نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
ژانرها
6
هذا تصور تلعب فيه العوامل النفسية-الاجتماعية دورا يزيد عن دور العوامل المعرفية والعلمية. إنه تصور المغترب العربي الذي يقول لنفسه: إن الوطن الذي أصبحت فيه ليس أفضل من وطني الأصلي، وليس مختلفا عنه جذريا (أما الصورة الحقيقية لوطنه الأصلي فإنها غابت عنه، أو تغيرت بحكم الرؤية عن بعد، أو أصبحت متسامية
Sublimated
على سبيل التعويض).
فمن الطبيعي أن تكون الاختلافات، في نظر الشرقي الذي يعيش في الغرب، مختفية، ومطموسة، وأن ينتقد بشدة من يؤكد له أن الشرق كيان قائم بذاته؛ وذلك على الأقل لأن هذا لو صح لكان هو ذاته كإنسان مختلفا عن الغربيين الذين يعيش بينهم، وهي نتيجة ضارة ومكروهة. ولو عدنا إلى عالم الواقع لوجدنا أن الشرق ذاته يؤكد اختلافه عن الغرب ويحرص في اتجاهاته التراثية التقليدية على إثبات تفرده وتأكيد هويته القائمة بذاتها. كذلك نجد أن الغربي المستشرق يؤكد هذا الاختلاف، بناء على دوافع مختلفة. ولكن الوحيد الذي يريد محو الاختلاف هو الشرقي الذي يعيش في الغرب، وذلك لعدة أسباب منها أنه لا يشعر بأنه أدنى ثقافيا من البيئة التي يعيش فيها، ومنها رغبته في الارتفاع بمكانة الشرق الذي ينتمي إليه، ومنها أن محو الاختلاف بين الشرق والغرب يجعل حياته أيسر، ومنها سداد الدين للشرق الذي ابتعد عنه. وهكذا يبدو الأمر هنا في جانب منه على الأقل كما لو كان إسقاطا من الباحث العربي لحالته الخاصة وسط مجتمع جديد يشعر فيه بالندية، على مجتمعه الأصلي كله.
ولكن، سواء أكانت المسألة مسألة نوايا طيبة تجاه الموطن الأصلي، أم شعور بالذنب ورغبة في التعويض، فإن النتيجة هي أن الشرق لا يعود في نظر هؤلاء مختلفا، ولا متخلفا، ولا راكدا، ولا أسطوريا، بل إن الاسم ذاته لا يصح إطلاقه عليه لأنه ليس إلا «كيانا مصنوعا». وقد يكون هذا التصور مفيدا للعربي المقيم في الغرب، أو الذي أقام فيه أمدا طويلا؛ لأنه يعيد إليه توازنه الداخلي، ولكنه قطعا ضار بموطنه الأصلي في المدى الطويل. فنحن لا نخدم أنفسنا بمثل هذا الدفاع المتحمس، وبإنكار عيوبنا ومهاجمة كل إشارة إلى وضعنا المتخلف، ونحن لا نثبت مكانتنا إزاء الغرب لو قلنا له: إننا لسنا أقل منك، ولا مختلفين عنك. وإنما نكتسب مكانتنا الحقيقية منذ اللحظة التي نقول فيها بشجاعة: نعم، نحن مختلفون، ومتخلفون، ولكن تخلفنا قد فرض علينا، وليس جزءا من تكويننا، وفي استطاعتنا أن نتغلب عليه!
إن المثقف العربي الذي يعيش في الغرب لا يستطيع لأسباب خارجة عن إرادته أن يكون ممثلا حقيقيا للبيئة التي ينتمي في الأصل إليها. فهو لا يعبر فقط، كما قال «العظم»، عن «استشراق معكوس»، وإنما يعاني من «استشراق مزدوج»، يمر بمرحلتين من التوسط
Mediation
لأن الشرق الذي يتحدث عنه رد فعل على رد فعل. فالمرحلة الأولى هي رؤية الغرب للشرق، أما المرحلة الثانية فهي رؤية الشرقي المغترب للشرق من خلال رد فعله على الرؤية الغربية. وهنا تكمن الدراما الحقيقية لتلك النظرة الفريدة إلى الشرق، فلا هي رؤية غربية خالصة تفهم بوصفها تعبيرا عن نظرة ثقافة إلى ثقافة مختلفة عنها، ويمكن تفسير تشوهاتها وانحرافاتها على هذا الأساس، ولا هي رؤية شرقية خالصة منبعثة من معايشة حقيقية للشرق وتاريخه. ومن هنا فإن نقاد الاستشراق من العرب العلمانيين غير مقبولين لدى المستشرقين، ولكن الأهم من ذلك أنهم أيضا غير مقبولين لدى الشرقيين التراثيين. فهم يحاربون تلك النظرة المطلقة، الجامدة والسكونية، إلى الإسلام، وهي النظرة التي يدافع عنها المستشرقون والإسلاميون السلفيون، كل من جانبه الخاص، وبذلك يقفون في تلك الأرض الحرام
No-man’s Land
صفحه نامشخص