Ithaf Al-Ahbab Bima Thabata Fi Mas'alat Al-Hijab
إتحاف الأحباب بما ثبت في مسألة الحجاب
ناشر
الجامعة الإسلامية
شماره نسخه
السنة التاسعة-العدد الأول
سال انتشار
جمادى الثانية ١٣٩٦هـ/ يونيو ١٩٧٦م
محل انتشار
المدينة المنورة
ژانرها
إتحاف الأحباب بِمَا ثَبت فِي مَسْأَلَة الْحجاب
بقلم الشَّيْخ عبد الْقَادِر بن حبيب الله السندي الْمدرس بمعهد الْحرم الْمَكِّيّ
الْحَمد لله وَحده، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من لَا نَبِي بعده، أما بعد: فقد اطَّلَعت على سُؤال وَجه إِلَى بعض أهل الْعلم يتَعَلَّق بحجاب الْمَرْأَة الْمسلمَة فِي الْكتاب وَالسّنة، وَقد طلب إليّ تحضير الْإِجَابَة الشافية فِي ضوء الْكتاب وَالسّنة، وَإِجْمَاع الْأمة، فحررت هَذِه الْإِجَابَة السريعة مستعينا بِاللَّه جلّ وَعلا الَّذِي تتمّ بِهِ الصَّالِحَات وبكتاب الله تَعَالَى الَّذِي نزل بِهِ الْخَيْر والبركات، وبسنة الْمُصْطَفى ﷺ الَّتِي تتنور بهَا الكائنات، وبإجماع السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين الَّذين هم قدوتنا فِي الْعَمَل الصَّالح والحسنات، فَمَا جَاءَ فِيهَا من الصَّوَاب فَمن فضل الله تَعَالَى، وتوفيقه، وَإِن كَانَ غير ذَلِك فَهُوَ مني، وَمن الشَّيْطَان، فأستغفر الله تَعَالَى، وَأَتُوب إِلَيْهِ جلّ وَعلا سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ، وَسَلام على الْمُرْسلين، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.
نعم إِن الْمَرْأَة لَهَا دور كَبِير فِي إِفْسَاد الْعَالم إِن خرجت عَن مكانتها الَّتِي أَعْطَاهَا الله تَعَالَى، وَإِن فتنتها أكبر، وَأَشد، وَأعظم من أَي فتْنَة وَقعت فِي الإنسانية بعد فتْنَة الشّرك، وَإِنَّهَا محور أساسي للخير إِن صلحت، وَالشَّر إِن فَسدتْ، وَإِن صَلَاح الْمُجْتَمع الإنساني مُتَوَقف على صَلَاحهَا من النواحي الاجتماعية، وَأَن الْأَمْرَاض الاجتماعية الفتاكة الَّتِي يعاني مِنْهَا الغرب والشرق وَمن لف لفهم كَانَت بِسَبَب خُرُوج الْمَرْأَة عَن دائرتها الأساسية ونشأتها المثالية، وَلَقَد يحدثنا التَّارِيخ الإنساني عَن الْحَوَادِث الخطيرة الَّتِي تعرضت لَهَا الْمَرْأَة قبل الْإِسْلَام، فَضَاعَت فِيهَا معالمها الفكرية، والثقافية، وحريتها الْكَرِيمَة، وحقوقها الْمَشْرُوعَة، فَكَانَت تعامل كالبهيمة العجماء لَا رَأْي لَهَا، وَلَا نظر، وَإِلَى هَذِه الْقَضِيَّة يُشِير الحَدِيث النَّبَوِيّ الشريف وَهُوَ من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: "جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله ﷺ، فَقَالَت:
1 / 122
يَا رَسُول الله إِن ابْنَتي توفّي عَنْهَا زَوجهَا وَقد اشتكت عينهَا، أفنكحلها؟ فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: "لَا" مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، كل ذَلِك يَقُول: "لَا". ثمَّ قَالَ ﷺ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة أشهر، وَعشر، وَقد كَانَت إحداكن فِي الْجَاهِلِيَّة ترمي بالبعرة على رَأس الْحول"، فَقَالَت زَيْنَب: كَانَت الْمَرْأَة إِذا توفّي عَنْهَا زَوجهَا دخلت حفشا، ولبست شَرّ ثِيَابهَا، وَلم تمس طيبا، وَلَا شَيْئا، حَتَّى تمر عَلَيْهَا سنة، ثمَّ تُؤْتى بِدَابَّة حمَار أَو طير، أَو شَاة، فتفتض بِهِ"١، فقلما تفتض بِشَيْء إِلَّا مَاتَ، ثمَّ تخرج فتعطى بَعرَة فترمي بهَا، ثمَّ تراجع بعد مَا شَاءَت من طيب أَو غَيره٢.
فَهَذَا الحَدِيث الشريف يصور لنا وَاقع الْمَرْأَة المرير فِي الْجَاهِلِيَّة، ومدى الإهانة الَّتِي كَانَت تعيش فِيهَا، ثمَّ أكرمها الله تَعَالَى، وأعزها بِنِعْمَة الْإِسْلَام الخالدة، وَأَعْطَاهَا حُقُوقهَا الْمَشْرُوعَة كَامِلَة دون شطط، وَلَا نقص، رَحْمَة بهَا، وشفقة عَلَيْهَا، ولأول مرّة فِي التَّارِيخ الإنساني الطَّوِيل نَالَتْ الْمَرْأَة مَا نَالَتْ من عز مَفْقُود، واحترام متزايد، ومنزلة سامية كَرِيمَة، وَكَانَت حَال الْمَرْأَة الغربية فِي الْجَاهِلِيَّة أدهى وَأمر من حَال الْمَرْأَة الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا، وَلَقَد سعى الْأَعْدَاء جاهدين إِلَى إخفاء مزايا الْإِسْلَام مُنْذُ أول يَوْم جَاءَ فِيهِ يخرج الإنسانية الضائعة من ظلام دامس إِلَى نور الْحُرِّيَّة الْحَقِيقِيَّة، وَإِلَى مبادئ عادلة، وعالية رفيعة مثالية لم تشهدها الإنسانية فِي جَمِيع العصور، فَوضع هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاء بمكرهم الْخَبيث وحيلهم الماكرة، وطرقهم الملتوية تِلْكَ المناهج البالية الخبيثة فِي التربية والثقافة الَّتِي لم تتفق أبدا بِحَال من الْأَحْوَال مَعَ فطْرَة الْإِنْسَان الْحر الْكَرِيم، نعم تِلْكَ المناهج الَّتِي تكلم عَنْهَا مفكرو الْمُسلمين حَدِيثا وقديما، وعَلى رَأْسهمْ الدكتور مُحَمَّد إقبال المفكر الإسلامي الْكَبِير فكشف عَن خباياها، وزواياها، تكلم عَنْهَا بتفكير عميق، وإطناب مُفِيد، فِي كتبه، ورسائله، ومقالاته، وَنبهَ الْأمة الإسلامية إِلَى مَا خططه الغرب المادي من تخطيط خطير، من السيطرة التَّامَّة على الْعَالم الإسلامي من جَمِيع النواحي الحساسة، نعم كَانَت تِلْكَ المناهج التعليمية والتربوية الَّتِي وَضعهَا
_________
١ أَي تكسر مَا هِيَ فِيهِ من الْعدة بِأَن تَأْخُذ طائرا فتمتسح بِهِ وتنبذه فَلَا يكَاد يعِيش، قَالَه ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة ٤٥٤/٣، نقل عَنهُ الفيروزآبادي فِي الْقَامُوس هَذِه الْمَادَّة ٣٤٠/٢، والحافظ فِي الْفَتْح ٤٨٩-٤٩٠/٩، والفتني فِي مجمع بحار الْأَنْوَار ١٤٧-١٤٨/٤، والسيوطي فِي تنوير الحوالك ٤٠/٢، وَجَاء شرح هَذِه الْكَلِمَة فِي الْمُوَطَّأ ٤٠/٢، وَالنَّسَائِيّ فِي السّنَن نقلا عَن مَالك ٢٠٢/٦ بِمَا قَالَه ابْن الْأَثِير.
٢ أخرجه فِي الطَّلَاق ٤٧، ٤٦ والطب ١٨ (الطَّلَاق ٤٣، وت الطَّلَاق ١٨، ن الطَّلَاق ٥٥، ٦٣ ٦٧، جه الطَّلَاق ٣٤، ط الطَّلَاق ١٠١، حم ٢٩٢/٦، ٣١١/٦) .
