نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
ژانرها
ولكن هذا النقد يفترض مجموعة من المسلمات التي لا تصمد كثيرا أمام الاختبار العقلي الدقيق: (1)
أولى هذه المسلمات هي إمكان قيام موضوعية خالصة في ميدان العلوم الإنسانية. والواقع أن أبحاث عالم اجتماع المعرفة، والتاريخ الاجتماعي للعلم، تتجه إلى تأكيد وجود طابع أيديولوجي تخضع له كل معرفة بشرية بدرجة أو بأخرى، وتعمم هذا الحكم بحيث يسري حتى على تلك العلوم التي نفترض فيها أكبر قدر من الحياد والموضوعية، كالعلوم الطبيعية. وإذا كانت هذه الحالة الأخيرة المتطرفة تقبل النقاش، فمن المؤكد أن العلوم الإنسانية تكشف عن هذا الطابع الأيديولوجي بوضوح أكبر. ومن ثم كان من حقنا أن نطلب إلى من ينقدون الاستشراق بسبب افتقاره إلى الموضوعية، أن يحددوا لنا ذلك المعنى المجهول «للموضوعية» الذي يطالبون به، لكي نرى إن كانت هذه ممكنة أصلا في أي علم إنساني. إن المؤرخين على سبيل المثال قد اعترفوا منذ وقت طويل بأن المؤرخ لا يستطيع أن يكون على الدوام مشاهدا محايدا لا يتدخل في تفسير الأحداث من منظوره الخاص، وأن كل تأريخ هو «رؤية» وليس رواية تامة النزاهة، متحررة من كافة التحيزات. وهكذا يبدو أن نقاد الاستشراق يتوقعون منه المستحيل، أو ينتقدونه لأسباب يشترك فيها مع كل أنواع المعرفة التي تتخذ لها موضوعا من الإنسان - أعني - إذا كان إنسانا ينتمي إلى حضارة معينة.
وبطبيعة الحال فإن من حق القارئ أن يطلب إلى ناقد الاستشراق أن يقدم إليه البديل المنهجي الذي يريده. ففي وسعنا أن نوافق هذا الناقد - جدلا - على أن الاستشراق يقدم للشرق صورة شوهها التحامل والرغبة في السيطرة، ولكن من الواجب عندئذ أن نسأله: كيف كنت تريد منه أن يصور الشرق؟ فإذا بحثنا عن رد على هذا السؤال، واجهتنا إجابات أقل ما توصف به هو أنها غير مقنعة.
ولنأخذ موضعا من المواضع التي نستطيع أن نستنتج منها البديل المطلوب، فسعيد يضرب مثلا بكتاب «وصف مصر» الذي ألفه العلماء المصاحبون لنابوليون في الحملة الفرنسية، فيقول إنه نموذج لكتب الاستشراق الأخرى، إذ كان هدفه هو أن يجعل الشرق مفهوما، ويجعل الإسلام مأمونا، بالنسبة إلى الغرب. ويعلق على ذلك بقوله: «ذلك لأن الشرق الإسلامي سيظهر من الآن فصاعدا على أنه مقولة تعبر عن قوة المستشرقين، لا عن الشعب الإسلامي كبشر، ولا عن تاريخهم كتاريخ.»
4
من هذا التعليق نستطيع أن نستنتج أن البديل الذي يراد أن يحل محل المنهج الاستشراقي، هو أن ينسلخ الباحث الغربي عن ماضيه وثقافته لكي يعايش شعبا آخر وينظر إليه من منظور خاص بهذا الشعب وحده، وهو مطلب مستحيل. بل إن الأمر يصل إلى حد وصف المناهج العلمية الأوروبية التي استخدمت في الكتاب بأنها تعبير عن السيطرة الأوروبية،
5
وكأن المطلوب هو التخلي عن مستوى معين بلغته طرق البحث العلمي - وهو مستوى يستحيل التراجع فيه أو التنازل عنه - من أجل إبعاد شبهة السيطرة.
وربما كان في وسعنا أن نستنتج البديل المطلوب بصورة أوضح من ذلك النص الذي يقول فيه مؤلفنا إن المستشرق يقدم في تصويره دائما «معرفة لا تتصف أبدا بأنها خام، أو مباشرة بلا توسط، أو موضوعية فحسب
Never raw, unmediated or simply objective »،
صفحه نامشخص