموع العناصر في اللحظة «ل + 1» والعناصر في النظرية الآلية - أيا كانت هذه العناصر - يمكن أن ترتب في عدد غير معين من الأنظمة، لكن النتيجة واحدة وهي هي دائما، حتى إن إمكان الجدة، وهو الخلق الحقيقي - وليس مجرد ظاهر - إمكان الجدة الذي هو وجود جديد حقيقي لا أثر له على الإطلاق.

والواقع أن الزمان لا يدخل - فيما يبدو - عاملا في حساب المذهب الآلي، فليس هناك فرق حقيقي بين اللحظات: ل، ل + 1 أو ل − 1، فهي جميعا واحدة: «ما الذي نعنيه حين نقول إن حالة نظام مصطنع ما يعتمد على ما كان موجودا في اللحظة الماضية مباشرة؟ ليس هناك لحظة مباشرة سابقة على لحظة أخرى ... فأنت لا تتحدث حديثا حقيقيا إلا عن الحاضر فقط. إن أنظمة العلم المعمول بها - هي في الواقع - في حاضر من اللحظات يجعلها تتجدد باستمرار. ومثل هذه الأنظمة ليست على الإطلاق في تلك الديمومة الواقعية العينية التي يظل فيها الماضي مرتبطا بالحاضر، وحين يحسب عالم الرياضة الحالة المقبلة لنظام من النظم في نهاية الوقت «ل»، فليس ثمة ما يمنعه من افتراض أن الكون يتلاشى من هذه اللحظة حتى تلك ثم يعاود الظهور فجأة. إن لحظة «ل» هي فقط التي تحسب ... وما يتدفق في الوسط - أعني الزمان الحقيقي - لا يحسب ولا يدخل في الحساب ... ويتحدث «عالم الرياضة» باستمرار عن لحظة معينة، لحظة ساكنة، لحظة موجودة، لكنه لا يتحدث عن الزمان المتدفق. وباختصار العالم الذي يتعامل معه عالم الرياضة هو عالم يموت ويولد من جديد في كل لحظة، هو العالم الذي كان يقصده ديكارت حين تحدث عن الخلق المتصل، لكن كيف يمكن للتطور الذي هو ماهية الحياة عينها أن يجد له مكانا في زمان نتصوره على هذا النحو؟»

30 (19) والتطور الذي يأخذ به هذا البحث، ويعتبره مبدأ أساسيا، ليس هو تطور «دارون»، وإنما هو تصور «لامارك» للتطور. ذلك لأن نظرية «دارون» يصعب أن تترك مجالا للغرض أو الغاية؛ فالانتخاب الطبيعي يعمل بلا غاية، مبقيا على الأصلح، الذي قد لا يكون الأفضل. وهذا الانتخاب الطبيعي لا يمكن أن يبني أشكالا جديدة للحياة، لكنه فقط يستأصل مثل هذه الأشكال الجديدة بوصفها غير صالحة، إنه يفسر فحسب منعطفات الطريق، لكنه لا يخلق اتجاهها: «كيف نستطيع أن نفسر، إذا ما التجأنا إلى التجمع العفوي للخصائص ... كيف نفسر ظهور أنواع متشابهة من الأعضاء والوظائف وسط منحنيات مختلفة من التطور، وبين أشكال الحياة التي انحدرت من أسلاف مشتركة بعيدة كل البعد؟ والتوزيع الواسع للإنتاج الجنسي بين كل من النبات والحيوان هو مثل على هذا التشابه، ووجود حاسة الإبصار هو مثل آخر، إنه أشبه ما يكون بفنان واحد يعبر عن نفسه بطرق متشابهة، أعني أنه يتبع نفس دافع الخلق، على الأقسام البعيدة من لوحته الواسعة.»

31 (20) وتذهب نظرية «لامارك»،

32

في التطور إلى القول بأن ظهور عضو جديد في جسم الحيوان هو نتيجة لحاجة جديدة يشعر بها شعورا متصلا، وهو نتيجة لحركة جديدة تخلقها هذه الحاجة وتدعمها. والصلاحية

Ftrness

لا تعني - كما هي الحال عند دارون - التوافق مع ما تتطلبه البيئة المادية؛ ذلك لأن الصلاحية عند «لامارك» لا بد أن ترتبط أساسا بالفرد، فالفاعل - وليس البيئة - هو الذي يختار ما يصلح للغاية التي يهدف إليها. ولا يمكن أن يعترض معترض على ذلك فيقول: إن العلاقة بين الفاعل من ناحية والبيئة من ناحية أخرى هي التي تؤدي إلى خلق العضو الصالح أو المناسب، ومن هنا فإن أحدهما ضروري كالآخر سواء بسواء. أقول لا يمكن أن يعترض معترض على هذا النحو؛ لأن المهم هنا هو: أي الطرفين هو الذي يستحدث

initiates

التغير، وأنا أعتقد أن الفاعل هو الذي يشعر بالحاجة ويسعى لاستخدام البيئة بالطريقة التي تساعده في إشباع حاجته. والفرق بين النظرتين يكمن في القول بأن النظرية الأولى «أي نظرية دارون» لا تهدف إلى تحقيق غرض ما عن وعي أو بلا وعي، أما النظرية الثانية «أي نظرية لامارك» فتهتدي بهدى غرض يسعى التطور إلى تحقيقه. ووفقا لما تقول به النظرية الأولى، «فإن مجرى الأشياء بأسره محدد مرة واحدة وإلى الأبد تحديدا فرديا ومنعزلا عن طريق التوزيع الأصلي. وها هنا يأتي عالم الحساب من أتباع «لابلاس» وهو مزود بالمعطيات الآلية لأية لحظة ليكشف عن حالة العالم كله في أية لحظة أخرى؛ ذلك لأن هناك مجرى واحدا - واحدا فحسب - يسير فيه نظام المادة الجامدة بلا مرشد - وهو خط لا أثر فيه للمقاومة ... لكن الاتجاهات التي قد ينقاد هذا النظام إلى السير فيها تحت هداية مرشد، وإن كانت لا تزال مطابقة لقانون البقاء - ربما كانت لا حصر لها، ولكي تتنبأ بالتقدم الفعلي عند هذه النظرية فلا غناء في أن تعرف فحسب ما الذي سوف يحدث طبقا للقوانين الآلية لو ترك النظام لنفسه؛ لأنه من الضروري لأي تنبؤ في هذه الحالة أن يعرف غاية أو معنى مثل هذا التقدم ... تخيل مركبا مهجورا وباخرة مجهزة تجهيزا تاما بالعتاد: إنك لو كانت لديك معلومات كافية عن الرياح والمد والجزر والتيارات، ففي استطاعتك أن تقول أين يمكن أن يوجد هذا المركب المهجور بعد أسبوع واحد. غير أن هذه المعلومات سوف تكون أهميتها في المرتبة الثانية لو أنك حاولت أن تتنبأ بمكان الباخرة المجهزة بعد أسبوع من صدور الأوامر إليها بالإبحار.»

33 (21) إنه لكي يكون الكون متطورا تطورا حقيقيا فلا بد له أن يظهر باستمرار شيئا جديدا كل الجدة، أعني أن التطور لا بد أن يكون خلاقا: «إننا ننظر إلى عالمنا اليوم على أنه عالم في دور التكوين، وإلى أنفسنا على أننا جزء منه في دور التكوين أيضا. إن حاضرنا ليس غير ساكن فحسب، بل ومتحرك حركة لا يمكن لها هي ذاتها أن تتكرر غدا. وجزيرتنا الكوكبية نفسها ليست تامة مثل تلك الجزر الكونية التي يحدثنا علماء الفلك أنها في مراحل مختلفة من الصيرورة، ويبدو أن «كانط» يزعم أن العقل البشري منته تام الصنع، أو هو جزء من الوجود مكتمل. غير أن العقل البشري ليس إلا جزءا من تيار التغير ... والكائنات الحية منهمكة طوال الوقت في أن تصبح شيئا خلاف ما هي عليه الآن، وكذلك العقل البشري ومعه بقية الكون.»

