ثورة الجزائر ليست ثورة جزائرية
إن ثورة الجزائر ليست ثورة جزائرية فقط. حقيقة هناك كثيرون يحاولون بكل طاقتهم أن يجعلوها هكذا، وأقصد بالكثيرين عددا كبيرا من المثقفين الجزائريين أنفسهم وبعض القادة الجزائريين، يحاولون أن يوهموا أنفسهم أنها لا تعدو أن تكون ثورة وطنية تحررية مثل غيرها من الثورات، هدفها في النهاية أن تستقل البلاد ويعهد بالحكم فيها إلى أهلها، ويصبح لها سفارات ووظائف عامة ومناصب وزارية، تماما كما فهم الحبيب بورقيبة ثورة تونس، ولكن أي ثورة في الوطن العربي، وبالذات في الشمال الأفريقي حيث سيطر العدوان الصليبي الأوربي، ليست أبدا مجرد ثورة وطنية محدودة بحدود بلادها ومرهون مصيرها بنيل الاستقلال وسيطرة أهلها على مصائرهم. إن أي ثورة عربية، وبالذات في الشمال الأفريقي، هي جزء لا يتجزأ من الثورة العربية الحضارية الشمالية، التي ليس هدفها فقط استعادة وحدة الأمة العربية من «المحيط إلى الخليج»، ليس هدفها تجميعا جغرافيا للبلاد وللشعوب العربية ولكن هدفها الأساسي تجمع حضاري وإنساني متطور لهذه الشعوب، هدفها إزاحة كل ما تراكم على طبيعتنا ووجودنا من أدران وعقد وظلامات، هدفها أن نجد أنفسنا ونهيئ أنفسنا لكي نعمل بوحي من طبيعتنا ونضيف إلى التراث الحضاري العالمي بدل أن نحيا عالة عليه، ونقدم بدل أن نظل مجرد مغلوبين على أمرهم وعلومهم وفنونهم ومستهلكين.
وحقيقة هذه الثورة الجزائرية ومغزاها ليست شيئا صادرا عن تفكير الساسة والمتخصصين. إنه مفهوم الرجل الجزائري العادي والمرأة الجزائرية العادية، مفهومها البسيط لهذه الثورة، نحن عرب يا أخي. هذه هي الكلمة التي نسمعها أنى سرت، حتى في بلاد القبائل التي يزعمون أن بينها وبين العرب التعصب والتناقض. والجزائريون لا يحبون الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر لأننا ساعدنا الثورة الجزائرية كما يعتقد بعض السذج، إنهم يفعلون هذا لإحساسهم التلقائي البسيط أن الجمهورية العربية وجمال عبد الناصر يمضيان في نفس الخط الذي قامت من أجله ثورة الجزائر، خط الصحوة الحضارية الثورية العربية، خط ليس الاستقلال فقط أو الاشتراكية فقط، ولكن أيضا خط الكشف عن الكيان العربي وإيقاظه وتقديمه متطورا وإيجابيا وفعالا إلى عالم متطور وإيجابي وفعال. وبهذا لم أعجب أبدا حين سمعت أول خبر عن صاروخنا الذي أطلقناه في أعياد الثورة من سائقي التاكسي الذي كان يقلنا إلى تلمسان، وبالنص كانت كلماته: مزيان بالزاف الصاروخ اللي أطلقناه. أجل، أطلقناه صاروخا عربيا، تحد عربي حضاري علمي، أطلقته ثورة القاهرة وتحييه ثورة الجزائر، والهدف ذلك الوجود الواحد الثائر المتطور.
هل كان الخلاف شخصيا
على أساس هذا الفهم للثورة الجزائرية، من الممكن أن نحدد ببساطة ونحكم على الخلاف بين قادة جبهة التحرير. بعض الناس قالوا إنه خلاف شخصي، حتى جريدة المجاهد جريدة الثورة قالت هذا، وهناك رأي آخر أن بن بيلا اشتراكي بينما المعسكر الآخر لا يميل كثيرا إلى الاشتراكية، وفرنسا وضعت كسبب محرك للخلاف.