1 / 123
الغرب لإفساد الْمُسلمين، وتحطيم قواهم الفكرية الإسلامية سَببا أساسيا لفساد الْمَرْأَة والشباب، وانحطاطهم خلقيا، واجتماعيا، وثقافيا وفكريا حملت تِلْكَ المناهج فِي طياتها نَارا تحرق الْأَجْسَام والضمائر والقلوب فِي شكل خطير لَا يحس بِهِ أحد إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى، مِمَّا يجْرِي فِي الجامعات والكليات فِي بِلَاد الْمُسلمين وَغَيرهَا تِلْكَ الجامعات الَّتِي تسير على نظام الِاخْتِلَاط بَين الجنسين حَيْثُ جردت الْمَرْأَة من لباسها وحيائها، وأنوثتها فِي ضوء هَذَا النظام المادي اللعين فصب عَلَيْهَا من الْفساد العريض الْكَبِير الَّذِي لَا تستحيي فِيهِ الْمَرْأَة وَلَا تتحشم بل تتلذذ بِمَا غضب الله بِهِ على الأقوام السَّابِقَة أَنَّهَا رزية أَلا تستشعر الْأمة الإسلامية بِهَذِهِ النكبة السَّوْدَاء الَّتِي حلت بهَا، وَأَنَّهَا سَبَب أساسي لفقدان قيادتها، وإمامتها على الْعَالم كُله، فو الله الْعَظِيم من هُنَا كَانَ فَسَاد الْمَرْأَة كَبِيرا، وشرها مُسْتَطِيرا وَإِلَيْهِ أَشَارَ الحَدِيث الصَّحِيح كَمَا أخرجه الإِمَام البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي صَحِيحهمَا وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة فِي سنَنَيْهِمَا وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث أُسَامَة بن زيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "مَا تركت بعدِي فتْنَة أضرّ على أمتِي من النِّسَاء على الرِّجَال "١، والْحَدِيث الثَّانِي أخرجه مُسلم أَيْضا وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ﷺ: "إِن الدُّنْيَا خضرَة حلوة، وَإِن الله ﷿ مستخلفكم فِيهَا لينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقوا النِّسَاء" ٢، وَمن هُنَا كَانَ اهتمام الْإِسْلَام اهتماما بَالغا بِالْمَرْأَةِ من جَمِيع النواحي الحساسة، إِذْ نظم لَهَا حَيَاة كَرِيمَة تضمن لَهَا الشّرف الرفيع، ومنزلتها السامية، وحريتها الفكرية، ونشاطها الْأَصِيل لَا انحراف فِيهِ، وَلَا ظلم، وَلَا عدوان، تمارس أَعمالهَا فِي حقلها الْخَاص بعيدَة عَن التهم، والشكوك، وَلَا انحراف فِيهِ والزيغ تقف وَقْفَة رائعة مثالية فِي ميدان التَّوْجِيه والتربية الإسلامية، وتنشأ أطفالها فِي بَيتهَا الْمُبَارك على الْحق، والصدق، وَالْإِخْلَاص، وَالْجهَاد وعَلى تِلْكَ الْمعَانِي السامية الَّتِي فقدها الغرب والشرق على حد سَوَاء، وَإِن تِلْكَ الْمدَارِس الغربية والشرقية الَّتِي بَعدت عَن حقائق الدّين الإسلامي الْعَظِيم لم تكن إِلَّا خطة مدروسة
_________
١ انْظُر مُسْند الإِمَام أَحْمد ٢١٠/٥، ٢٠٠/٥.
٢ مُسلم الذّكر حَدِيث رقم ٩٩، ومسند الإِمَام أَحْمد ٢٢/٣.
1 / 124
مَبْنِيَّة على الظُّلم، والخيانة، والفاحشة، وَكَيف تنظم الغرائز الجنسية وَغَيرهَا إِن لم يكن صَاحبهَا يحمل إِيمَانًا صَادِقا، وعقيدة قَوِيَّة راسخة فِي الله ﷾ وَفِي رَسُوله ﷺ، وَلم تنظم الغرائز بِحَال من الْأَحْوَال فِي ضوء تِلْكَ الدراسة التربوية الَّتِي وضع مناهجها أفراخ الْيَهُود وَالنَّصَارَى من الشيوعيين المارقين، وَإِن آراءهم وأفكارهم فِي التربية الحديثة حسب زعمهم لم تَجِد شَيْئا، وَلم تحسن موقفا مترديا وَقع فِيهِ الغرب والشرق وَغَيرهمَا مِمَّن لاحظ لَهُم فِي الرسَالَة السماوية الْأَخِيرَة الَّتِي أكْرم الله تَعَالَى بهَا الإنسانية كلهَا، وَهِي رِسَالَة الْإِسْلَام الخالدة.
وَلَقَد درست بعض النظريات الغربية فِي التربية وَالَّتِي لَا تسْتَحقّ أَن تكون مَوضِع اهتمام وَإِعْجَاب فِي نظر الباحثين الْمُسلمين وَلَقَد درست فِي نفس الْوَقْت أَحْوَال الْمَرْأَة الغربية وَغَيرهَا الَّتِي أخذت بِهَذِهِ المناهج مِمَّن تعيش بعيدَة عَن ضوء رِسَالَة الْإِسْلَام فَوجدت أَنَّهَا فقدت كل مقومات الْحَيَاة الْحرَّة الْكَرِيمَة، فَأَصْبَحت الْآن سلْعَة رخيصة فِي أَيدي الظلمَة الغاشمين من دعاة الزِّنَا، والسفور، والانحلال وَمن هُنَا يُوَجه السَّائِل الْكَرِيم هَذَا السُّؤَال فَيَقُول: وَمَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ ١ وَمَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنّ﴾ ٢ فَقَالَ: فَيرى الْأُسْتَاذ الشَّيْخ أَبُو الْأَعْلَى المودودي أمد الله فِي عمره: أَن المُرَاد بالزينة هِيَ الْوَجْه والكفان فَقَط فَلَا يجوز أَن تبدي الْمَرْأَة أَكثر من ذَلِك لمحارمها، على حِين أَن الشَّهِيد سيد قطب رَحمَه الله تَعَالَى يرى أَنه لَا بَأْس على الْمَرْأَة أَن يَبْدُو مِنْهَا مَا عدا (مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة للمحارم) فَمَا هُوَ الرَّاجِح الَّذِي تؤيده الْأَدِلَّة القوية، وَيشْهد لَهُ الْوَاقِع، وَالَّذِي يجب على الْمُسلم أَن يعتمده، أَرْجُو الْإِجَابَة الوافية مَا وسعكم التَّفْصِيل، وَالِاسْتِدْلَال؟
قلت: لم يحسن السَّائِل الْكَرِيم فِي تَوْجِيه سُؤَاله، بل لم يفهم مَا قَالَه الْأُسْتَاذ المودودي، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يُوَجه السُّؤَال هَكَذَا: مَا المُرَاد بالزينة الْوَارِدَة فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ وَمَا المُرَاد من لَفْظَة ﴿إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ فقد ذهب الْأُسْتَاذ المودودي إِلَى أَن المُرَاد من هَذِه اللَّفْظَة الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَجَاز للْمَرْأَة أَن تكشفهما أَمَام الْأَجَانِب، وَقَالَ السَّيِّد قطب ﵀
_________
١ النُّور آيَة رقم ٣١.
٢ الْأَحْزَاب آيَة رقم ٥٥.
1 / 125
تَعَالَى: لَا بَأْس بِإِظْهَار الْمَرْأَة أَمَام الْمَحَارِم كل شَيْء مَا عدا مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة، أجيبوني بالتفصيل وَالِاسْتِدْلَال؟ وبينوا لي مَا حكم الله تَعَالَى وَرَسُوله ﷺ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؟
ج- نعم قَالَ ذَلِك الْأُسْتَاذ المودودي فِي كِتَابه تَفْسِير سُورَة النُّور، إِذْ قَالَ: فعورتها (أَي الْمَرْأَة) للرِّجَال جَمِيع بدنهَا إِلَّا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله: فَعَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا "أَن أُخْتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر دخلت على رَسُول الله ﷺ، وَعَلَيْهَا ثِيَاب رقاق، فَأَعْرض عَنْهَا رَسُول الله ﷺ، وَقَالَ: "يَا أَسمَاء إِن الْمَرْأَة إِذا بلغت الْمَحِيض لم تصلح أَن يُرى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجهه وكفيه"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُرْسلا، وَقد نقل ابْن جرير فِي تَفْسِيره رِوَايَة فِي هَذَا الْمَعْنى عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول فِيهَا: دخلت عَليّ ابْنة أخي لأمي عبد الله بن الطُّفَيْل مزينة فَدخل عَلَيْهَا النَّبِي ﷺ، فَأَعْرض عَنْهَا ثمَّ ذكر الحَدِيث كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا١. قلت: وَقد رَجَعَ الْأُسْتَاذ المودودي فِي كِتَابه «الْحجاب» عَن هَذَا الرَّأْي إِلَّا أَن دَلِيل رُجُوعه لم يكن قَوِيا، لِأَنَّهُ لم يكن عَن طَرِيق النُّصُوص بل كَانَ عَن طَرِيق الْفَهم والاستنباط وواقع النَّاس، فَلم يكن - كَمَا قلت - قَوِيا فِي نظر من يشْتَغل بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيّ الشريف وَلذَلِك رد عَلَيْهِ الْعَلامَة الْمُحدث شَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد نَاصِر الدّين الألباني فِي كِتَابه «حجاب الْمَرْأَة الْمسلمَة فِي الْكتاب وَالسّنة»، وَلَا طائل بِنَقْل رده عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَيَان هَذِه الْمَسْأَلَة فِي ضوء الْكتاب وَالسّنة دون أَن أكون وسطا بَين الرَّاد والمردود عَلَيْهِ، وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا جهود مباركة ومساع حميدة فِي الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى فجزاهما الله تَعَالَى عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين خير الْجَزَاء.
نعم رِوَايَة أبي دَاوُود هَذِه الْمشَار إِلَيْهَا أخرجهَا الإِمَام أَبُو دَاوُود فِي سنَنه تَحت بَاب (فِيمَا تبدي الْمَرْأَة من زينتها) ثمَّ سَاق الْإِسْنَاد بقوله حَدثنَا يَعْقُوب بن كَعْب الْأَنْطَاكِي، ومؤمل بن الْفضل الْحَرَّانِي، قَالَا: أخبرنَا الْوَلِيد، عَن سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن خَالِد قَالَ يَعْقُوب بن الْفضل الْحَرَّانِي، قَالَا: أخبرنَا الْوَلِيد، عَن سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن خَالِد، قَالَ يَعْقُوب بن دريك عَن عَائِشَة، ثمَّ ذكر الحَدِيث بِطُولِهِ الَّذِي نَقله الشَّيْخ أَبُو الْأَعْلَى المودودي فِي كِتَابه، وَقَالَ الإِمَام أَبُو دَاوُود فِي
_________
١ تَفْسِير سُورَة النُّور للأستاذ المودودي ص ١٥٦-١٥٧.