34

والخواص الجديدة التي تظهر في مجرى التطور ينبغي ألا تكون مجرد خواص «ناتجة

Rresultant » يمكن أن تضاف أو تطرح أو يتنبأ بها، وإنما يجب أن تكون خواص طارئة

Emergent ، خواص جديدة جدة حقيقية ولا يمكن التنبؤ بها . «إن النواتج

Resultants

تعطينا اتصالا كميا يكمن خلف خطوات بنائية جديدة في المفاجآت الطارئة. والخطوة الطارئة ينظر إليها نظرة أفضل، بوصفها تغيرا كيفيا للاتجاه، أو نقطة تحول دقيقة في مجرى الحوادث. ولا يكون هناك بهذا المعنى الكسر المتقطع الموجود في حالة الهوة

gap

أو الفجوة

hiatus

وقد يقال عندئذ: إنه من خلال النواتج يكون هناك اتصال في التقدم، ومن خلال المفاجآت الطارئة يكون هناك تقدم في الاتصال.»

35

وتلك هي الحال مع كل فرد من الموجودات البشرية، فالفرد طوال حياته لا يحمل برنامجا جاهزا معدا من قبل في الماضي؛ إذ لو صح ذلك لكان الجهد الأخلاقي كله عقيما مجدبا. وليس مقنعا أن تقول إن الإنسان - من وجهة نظر مطلقة

ultimate - ينبغي أن ينظر إليه في هوية مع الواقع الأزلي لأنه لحظة من لحظات هذا الواقع الأزلي، حتى إن الإنجاز اللامتناهي للواقع هو نفسه إنجازه الخاص اللامتناهي، وإنه يمكن أن ينظر إليه، لا على أنه طبيعة مطبوعة

natura naturata ، بل على أنه طبيعة طابعة

natura naturans ، أعني لا على أنه عالم معبر عنه، بل على أنه عالم يعبر عن نفسه. أقول ليس مقنعا أن نقول ذلك لكي تنفذ القدرة على الخلق عند الإنسان لأنه حتى ولو سلمنا بذلك كله فسوف يبقى مع ذلك أن «الطبيعة الطابعة» نفسها يمكن أن تظهر ما هو كامن بالعقل فحسب، لكنها لا يمكن أن تخلق شيئا جديدا. (22) إذا كانت ماهية كل شيء محددة تحديدا قاطعا، فكيف يمكن أن يكون هناك تطور على الإطلاق؟ إن كل ما يمكن أن نتوقعه في هذه الحالة هو عالم اسبينوزا الموجود منذ الأزل وينفي نفسه في سلسلة من التحولات لكن بلا جدة حقيقية. لكن الحياة ليست على هذا النحو، بل هي عملية ينبثق فيها الجديد باستمرار، ولأنها جديدة، فهي لا يمكن التنبؤ بها. وتطور الفرد من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة لا يعتمد على مجرد إعادة ترتيب نفس العناصر، إنه لا يعتمد على التساوي الرياضي بين شطري العلية؛ فالطفل من ناحية والرجل من ناحية أخرى لا يمكن أن يتساويا رياضيا ، لكن ذلك لا يعني أن المرحلة الأخيرة (الرجولة) هي محصلة المرحلة الأولى (الطفولة). ومن هنا كان من الصواب تماما أن تقول إن الطفل هو أب الرجل، كما يقول المثل. فمرحلة الطفولة شرط ضروري لمرحلة الرجولة، والمشروط

conditionate

لا يمكن تصور وجوده بدون الشرط

condition ، لكن العكس غير صحيح. إننا لا نستطيع في حالة نشاط الكائن الحي - ولا نحتاج إلى ذلك - أن نستغني عن فكرة السببية؛ لأن الحاضر مشروط بالضرورة بالماضي وهو شرط للمستقبل. ولقد سبق أن بينا أن الرابطة السببية التي يكون فيها الماضي ضروريا لكنه ليس سببا كافيا، والمستقبل نتيجة محتملة، لكنه ليس نتيجة ضرورية - هذه الرابطة السببية لا تتناقض مع حرية الشخص؛ إذ يجب أن تفهم الحرية لا بالمعنى السلبي فقط - أعني انعدام العائق - بل أيضا بالمعنى الإيجابي، بمعنى خلق شيء جديد.

ويفسر «برجسون

Bergson » الحياة بأنها عملية خلاقة، سواء أكانت حياة الفرد أم تطور الأشكال البيولوجية. والنشاط الخلاق للكائن الحي يتضمن الفرضية؛ فحينما وجدت الحياة وجدت معها الفرضية، والفرضية لا بد أن تتضمن الحرية. وحين رفض برجسون المذهب الغائي

Finalism ، كما رفض المذهب الآلي

Mechanism ، سواء بسواء، على اعتبار أن المذهبين صورتان للحتمية، فإنه لم ينكر بذلك الفرضية في الحياة، فالفرض لا يتناقض مع الحرية، بشرط ألا يفرض من الخارج: «انظر إلى الفعل الحي الذي تقوم به شجرة تغير أوراقها ... تجد أنها تكيف نفسها مع ظروف بيئتها، لا بالاستجابة للمؤثرات المباشرة التي تؤثر فيها، لكن بالاستعداد مقدما لتغير الفصول، فهي لا تنتظر إلى أن يجيء الشتاء ويؤثر فيها، فتستجيب عندئذ لانخفاض درجة الحرارة فتخترع حماية لبراعمها الرقيقة ضد الصقيع، كلا، لكنها تبدل أوراقها، وتشكل براعمها مقدما وعلى سبيل التوقع

in anticipation . فالمستقبل - في رأينا - أو الشتاء الذي لم يوجد بعد؛ يؤثر فيها في الوقت الحاضر.»

36

أو بالأحرى: الفرض الحالي يحدد الفعل الذي يبدو مناسبا. (23) هناك تشابه ملحوظ بين الحياة والخلق الفني في المحافظة - خلال مجرى التطور - على نمط معين من الوظيفة؛ فالكائن الحي في محافظته على بقاء حياته لا بد أن يعمل بطريقة تدعم حياته، وقل مثل ذلك في حالة الفنان؛ فهو لا بد أن يحتفظ بموضوعه في ذهنه ويواجه المواقف المختلفة التي تظهر في تطور هذا الموضوع بطريقة تخدم غرضه. ومن هنا فإن نمو الحياة «ليس لونا من ألوان الصناعة التي لا يوظف إنتاجها إلا بعد نهاية فترة الصنع. إن الجنين الحي، أو الطفل الحي، حين يخرج من البذرة الحية في مجرى التطور، فإن الكائن يبقى واحدا لا قطعة آلية في دور التكوين، بل بالأحرى إنتاج جمالي يحتفظ بخصائص معينة، يشبه البناء المادي والنحوي للقصيدة خلال فترة تكوينها. والتواجد العيني، أو التعبير في حالة التأليف الجمالي، لا بد أن يحتفظ باستمرار بشكل معين. وهذا الشكل يتدعم خلال ظروف لا نعرفها مقدما، وخلال مشكلات التعبير، التي توجد أمام الفنان في كل خطوة من خطوات التأليف ... وهكذا، فإن التطور الحيوي لا يمكن مقارنته - فيما يبدو - بالإنتاج طبقا لخطة موضوعة، وإنما يمكن مقارنته بالإنتاج الجمالي، الذي لا يبدأ من شيء آخر سوى موضوع مختار ووسيلة للتعبير تنتج إجابات لمشكلاتها كلما ظهرت.»

37

الحرية التي ندافع عنها هي حرية الخلق، حرية الانبثاق من الماضي المتراكم إلى الجدة التي لا يمكن التنبؤ بها، ونحن - خلافا لما يقول اسبينوزا - لا نعتقد أن الحرية التي يشعر بها الإنسان هي وهمه الخاص. إن الوهم يكمن في الحالات التي نظن فيها خطأ أن أفعالنا محددة تحديدا داخليا معتمدين على النظر إلى أفعالنا الماضية ورؤيتها كحلقات في سلسلة ترتبط فيما بينها ارتباطا سببيا. إننا - شأننا شأن جميع الكائنات الحية - ننتبه باستمرار، وبين الحين والآخر نختار فعلا معينا نعبر به عن أنفسنا، وكما يقول «برجسون» في عبارة مشهورة إننا ننتفخ بماضينا مثل كرة الثلج التي تتضخم حين تتدجرح ويلتف الجليد حولها، ففي كل لحظة من لحظات حياتنا ننتقي شيئا معينا من الموضوعات الممكنة التي نجدها أمامنا، ونحن بانتقائنا لهذا الموضوع نحقق أنفسنا.