ولكن هذه كلها أسباب ظاهرية محضة؛ فهو ليس خلافا بين اشتراكيين وغير اشتراكيين، ولا بين معتدلين ومتطرفين، ولا على من يتسلط ويحكم. إنه في شكله النظري خلاف بين من يرون أن ثورة الجزائر ثورة جزائرية هدفها الاستقلال والتحرر، ومن يرون أن الثورة الجزائرية ليست سوى جزء من ثورة عربية يجب أن تشمل المشرق والمغرب معا، ومن يرون للثورة الجزائرية أهدافا أبعد بكثير من حدود الجزائر، ولكن المشكلة أن وضع الخلاف على هذا المستوى الواضح فيه ظلم كبير للواقع؛ فهو أبدا ليس واضحا أو ظاهرا للعيان بتلك الصورة. إنه يختفي لأسباب كثيرة، وكأن كلا الجانبين حريص على إخفاء حقيقته؛ الجانب الأول لخوفه من أعداء الثورة الجزائرية الكثيرين، والجانب الثاني لخوفه من العرب أنصار هذا الامتداد وتلك الثورة في كل مكان؛ ولهذا فهو يبدو على هيئة أعراض مختلفة منها الموقف من الجيش، ومن تقسيم البلاد إلى ولايات، والحزب الواحد أو تعدد الأحزاب، والإصلاح الزراعي، والتقارب أو التباعد عن الجمهورية العربية المتحدة.
إن لب الخلاف لا يظهر للعيان، ولو قد ظهر للحظة لما تردد أحد في الانضمام إلى جانب الثورة الجزائرية كثورة عربية، ولبقي الطرف الآخر منبوذا وحيدا إلا من بعض المثقفين الجزائيين الذين يسخرون من فكرة القومية العربية، ويرون مثلهم الأعلى، مثلما حدث لبعض المثقفين عندنا، في فرنسا وأوروبا عامة وحضارتها، وإلا من البورجوازية الجزائرية التي نشأت في كنف الاستعمار، والتي تخاف عواقب الثورة العربية الاشتراكية وما يتبعها من تأميم، وإلا من الأوروبيين جميعهم وبلا استثناء الذين يرون أن الخطر الأكبر عليهم ليس أن تستقل الجزائر إذ بعد الاستقلال أيضا ستظل لهم اليد العليا، وسيظلون وبحماية فرنسا وبنصوص اتفاقيات إيفيان يسيطرون على كل شيء. الخطر الأكبر أن تنضم الجزائر المستقلة إلى ركب التحرر الثوري العربي ويصبحوا حينئذ مجرد قطرة صغيرة في بحر عربي ثائر، تلك هي القوى التي تساند جانب الجزائر جزائرية فقط والجزائر مستقلة فقط، والجزائر متطورة داخل حدودها فقط، ومع هذا الجانب أيضا لا بد تقف فرنسا وأمريكا وإنجلترا وكل دول الحلف واليهود في داخل الجزائر وإسرائيل في خارجها.
أما الطرف الآخر فمعه الجيش والشعب العربي في كل مكان، ومعه حكم التاريخ والحقيقة والتطور، وهذا هو الطرف الذي يمثله بن بيلا ورفاقه، وهو الطرف الذي عليه أن يواجه كل هذه القوى مجتمعة، وهو أيضا الطرف الذي لا يجب عليه أن يدخل في الآونة الحاضرة أية معركة حاسمة؛ فأقصى ما يريده الآخرون منه أن يدخل هذه المعركة ويدخلها الآن، قبل أن تنبت له في الشعب جذور، ويرتبط بالجماهير ارتباطا تنظيميا وعضويا لا يمكن فصمه.
الصورة الواقعية مختلفة تماما
هذا هو الخلاف على مستواه النظري البحت.
صفحه نامشخص