1 / 126
نِهَايَة الحَدِيث هَذَا مُرْسل، خَالِد بن دريك لم يدْرك عَائِشَة١.
وَقَالَ صَاحب العون: والْحَدِيث فِيهِ دلَالَة على أَنه لَيْسَ الْوَجْه والكفان من الْعَوْرَة فَيجوز للْأَجْنَبِيّ أَن ينظر إِلَى وَجه الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة، وكفيها عِنْد أَمن الْفِتْنَة مِمَّا تَدْعُو الشَّهْوَة إِلَيْهِ من جماع أَو مَا دونه، أما عِنْد خوف الْفِتْنَة فَظَاهر إِطْلَاق الْآيَة والْحَدِيث عدم اشْتِرَاط الْحَاجة، وَيدل على تَقْيِيده بِالْحَاجةِ اتِّفَاق الْمُسلمين على منع النِّسَاء أَن يخْرجن سافرات الْوُجُوه لَا سِيمَا عِنْد كَثْرَة الْفُسَّاق قَالَه ابْن رسْلَان، وَيدل على أَن الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ليستا من الْعَوْرَة قَوْله تَعَالَى: فِي سُورَة النُّور ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، قَالَ فِي تَفْسِير الجلالين وَهُوَ يَعْنِي مَا ظهر مِنْهَا الْوَجْه والكفان، فَيجوز نظره لأَجْنَبِيّ، إِن لم يخف فتْنَة فِي أحد الْوَجْهَيْنِ وَالثَّانِي يحرم لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْفِتْنَة، وَرجح حسما للباب انْتهى- وَقد جَاءَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه ابْن أبي حَاتِم، وَالْبَيْهَقِيّ، وَأخرجه إِسْمَاعِيل القَاضِي عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِسَنَد جيد، قَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِي إِسْنَاده سعيد بن بشير أَبُو عبد الرَّحْمَن النصري، نزيل دمشق مولى بني نصر، وَقد تكلم فِيهِ غير وَاحِد، وَذكر الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد الْجِرْجَانِيّ هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: لَا أعلم رَوَاهُ عَن قَتَادَة غير سعيد بن بشير، وَقَالَ مرّة فِيهِ عَن خَالِد بن دريك عَن أم سَلمَة بدل عَائِشَة. انْتهى كَلَام صَاحب العون بِلَفْظِهِ.
قَالَ العَبْد الْفَقِير: أخرج هَذَا الحَدِيث الإِمَام الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى من هَذَا الْوَجْه فِي موضِعين٢ وَنقل الإِمَام الْبَيْهَقِيّ إرْسَاله عَن الإِمَام أبي دَاوُود، وَأوردهُ الإِمَام ابْن كثير فِي تَفْسِيره٣ وَقَالَ فِي نِهَايَة الحَدِيث قَالَ أَبُو دَاوُود، وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ هُوَ مُرْسل خَالِد ابْن دريك لم يسمع من عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَالله أعلم أهـ.
قلت: قَالَ الْحَافِظ صَلَاح الدّين العلائي: قَالَ الْحَافِظ عبد الْحق الإشبيلي خَالِد ابْن دريك لم يسمع من عَائِشَة، وَحَدِيثه فِي أبي دَاوُود ثمَّ ذكر الحَدِيث٤ وَقد أخرجه الْحَافِظ عبد الْحق الإشبيلي من هَذَا الْوَجْه٥، وَقَالَ الْحَافِظ فِي تَرْجَمَة خَالِد بن دريك أَنه لم يدْرك عَائِشَة٦.
قلت: فِي إِسْنَاده عِلّة أُخْرَى قادحة وَهِي أَن سعيد بن بشير
_________
١ سنَن أبي دَاوُد مَعَ العون ١٠٦/٤.
٢ السّنَن الْكُبْرَى ١٨٢-١٨٣/٢ و٨٦/٧.
٣ تَفْسِير ابْن كثير ٢٨٣/١.
٤ جَامع التَّحْصِيل ٣٦٣/١.
٥ الْأَحْكَام الْكُبْرَى ١٤٥/١.
٦ تَهْذِيب التَّهْذِيب ٨٧/٣.
1 / 127
مُنكر الحَدِيث، قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: سعيد بن بشير صَاحب قَتَادَة سكن دمشق وَحدث عَن قَتَادَة، وَالزهْرِيّ، وَجَمَاعَة وَعنهُ أَبُو مسْهر، وَأَبُو الجماهير، قَالَ أَبُو مسْهر لم يكن فِي بلدنا أحفظ مِنْهُ، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، قَالَ البُخَارِيّ يَتَكَلَّمُونَ فِي حفظه، قَالَ عُثْمَان عَن ابْن معِين ضَعِيف، وَقَالَ الْعَبَّاس عَن ابْن معِين لَيْسَ بِشَيْء، قَالَ الفلاس: حَدثنَا عَنهُ ابْن مهْدي، ثمَّ تَركه، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ عبد الله بن نمير يروي عَن قَتَادَة الْمُنْكَرَات، وَذكره أَبُو زرْعَة فِي الضُّعَفَاء، وَقَالَ: لَا يحْتَج بِهِ وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم١.
قلت: هَذِه الرِّوَايَة لَا تصلح أَن تكون صَالِحَة للمتابعات والشواهد فضلا عَن أَن تكون حجَّة عِنْد أهل الحَدِيث فَكيف تكون فِيهِ دلَالَة على أَنه لَيْسَ الْوَجْه والكفان من الْعَوْرَة وَحَال إسنادها كَمَا ذكر وَإِن إسنادها عِنْد ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَإِسْمَاعِيل القَاضِي فِي بعض كتبه وَكَذَا الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد الْجِرْجَانِيّ فِي كِتَابه الْكَامِل فِي تَرْجَمَة سعيد بن بشير دائر على سعيد بن بشير أبي عبد الرَّحْمَن النصري وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، وَضَعِيف عِنْد ابْن معِين، وَالنَّسَائِيّ، وَأبي زرْعَة وَعند أبي حَاتِم الرَّازِيّ فَكيف يكون إسنادهما جيدا مَعَ نقل صَاحب العون كَلَام الْمُنْذِرِيّ فِي الرَّاوِي الْمَذْكُور وَهُوَ سعيد بن بشير؟ فاستدلال الْأُسْتَاذ المودودي حفظه الله تَعَالَى من هَذِه الرِّوَايَة لَيْسَ فِي مَوْضِعه كَمَا نقلت لَك حَال الرَّاوِي، وَكَذَا إرْسَال خَالِد بن دريك عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَيكون إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيفا جدا مَعَ إرْسَاله، رَاجع المراجع الْآتِيَة فِي تَرْجَمَة سعيد بن بشير - الْكَامِل لِابْنِ عدي، ديوَان الضُّعَفَاء والمتروكين للْإِمَام الذَّهَبِيّ، كتاب الضُّعَفَاء للعقيلي، وَلابْن الْجَوْزِيّ، والمجروحين لِابْنِ حبَان، وَكتاب الضُّعَفَاء للنسائي والتاريخ الْكَبِير للْإِمَام البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل لِابْنِ أبي حَاتِم الرَّازِيّ وَغَيرهَا من كتب الرِّجَال حَتَّى تقف على حَقِيقَة الرجل وَالله هُوَ الْمُسْتَعَان.
وَأما الحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذ المودودي بقوله وَقد نقل ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره رِوَايَة فِي هَذَا الْمَعْنى عَن عَائِشَة.. فَنعم فقد رَوَاهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره إِذْ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: حَدثنَا الْقَاسِم حَدثنَا الْحُسَيْن، قَالَ ثني حجاج عَن ابْن جريج، قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، دخلت عليّ ابْنة أخي لأمي عبد الله بن
_________
١ ميزَان الِاعْتِدَال ١٢٨/١.
1 / 128
الطُّفَيْل مزينة، فَدخل النَّبِي ﷺ فَأَعْرض عَنْهَا ثمَّ ذكر الحَدِيث نَحْو حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا١.
قلت: إِسْنَاده ضَعِيف جدا لثلاث علل خطيرة.
١-ضعف الْحُسَيْن، واسْمه سنيد بن دَاوُد المصِّيصِي الْمُحْتَسب قَالَ الْحَافِظ: سنيد بنُون، ثمَّ دَال مُصَغرًا، ابْن داؤد المصِّيصِي الْمُحْتَسب، اسْمه حُسَيْن ضَعِيف مَعَ إِمَامَته ومعرفته لكَونه كَانَ يلقن شَيْخه حجاج بن مُحَمَّد من الْعَاشِرَة٢.
قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: قَالَ أَبُو دَاوُد لم يكن بِذَاكَ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْحُسَيْن بن داؤد لَيْسَ بِثِقَة وَأوردهُ الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه ديوَان الضُّعَفَاء والمتروكين، وَقَالَ ضعفه أَبُو دَاوُد٣.
