واحد من مطربي العشرين مليون كادح
الغناء عندنا رجولة وليس رقة صوت.
أنا جسمي مجروح وداير أعالج الناس. ***
لو كان الأمر بيدي لجعلت المحاورة التي دارت بيني وبينه شعرا شعبيا؛ فما أسهل ما تصورت تأليف الشعر وأنا أشهده يؤلف أمامي هكذا بمثل ما يفعل الحاوي في لعبة سهلة، ولكني حين انفردت بالقلم والأوراق وجدت أن الأمر ليس بالبساطة التي تصورتها. لقد اخترت محمد المحلاوي الشهير بأبي دراع لا لشيء إلا لأنه يعد في رأيي مطرب تلك الطبقات التي تبدأ من العدم والمعدمين وينتهي حدها عند عبد المطلب حيث تبدأ طبقات شعبية أخرى وعلى مستوى آخر؛ مطرب الناس الذين يكونون لنا نحن الشعب الأساس والجذور، الذين يحيون وأرجلهم مغروزة في الحفر والأرض والطين وعلى أكتافهم يحملون كتلة شعبنا الهائلة.
وأبو دراع يعي هذه الحقيقة. قال لي مقدما نفسه: أنا مطرب مشهور يا دكتور، أكثر الناس شهرة والله من عبد الحليم حافظ وفريد؛ فالناس الذين يسمعونني ويتجاوبون معي هم أصحاب الجلاليب الذي إذا سمعوا «نار يا حبيبي» أو «قول لي عملك إيه قلبي» دقوا الأرض بأقدامهم من الغيظ وطلبوا أن يسمعوا الموال، فهو وحده الذي يشجيهم ويتلوون لوقع كلماته.
ومغنو هذه الطبقات لهم مؤهلات تختلف تماما عن مغنينا الذين نسمعهم في أضواء المدينة، هناك الصوت الأصيل ليس مهما أبدا، يكفي أن يكون قويا رجاليا معبرا؛ إذ المطلوب منه أن يهز ويحرك أجسادا رجالية لا ذرة للأنوثة فيها ولا يمكن أن تستجيب إلا لصوت في مثل قوتها ورجوليتها. ثم إن المغني لا يغني فقط إنه أولا وأساسا شاعر كلمات ومؤلف نفس المقاطع التي يغنيها. والغناء ليس مدا ولا سيكا ولا اسطامبوللي بالمرة؛ إذ الموسيقى التركية الشرقية لم يصل أثرها أبدا إلى هذا القطاع الضخم فبقي سليما، يعتمد على نغم مصري قد لا يكون جميلا أو جيد السبك، ولكن ميزته الكبرى أنه مصري مائة في المائة لا يمكن أن يفرزه إلا شعبنا هذا، ولا يمكن أن يطرب له إلا الطبقات التي بقيت مصرية خالصة لم تتأثر ولم تتفاعل مع شرق أو غرب، وهو أيضا ليس مجرد نظم منغم. إن المغني هنا ليس مرفها فقط. إن عليه أن يبدو لمستمعيه على هيئة بطل حتى يؤمنوا به ويتفاعلوا معه.
ووجدت في أبو دراع كل هذه المزايا مع ظاهرة خاصة به وحده، إنه واع جدا بمسألة ذراعه المقطوع، لا ينساه للحظة، ورغم قطعه فهو يستعمله أو يستعمل وجوده الموهوم كأقوى ما يكون السلاح يهدد به، وأحيانا يتجبر ويستدر الإشفاق، وأحيانا يستدر الإعجاب حين يحكي قصة بطولة قام بها رغم هذه العاهة. وفي الجلسة الطويلة التي قضيتها معه ظل هذا الذراع كالروح الغائبة التي ينجح أبو دراع في استحضارها وإبقائها تخيم على الجلسة رهن إشارته. ولقد ظللت أتساءل عن كنه هذه الظاهرة وبالكاد وجدت تفسيرها في قصة حياة أبو دراع نفسه.
ولنستمع له يروي: كانت أمي اجوزت في بلد تانية وكنت باشتاق لها قوي، سني ست سنين، والعيال في كل حته يزفوني وأبويا ما يقوليش إلا يا بن ال ... ومرات أبويا جبارة. كنت أنفرد بنفسي في الغيط وأوعى ألاقي نفسي باغني: انتي فين يا امه، أغنيها على نغمى كنت سمعت مرة الششتاوي مطرب المحلة المشهور بيقولها، أفضل أقولها وأعيد فيها بس على شرط من غير ما حد يشوفني ولا يسمعني، لما كبرت شوية بقيت أهرب واروح لها أبص ألاقي أبويا طابب واخدني. كانت مرات أبويا تجوعني وما ترضاش تأكلني فعلمتني ازاي أسرق العيش من وراها واخبيه.
أنا اللي عند ابويا سرقت الرغيف
ومن جوعي شحت عيش عند أمي •••
صفحه نامشخص