وحين ننظر إلى الوراء، إلى أفعالنا التي حققناها، يبدو كل منها على أنه مقيد بالفعل الذي سبقه. لهذا ترانا ننظر إلى سلسلة المقدمات والنتائج كما لو كانت شيئا غريبا عنا، وهكذا نظن أن كل مقدم قد فرض علينا فرضا ضروريا من الخارج، لكن الواقع أننا نحن أنفسنا هذا الماضي، ونحن نحقق كل فعل من أفعالنا بدرجة من الحرية، كل في لحظته بوصفه حاضرنا في لحظة هذا الفعل. أما حين ننظر إلى أفعالنا الماضية على أنها «أحداث مضت» فإننا في هذه الحالة ننظر إليها من الخارج لا من الداخل، أعني كمتفرجين لا كفاعلين. وذلك يشبه بالضبط النظر إلى قصيدة من القصائد بمعزل عن النشاط الخالق الذي تتضمنه هذه القصيدة، أعني النظر إليها كبناء لغوي مكون من مجموعة من الكلمات. (24) إن كل لحظة في تاريخ شخصية الإنسان هي شيء جديد يضاف إلى ما هو موجود بالفعل، كل لحظة في حياة الإنسان - لا سيما أفعاله الإرادية - تشبه إنتاج الفنان، الذي لا يستطيع أي فرد حتى ولا الفنان نفسه - فيما يتعلق بتفصيلات الإنتاج - أن يتنبأ بشكلها الدقيق «لأن التنبؤ بها يعني إنتاجها قبل أن تنتج، وهو فرض محال؛ لأنه يهدم نفسه بنفسه.»

38

وسلوك الإنسان لا يمكن التنبؤ به؛ لأن شخصيته ليست شيئا ثابتا محددا مرة واحدة وإلى الأبد، وإلا فأين يمكن يا ترى أن نجد تلك اللحظة التي نستطيع أن نقول إن شخصية الفرد سوف تتوقف عندها من الآن فصاعدا؟

لا وجود لمثل هذه اللحظة؛ لأن شخصية الفرد تظل في حالة تكوين مستمر طوال حياته، وهذا هو السبب في أن فرديته لا تكتمل أبدا، ومعرفة شخصية إنسان ما تعني معرفة حياته كلها. ومن هنا فإنك لن تستطيع أن تستخدم معلوماتك عن شخصيته كمعطيات تستدل منها على مستقبله؛ لأنه في اللحظة التي تعرف فيها كل شيء عن شخصية الفرد، بحيث لا يمكن أن ينضاف إليها جديد، فإن هذا الفرد لن يستمر بعد ذلك في الوجود: «هل يستطيع أحد أن يؤكد - حتى من الناحية العقلية - أنه من الممكن أن يتنبأ بأنه هو نفسه - دع عنك أن يتنبأ لغيره - سوف يفكر في كذا وكذا، وسوف يفعل كيت وكيت في الأسبوع القادم. إن القيام بمثل هذا التنبؤ لا بد أن يستغرق أسبوعا كاملا؛ لأنك لن تستطيع أن تحذف أية فكرة أو أي سلوك يتم خلال هذا الأسبوع، ولا يمكن لمعدل السير أن يزيد ما لم تكن هناك زيادة مماثلة في سرعة العالم كله. ولهذا فسوف نجد أنفسنا بالضبط حيث كنا من قبل، ومن هنا فإن ما يسمى بالتنبؤ لا بد أن يكون بعد وقوع الحدث.»

39

ولهذا كان التنبؤ الذي لا يخطئ بالسلوك المقبل مستحيلا؛ لأن المعطيات المزعومة للتنبؤ هي مما لا يمكن الحصول عليه إلا بعد وقوع الحدث، «إذا ما شاء لنا عما إذا كان في استطاعة المرء أن يتنبأ بالفعل الأخير طالما أنه عرف المقدمات وعرف قيمتها على حد سواء - هو تسليم بالأمر قبل البرهنة عليه. لأننا ننسى أننا ليس في استطاعتنا أن نعرف قيمة المقدمات دون أن نعرف الفعل الأخير، وهو الأمر الوحيد الذي ليس معروفا بعد.»

40

والواقع أن «القول بأن صديقا ما - في ظروف معينة - من المرجح جدا أن يسلك على هذا النحو المعين، لا يعني التنبؤ بسلوك هذا الصديق في المستقبل، بقدر ما يعني إصدار حكم معين على شخصيته الحاضرة، أو بعبارة أخرى إصدار حكم على ماضيه.»

41 (25) في استطاعتنا أن نتنبأ فحسب بواقعة من الوقائع، وحتى الواقعة يمكن التنبؤ بها لا طريقة لا تخطئ، بل بسبب تعقد شروطها

Condition ، في حدود الترجيح. أما الفعل فهو بطبيعته الخاصة ذاتها لا يمكن التنبؤ به؛ فالوقائع توجد في الزمان، والزمان هنا لا فرق فيه بين اللحظة الأولى واللحظة الأخيرة. بينما الفعل يحتاج إلى ديمومة، ولا يمكن أن نقتطع منه لحظة واحدة دون أن تغير من طبيعته. ومن هنا فإننا نستطيع أن ننظر إلى ماضينا على أنه واقعة من الوقائع الموجودة في الزمان. لهذا يمكن استرجاعه كله في لحظة واحدة. أما مستقبلنا فهو فعل لا يمكن أن يعيش في الخيال أقل من ديمومته الضرورية. «حين نستعيد في ذهننا الماضي، أعني سلسلة الأفعال التي تمت، فإننا دائما نختصرها دون أن نهدم طبيعة الحدث الذي يهمنا، والسبب هو أننا نعرفه بالفعل؛ ذلك لأن الحالة النفسية - حين تصل إلى نهاية التقدم

، الذي يكون وجودها نفسه - تصبح شيئا في استطاعة المرء أن يصوره لنفسه كله في لحظة واحدة. هنا نجد أنفسنا في موقف شبيه بموقف عالم الفلك حين يدرك بلمحة خاطفة المحور الذي سيحتاج الكوكب إلى عدة سنين لكي يعبره. والواقع أن التنبؤ الفلكي يجب أن يقارن باسترجاع الحالة الشعورية الماضية، لا أن يقارن بتوقع حالة المستقبل. لكنا حين نحدد الحالة الشعورية المقبلة، فإننا لا نستطيع النظر إلى المقدمات كأشياء في حالة ساكنة، بل إننا لا بد أن ننظر إليها كعمليات في وضع ديناميكي ... ومن ثم فإننا لن نستطيع بعد ذلك أن نختصر الديمومة المقبلة لكي نصور أجزاءها أمامنا؛ فالشخص مضطر أن يعيش أو أن يحيا هذه الديمومة بينما هي تتكشف.»