٢-وَالْعلَّة الثَّانِيَة: ضعف حجاج بن مُحَمَّد الْأَعْوَر المصِّيصِي، واختلاطه، اختلاطا فَاحِشا، قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: لم قدم حجاج بَغْدَاد آخر مرّة اخْتَلَط فَرَآهُ ابْن معِين يخلط، وَقَالَ لِابْنِهِ: لَا يدْخل عَلَيْهِ أحد وَلذَا كَانَ تِلْمِيذه سنيد بن داؤد يلقنه٤ كَمَا فِي التَّقْرِيب والتهذيب، وَكتاب الِاغْتِبَاط بِمن رمي بالاختلاط للْإِمَام ابْن سبط العجمي خَ.
٣-الْعلَّة الثَّالِثَة: انْقِطَاع هَذِه الرِّوَايَة لِأَن ابْن جريج الَّذِي هُوَ عبد الْملك بن جريج الْمُتَوفَّى بعد الْمِائَة وَخمسين لم يدْرك عَائِشَة ﵂، وَمَعَ أَنه مُتَّهم بتدليس التَّسْوِيَة الَّذِي هُوَ من أشر أَنْوَاع التَّدْلِيس، وَلذَلِك قَالَ الإِمَام الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَا نقل عَنهُ الْحَافِظ فِي التَّهْذِيب: تجنب تَدْلِيس ابْن جريج فَإِنَّهُ قَبِيح التَّدْلِيس لَا يُدَلس إِلَّا فِيمَا سَمعه من مَجْرُوح٥، وَقَالَ الإِمَام الْحَافِظ صَلَاح الدّين العلائي ذكر ابْن الْمَدِينِيّ أَنه لم يلق أحدا من الصَّحَابَة، ثمَّ ذكر العلائي إرْسَاله عَن جملَة كَبِيرَة من التَّابِعين٦.
قلت: هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ ليستا صالحتين للمتابعات والشواهد فضلا عَن أَن تَكُونَا حجَّة وَلَو كَانَتَا صحيحتي الْإِسْنَاد لكانتا شاذتين غير محفوظتين فَكيف الْحَال بِمَا ذكر من إسنادهما، وَلَيْسَ هُنَاكَ حَدِيث صَحِيح مَرْفُوع فِي هَذَا الْمَعْنى إِلَّا مَا جَاءَ عَن عبد الله ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي أثر أخرجه الإِمَام أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره٧ وَالْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن
_________
١ تَفْسِير ابْن جرير الطَّبَرِيّ ١١٩/١٨
٢ التَّقْرِيب ٣٣٥/١
٣ ميزَان الِاعْتِدَال ٢٢٦/٢
٤ ميزَان الِاعْتِدَال ٤٦٤/١
٥ تَهْذِيب التَّهْذِيب ٤٠٥/٦
٦ جَامع التَّحْصِيل ٥٣٨/٢
٧ تَفْسِير ابْن جرير الطَّبَرِيّ ١١٩/١٨
1 / 129
الْكُبْرَى١ قَالَ الإِمَام ابْن جرير الطَّبَرِيّ: حَدثنَا أَبُو كريب قَالَ: ثَنَا مَرْوَان، قَالَ ثَنَا مُسلم الْملَائي، عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قَالَ: الْكحل، والخاتم.
قلت: إِسْنَاده ضَعِيف جدا، بل هُوَ مُنكر، قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: مُسلم بن كيسَان أَبُو عبد الله الضَّبِّيّ الْكُوفِي الْملَائي الْأَعْوَر، عَن أنس وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ الإِمَام الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج الْمزي فِي تَرْجَمَة مُسلم بن كيسَان الْملَائي روى عَن سعيد بن جُبَير وَهُوَ يروي فِي هَذَا الْإِسْنَاد عَن سعيد بن جُبَير٢ ثمَّ قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمته عَنهُ الثَّوْريّ، وَأَبُو وَكِيع الْجراح بن مليح، قَالَ الفلاس: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ أَحْمد: لَا يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ يحي: لَيْسَ بِثِقَة، وَقَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، وَقَالَ يحي أَيْضا: زَعَمُوا أَنه اخْتَلَط، وَقَالَ يحي الْقطَّان، حَدثنِي حَفْص بن غياث قَالَ: قلت لمُسلم الْملَائي عَمَّن سَمِعت هَذَا؟
قَالَ عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة، قُلْنَا عَلْقَمَة عَمَّن؟ قَالَ عَن عبد الله، قُلْنَا عبد الله عَمَّن؟ قَالَ: عَن عَائِشَة وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث٣ وَقلت: هَذَا الْإِسْنَاد سَاقِط لَا يصلح للمتابعات والشواهد كَمَا لَا يخفي هَذَا على أهل هَذَا الْفَنّ الشريف.
وَقَالَ الإِمَام الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى: أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ وَأَبُو سعيد بن أبي عَمْرو، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب، ثَنَا أَحْمد بن عبد الْجَبَّار، ثَنَا حَفْص بن غياث عَن عبد الله بن مُسلم بن هُرْمُز، عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قَالَ: مَا فِي الْكَفّ وَالْوَجْه٤.
قلت: إِسْنَاده مظلم ضَعِيف لضعف رَاوِيَيْنِ هما أَحْمد بن عبد الْجَبَّار العطاردي قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: أَحْمد بن عبد الْجَبَّار العطاردي روى عَن أبي بكر بن عَيَّاش وطبقته، ضعفه غير وَاحِد، قَالَ ابْن عدي رَأَيْتهمْ مُجْمِعِينَ على ضعفه، وَلَا أرى لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، إِنَّمَا ضَعَّفُوهُ لِأَنَّهُ لم يلق الَّذين يحدث عَنْهُم، وَقَالَ مطين: كَانَ يكذب، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ ابْنه عبد الرَّحْمَن كتبت عَنهُ، وَأَمْسَكت عَن التحديث عَنهُ لما تكلم النَّاس فِيهِ، وَقَالَ ابْن عدي كَانَ ابْن عقدَة لَا يحدث عَنهُ، وَذكر أَن عِنْده قمطرا على أَنه كَانَ لَا يتورع أَن يحدث عَن كل أحد، مَاتَ سنة ٢٧٢هـ٥.
وَقَالَ الْحَافِظ فِي التَّقْرِيب: ضَعِيف٦،
_________
١ السّنَن الْكُبْرَى ١٨٢-١٨٣/٢و٨٦/٧.
٢ تَهْذِيب الْكَمَال ٦٦٣/٧.
٣ ميزَان الِاعْتِدَال ١٠٦/٤.
٤ السّنَن الْكُبْرَى ٢٢٥/٢، ٨٥٢/٧.
٥ ميزَان الِاعْتِدَال ١١٢-١١٣/١.
٦ التَّقْرِيب ١٩/١.
1 / 130
وَكَذَا يُوجد فِي هَذَا الْإِسْنَاد عِنْد الإِمَام الْبَيْهَقِيّ: عبد الله بن مُسلم بن هُرْمُز الْمَكِّيّ عَن مُجَاهِد وَغَيره قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ: ضعفه ابْن معِين، وَقَالَ: وَكَانَ يرفع أَشْيَاء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: كَانَ ضَعِيفا ضَعِيفا (مرَّتَيْنِ) عندنَا، وَقَالَ أَيْضا ضَعِيف.
وَكَذَا ضعفه النَّسَائِيّ١، وَقَالَ الْحَافِظ فِي التَّقْرِيب ضَعِيف٢.
قلت: هَذَانِ الإسنادان سَاءَ حَالهمَا إِلَى حد بعيد لَا يحْتَج بهما، وَلَا يكتبان، وَهُنَاكَ أَسَانِيد أُخْرَى لَا تقل درجتهما فِي الضعْف والنكارة وَبِذَلِك يُمكن أَن يُقَال إِن هَذِه النِّسْبَة غير صَحِيحَة إِلَى عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَو صَحَّ الْإِسْنَاد إِلَيْهِ لما كَانَ فِيهِ حجَّة عِنْد عُلَمَاء أهل الحَدِيث، فَكيف فِي هَذِه الْحَال، وَقد صحت الْأَسَانِيد إِلَى عَم الْمُصْطَفى ﷺ وَإِلَى غَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم عكس هَذَا الْمَعْنى الَّذِي رَوَاهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره، وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه، وَكَذَا ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره وزد على ذَلِك مَا ثَبت بأسانيد صَحِيحَة عَن رَسُول الله ﷺ كَمَا سَوف يَأْتِي مفصلا من أمره ﷺ بالحجاب، والستر.
وإليكم أَولا مَا جَاءَ عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمِنْهُم عبد الله ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرج ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره إِذْ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: حَدثنِي يُونُس، قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي الثَّوْريّ، عَن أبي إِسْحَاق الهمذاني عَن أبي الْأَحْوَص، عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قَالَ: الثِّيَاب٣.
قلت: إِسْنَاده فِي غَايَة الصِّحَّة وَأورد هَذَا الْأَثر الإِمَام ابْن كثير فِي تَفْسِيره٤ ثمَّ سَاق الإِمَام ابْن جرير الطَّبَرِيّ إِسْنَادًا آخر بقوله: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا عبد الرَّحْمَن: سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي الْأَحْوَص، عَن عبد الله مثله.
