نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
ژانرها
9
وربما اعترض بعض الباحثين على الحكم القائل إن الاستشراق الإنجليزي والفرنسي أهم من الألماني والإيطالي والروسي، ولكن المسألة الهامة في نظرنا لا تكمن في مثل هذا الاختلاف في التقويم، ففي استطاعتنا أن نقبل هذا الحكم على علاته، ولكن يظل السؤال الأهم هو: كيف استطاعت الحضارة الأوروبية أن تنتج نوعا آخر من الاستشراق، لا تختلط فيه الأطماع التوسعية بالاعتبارات العلمية؟ إن معنى ذلك هو أننا نستطيع أن نتصور استشراقا بدون هيمنة، أو بدون مضامين سياسية. ووجود هذا النوع معناه أن الحضارة الغربية استطاعت أن تنتج دراسة للشرق لا تخضع - أو لا تخضع في المحل الأول - لمطالب مجتمع متفوق يسعى إلى السيطرة. وهذه الظاهرة ذاتها يمكن أن تلقي ظلا من الشك على قضية سعيد بأكملها، إذ لا يعود الخضوع للإمبريالية هنا سمة مميزة للاستشراق من حيث هو مؤسسة علمية، بل يصبح سمة تميز مجتمعات معينة، أبدت اهتماما خاصا بالاستشراق تحقيقا لأطماعها الخاصة، وإن لم يكن منتميا إلى «جوهر» الاستشراق في ذاته. ويترتب على ذلك أن التركيز على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، والأمريكي فيما بعد، معناه انتقاء العينة التي تخدم استنتاجا وضع مقدما، وتمت البرهنة عليه من خلال النماذج المؤيدة له وحدها. (3)
وهناك نقطة ضعف ثالثة تميز موقف عدد كبير من نقاد الاستشراق في العالم العربي المعاصر، هي وقوعهم في شكل من أشكال المغالطة المنشئية
Genetic Fallacy ، فمن الخطأ كما يعرف كل دارس للمنطق أن نخلط بين منشأ الشيء أو أصله وبين حالته الراهنة. ومن الممكن جدا أن يكون الاستشراق، في بلاد معينة، قد نشأ تلبية لحاجات استعمارية، ولكن هذا الأصل لا يتعين أن يلازمه، ويؤثر في حكمنا عليه، طوال مساره اللاحق؛ ذلك لأن العلم يكتسب بمضي الزمن قدرة على التطور المستقل عن الأصل الذي نشأ منه، ومن الممكن أن يتباعد بالتدريج عن هذا الأصل إلى حد السير في اتجاه مضاد له. ومن طبيعة العلم أن تصبح له، بحكم الممارسة المستمرة، حياته الخاصة، ونموه الخاص، بغض النظر عن الظروف التي نشأ فيها والدوافع التي أدت إلى ظهوره.
ونستطيع أن نضرب لذلك أمثلة لا حصر لها، تنتمي إلى ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية معا. فعلم الفلك ظل طوال الجزء الأكبر من تاريخه مرتبطا بالتنجيم وقراءة الطالع، وحتى عندما أصبح علما دقيقا في مطلع العصر الحديث، ظل لفترة غير قصيرة محتفظا بآثار من هذا الأصل الأول. ولكن مما يدعو إلى السخرية بطبيعة الحال أن نحكم على إنجازات علم الفلك المعاصر من خلال الأصل الذي نشأ منه. ومثل هذا يقال عن الكيمياء، التي ترجع جذورها إلى أوهام السيمياء وخرافاتها. وكلنا نعلم أن علوم الفضاء قد نشأت في ظروف الحرب الباردة وارتبطت بأهداف عسكرية عدوانية أو دفاعية، ولكن هل يستطيع أحد أن ينكر أن كثيرا من إنجازات هذه العلوم قد استقلت عن الأصل الذي نشأت منه، وأن قيمتها في الحاضر والمستقبل تتجاوز بكثير نطاق الأغراض العسكرية؟ وأخيرا، فإن الأنثروبولوجيا كانت مرتبطة بالاستعمار بصورة صريحة لم ينكرها مؤسسو العلم ذاته، فالغرب المتفوق كان يسعى إلى فهم الشعوب البدائية والقديمة «من الداخل» كيما يستطيع أن يحكم سيطرته عليها (وهو في هذه الناحية يسير في خط متواز، بصورة ملفتة للنظر، مع الأصول الأولى للاستشراق). ولكن هل يعني ذلك أن ننكر القيمة التي اكتسبها هذا العلم بعد أن أصبح له مساره الخاص، واكتسب صفات جديدة تختلف عن الأصل الذي بدأ به؟ هل ينبغي أن تظل الأنثروبولوجيا علما «استعماريا» إلى الأبد، لمجرد أن نشأتها كانت كذلك؟ (4)
أما الملاحظة الأخيرة على النقد السياسي للاستشراق، فتشير إلى تناقض كامن في صميم هذا النقد؛ ذلك لأن الاستشراق وفقا لأصحاب هذا النقد هو من جهة أحد الأسلحة التي يستخدمها الغرب المتفوق من أجل السيطرة على الشرق؛ وهو لهذا السبب ليس علما خالصا، أو موضوعيا، أو حرا، وإنما هو علم مشوه. وفي رأينا أن هاتين القضيتين متناقضتان، فإذا سلمنا بالقضية الأولى، كان من الضروري أن نرفض الثانية أو نحصرها على الأقل في أضيق نطاق.
وفي هذا الصدد، نود أن نقتبس نصا من مقال حديث العهد، يظهر فيه هذا التناقض بوضوح تام: - لماذا يريد الغربيون معرفة كل شيء عن الشرقيين وعن المسلمين؟ - الإجابة في نظرنا تتلخص في أمرين: الأمر الأول: أن المعرفة الكاملة عن «الآخر» تسهل للشخص المعني طريقة وكيفية التعامل مع هذا الآخر، وعلى كل الأصعدة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. الأمر الثاني: أن دراسة الحضارة الإسلامية داخل إطار المشروع الثقافي الغربي، وبالمناهج والمفاهيم والمقولات والأفكار المسبقة، والنوايا غير الخالصة للغرب الاستعماري، كل ذلك يمكنه من تقديم هذه الحضارة لأصحابها كما يريد لها هو أن تكون.
10
هناك إذن - وفقا لهذا الرأي - هدفان للاستشراق: التعامل الناجح مع الآخر الذي يصل إلى حد «المعرفة الكاملة»، ثم عرض الحضارة الإسلامية للمسلمين كما يريد الغرب لهم أن يروها، أي عرضها عرضا مشوها ومزيفا ومشوبا بالخداع. فكيف يستطيع الاستشراق تحقيق هذين الهدفين معا؟ إن الهدف الأول يقتضي فهم «الآخر» فهما صحيحا؛ لأن التعامل الناجح يصبح مستحيلا إذا كان المستشرقون يغشون أنفسهم ويغشون جمهورهم، كما هو وارد في الهدف الثاني. فإذا كان الاستشراق هو الأداة الثقافية المسيطرة الاستعمارية، فلا بد أن يكون فيه على الأقل قدر كبير من الحقائق، بدليل أنه يمهد لهذه السيطرة بالفعل. ولو كان التشويه والتزييف هو الغالب عليه لكان معنى ذلك أن الاستشراق معوق للاستعمار وليس مساعدا له. وقد أدرك هذه الحقيقة أحد الباحثين العرب حين أشار إلى أن دراسات المستشرقين لم تكن جميعها متعلقة بشرق وهمي، ولو كانت كذلك لما فهمونا وسيطروا علينا.
11
صفحه نامشخص