42

والمثل الذي يقول: «لا تحكم على شخص ما حتى يفعل شيئا» مثل صحيح؛ فالشخص هنا فاعل يسلك سلوكا معينا فيحقق ذاته في هذا السلوك. أما إذا نظرنا إلى هذا الشخص على أنه واقعة فلن نجد ما يدعونا إلى الانتظار حتى يسلك سلوكا معينا: لسنا في حاجة - مثلا - إلى أن ننتظر حتى يفعل شيئا ما، لكي نقول إنه ولد من أبوين معينين، أو إنه ولد في التاريخ الفلاني، أو البلد الفلاني ... إلخ، فهذه كلها وقائع يمكن أن تستخدم في الإحصاء والحساب، مثلها مثل جميع تلك الوقائع الموجودة في الطبيعة، لكن الفعل، أعني فعل الإرادة، فهو شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف. (26) المستقبل - كمستقبل - هو عالم الإمكانيات غير المحددة، ويتضح من ذلك أن المستقبل المتنبأ به ليس مستقبلا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، لأن التنبؤ يعني النظر إليه على أنه شيء قد تم وانتهى، وهو بذلك ينتمي إلى الماضي الذي استخرج منه بطريقة تحليلية، وهو لأنه ينتمي إلى الماضي، فهو لا يمكن أن يكون حرا. والمحاولات التي بذلت للتوفيق بين العلم الإلهي الشامل وبين الحرية الإنسانية لم تتوقف على الإطلاق، ولم تنجح على الإطلاق أيضا. وهذه المحاولات محكوم عليها بالفشل؛ لأن الأطراف التي تحاول التوفيق بينها هي - أولا - لا يمكن التوفيق بينها، ومهما يكن من شيء فإن علينا الآن أن نعرض لمناقشة بعض هذه المحاولات: (27) يقال أحيانا إن العلم الإلهي الشامل لا يعني بالضرورة حتمية إرادتنا؛ لأنه إذا ما كان العلم السابق بأن شيئا ما سيحدث يجعله يحدث ، لكان معنى هذا أن المعرفة بوجود شيء ما تجعله يوجد. فأنا مثلا أعلم أن السماء تمطر في اللحظة الحاضرة، لكن من الواضح أن علمي ليس هو الذي جعل السماء تمطر، بل إن العكس هو الصحيح؛ فأنا أعلم أنها تمطر لأنها تمطر في الواقع. وبالمثل، فلو أنني عرفت مقدما أن حلول الليل سوف يكون بعد خمس ساعات، فهل يكون علمي السابق هو الذي أحدث حلول المساء؟ العكس هو الصحيح؛ فلأن الدنيا سوف تكون ظلاما بعد خمس ساعات، فإنني أعرف ذلك مقدما، فلا المعرفة الإنسانية السابقة، ولا العلم الإلهي السابق هو الذي يسبب ما يحدث في المستقبل.

لكن هذا القول يعني أننا نرفض أمرين هامين؛ فهو يعنى أولا أننا نتجاهل الواقعة التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أن النوع الفلكي من العلم السابق ليس معرفة سابقة بالمعنى الحقيقي. وهو يعني ثانيا أننا نغض الطرف عن التفرقة الحيوية؛ بين الماضي من ناحية، والمستقبل من ناحية أخرى؛ فالماضي هو واقعة تمت وانتهت، ولا يتأثر وجودها بمعرفتي لها، لكن المستقبل - بمعناه الحقيقي - شيء مختلف عن ذلك تماما؛ لأنه انتقائي، ولو أنني عرفته مقدما فإنني بذلك أنكر انتقاءه وأحرمه من ماهية المستقبل

futurity ، وفي اللحظة التي نسلم فيها بالتشعب الممكن لحوادث المستقبل إلى شعبتين، فإننا لا بد أن ننتهي إلى النتيجة القائلة بأنه لا يمكن أن نستدل - بيقين - من الحاضر والماضي، وهما وحدهما المعروفان؛ فالاستدلال يظل غير يقيني، ومن هنا فإننا إذا لم ننكر العلم الإلهي الشامل، فإننا سنضطر إلى التسليم بأن مجرى الحوادث في المستقبل ضروري وغير حر. (28) ولا يفيد في شيء أن نفترض أن الله يوجد في «آن» أبدي، وأن الماضي والمستقبل عنده حاضر. ولهذه النتيجة «يؤكد بؤثيوس

Boethius » أنه على الرغم من أن الماضي ليس ماضيا أمام الله، ولا المستقبل مستقبلا عنده، بل الزمان كله حاضر، فإن معرفة الله تتضمن مع ذلك «الأماكن اللامتناهية للزمان الحاضر والماضي، إذا ما نظرنا إلى الأشياء كما لو كانت كلها الآن تامة ومنتهية.» وهو تصور ربما أمكن تفسيره بأنه يعني أن الماضي لا يتذكره الله، كلا، ولا هو يتوقع المستقبل، وإنما الماضي والمستقبل مدركان لديه في آن واحد، بينما يظل كل منهما يعقب الآخر، وهو تصور يشبه تماما فكرة الحاضر الرواغ اللامتناهي.»

43

لكن هل يمكن للكل أن يدرك معا ما لم يكن جاهزا بأسره أو وجودا كله؟ وإذا كان هذا الكل نتاجا تاما منتهيا فأين يمكن أن يقع خلق الموجودات البشرية الفاعلة؟ إننا بدون أن نفترض أن هذه الموجودات الفاعلة هي نفسها خلاقة؛ فإن هذه الموجودات لا يمكن أبدا أن تصل إلى فكرة أنها مخلوقات، «يمكن أن يكون الله قد عمل الإنسان على صورته، لكن هذه الصورة ذاتها هي التي تبرر للناس العودة إلى الله بوصفه صانعهم.»

44

وفضلا عن ذلك فإن فكرة «الحاضر الرواغ

Specious present » يبدو أنها لا تتفق مع فكرة الأبدية

eternity ؛ لأن العناصر التي يتكون منها «ما قبل» و«ما بعد» في «الحاضر الرواغ» لا بد أن تكون في تدفق متصل وتيار مستمر، وإلا فلن يتحقق التتالي، فالحاضر الرواغ لا بد له أن يتقدم نحو المستقبل باستمرار، فأين يمكن أن يوجد مثل هذا المستقبل بالنسبة لحاضر رواغ لا متناه؟ (29) وبرنجل باتيسون

يقترح فكرة زئبقية

subtler

أكثر من فكرة «الآن الأبدي

eternal now » وهي فكرة أقامها على غرار الفن «ها هنا لا يوجد شيء اسمه حادث منفصل، بل هنا حاضر فحسب. إن كل شيء يحدث في المأساة العظيمة هو جزء عضوي من الكل. والمنظر الذي يحدث على المسرح في أية لحظة يعتمد في معناه على كل ما حدث من قبل، ونحن نستشعر فيه الأحداث التي سوف تقع في المستقبل. ونحن حين نقرأ - أو نشاهد - مسرحية ما لأول مرة، وسير الأحداث مجهول لنا، هذا المعنى لتماسك الكل، العلم السابق لمصير أزلي يظهر نفسه في مشاهد فردية - في كلة أو لمحة - ينمو طبيعيا كلما تقدمنا، ويصل إلى أقصى مداه في الشدة حين نقترب من الخاتمة. أما في حالة المأساة الإغريقية، حيث كان الأساس الأسطوري مألوفا لدى النظارة ... فإننا نجد هذا الإدراك لمعنى الكل كشيء متسق مع الحوادث الجزئية، موجودا أمام القارئ أو المشاهد للمسرحية منذ البداية ... الحالة الأولى - حيث تتكشف النهاية أمامنا تدريجيا كلما تقدمنا - تعرض علينا موقفنا البشري المتناهي أمام المستقبل، أما الحالة الثانية التي ربما افترضنا أنها تنتج حالة الشاعر أو الموسيقي الأصيل، ربما كانت أقرب شبيه لدينا للإدراك الإلهي، لما هو زماني.»

45

وفكرة الإدراك الإلهي هذه للكل بطريقة الفنان الذي يكون موضوع إنتاجه ماثلا أمام ذهنه، هي فكرة يمكن قبولها، بشرط أن نسلم بأن الخالق لا يرى تفاصيل خلقه بلمحة واحدة. فالمشكلات تتولد في مجرى التعبير عن الفكرة الرئيسية، وفي كل مشكلة منبثقة يتم الاختيار والتقرير. فالخلق الفني هو نمو لا يري فيه الفنان نفسه تفصيلات المستقبل؛ فالشاعر مثلا لا يكون لديه شيء في البداية إلا الفكرة المنتجة لقصيدة

generative . والجهد الذي يساعده في خلق القصيدة هو لون من جهد الانتباه، فهو يضع الفكرة التي يريد التعبير عنها أمام ذهنه، وهكذا يسمح للأقطار أن تأتي وتتلامس بعضها مع بعض حتى تجد الفكرة المنتجة تعبيرا مقنعا ترضى عنه.