وَقَالَ الإِمَام السُّيُوطِيّ: أخرج ابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَابْن الْمُنْذر، وَابْن أبي حَاتِم، وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه، عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قَالَ: الزِّينَة الظَّاهِرَة «الْوَجْه والكفان» وكحل الْعَينَيْنِ، ثمَّ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَهَذَا تظهره فِي بَيتهَا لمن دخل عَلَيْهَا، ثمَّ لَا يبدين زينتهن إِلَّا لبعولتهن، أَو آبائهن الْآيَة، ثمَّ قَالَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: والزينة الَّتِي تبديها لهَؤُلَاء قرطاها، وقلادتها
_________
١ الْمِيزَان ٥٠٣/٢.
٢ التَّقْرِيب ٤٥٠/١.
٣ تَفْسِير ابْن جرير ١١٩/١٨.
٤ تَفْسِير ابْن كثير ٢٨٣/٢.
1 / 131
وسوارها، وَأما خلْخَالهَا، ومعضدها، نحرها، وشعرها فَإِنَّهَا لَا تبديه إِلَّا لزَوجهَا١.
قلت: رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا هَذِه قد اطَّلَعت على إسنادها عِنْد ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره ورجالها كلهم ثِقَات إِلَّا أَنَّهَا مُنْقَطِعَة لِأَن فِيهَا عَليّ بن أبي طَلْحَة الْمُتَوفَّى سنة ١٤٣هـ يروي عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَلم يلقه والواسطة بَينهمَا هُوَ مُجَاهِد بن جبر الْمَكِّيّ وَهُوَ إِمَام كَبِير ثِقَة ثَبت كَمَا لَا يخفى على أحد، وَقد احْتج بِهَذِهِ الرِّوَايَة، أَعنِي رِوَايَة عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا البُخَارِيّ فِي الْجَامِع الصَّحِيح إِذْ أوردهَا فِي مَوَاضِع عديدة من كتاب التَّفْسِير معلقَة وَإِن كَانَت لَيست على شَرطه فِي الْجَامِع الصَّحِيح قَالَ ذَلِك الْحَافِظ فِي التَّهْذِيب٣٤٠-٧.
وَقَالَ الإِمَام الْمزي فِي تَهْذِيب الْكَمَال ٤٨٨-٥ مُشِيرا إِلَى رِوَايَة التَّفْسِير هَذِه «فِي تَرْجَمَة عَليّ بن أبي طَلْحَة هُوَ مُرْسل عَن ابْن عَبَّاس وَبَينهمَا مُجَاهِد» وَاعْتمد على هَذِه الرِّوَايَة عَلامَة الشَّام مُحَمَّد جمال الدّين القاسمي فِي تَفْسِيره ٤٩٠٩-٦٣ وَالْإِمَام الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره ٢٤٣-١٤ وَكَذَلِكَ الإِمَام ابْن كثير فِي تَفْسِيره فِي مَوَاضِع عديدة فَكَانَت قَوِيَّة ومحتجا بهَا عِنْد عُلَمَاء التَّفْسِير وَغَيرهم، وَإِن ظَاهر الْقُرْآن وَالسّنة وآثار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ تؤيدها فليعتمد عَلَيْهَا ويستأنس بهَا، قَالَ الله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَحْزَاب فِي حق أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾، وَقَالَ الإِمَام ابْن كثير فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: وكما نَهَيْتُكُمْ عَن الدُّخُول عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَا تنظروا إلَيْهِنَّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن كَانَ لأحدكم حَاجَة يُرِيد تنَاولهَا مِنْهُنَّ فَلَا ينظر إلَيْهِنَّ.
قلت: وَهَذَا الحكم عَام لجَمِيع المسلمات الْمُؤْمِنَات دون تَخْصِيص أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم﴾ الْآيَة، ثمَّ قَالَ جلّ وَعلا: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ﴾، وَقَالَ جلّ وَعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وَلَقَد عرفنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى خلال سرد هَذِه الْآيَات الكريمات أَن الحكم عَام لَا يخْتَص بأمهات الْمُؤمنِينَ كَمَا نَص الْقُرْآن الْكَرِيم، وَلَقَد أَخطَأ الْعَلامَة القَاضِي عِيَاض فِي كِتَابه «الشفا فِي حُقُوق الْمُصْطَفى» إِذْ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: إِن هَذَا الحكم
_________
١ تَفْسِير الدّرّ المنثور ٤٢/٥.
1 / 132
خَاص بأمهات الْمُؤمنِينَ وَقد رد عَلَيْهِ الْحَافِظ فِي الْفَتْح إِذْ قَالَ: قَالَ القَاضِي عِيَاض: فرض الْحجاب مِمَّا اختصصن بِهِ أَزوَاج النَّبِي ﷺ فَهُوَ فرض عَلَيْهِنَّ بِلَا خلاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَلَا يجوز لَهُنَّ كشف ذَلِك فِي شَهَادَة وَلَا غَيرهَا، وَلَا إِظْهَار شخوصهن وَإِن كن مستترات إِلَّا مَا دعت إِلَيْهِ ضَرُورَة من برَاز الخ... فَرد عَلَيْهِ الْحَافِظ إِذْ قَالَ: وَلَيْسَ فِيمَا ذكره دَلِيل على مَا ادَّعَاهُ، ثمَّ أَطَالَ الْحَافِظ الْكَلَام على القَاضِي عِيَاض١.
قلت: دَعْوَى الِاخْتِصَاص لم تدعم بِدَلِيل من الْكتاب وَالسّنة، بل ظَاهر الْكتاب وَالسّنة يخالفانها كَمَا سبق.
قَالَ الْعَلامَة ابْن كثير مُفَسرًا قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الْآيَة قَالَ: الجلباب هُوَ الرِّدَاء فَوق الْخمار، قَالَه ابْن مَسْعُود، وَعبيدَة السَّلمَانِي، وَقَتَادَة، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي، وَغير وَاحِد وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْإِزَار الْيَوْم اهـ، قلت: تلبسه الْيَوْم النِّسَاء المورتانيات وَبَعض السودانيات، ثمَّ قَالَ: قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: أَمر الله نسَاء الْمُؤمنِينَ إِذا خرجن من بُيُوتهنَّ فِي حَاجَة أَن يغطين وجوههن من فَوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا وَاحِدَة، وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين سَأَلت عُبَيْدَة السَّلمَانِي عَن قَول الله تَعَالَى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ﴾ فَغطّى وَجهه، وَرَأسه، وأبرز عينه الْيُسْرَى أهـ.
أورد هَذَا الْأَثر السُّيُوطِيّ فِي المنثور ٢٢١-٥ وَقَالَ: أخرجه الْفرْيَابِيّ، وَعبد ابْن حميد، وَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَابْن الْمُنْذر، وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن سِيرِين.
قلت: أخرجه ابْن جرير فِي التَّفْسِير إِذْ قَالَ: حَدثنِي يَعْقُوب، قَالَ: ثَنَا ابْن علية، عَن ابْن عَوْف، عَن مُحَمَّد، عَن عُبَيْدَة، ثمَّ ذكر الْأَثر بِطُولِهِ٢. قلت: رجال إِسْنَاده كلهم ثِقَات: يَعْقُوب هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي ثِقَة، ابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية إِمَام كَبِير ثِقَة، وَابْن عَوْف هُوَ عبد الله بن عَوْف الْمُزنِيّ أحد الْأَعْلَام ثِقَة ثَبت، وَمُحَمّد هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين أحد الْأَعْلَام التَّابِعين، وَعبيدَة هُوَ السَّلمَانِي إِمَام ثِقَة زاهد، فَكَانَ هَذَا الْإِسْنَاد صَحِيحا وَلَيْسَ بَينهم انْقِطَاع كَمَا لَا يخفي على من لَهُ علم بأسماء الرِّجَال، وَلَا يخفى على أحد أَيْضا منزلَة عُبَيْدَة السَّلمَانِي العلمية إِذْ هُوَ علم من الْأَعْلَام
_________
١ فتح الْبَارِي ٧٠/٤، ٥٣٠/٨.
٢ تَفْسِير ابْن جرير الطَّبَرِيّ ٣٣/٢٢ المطبعة الأميرية ببولاق سنة ١٣٢٩هـ.
1 / 133
التَّابِعين الْكِبَار، ومخضرم ثِقَة، ثَبت، قَالَ الْحَافِظ فِي التَّهْذِيب: كَانَ شُرَيْح القَاضِي إِذا أشكل عَلَيْهِ شَيْء من أَمر دينه سَأَلَهُ، وَرجع إِلَيْهِ، قَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ: عُبَيْدَة بن عَمْرو السَّلمَانِي الْمرَادِي، الْكُوفِي، الْفَقِيه الْعلم، كَاد أَن يكون صحابيا، أسلم زمن الْفَتْح بِالْيمن، وَأخذ الْعلم عَن عَليّ، وَابْن مَسْعُود، قَالَ الشّعبِيّ: كَانَ يوازي شريحا فِي الْقَضَاء، وَقَالَ الْعجلِيّ: عُبَيْدَة أحد أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود الَّذين يقرءُون، ويفتون النَّاس، وَقَالَ ابْن سِيرِين: مَا رَأَيْت رجلا أَشد توقيا من عُبَيْدَة، وَكَانَ مكثرا عَنهُ١، ومجد شَأْنه الْحَافِظ الْمزي فِي تَهْذِيب الْكَمَال، وَرفع مَنْزِلَته فَليرْجع إِلَيْهِ من شَاءَ، فَهُوَ إِمَام كَبِير، يَأْتِي تَفْسِيره هَذَا مُوَافقا لكتاب الله تَعَالَى، وَسنة رَسُوله ﷺ، وَقَالَ الإِمَام عَليّ بن حزم الأندلسي: الجلباب فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي خاطبنا بهَا رَسُول الله ﷺ هُوَ مَا غطى جَمِيع الْجِسْم لَا بعضه٢، وَصَححهُ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره، فالعاقل اللبيب يفهم أثْنَاء نظرته فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ الكريمتين مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ الْمُؤمنِينَ، وَالْمُؤْمِنَات من السّتْر والغطاء، وخاصة أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ لشدَّة حرمتهن، وشرفهن وعظمتهن، لكونهن زَوْجَات النَّبِي ﷺ.
