29
إذ يعرض المشكلة بقوله: «إنا نجد الأشياء باللغات المختلفة تختلف، وإذا وجد اختلافها في الكتب، وجب اختلاف ما علمناك (أي ما قد ورد في كتبه السابقة على كتاب الحاصل) وانتقض الأصل الذي رتبناه على الطبائع قياسا بها ...»
ويمضي جابر بعد ذلك يعرض على قارئه أسماء الأحجار الرئيسية بلغات مختلفة، فيقول: «إنا نجد الأحجار السبعة التي هي قانون الصنعة يعبر عنها باللغة العربية أنها الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والأسرب؛ ووجدنا يعبر عنها باللسان الرومي ما يوجب نقض الأول أو نقض بعضه وائتلافه مع بعض في حروف وأشخاص لا في أنواع وأجناس؛ وذلك أني وجدتها يعبر عنها بأن يقال للذهب رصافي، وللفضة اسمي، وللنحاس هركما، وللحديد سيداريا، وللرصاص قسدروا، وللزيبق برسري، وللأسرب رو. وهذه بينها وبين العربي بون ليس باليسير؛ إما لطول كلامها وكثرة حروفها، وإما لاختلاف مواقع الحروف بين نطق العرب بالسين والرومي بها، ولعلل أخر مما جانس ما ذكرناه؛ ووجدت هذه الأحجار باللسان الإسكندراني تخالف الاثنين - أعني العربي والرومي - أيضا؛ وكان هذا أزيد في إيقاع الشك في نفوس المبتدئين والمتعلمين؛ وذلك أني وجدتهم يسمون الذهب قربا ، والفضة كوما، والنحاس جوما، والحديد ملكا، والرصاص سلسا، والزيبق خبتا، والأسرب قدرا؛ ووجدت هذه أيضا ربما وافقت الشيء من ذلك في الخاص لا في العام، ووجدت الفارسي أيضا يخالف الثلاثة بأسرها؛ وذلك أني وجدتهم يدعون الذهب زر، والفضة سيم، والنحاس رو، والحديد آهن، والرصاص أرزيز كلهي، والزيبق جيبا، والأسرب أرزيز ...» (هذه الكلمة الأخيرة غير واضحة في المخطوط). «ولقد تعبت في استخراج الحميري تعبا ليس بالسهل؛ لأني لم أر أحدا يقول إنه سمع من يقرأ به فضلا عن أن أرى من يقرأ به، إلى أن رأيت رجلا له أربعمائة سنة وثلاث وستين سنة (؟!) فكنت أقصده، وعلمني الحميري، وعلمني علوما كثيرة ما رأيت بعده من ذكرها ولا يحسن شيئا منها - قد أودعتها كتبي في المواضع التي تصلح أن أذكرها فيها - وذلك إذا سمعتنا نقول: «قال الشيخ الكبير» فهو هذا الشيخ؛ وإذا قرأت كتابنا المعروف بالتصريف، فحينئذ تعرف فضل هذا الشيخ وفضلك أيها القارئ والله أعلم أنك أنت هو ...»
30 «ولنعد الآن إلى غرضنا الذي كنا به وأقول: إني وجدت الحميري أيضا أشد خلفا لسائر اللغات مما تقدم؛ وذلك أني وجدت الذهب في لغتهم - على ما علمني الشيخ - يدعى أوهسمو، والفضة هلحدوا، والنحاس بوسقدر، والحديد بلهوكت، والرصاص سملاخو، والزيبق حوارستق، والأسرب خسحد عزا، فيا ليت شعري كيف يصل العالم من كتب الفلاسفة في علم الموازين إلى إيضاح هذا الخلف؟ ...»
لقد أوردت هذا النص الطويل لأبين به كيف أن جابرا لم يغفل عن مشكلة تعدد اللغات، ولأبين في الوقت نفسه منهجه العلمي في تقصي الأمور؛ فقد أراد أن يعلم إلى أي حد تتشابه اللغات المختلفة وإلى أي حد تتباين في تسميتها للشيء الواحد المعين كالذهب مثلا، فاستعرض العربية والرومية والإسكندرانية والفارسية والحميرية؛ بل إنه بالنسبة إلى هذه الأخيرة لما لم يجد أحدا يعرفها راح يسعى حتى وجد الشيخ الذي قص علينا قصته.
وقد انتهى البحث بجابر إلى أحد حلين: أولهما هو: «أن تمتحن الأدوية والعقاقير في العربي، ثم في الفارسي، ولسان لسان مما ذكرناه ... فأيها صح فالزمه في سائر تدبيراتك». والحل الآخر هو أن يعمل في كل عمل بلسانه.
أما الحل الأول فمقتضاه ألا يقصر الباحث نفسه على لغة واحدة، بل يختار من مختلف اللغات مجموعة الأسماء التي تدل التجارب على أنها دالة على طبائع مسمياتها دلالة واضحة؛ فلا ضير على العالم في هذه الحالة أن يستعمل للذهب - مثلا - اسمه العربي، ثم يستخدم للنحاس أو الرصاص اسمه الفارسي أو الرومي. وأما الحل الثاني فمؤداه أن يلتزم الباحث لغة واحدة بحذافيرها في شتى أبحاثه، وسيجد أن كل لغة مكتفية بذاتها في الدلالة على طبائع الأشياء؛ لأن حقائق الأشياء ثابتة لا تتعدد بتعدد اللغات، لكن جابرا يروي الرأي الثاني نقلا عن فيلسوف لم يذكر اسمه، ثم يرفضه؛ لأنه يرى أنه ما دامت كلمات اللغات المختلفة مختلفة البنية، فلا يعقل أن تكون كلها على حد سواء في الدلالة على حقائق الطبيعة، وهذه هي عبارة جابر في ذلك: «وسمعت بعض الفلاسفة من فلاسفة زماننا يقول في ذلك الوجه أن يعمل في كل عمل بلسانه. وليس القول كما ظن هذا الرجل؛ إذ كان الحق لا يكون في وجهين مختلفين.»
31
وخلاصة القول: إن الرأي عند «ابن حيان» في اللغة هو أنها نتاج ظهر بالطبع لا بالاتفاق العرضي؛ ولهذا فهي ذات دلالة أصيلة على حقائق مسمياتها؛ فهو يقول: «... وهل ذلك (أي كلمات اللغة) بالاصطلاح على ما جاء واتفق أو بقصد طبيعي نفساني؟ وهل ذلك عرض أو جوهر؟ فأقول: القول بأنها وضع واصطلاح وعرض خطأ؛ لأنه جوهر بالطبع لا بالوضع، لكن بقصد نفساني؛ لأن الأفعال النفسانية جوهرية كلها ... فالحروف التي هي هيولى الكلام ابتداع نفساني».
32
صفحه نامشخص