وفكرة الخلق هذه، أعني فكرة أن الله بوصفه فنانا يعبر عن نفسه تدريجيا في نهاية أو غاية

End

موجودة في ذهنه - أقول إن هذه الفكرة - يقينا - تكفل حرية الله، كما تكفل حرية الموجودات البشرية الفاعلة؛ فالموجودات البشرية الفاعلة في فعلها الحر لا تسير على أية خطة موضوعة، لكنها كلها مجموعة من الفنانين الخالصين الذين ينظرون في نفس الاتجاه، ويتبعون مدرسة واحدة، لكن كلا منهم يعبر عن نفسه بحرية. «مخلوقات الله ليست مواد صناعية، وإذا كان لا بد أن يكون لدينا شخصية

figure

لتمثل ما هو متعال بالنسبة لنا تماما، فإن شخصية الخالق الحي أكثر صلاحية بكثير من الصلصال المعجون ... ويمكن إذن أن يوافق فيلسوف الكثرة على أن الله والأساس الوحيد الذي يجعل العالم يتطور، لكنه لا يمكن أن يوافق على أن الله ... قد حدد «قبل أساس العالم» كل ما سوف يحدث فيه في المستقبل؛ لأن معنى ذلك ألا يحدث فيه شيء حقيقي على الإطلاق.»

46 (30) والواقع أننا إذا ما أخذنا بافتراض العلم بكل شيء

omniscient ، فإننا سوف نعجز عن معرفة كيف يمكن أن يوجد حل على الإطلاق لمشكلة الشر. وإذا ما أخذنا بهذا الافتراض فسوف يكون من المستحيل أن نفسر الجهد الأخلاقي تفسيرا مقنعا. ولقد أثار «بلينبرج

Blyenbergh » هذه المشكلة وناقشها في مراسلاته مع «اسبينوزا»

47

وذهب إلى أن الله هو الذي يحدد الخير والشر على السواء، وبالتالي فهو إما أنه يعرف ما سيحدث، وإما أن يكون غير كامل. ولقد أجاب اسبينوزا في رده على «بلينبرج» محاولا أن يفسر الشر بأنه ليس شيئا إيجابيا، فما نسميه شرا هو عدم

privation ، لحالة أكثر كمالا، بالنسبة لفهمنا، لا بالنسبة لفهم الله. فالشر لا يوجد إلا للإنسان الذي لا يكون العدم عنده هو نفسه السلب، لكنه لا يوجد بالنسبة لله الذي عنده العدم البشري

human privaton

هو السلب. العدم بالنسبة لله ليس فعل الحرمان

depriving

لكنه نقص بسيط، أو سلب. ونحن نستنبط من تعريفات عامة؛ فنحن مثلا نقدم للإنسان تعريفا عاما، ثم نحكم على كل فرد وفقا لهذا التعريف، لكن الله لا يتصور الأشياء تصويرا تجريديا، ولا يضع تعريفات عامة يحكم على أساسها بأن هذا الفرد خير وذاك شرير. وما هو غير إلهي يعبر عن طبيعة الله مثل ما هو إلهي، لكنهما لا يتساويان بذلك، لأن الخير سوف يستمتع بغبطة الخير فيما لن يستمتع بها الأول. والشخص الأعمى ينظر إليه على أنه محروم من البصر، إذا ما قورن بغيره من الناس، أما من وجهة النظر الإلهية فهو ليس محروما من البصر أكثر مما يحرم منها الحجر. وحين أمر الله آدم ألا يلمس الثمرة المحرمة، كشف عن نتائج العمل ليجعل معرفته - لا إرادته - أكثر كمالا، فهو لكي يجعل إرادته أكثر كمالا فقد كان عليه بالمثل أن يمنح الدائرة خصائص الكرة

sphere .

ومع ذلك فإن المشكلات التي أثارها «بلينبرج» لم تجد لها حلا، ونحن هنا معنيون بالجهد الأخلاقي، فإذا كان من المستحيل أن أجعل إرادتي أكثر كمالا، فسوف يصبح الجهد الأخلاقي عقيما مجدبا. ومن التناقض أن نقول إن الله أمرنا أن نفعل كذا وكذا لكنه مع ذلك لم يمنحنا ماهية تناسب هذه الأفعال التي يأمرنا بفعلها.

والواقع أن مثل هذا التصور للعالم الذي يقول به اسبينوزا، سوف يؤدي بنا إلى الإحراج المنطقي

dilemma ، الذي أشار إليه «وليم جيمس» بصدد حكم الندم

judgement of regret ، أو الأسف الذي يصدره الفاعل بعد اقترافه لما قد نعتبره شرا: «فحكم الأسف أو الندم يحكم على القتل بأنه شيء قبيح، وحين نقول عن شيء ما إنه قبيح فإن ذلك يعني أن هذا الشيء ينبغي ألا يكون، وأن شيئا آخر ينبغي أن يحل محله. والمذهب الجبري بإنكاره أن شيئا آخر كان يمكن أن يقع بدلا من الفعل الذي حدث، فإنه يحدد العالم بأنه المكان الذي يستحيل أن يوجد فيه ما ينبغي أن يكون، وبعبارة أخرى، يعتبر العالم أشبه ما يكون بكائن عضوي أصيب تركيبه بفساد لا يمكن علاجه، أو بخلل لا يمكن إصلاحه ... والمذهب الجبري يؤدي بنا إلى القول بأن أحكامنا من الأسف أو الندم خاطئة؛ لأنها متشائمة، حيث إنها تتضمن أن ما هو مستحيل ينبغي مع ذلك أن يوجد. لكن ما الذي نقوله حول أحكام الأسف ذاتها؟ إذا كانت خاطئة، فكان ينبغي أن تحل محلها أحكام أخرى، لكن لا شيء يمكن أن يحل محلها؛ لأن الضرورة اقتضت وجودها. وهكذا يبقى العالم كما كان من قبل، أعني مكانا يستحيل فيه وجود ما ينبغي أن يكون.»

48 (31) ولقد وجد «وليم جيمس»

49

في دفاعه عن الحرية البشرية أنه ليس ثمة تناقض بين علم الله السابق وبين الحرية البشرية طالما سلمنا معه بأن الممكنات هي زيادة للموجودات الفعلية. فالله يعلم منذ الأزل جميع البدائل الممكنة في كل موقف وهو مستعد لمواجهة البديل الذي على وشك أن يوجد نتيجة للحرية البشرية بتلك الطريقة التي لا بد أن تؤدي بالكل إلى الغاية المرسومة أو النهاية السليمة. وهو يوضح لنا ما يقصده بمثال لرجلين يلعبان أمام رقعة شطرنج؛ أحدهما لاعب مبتدئ والآخر خبير تماما في هذه اللعبة. واللاعب الماهر يريد أن يغلب، وعلى الرغم من أنه لا يستطيع أن يتنبأ بدقة بما سيقدم عليه اللاعب المبتدئ في كل حركة، فإنه مع ذلك يعرف جميع الحركات الممكنة في كل موقف فعلي في مجرى سير اللعبة، ويعرف مقدما كيف يواجه كل حركة من هذه الحركات ويقابلها بحركة منه تقوده إلى الاتجاه الذي يجعله في النهاية ينتصر على خصمه. والآن دعنا نفترض أن اللاعب المبتدئ هو الفاعل البشري المتناهي، واللاعب الخبير الماهر هو الله اللامتناهي. ولقد كان الله ينوي منذ الأزل أن يخلق العالم ويقوده نحو غاية معينة. لكنه لم يقرر منذ البداية كل الخطوات المؤدية إلى هذه الغاية. ولا بد أن تكون هناك في نقاط متنوعة من مجرى التطور إمكانيات كثيرة، أي أكثر من إمكان واحد، وأيا ما كان الإمكان الذي يتحول إلى حقيقة واقعة، فإن الله يعرف ما الذي ينبغي عليه أن يفعله عند التشعب التالي حتى يحفظ الأشياء من أن تحيد عن النتيجة النهائية التي رسمها للعالم. وهذه الفكرة لا بد أن تترك الموجودات البشرية الفاعلة حرة في أن تسلك عند كل نقطة خطا ممكنا من الفعل الذي تختاره، كما أنها لا بد أن تسمح في نفس الوقت بالعلم الإلهي السابق للممكنات اللامتناهية وبالطريقة التي يواجه بها المواقف الفعلية. وهكذا فإن الخالق ليس من الضروري أن يعرف تفاصيل جميع الوقائع الفعلية حتى تقع بالفعل، ومعرفة الله بالعالم لا بد أن تكون في أي وقت معرفة بالوقائع من ناحية وبالممكنات من ناحية أخرى، تماما كما هو الشأن في معرفة الإنسان في أية لحظة.

