الفرق بين كفاح العدو وكفاح الصديق
في الحقيقة لم يكن هؤلاء القادة قد أحسوا بعد بأن هناك فارقا كبيرا بين أساليب الكفاح ضد العدو حيث يصبح كل همك أن تحاربه في كل زمان ومكان وتشهر به، وبين أساليب الكفاح ضد زملائك المختلفين معك في الرأي؛ حيث يصبح من واجبك لا أن تسحقهم وتبترهم كما تفعل مع العدو ولكن أن تكسبهم لصفك، وأن تجعل هدفك دائما أن تكسب لصفك وأن ينتصر رأيك داخل معسكرك بطريق الإقناع والزمن والإصرار على الإقناع. نسوا هذا وراحوا يعاملون بعضهم البعض كما كانوا يعاملون جنود الفرقة الأجنبية.وكان أن استنكر الجزائريون هذا الأسلوب استنكارا كاد يطيح بالقيادة كلها، وكاد يخلق نوعا من التمرد داخل الجبهة نفسها؛ بحيث نشأ في وقت قصير ما يمكن تسميته بمرض الزعامة بعد أن ضاع الاحترام الثوري الواجب للقيادة.
المعركة لم تمتد إلى الشعب
والغريب أن المعركة أبدا لم تتعد كما قلت نطاق فندق فيللا ريفو وفندق الآليتيه، ولم تمتد أبدا إلى جماهير الشعب بحيث بقي الشعب بتنظيماته، بعماله، بطلبته، بفلاحيه غير منقسم يواجه قيادة منقسمة، ويواجهها بملامح صارمة غير مرحبة أبدا بمناقشة تفاصيل أي خلاف، بل حتى بقي حافظا لجبهة التحرير تلك التي كان عليها وحدها أن تدفع ثمن هذه المعركة التي أسيء توقيتها واستغلالها من رصيدها الضخم من سمعتها وتاريخها، بل وصل الأمر إلى حد الاشتباكات الأولى التي كان من الممكن نظريا أن تنقلب إلى حرب أهلية. وحمدا لله أن اشتباكات كهذه حدثت سقط فيها حقيقة شهداء شبان لا ذنب لهم، ولكنها تجربة أثبتت للطرفين أن كل جندي في جيش التحرير سوف يسدد بندقيته إلى من يصدر إليه الأمر بالحرب قبل أن يسددها إلى قلب أخيه المجاهد؛ تجربة حاسمة سريعة أثبتت للجميع في وقت واحد أن اللجوء إلى سفك الدم الجزائري بيد جزائرية جريمة أكبر من الخيانة وأكبر من أي اختلاف نظري أو مبدئي، وأن عليهم أن يلجئوا في حل هذه الخلافات إلى طريقة أخرى، إلى الطرق الشعبية الديمقراطية لحلها، إلى إعلان الرأي والإصرار عليه والدعوة له وترك مهمة انتصاره أو فشله للشعب كي يقرر وللزمن ولمزيد من الوعي والنضج.
وهكذا بدأ فريق بن بيلا، يحس بمسئوليته ويتحرك ليجمع الصف مرة أخرى وكان الاتفاق أو شبه الاتفاق.
ولكنه اتفاق جاء متأخرا
ولكنه اتفاق حدث بعد أن أكدت الأزمة وضعا خلقه الاستعمار ولا يزال يرعاه ويعمل على استمراره، بل يكاد يصبح ركيزته الوحيدة لضمان البقاء، هو تقسيم الجزائر إلى ولايات، وإثارة النعرة القديمة بين العربي والقبائلي.
غير أن هذه كلها أصبحت غير ذات موضوع بعد أن قدم الجزائريون أنفسهم وسيلة أنجع. إن الخطة الخبيثة الماكرة للاستعمار الفرنسي أنه ظل يقاوم الثورة الجزائرية بعنف وقوة ليس لهما من مثيل، بطريقة جعلت الجزائريين يقاومونه أيضا بعنف ليس له من مثيل، ويغرقون في هذه المقاومة إلى درجة ينسون فيها كل شيء إلا الكفاح لنيل الاستقلال، وبعد الاستقلال، ماذا يحدث؟ أمور لم يفكر فيها المكافحون، وفجأة وفي أثناء هذه المقاومة الشديدة تخلت فرنسا عن الحرب وسلمت الجزائر للثوار، فكان أن حدث رد الفعل الطبيعي الذي لا بد أن يحدث في هذه الحالة، حين تجند قواك كلها لمقاومة شيء ثم ينزاح هذا فجأة، لا بد حينئذ أن تتهاوى ساقطا على الأرض، وهكذا وجدت جبهة التحرير نفسها بعد الاستقلال بلا عدو تحاربه وتقاومه، فانهارت. وهكذا ودون أي تدخل فرنسي مباشر وجد قادة جبهة التحرير أنهم لأول مرة منذ سبع سنوات يواجهون بموقف لم يعدوا أنفسهم له، في جزائر مستقلة وبلا جيش يحاربونه، فكان أن بدءوا حروبا أخرى واختلقوا لأنفسهم عداوات وتهما وبدأت بينهم المعارك، وفرنسا جالسة مسترخية تستمتع إلى أقصى حد وهي ترى الجزائريين يمزقون الجزائريين، ويتنافسون على إرضائها وعلى تأكيد تسليمهم وإيمانهم باتفاقية إيفيان التي ما قبلوها أول الأمر إلا كنقطة بدء لطريق الاستقلال الطويل.
وأسوأ من هذا حدث حين استشعر المسئولون في جبهة التحرير بالموقف وحاولوا إصلاحه وعودة الوحدة بينهم، لجئوا إلى قادة الولايات لحل الأزمة، وقادة الولايات هم في نفس الوقت قادة جيش التحرير الموجود بولاياتهم، وبن بيلا كان هو صاحب فكرة الاحتكام إليهم، فكانت النتيجة أن أحس هؤلاء القادة لأنفسهم بأهمية، واكتشفوا أن مقاليد الأمور بيدهم هم، وأن باستطاعتهم أن يتدخلوا في الموقف كأصحاب سلطة حقيقية ويلغوا كل قيادة جبهة التحرير ويصبحوا هم حكام الجزائر المستقلة وقادتها، وهذا هو بالضبط ما حدث أخيرا وما قام به قواد الولاية الرابعة، وما أصبح محمد خيضر يصرح بعدم شرعيته وعدم قانونيته؛ نفس خيضر الذي كان يصرح منذ أسابيع بأن مجلس الولايات مجتمع وأن جبهة التحرير كلها في انتظار ما يسفر عن اجتماعه من قرارات.
والنتيجة
صفحه نامشخص