وَقَالَ جلّ وَعلا: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ نهاهن جلّ وَعلا بِضَرْب الأرجل على الأَرْض بالشدة، لِئَلَّا يسمع صَوت الخلاخيل الَّتِي فِي أرجلهن خوفًا على شرفهن، وسدا للذرائع، ومنعا لوُقُوع الْفَاحِشَة، فَهَذَا غَايَة فِي الصون وَالْحِفْظ، فَإِذا كَانَ صَوت الخلاخيل مَمْنُوعًا بِهَذَا النَّص الْكَرِيم فَكيف يجوز للْمُسلمِ أَن يَقُول أَن الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ليستا من الْعَوْرَة جَازَ كشفهما أَمَام الْأَجَانِب اعْتِمَادًا على تِلْكَ الرِّوَايَات الضعيفة الْمُنكرَة وَالَّتِي لم تصح أسانيدها.
أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحهمَا وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده، وَابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره، وَابْن سعد فِي الطَّبَقَات الْكُبْرَى، وَالْإِمَام الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت عَائِشَة خرجت سَوْدَة بنت زَمعَة بَعْدَمَا ضرب الْحجاب لحاجتها، وَكَانَت امْرَأَة جسيمة لَا تخفى على من يعرفهَا، فرآها عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: يَا سَوْدَة أما وَالله مَا تخفين علينا، فانظري كَيفَ
_________
١ تذكرة الْحفاظ ٥٠/١.
٢ الْمحلى ص ٢١٧/٣.
1 / 134
تخرجين؟ قَالَت: فَانْكَفَأت رَاجِعَة، وَرَسُول الله ﷺ فِي بَيْتِي، وَإنَّهُ ليتعشى، وَفِي يَده عرق (هُوَ الْعظم إِذا أَخذ مِنْهُ مُعظم اللَّحْم)، فَدخلت، فَقَالَت: يَا رَسُول الله ﷺ إِنِّي خرجت لبَعض حَاجَتي فَقَالَ لي عمر كَذَا، وَكَذَا قَالَت: فَأوحى الله إِلَيْهِ، ثمَّ رفع عَنهُ، وَإِن الْعرق فِي يَده، مَا وَضعه فَقَالَ: "إِنَّه أذن لكم أَن تخرجن لحاجتكن الحَدِيث".
قلت: الشَّاهِد مَعْرُوف من هَذَا الحَدِيث وَهُوَ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يعرف سَوْدَة من وَجههَا وكفيها، وَإِنَّمَا عرفهَا من جسامة جسمها فَدلَّ على أَنَّهَا كَانَت مستورة الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ وَهَذَا هُوَ معنى الْحجاب أَعنِي تَغْطِيَة الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ وَسَائِر الْجِسْم، وَإِذا لم يكن هَذَا الْمَعْنى مرَادا فَمَاذَا كَانُوا يغطون قبل نزُول الْحجاب، وَهَذَا أَمر فِي غَايَة الوضوح وَالْبَيَان، إِذا لم تكن سَوْدَة بنت زَمعَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مستورة الْوَجْه عِنْد خُرُوجهَا من بَيت النَّبِي ﷺ فَكيف يُقَال فِي حَقّهَا وَحقّ غَيرهَا من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن أَنَّهُنَّ امتثلن الْأَمر الإلهي بالحجاب، وَمَعَ الْعلم أَن ستر الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لَهُ أصل فِي السّنة النَّبَوِيَّة وَقد كَانَ ذَلِك معهودا فِي زَمَنه ﷺ كَمَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله ﷺ: "لَا تتنقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة، وَلَا تلبس القفازين" والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ، وَالنَّسَائِيّ وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده، وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى، من حَدِيث عبد الله بن عمر مَرْفُوعا، وَحَدِيث آخر، أخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم، وَالْإِمَام أَحْمد فِي الْمسند، وَابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي حَدِيث الْإِفْك، قَالَت: فَبَيْنَمَا أَنا جالسة فِي منزلي غلبتني عَيْني فَنمت، وَكَانَ صَفْوَان ابْن الْمُعَطل السّلمِيّ ثمَّ الذكواني من وَرَاء الْجَيْش فأدلج، فَأصْبح عِنْد منزلي فَرَأى سَواد إِنْسَان نَائِم، فَأَتَانِي، فعرفني حِين رَآنِي، وَكَانَ يراني قبل الْحجاب، فَاسْتَيْقَظت باسترجاعه (أَي قَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون) حِين عرفني فخمرت وَجْهي بجلبابي الحَدِيث...
قلت: فِي هَذَا الحَدِيث شَاهد قوي، وَدَلِيل وَاضح على أَن الْوَجْه عَورَة وَلذَا خمرت وَجههَا الصديقة بنت الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَنَحْو هَذَا الحَدِيث مَا أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي الْمسند، وَالْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى، وَأَبُو دَاوُود فِي السّنَن بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: كَانَ الركْبَان يَمرونَ بِنَا، وَنحن مَعَ رَسُول الله ﷺ مُحرمَات، فَإِذا حاذوا بِنَا
1 / 135
أسدلت إحدانا جلبابها من رَأسهَا على وَجههَا، فَإِذا جاوزناه كشفناه، وَكَذَا حَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: كُنَّا نغطي وُجُوهنَا من الرِّجَال، وَكُنَّا نمتشط قبل الْإِحْرَام، وَقَالَ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ العَبْد الْفَقِير: وَفِي الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة وَهِي صَحِيحَة الْإِسْنَاد يجب الْعَمَل بهَا، دون الْأَحَادِيث الَّتِي مر ذكرهَا، وَهِي ضَعِيفَة مُنكرَة وَلَا يجوز التَّمَسُّك بهَا، وَلَو كَانَت صَحِيحَة الْإِسْنَاد لم تكن بِحجَّة، فَكيف بِهَذِهِ الْحَال كَمَا ذكر آنِفا، وَهُنَاكَ حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده، وَالتِّرْمِذِيّ فِي السّنَن وَصَححهُ، وَكَذَا الدَّارمِيّ فِي سنَنه قَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا حجاج، ثَنَا لَيْث، حَدثنِي يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الْخَيْر، عَن عقبَة بن عَامر، أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالدُّخُول على النِّسَاء"، فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يَا رَسُول الله: أَفَرَأَيْت الحمو قَالَ: "الحمو الْمَوْت" انْظُر الْمسند ١٤٩-٤ و١٥٣-٤، فَالْحَدِيث فِيهِ دلَالَة وَاضِحَة على أَنه لَا يجوز دُخُول الْأَجْنَبِيّ على الْأَجْنَبِيَّة وَكَذَا قريب الزَّوْج من أَخ، وَعم وَنَحْو ذَلِك، وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي الصَّحِيح عَن أبي الطَّاهِر عَن ابْن وهب، قَالَ: سَمِعت اللَّيْث يَقُول: الحمو أَخُو الزَّوْج، وَمَا أشبهه من أقَارِب الزَّوْج وَابْن الْعم وَنَحْوه، وَفِي الحَدِيث تَغْلِيظ شَدِيد، وتنبيه خطير، من الدُّخُول على النِّسَاء، وَقَالَ الإِمَام ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة ٤٤٨-١: لَا يخلون رجل بأجنبية، وَإِن قيل حموها، ألآ حموها الْمَوْت، أحد الأحماء، أقَارِب الزَّوْج، وَالْمعْنَى فِيهِ، أَنه إِذا كَانَ رَأْيه هَذَا فِي أخي الزَّوْج، وَمَا شابهه وَهُوَ قريب، فَكيف بالغريب، أَي فلتمت، وَلَا تفعل ذَلِك، وَهَذِه الْكَلِمَة تَقُولهَا الْعَرَب كَمَا تَقول الْأسد، وَالسُّلْطَان، وَالنَّار أَي لقاءهما مثل الْمَوْت، وَالنَّار يَعْنِي أَن خلْوَة ابْن عَم الزَّوْج مَعهَا أَشد من خلْوَة غَيره من الغرباء، لِأَنَّهُ رُبمَا حسن لَهَا أَشْيَاء، حملهَا على أُمُور تثقل على الزَّوْج من التمَاس مَا لَيْسَ فِي وَسعه، أَو سوء عشرته، أَو غير ذَلِك اهـ.