ويمكن الاعتراض على هذه الوجهة من النظر بالقول بأن الله حين يواجه موقفا فعليا بحركة مناسبة تجعل تحقيق الغاية مؤكدا، فإنه لا بد له أن يقود العالم كله إلى مجرى معين يتطلبه هذا الموقف. لكن بقية العالم - أعني بقية العالم بغض النظر عن الفاعل الذي قوبل فعله على هذا النحو بالحركة الإلهية - يشمل موجودات بشرية فاعلة أخرى لها إرادة. يمكن أن يحدث أنه في نفس الوقت الذي يرتب فيه الله لمقابلة الموقف المنبثق بحركة مناسبة - في نفس هذا الوقت يختار إنسانا آخر لفعله بديلا لا يتفق مع الترتيب الإلهي، في هذه الحالة: إما أن يستمر الله في ترتيبه وبذلك يحرم هذا الشخص الأخير من حريته، وإما أن يترك حرية هذا الشخص كما هي ويظل هو نفسه عاجزا عن مواجهة وإحباط فعل الفاعل الأول. (32) خذ ما شئت من محاولات لحل مشكلة العلاقة بين العمل الإلهي الكلي والحرية البشرية، وسوف تجد - يقينا - أنها محاولات فاشلة والسبب ببساطة أنها تحاول ما هو مستحيل استحالة أولية

apriori

ومصدر المغالطة يكمن في الافتراض الذي يناقض نفسه، والذي يقول إن العالم هو في آن واحد؛ واقعة تامة وفعل متطور، في حين أن افتراض أحدهما لا بد أن يعني - بالضرورة - إنكار الآخر، فإذا كان المطلق حقيقة واقعة فلا بد أن يكون النسبي وهما، والعكس صحيح أيضا، فلو كان «وجود

Becoming » فلا بد ألا يكون «صيرورة

Being » وإذا كان «صيرورة» فلا يمكن أن يكون «وجود».

حقا إن كثيرا من عظماء الفلاسفة قد أخذوا بالاعتقاد القائل بأن الوجود أسمى من الصيرورة، وأن الثبات أعلى من التغير. ولا بد أن يكون الواقع

Reality

عند هؤلاء الفلاسفة: الواحد الذي لا يتغير، ولهذا أعلنوا أن الصيرورة غير حقيقية، وهي وهم؛ فالعقل لا بد له أن يبحث وراء الصيرورة عن الواقع الحقيقي الثابت الذي يتحدى التغير، فتلك هي الحقيقة، وهذه الحقيقية هي الصورة أو الماهية أو التصور أو الفكرة.

غير أن وجهة النظر التي يأخذ بها هذا البحث هي أن أي تصور للحقيقة الثابتة ليس إلا تجريدا يقوم به العقل البشري؛ فالواقعية

Fact

هي دائما في صيرورة، ودائما في تغير، بمعنى الخلق المتصل لشيء جديد، وهذا يصدق في آن واحد على العالم وعلى أفراد الموجودات الحية. والفكرة الرياضية عن اللامتناهي في الصغر

infinitesimal

تزيل مفارقة أن يكون الشيء هو نفسه ومع ذلك فهو آخذ في النمو والتحول إلى شيء آخر، مفارقة الهوية التي لا يمكن أن تبقى إلا من حيث محافظتها على التغير. وأي تصور لواقع ثابت هو تصوير سيئ للمجرى المتغير الحقيقي للطبيعة والحياة. فالوجود الحي هو في حركة متصلة، ومحاولة فهم الحياة عن طريق التصورات يعني إيقاف هذه الحركة، وهناك حقيقة في الملاحظة التي تقول إننا نعيش المستقبل ونفهم الماضي، والتصورات الثابتة بوصفها آراء قيلت بعد أن تمت الواقعة هي تصورات تراجعية وارتدادية.

retrospective and post mortem.

والمفارقة التي يتضمنها الافتراض القائل بأن هناك علما سابقا بالمستقبل. وأن هناك - في نفس الوقت - جدة حقيقية تخلق في المستقبل، يمكن فقط أن تزول لو أننا قطعنا الأطراف غير الحقيقية لكليهما، بحيث نبقي فقط على الأطراف الحقيقية فيهما. والأطراف غير الحقيقية فيهما هي الكمال الذي لا يمكن أن يتغير، الوجود المطلق الأبدي الذي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل جميعا. فإذا كان المطلق واقعة حقيقية، فلا بد أن يكتفي بذاته

self-sufficient ؛ أي إنه إذا كان واقعة فهو لا يمكن أن يتطور ولا أن يعمل.

والكون الذي نعيش فيه ليس كاملا، وبسبب عناصر النقص ذاتها يستمر في عملية خلق صور جديدة لكي يتحرك نحو الكمال. فالوجود الكامل هو في حالة تكوين ولا يمكن أن يكون مصنوعا أو معدا أبدا، وعملية تكوينه تتجلى في الابتكار الخلاق لأفراد الموجودات الحية.

إننا نعيش في عالم الأفعال والمعاناة، في عالم النجاح والفشل، في عالم الحب والكراهية، عالم الحاجات والرغبات والآمال. أما إذا نظرنا إلى العالم على أنه مطلق، فلن يوجد فيه شيء من هذا القبيل، لأن هذه الأمور جميعا تنتمي إلى العالم النسبي، حيث توجد خبراتنا وتجاربنا المتناهية. نحن نعيش في عالم لا يوجد فيه شيء ساكن، بحيث لا يكون له تاريخ، في حين أن العالم لو كان مطلقا؛ فلا بد أن يكون بلا زمان وبلا أي تاريخ: «حيث يأخذني المطلق ... أظهر مع كل شيء آخر في مجال معرفته الكاملة، وكلما أخذت نفسي، أظهر بدون معظم معرفته «أي معرفة المطلق». ومن جهلي، فالجهل يفرخ لي: الخطأ، والتعجب، وسوء الطالع، والألم، فأعاني من هذه النتائج، والمطلق يعرف بالطبع هذه الأشياء؛ لأنه يعرفني ويعرف آلامي، لكنه هو نفسه لا يتألم. وهو لا يمكن أن يكون جاهلا؛ لأن معرفته بكل سؤال تسير متأنية مع معرفته بكل جواب. وهو لا يمكن أن يكون صبورا؛ لأنه لا ينتظر شيئا، فكل شيء موجود لديه دفعة واحدة. وهو لا يمكن أن يندهش، كما أنه لا يمكن أن يكون مذنبا. ولا يمكن أن تقال عليه صفة ترتبط بالتتالي، لأنه كلي الحضور وهو ما هو عليه على الدوام.»

50

حين نتحقق من أن المفارقة في مشكلة العلاقة بين العلم الإلهي الشامل والحرية البشرية تنشأ من القول بأن مثل هذا الافتراض المركب فرض مستحيل، وحين نتحقق من أن هذه المفارقة لا يمكن أن تزول إلا بأن ننكر واحدا من اثنين: إما المطلق الذي يشمل كل شيء، وإما العالم النسبي المتغير الذي نعيش فيه - إذا تحققنا من هذا كله، بدا الاختيار واضحا: «المادة أم الذهن، لقد ظهر الواقع أمامنا كصيرورة دائمة. هو يصنع نفسه أو لا يصنع نفسه، لكنه ليس شيئا معدا على الإطلاق.»

51 (33) يتضح من ذلك أن حرية الجبر الذاتي ننسبها للإنسان لا تشمل كل ما يتعلق بوجوده وسلوكه، فمن الطبيعي ألا نتحدث عن وجوده الذي بدونه لا يمكن أن يكون لا حرا ولا مجبرا؛ لأنه أية صفة تنسب إليه لا بد أن يسبقها التسليم بأن الإنسان موجود؛ فوجوده شرط سابق لحريته، وعلى ذلك فالقول بأن وجوده واقعة معطاة لا يمكن أن يتخذ كدليل ضد حريته.

يجمل بنا هنا أن نلاحظ أن حركات الجسم البشري يمكن أن تنقسم إلى فئتين، نطلق عليهما على التوالي: «الحركات الآلية» و«الحركات الحيوية». والأولى يمثلها حركة رجل يسقط من صخرة ناتئة على شاطئ البحر فيهوي في الماء، فلتفسير سقوطه هذا لا يلزمنا أن نفترض أن الرجل كائن حي، لأنه يسقط بفعل الجاذبية كما يسقط الحجر، أما حين يصعد الرجل قمة الجبل، فإنه عندئذ يفعل ما لا يستطيع أن تفعله مادة ميتة تشبهه شكلا وحجما، فهذه إذن حركة حيوية.

52

ومن المسلم به أن جميع حركات الجسم البشري لا ترتبط بهذا الجسم إلا من حيث ما تلعبه طبيعة أي جسم مادي آخر في تحديد سلسلة الحوادث التي يتعرض لها. ومن ناحية أخرى فإن جميع الظواهر «الحيوية» للجسم البشري التي يهتم بها عالم الكيمياء أو الحياة أو وظائف الأعضاء تحددها طبيعة الكائن الحي بأوسع معنى لهذه الكلمة، بمعنى أن أي كائن حي مكون على نحو يجعله يعمل بطريقة مناسبة في جميع الظروف المختلفة، خذ مثلا فعل الوقوف «تجد أننا حين نقف تكون هناك بشائر خفيفة متصلة للسقوط نحو هذا الجانب أو ذاك، وهذه الترنحات تكون باستمرار خاطفة ومصححة، لكن ذلك كله يحدث دون أن ندركه أو أن تكون لدينا فكرة عنه، فجسمنا يوازن نفسه دون أن يشعر وجودنا بذلك، ودون أن يكون لعقلنا دور ما.»

53

غير أن هذه الأفعال تشير - فيما يبدو - إلى حرية الحياة بصفة عامة، لا إلى حرية الفرد، اللهم إلا من حيث اعتبار هذا الفرد ممثلا للحياة. ولقد كان للحياة خلال مجرى التطور تركيبات عضوية لصور جزئية خاصة خلقتها لتعمل على نحو معين. ولقد كانت الحياة حرة في تطورها الخالق.

يبقى أمامنا بعد ذلك الجانب السيكولوجي، وفي هذا الجانب نجد أن الأفعال الإرادية هي وحدها الأفعال الحرة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وإنك لتجد من الجبريين أنفسهم من يسلم بأن الموجودات البشرية هي الاستثناء الوحيد للمبدأ الجبري الذي يسود جميع المجالات، وأن خصائص الإرادة هي وحدها المستثناة.

وعملية الإرادة تبدأ من الانتباه إلى فكرة معينة عن تغير ما، وتنتهي بالتحقق الكامل لهذه الفكرة، وإذا نقص شيء ما في هذه العملية المتكاملة فإنها لا تسمى إرادة، لكن إذا ما تمت العملية وتحقق التغير، فلا بد أن تكون حرة على الأقل بالمعنى السلبي للحرية، الذي يعني انعدام القهر الخارجي. والواقع أن عبارة «الإرادة المجبرة

an impededwill » عبارة متناقضة؛ لأن الإرادة لا تكون كذلك إلا إذا تمت العملية حتى نهايتها. وكما لاحظ «تيلور

A. E. Taylor»

بحق، فإن كلمتي «الحرية» و«الإرادة» ليستا إلا الاسم السلبي والاسم الإيجابي لخاصية واحدة هي خاصية الفعل الذي نحقق به أغراضنا الخارجية في عالم الواقع. فأنا «أريد» حين يكون سلوكي الخارجي معبرا عن ذاتي وفي هذه الحالة نفسها أكون حرا. ومن هنا كانت الإرادة والحرية شيئا واحدا؛ لأن الإرادة التي نقول عنها إنها «ليست حرة» لا بد أن تكون إرادة لا تترجم هدفي الخاص إلى عالم الواقع، وبالتالي فهي ليست إرادة على الإطلاق؛ ومن ثم فالسؤال: هل نحن أحرار؟ يمكن أن يكون أكثر وضوحا لو وضع في صيغة مساوية فقلنا: هل أردنا شيئا فقط؟ وإذا ما وضع السؤال على هذا النحو فسوف تتولى التجربة والخبرة الإجابة عنه إجابة مباشرة؛ إذ لا شك أنه كانت لدينا أغراض معينة في حياتنا، ولا شك أيضا أننا ترجمنا هذه الأغراض إلى سلوك، ومن هنا فإن الحرية - يقينا - ... واقعة من وقائع الخبرة المباشرة.

54

إذا ما أراد شخص ما على الإطلاق فإن إرادته لا بد أن تكون حرة؛ لأن الإرادة هي التحقق الفعلي لفكرة تغير يراد إظهاره إلى الوجود، وحين تتحقق الفكرة بالفعل فلا معنى لقولنا إنها كانت معاقة أو ليست حرة، لكن الحرية - من ناحية أخرى - التي ننسبها هنا للفاعل؛ ليست هي الحرية التي تعني انعدام القانون أو الخضوع للعشوائية، بل هي حرية الجبر الذاتي التي تربط الفعل المراد بسببه. وشخصية الفاعل، السبب الضروري - وإن لم تكن السبب الكافي - للفعل المراد. وبعبارة أخرى: الفعل المراد هو كما سبق أن ذكرنا النتيجة الممكنة - لا الضرورية - لشخصية الفاعل؛ ومن ثم لحرية الفاعل. والشخصية ليست نتاجا تاما وكاملا، وليست تصورا مجردا، يمكن أن تكون طبيعته محددة مرة واحدة وإلى الأبد، لكنها شيء حي متزايد، وخبرة اللحظة الحاضرة تضيف شيئا جديدا للخبرة الماضية، وبإضافتها يصبح الكل مختلفا عما كان وعما اعتاد أن يكون: «نحن أحرار حين تنبع أفعالنا من شخصيتنا بأسرها. حين تعبر هذه الأفعال عن تلك الشخصية بحيث يكون بينهما تشابه لا حد له، وهو التشابه الذي نجده أحيانا بين الفنان وإنتاجه. ولا يهم أن يقال بعد ذلك إننا عندئذ نستسلم للأثر القوي الشامل لشخصيتنا؛ لأن شخصيتنا في النهاية هي نحن.»

55

مراجع البحث

(1) الكتب (1) Aristotle - The Nicomachean Ethics, English Translation by F. H. Peters, 15th. ed., (Kegan Paul). (2)

______

The metaphysics, English Translation by Hugh Tredennick, Wiliams Heinemann, The Loeb Classical Library. (3)

______

On The Soul, English Translation by W. S. Hett. (Wiliam Heineman, The Loeb Classical Library). (4) Aveling, F.

______

personality and Will, Camb. Univ. Press, The Contemporary Library of psychology, 1931. (5) Bain, A. Emotions and the Will, 2 vols., 2nd. ed., 9 Congmans, Green and Co., 1865. (6)

______ : Mental and Mora LSciences, (Congmans, green, Co.,) 1868. (7) Bradley, F. H.

______

The principles of logic, 2 Vols. 2nd ed., (Oxford University Press), 1928. (8)

______

Appearance and Reality, 2nd ed., (The Clarendon Press), 1928. (9)

______

Ethical Studies, 2nd ed., (The Clarendon press), 1927. (10)

______

Collected Essays, 2 Vols., (The Clarendon Press), 1935. (11) Bergson, H.

______

Time and Free Will, English Translations by F. L. Posgson, (Swan Sonnenschein and Co.), 1910. (12)

______

Creative Evolution, English Translation by Arthur Mitchell, (Macmillan and Co.), 1911. (13)

______

Mind-Energy’ English Translation by H. W. Carr. (14) Bosanquet, B.

______

The

Co.), 1919 (The Gifford lectures for 1911). (15) Broad, C. D. the Mind and its place in Nature, Kegan Paul, International Library of Psych., philos., and Scientific method, 1925. (16)

______

Five types of Ethical Theory, (Int. lib. of Psych. philos., and Scientific Method), 1930. (17) Caird, E.

______

The Crtical philosophy of Kant, Vol. 2., 2nd. ed., 9 James maclehose and Sons), 1909. (18) Caird, J.