قلت: فَإِذا كَانَ الْوَجْه والكفان ليستا من الْعَوْرَة، وَجَاز للنِّسَاء كشفهما أَمَام الْأَجَانِب، فلماذا هَذَا التَّشْدِيد فِي هَذِه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، ولماذا هَذَا التَّنَاقُض بَين تِلْكَ الْأَحَادِيث، وَقد سبق أَن قلت: تِلْكَ الْأَحَادِيث غير صَحِيحَة، فَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّهَا متعارضة مَعَ هَذِه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي فِيهَا التَّغْلِيظ الشَّديد، وَالتَّحْرِيم الموثق،
1 / 136
فَلَو كَانَت تِلْكَ الْأَحَادِيث والْآثَار الَّتِي يسْتَدلّ بهَا بعض النَّاس على جَوَاز كشف الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ صَحِيحَة الْإِسْنَاد لكَانَتْ شَاذَّة غير مَحْفُوظَة فِي أنظار أهل الحَدِيث، فَكيف هِيَ ضَعِيفَة مُنكرَة، فَلَا يحْتَج بهَا بِحَال من الْأَحْوَال، فَلَا يَنْبَغِي أَن يُقَال: بعد هَذَا النَّقْل أَن الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ليستا من الْعَوْرَة استنادا على قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الَّذِي سبق بَيَانه من نَاحيَة الْإِسْنَاد، وَأما حَدِيث الخثعمية الَّذِي أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده، وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحهمَا من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَذَا من حَدِيث الْفضل بن عَبَّاس وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي حَدِيثه عِنْد الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده.. واستفتته جَارِيَة شَابة من خثعم، فَقَالَت إِن أبي شيخ كَبِير قد أفند، وَقد أَدْرَكته فَرِيضَة الله فِي الْحَج، فَهَل يُجزئ عَنهُ أَن أؤدي عَنهُ، قَالَ: "فأدي عَن أَبِيك"، قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: "ولوى عنق الْفضل فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله لم لويت عنق ابْن عمك؟ قَالَ: "رَأَيْت شَابًّا، وشابة فَلم آمن الشَّيْطَان عَلَيْهِمَا"، ثمَّ ذكر بَقِيَّة الحَدِيث.
قلت: لَا حجَّة فِي الحَدِيث للَّذين يَقُولُونَ بِجَوَاز كشف الْوَجْه، وَالْكَفَّيْنِ لِأَنَّهُ ﷺ أنكر على الْفضل بن عَبَّاس إنكارا باتا، بِأَن لوى عُنُقه، وَصَرفه إِلَى جِهَة أُخْرَى، وَكَانَ فِي هَذَا الصَّنِيع من رَسُول الله ﷺ إِنْكَار وَاضح لِأَنَّهُ أنكر بِالْيَدِ، وَقَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح ٦٨-٤: مُشِيرا إِلَى هَذَا الحَدِيث، وَيقرب ذَلِك مَا رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو يعلي بِإِسْنَاد قوي من طَرِيق سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن الْفضل بن عَبَّاس: قَالَ: "كنت رَدِيف النَّبِي ﷺ، وأعرابي مَعَه بنت لَهُ حسناء فَجعل الْأَعرَابِي يعرضهَا لرَسُول الله ﷺ رَجَاء أَن يَتَزَوَّجهَا وَجعلت ألتفت إِلَيْهَا وَيَأْخُذ النَّبِي ﷺ برأسي فيلويه، فَكَانَ يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة" ثمَّ قَالَ الْحَافِظ: فعلى قَول الشَّابَّة إِن أبي، لَعَلَّهَا أَرَادَت جدها لِأَن أَبَاهَا كَانَ مَعهَا، وَكَأَنَّهُ أمرهَا أَن تسْأَل النَّبِي ﷺ ليسمع كَلَامهَا، ويراها رَجَاء أَن يَتَزَوَّجهَا ثمَّ قَالَ الْحَافِظ ٧٠-٤: وَفِي الحَدِيث منع النّظر إِلَى الأجنبيات، وغض الْبَصَر، وَقَالَ عِيَاض: وَزعم بَعضهم أَنه غير وَاجِب إِلَّا عِنْد خشيَة الْفِتْنَة، قَالَ: وَعِنْدِي أَن فعله ﷺ إِذْ غطى وَجه الْفضل
1 / 137
أبلغ من القَوْل اهـ.
ثمَّ قَالَ الْحَافِظ: روى أَحْمد، وَابْن خُزَيْمَة من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: للفضل حِين غطى وَجهه هَذَا يَوْم من ملك فِيهِ سَمعه وبصره، وَلسَانه غفر لَهُ اهـ.
قلت: هُنَاكَ حَدِيث آخر أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة بِإِسْنَاد صَحِيح فال الإِمَام التِّرْمِذِيّ بَاب مَا جَاءَ فِي احتجاب النِّسَاء عَن الرِّجَال، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا سُوَيْد، عبد الله نَا يُونُس بن يزِيد، عَن ابْن شهَاب، عَن نَبهَان مولى أم سَلمَة، أَنه حَدثهُ أَن أم سَلمَة حدثته، "أَنَّهَا كَانَت عِنْد رَسُول الله ﷺ، ومَيْمُونَة، قَالَت فَبَيْنَمَا نَحن عِنْده أقبل ابْن أم مَكْتُوم، فَدخل عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بعد مَا أمرنَا بالحجاب فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: "احتجبا مِنْهُ"، فَقلت: يَا رَسُول الله أَلَيْسَ هُوَ أعمى لَا يُبصرنَا، وَلَا يعرفنا، فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: "أفعمياوان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه؟ " قَالَ الإِمَام التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: إِسْنَاده حسن، ونبهان هُوَ المَخْزُومِي مولى أم سَلمَة، قَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح بعد أَن ذكر هَذَا الحَدِيث: أخرجه أَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن نَبهَان مولى أم سَلمَة عَنْهَا، وَإِسْنَاده قوي، وَأكْثر مَا علل بِهِ انْفِرَاد الزُّهْرِيّ بالرواية عَن نَبهَان، وَلَيْسَت بعلة قادحة، فَإِن من يعرفهُ الزُّهْرِيّ، ويصفه بِأَنَّهُ مكَاتب أم سَلمَة وَلم يجرحه أحد، لَا ترد رِوَايَته١، وَنَقله الْعَلامَة المباركفوري فِي تحفة الأحوذي٢ وأيده، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى٣.
قَالَ الْحَافِظ فِي التَّهْذِيب: نَبهَان المَخْزُومِي، أَبُو يحي الْمدنِي، مولى أم سَلمَة، ومكاتبها روى عَنْهَا، وَعنهُ الزُّهْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن مولى آل طَلْحَة، ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَقَالَ الإِمَام الْمزي فِي تَهْذِيب الْكَمَال ٧٠٣-٨: نَبهَان الْقرشِي المَخْزُومِي، أَبُو يحي الْمدنِي مولى أم سَلمَة زوج النَّبِي ﷺ ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، ثمَّ سَاق إِسْنَاده الطَّوِيل إِلَى أم سَلمَة، ثمَّ ذكر هَذَا الحَدِيث، وحديثا آخر وَهُوَ أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "إِذا كَانَ لأحدكم مكَاتب، وَكَانَ عِنْده مَا يُؤَدِّي عَنهُ فلتحتجب عَنهُ" أَخْرجُوهُ من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ من وُجُوه أُخْرَى انْتهى كَلَام الإِمَام الْمزي.
قلت: يرى الإِمَام الْمزي رَحمَه الله تَعَالَى كَمَا علمت من
_________
١ الْفَتْح ٣٣٧/٩.
٢ تحفة الأحوذي ١٥/٤ ز
٣ السّنَن الْكُبْرَى للبيهقي ٩١-٩٢/٧.
1 / 138
سِيَاق كَلَامه أَنه يحْتَج بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا فِي تَرْجَمَة نَبهَان المَخْزُومِي، وَيرى أَن نَبهَان مولى أم سَلمَة وَإِن كَانَ لم يوثق من أحد من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَهُوَ مِمَّن يحْتَج بحَديثه فِي هَذَا الْبَاب، كَمَا نقل عَن النَّسَائِيّ بِأَنَّهُ أخرج حَدِيثه الثَّانِي فِي الْحجاب من وُجُوه أُخْرَى، وَقَالَ الإِمَام الذَّهَبِيّ فِي كتاب الكاشف فِي معرفَة من لَهُ رِوَايَة فِي الْكتب السِّتَّة فِي تَرْجَمَة نَبهَان، عَن مولاته أم سَلمَة وَعنهُ الزُّهْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن ثِقَة.
وَحَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا هَذَا أوردهُ الإِمَام ابْن كثير فِي تَفْسِيره١ وَقَالَ: وَاحْتج بِهِ كثير مِنْهُم على مَعْنَاهُ.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه٢، قلت: هُوَ حَدِيث حسن إِسْنَاده، وَفِيه حكم صَرِيح بالحجاب لأمهات الْمُؤمنِينَ، وَلَا يخْتَص الحكم بِهن كَمَا سبق، وَأما حَدِيث الخثعمية فَلَيْسَ على إِطْلَاقه، وَإِن صَحَّ مَدْلُوله على حسب رأى بعض أهل الْعلم بل يحمل عَلَيْهِ حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهُوَ حَدِيث يُؤَيّدهُ ظَاهر الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الْأُخْرَى الصَّحِيحَة، قَالَ الإِمَام أَبُو دَاوُد فِي نِهَايَة الحَدِيث:أَعنِي حَدِيث نَبهَان عَن مولاته أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَهَذَا لِأَزْوَاج النَّبِي ﷺ خَاصَّة، أَلا ترى إِلَى اعْتِدَاد فَاطِمَة بنت قيس عِنْد ابْن أم مَكْتُوم، قد قَالَ النَّبِي ﷺ لفاطمة بنت قيس: "اعْتدي عِنْد ابْن أم مَكْتُوم فَإِنَّهُ رجل أعمى تَضَعِينَ ثِيَابك عِنْده" اهـ.