______

Spinoza, (Blackwood, Philosophical Classics for English Readers), 1888. (19) Carr, H. W.

______

Cogitans Cogitata, (Favil Press), 1930. (20)

______

The Philosophy of Change, (Macmillan and Co.), 1914. (21)

______

The Free will problem, (Bennis Sixpenny Library, No. 29). 1928. (22) Dewey, J.

______

psychology, 3rd. ed. 1894. (23) Dingle, H.

______

Through Science to Philosopy, (The Clarendon Press). 1937. (24) Ewing, A. C.

______

Idealism, A Critcal Servey, (methuen and Co.), 1937. (25) Gentile, G.

______

The theory of mind as Pure Act, English Translation by H. W. Carr, (Macmillan and Co.), 1922. (26) Hallett. H. F

______

Aeternitas, (The Clarenon Press), 1930. (27) Hamiltion, W.

______

lectures on metaphysics and logic., edited by H. L. Mansel. (28) Hume, David

______

A Treatise of Humannature, deited by Selby - Bigg, (The Claredon press), 1896. (29) Huley, T. H.

______

Collected Essays, (Macmillan, The Eversley Series), Vol. I, 1912. (30) James, W. The Will to Believe (Congmans, Green and Co.), 1931. (31)

______

2 Vols., 1st. ed. (Macmllan), 1890. (32)

______

A Pluralistic universe, (Longmans, Hibbert Lectures at Manchester College), 1909. (33)

______

Essays Radical Empricism, edited by R. B. Penny, (Longmans),. (34) Jevons, W. S.

______

The princples of Science, (Macmillan and Co.), 1924 ed. (35) Joachm, H. H: the Nature of Truth (Frowde), 1906. (36)

______

A Study of The Ethiecs of Spnoza (The Claredon press), 1901. (37) Johnson W. E. Logic, 3 Vols. (Camb. at the Univ. Press) 1940. (38) Kant: Critique of Pure Reason, Eng. Translation by F. max muller, 2nd ed. (Macmillan and Co.) 1922. (39) Laird, J.

______

of the Self, (Macmillans and Co.), 1917. (40) Leibniz: The Monadology etc. Eng. Traslation With introduction and notes by Robert Latta, (The Clarendom Press) 1898. (41)

______

Discourse on metaphysics, Correspondence with Arnould and Monadology Eng., Translation by G. Montgomery, (Phlosophical Classics Lib). 1937. (42) Locke, John

______

Essay Concerning Human Understanding edited by A. C. Fraser (Black wood, Philos. Clamics), 1894 Another edition by Lock Ward and Co. (43) Mackenzie, J. S.: A Manual of Ethics, 3rd. ed. (Univ. Correspondence College press), 1897. (44) Maxwell, J. C. Theory of heat, (Congmans), 1894. (45) Mc Dougall, W. An introducton to Social

1943. (46) Mill, J. S.

______

A System of Logic 2 vols, 6 the ed., (Congmans), 1865. (47)

______ : Examination of Sir Hamilton’s philosophy. (Longmans), 1865. (48) Moore, G. E. philosophical Studies, (kegan Paul int. lib. of psych., Philos. and Scientific Method) 1922. (49) morgan, C. L. Emergent Evolution, (Williams and Norgate), 1927. (50)

______ : Life, Mind and spirit (Williams and norgate) the Gifford leetmes for 1923), 1926. (51) Plato: Phaedo, Engl. translation by Harold North Fowler (William Heinemann, the loeb. Classical Library). (52) Pollock, F.: Spinoza, his life and

(53) Pringle-Pattison, S.

______

The Idea of God, (The Clarenidom press te Gfford leetures for 1912-13). 1917. (54) Rashdall, H.: The theory of Good and Evil, 2 vols (The Clarendon Press) 1907. (55) Richardson, C. A.: Spiritual pluralism and Modern philosophy, (Camb, at tfe univ. press). 1919. (56) Ross, W. D.

______

The Right and the Good, (The Clarendon Press) 1930. (57)

______ : Aristotle, 3rd. ed. (Methven and Co.) 1937. (58) Russell, B.: Mysticism and Logic 2nd. impression (longmans) 1918. (59)

______

An Outline of Philosophy, (Allen and univin) 1917. (60)

______

1910. (61)

______

The Analysis of Mind (Allen and Univin lib. of Philosophy). 1921. (62)

______

A Critical Exposition of the Phlosophy of Leibniz (Camb. at the Univ. Press) 1900. (63) Sherrington, C.

______

Man On his Nature (Camb, at the Univ press), 1946. (The Gifford lectures for 1937-38). (64) Sidgwick, h.: The Methods of Ethics, 3re ed., (Macmillan and Co.), 1884. (65) Spinoza; Ethics, Eng. Translation by W. Hale white, 1930. (66)

______

Correspondence, Eng. Trans by A Wolf (Allen and Union) 1927. (67) Stallknecht, N. P.

______

Bergson’s idea of Creation (A. Ph. D. dissertation presented to Princeton Unive), 1930. (68) Stout, G. F.: Manual of psyehology, 3rd. ed (The unv. Tutorial series), 1913. (69) Sully, J.

______

Outlines of psychology (Longmans, Green and Co.) 1884. (70) Taylor, A. E: Elemets of Metaphysics 8th. ed., (Methuen and Co.), 1927. (71)

______

work, 4th. ed (Methuem and Co.), 1937. (72) Ward, J.

______

Naturalism and Agnosticism 2 vols 2nd. ed. (Adam and Charles Black), 1899. (73)

______

The Realm of Ends, 3rd. ed., (Comb. at the unive. press, the Gifford lectures for 1907-10) 1920. (74)

______

(Cam. Univ. press). 1918. (75) Whitehead, A. N. Process and Reality, (Macmillan, The Gifford Lectures for 1927-1929.) (76) Woodworth, R. S.: Psychology, 15th. ed. (Methuem and Co.) 1944. (77)

______

Contemporary Schools of psychology, (Methuen) 1913. (2) الدوريات (1)

MIND.

Bradley, F. H.

______

Is there any special Activity of Attention? “O.S., xi No. 43, 1886.

______ “on pleasre, pain, Desire, and volition” O.S. xiii, No. 49, 1888.

______ “On Active Attention” n.S., xi, No. 41, 1902.

______ “the Definition of the Will (I)” N.S., XI, No. 44, 1902.

______ “The Definition of the Will (II)” N.S. xii No.46, 1903.

______ “The Definition of the Will (III)” N.S. xiii No. 49. 1904.

Shand, A. F. “A Study of Involuntary Action”, N. S. iv. no. 16, 1895. Ward, J”. mr. F. h. Bradley’s Analysis of Mind” O.S. xii No. 48, 1887.

______ : “Attention and the Field of Consciousness”. O.S xii No, 1887. (2) Hibbert Journal.

“Psychical Law and Life” Vol. i, 1903. (3) Journal of Philosophical Studies.

Michael kaye

______ “The Possibility of Man’s Freedom” 1927. (4) Philosophical Review.

Cunniham, G. Watts. “Bergson’s Conception of Duration” Vol. xxiii,1914. (5) Proceedings of the Aristotelian Society.

Carr, H. Wildon, “The Moment of Experience” 1915-16. (6) The Aristotelian Socviety Supplementary Volumes. -

Symposium: “Indeterminary and Indeterminism” Vol. x, 1913.

By: C. D. Broad.

A. S. Eddington.

R. B. Braithwaite.

Symposium: “What is Action?” Vol. xvii, 1938.

By; Prof. John Macmurray.

Dr. A. C. Ewing.

Franks. (7) University of California

philosophy.

the Mind” Vol. 19.

loeuvenberg, J. “The Discernment of Mind Vol. 19.

Lenzen, V. F. “Mind in observation,” Vol. 19. (8) Psychologica Review.

Calkins, M. W,

______ “Fact and Ingerence” in Raymond.

wheeler’s Doctrine of Will and Self-Activity,) 1921.

Thurstone, L. L. “The Stimulus Response Fallacy in psychology”. 1923. (9) The British Journal of

Aveling, F. “The psychology of Conation and Volition”, 1926. (10) Encyclopoedia Britannica. (1945).

Wolf, A.

______

Art. “Attention”.

صفحه نامشخص