قلت: هَذَا قَول ابْن قُتَيْبَة الإِمَام فِي كِتَابه «تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث» ٣ وَالَّذِي تأثر مِنْهُ الإِمَام دَاوُد رَحمَه الله تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لفظ يدل على جَوَاز نظر فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أثْنَاء إِقَامَتهَا عِنْد ابْن أم مَكْتُوم فَالْحَدِيث أخرجه الإِمَام مُسلم فِي الصَّحِيح وَكَذَا أَبُو دَاوُود وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ فِي سُنَنهمْ، وَمَالك فِي موطئِهِ، وَابْن الْجَارُود فِي الْمُنْتَقى وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده بسياق طَوِيل٤، وَأوردهُ الْحَافِظ فِي التَّلْخِيص برقم ١٤٩٣ فَإِنِّي لم أطلع على لفظ يدل على الخصوصية، وَقَالَ صَاحب العون٥ هَكَذَا جمع الْمُؤلف أَبُو دَاوُود بَين الْأَحَادِيث، وَقَالَ حَدِيث أم سَلمَة مُخْتَصّ بِأَزْوَاج النَّبِي ﷺ وَحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لجَمِيع النَّاس هَكَذَا جمع الْمُؤلف أَبُو دَاوُد بَين الْأَحَادِيث.
قَالَ الْحَافِظ فِي التَّلْخِيص قلت: وَهَذَا جمع حسن وَبِه جمع الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه،
_________
١ تَفْسِير ابْن كثير ٢٨٣/٣.
٢ موارد الظمآن ١٤٥٨، ٩٦٨.
٣ تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث ص ٢٢٥.
٤ مُسْند الإِمَام أَحْمد ٤١٤/٦.
٥ عون المعبود ١٠٩/٤.
1 / 139
وَاسْتَحْسنهُ شَيخنَا، قلت: لَا يعارضون فِي تَصْحِيح إِسْنَاد حَدِيث نَبهَان، وَإِنَّمَا ادعوا فِيهِ دَعْوَى الخصوصية لأمهات الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن وَهَذِه الدَّعْوَى قد تكون مُعَارضَة، لِأَنَّهَا -كَمَا قلت - تَخْلُو من وجود أَلْفَاظ فِيهَا معنى الخصوصية، قَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم ردا على هَذِه الدَّعْوَى١، وَقد احْتج بعض النَّاس بِهَذَا على جَوَاز نظر الْمَرْأَة إِلَى الْأَجْنَبِيّ بِخِلَاف نظره إِلَيْهَا، وَهَذَا قَول ضَعِيف، بل الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء، وَأكْثر الصَّحَابَة أَنه يحرم على الْمَرْأَة النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيّ كَمَا يحرم عَلَيْهِ النّظر إِلَيْهَا لقَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِن﴾ وَلِأَن الْفِتْنَة مُشْتَركَة، وكما يخَاف الافتتان بِهِ، وَيدل عَلَيْهِ من السّنة حَدِيث نَبهَان مولى أم سَلمَة ثمَّ ذكر الحَدِيث بِطُولِهِ وَصَححهُ، ثمَّ قَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ، وَأما حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس مَعَ ابْن أم مَكْتُوم فَلَيْسَ فِيهِ أذن لَهَا فِي النّظر إِلَيْهِ بل فِيهِ أَنَّهَا تأمن عِنْده من نظر غَيرهَا، وَهِي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الِاحْتِرَاز من النّظر إِلَيْهِ بِلَا مشقة بِخِلَاف مكثها فِي بَيت أم شريك. انْتهى كَلَام النَّوَوِيّ ثمَّ نقل هَذَا الْكَلَام الْعَلامَة الْمُحدث المباركفوري فِي تحفة الأحوذي٢ النُّسْخَة الْهِنْدِيَّة وأيده وَتكلم على الحَدِيث الشَّوْكَانِيّ فِي النّيل٣ أَعنِي حَدِيث نَبهَان إِذْ قَالَ: بَاب نظر الْمَرْأَة إِلَى الرجل ثمَّ قَالَ: لِأَن النِّسَاء أحد نَوْعي الْآدَمِيّين فَحرم عَلَيْهِنَّ النّظر إِلَى النَّوْع الآخر قِيَاسا على الرِّجَال، ويحققه أَن الْمَعْنى الْمحرم للنَّظَر هُوَ خوف الْفِتْنَة وَهَذَا فِي الْمَرْأَة أبلغ، فَإِنَّهَا أَشد شَهْوَة، وَأَقل عقلا فَتسَارع إِلَيْهَا الْفِتْنَة أَكثر من الرجل، قلت: الشَّرِيعَة عَامَّة شَامِلَة لجَمِيع الْأمة دون تَخْصِيص بِأحد النَّاس، أَو قَبيلَة من الْقَبَائِل.
وَقَالَ الإِمَام التِّرْمِذِيّ فِي الْجَامِع: بَاب مَا جَاءَ فِي النّظر إِلَى المخطوبة، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع، نَا ابْن أبي زَائِدَة، ثني عَاصِم بن سُلَيْمَان، عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، أَنه خطب امْرَأَة، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: "انْظُر إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا"، وَفِي الْبَاب عَن مُحَمَّد بن مسلمة، وَجَابِر، وَأنس وَأبي حميد، وَأبي هُرَيْرَة، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن وَقد ذهب بعض أهل الْعلم إِلَى هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: لَا بَأْس أَن ينظر إِلَيْهَا، مَا لم ير مِنْهَا محرما، وَهُوَ قَول أَحْمد، وَإِسْحَاق، وَمعنى: "أَحْرَى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا"، قَالَ أَحْرَى
_________
١ النَّوَوِيّ على مُسلم ٩٦-٩٧/١٠.
٢ التُّحْفَة ٩٢/٢.
٣ نيل الأوطار ١٣٢-١٣٤/٦.
1 / 140
أَن تدوم الْمَوَدَّة بَيْنكُمَا١، وَقَالَ الْعَلامَة المباركفوري أخرجه أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة والدارمي وَابْن حبَان فِي الصَّحِيح٢، قلت أخرج البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْجَامِع نَحْو هَذَا الحَدِيث فقد عقد بَابا إِذْ قَالَ: بَاب النّظر إِلَى الْمَرْأَة قبل التَّزَوُّج، وَقَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح: قَالَ الْجُمْهُور لَا بَأْس أَن ينظر الْخَاطِب إِلَى المخطوبة، قَالُوا وَلَا ينظر إِلَى غير وَجههَا وكفيها٣.
قلت: وَأما الْمَفْهُوم الْمُخَالف لهَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ لَا يجوز لغير الْخَطِيب أَن ينظر إِلَيْهَا، وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَت الْمَرْأَة محجبة وَأما فِي حَالَة كشف الْوَجْه، وَالْكَفَّيْنِ فَلَا معنى لهَذَا الحَدِيث بِالْمَفْهُومِ فَهَذَا أَيْضا دَلِيل على عدم جَوَاز كشف الْوَجْه، وَالْكَفَّيْنِ وَبِهَذَا الْمَعْنى أخرج الإِمَام أَحْمد فِي الْمسند، وَابْن ماجة فِي السّنَن، وَابْن حبَان فِي الصَّحِيح، وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك وَصَححهُ، وَسكت عَنهُ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي التَّلْخِيص، قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: "إِذا ألْقى الله ﷿ فِي قلب امْرِئ خطْبَة امْرَأَة فَلَا بَأْس أَن ينظر إِلَيْهَا".
قلت: فَهَذَا الْإِذْن بِهَذَا السِّيَاق يدل على تَحْرِيم النّظر إِلَى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لغير الْخَاطِب فَإِذا كَانَ الْوَجْه والكفان ليستا من الْعَوْرَة كَمَا قَالَ بعض أهل الْعلم كَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَغَيره رَحِمهم الله تَعَالَى فَلَا يتَحَقَّق مَفْهُوم الْأَمر، أَو لَا معنى لمَفْهُوم أمره ﷺ وَهَذَا وَاضح ظَاهر لمن أعْطى الْفَهم الثاقب، وَالنَّظَر الصَّحِيح، وَهُنَاكَ آراء فقهية كَثِيرَة، تجيز كشف الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، وَلَا حَاجَة بنقلها، قَالَهَا أَصْحَابهَا اجْتِهَادًا مِنْهُم واستنباطا من بعض الْأَحَادِيث غفر الله تَعَالَى لَهُم، وَأكْرم مثواهم، وَجعل الْجنَّة مأواهم وهم مَعَ علمهمْ وفضلهم قد أخطأوا فِي الْإِصَابَة، فَلهم أجر الِاجْتِهَاد، وخطؤهم مَعْفُو عَنْهُم عِنْد رَبهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَمَا صَحَّ بذلك حَدِيث عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: إِذا اجْتهد الْحَاكِم الحَدِيث.
وَأما الحَدِيث الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ فِي الْجَامِع الصَّحِيح فِي خَمْسَة عشر موضعا وَكَذَا مُسلم فِي الْعِيدَيْنِ، وَأَبُو دَاوُد، والدارمي فِي سنَنَيْهِمَا، وَالْإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: "شهِدت مَعَ النَّبِي ﷺ فِي يَوْم الْعِيد فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة، ثمَّ ذكر الحَدِيث وَفِيه، ثمَّ مضى إِلَى النِّسَاء،
_________
١ التِّرْمِذِيّ ١٦٩/٢.
٢ التُّحْفَة ١٧٠/٢.
٣ الْفَتْح ١٨٢/٩.
1 / 141