من وجهة علماء الأركيولوجيا، أبدا لن يجدوا في الحديدة - إن وجدوها - ما يشير إلى الحدث الجليل ولا إلى تاريخه؛ فهي مجرد حديدة، قد تخص أي شخص في أي زمن؛ لأن قيمة الأثر التاريخي عند هؤلاء العلماء لاحتسابه دليلا، تبدأ من التدوين وتنتهي بالسمات التي تنسب الأثر إلى عصره إذا كان خاليا من التدوين. كالفرق بين التشكيل الفني للفخار الذي ساد في عصر البرونز وبين التشكيل الذي اتسم به في العصر الهليني ... وربما سلم لنا الإسرائيليون الحديدة دون حرب ولا حتى مفاوضات (عايزين حديدتكم؟ ... خذوها).
هذا بينما يورد الأستاذ سلماوي بذات الموضوع، تقرير اللجنة البرلمانية البريطانية إبان الانتداب، للتحقيق في ملكية الحائط الغربي من سور الأقصى، إبان النزاع الذي نشأ بين المسلمين واليهود حوله. يقول التقرير (ولننصت بدقة إلى لغة التقرير): «للمسلمين وحدهم الحق العيني فيه، لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي أملاك الوقف. وللمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المنطقة المعروفة بحارة المغاربة باعتباره موقوفا.»
هنا لغة وثائق حقوقية، بعد رجوع اللجنة البرلمانية البريطانية للوثائق والمحفوظات والخرائط والتوقيعات والتصديقات، لكنها بدورها تضمنت خطأ فادحا، عندما قالت: إن الحائط ملك للمسلمين هكذا على التعميم؛ فهذه بدورها لغة طائفية تسمح بتمييع الحقوق وسيولتها، ولا تعطي الحق لأصحابه بلغة قاطعة إنما تمنحه لملاك هلاميين، وربما لو قالت لمسلمي فلسطين لكان أوقع (لكنه أيضا ليس أحق).
فالحائط والسور وكل ما هو داخل السور المحيط بالحرم مثله مثل أي قطعة أرض فلسطينية أخرى خربة كانت أو عامرة؛ فهو في المقام الأول وفي أي مقام، وفوق وتحت وقبل وبعد كل المقامات، هو أرض فلسطينية. بهذا الخطاب نجد للأرض أصحابا لهم كامل الحقوق، أما التعبير «ملك المسلمين» فإنه يحيل الحق إلى مشاع هائل لا محدد، فتصبح حقا ضائعا تشبه الدعوة لجعل القدس ملكا لله حتى لا يتصارع حولها المؤمنون من كل دين؟ فإذا كان ذلك كذلك، وتلك لغة الحقوق، فلماذا لا تتركون المسجد لله يدافع عنه، وتفعلون فعل عبد المطلب بن هاشم صادق اليقين وهو يقول لأبرهة الحبشي «رد علي إبلي فللبيت رب يحميه»؟!
إن تديين القضية بالقول إن للقدس وضعا خاصا بسبب قدسيتها الإسلامية، يعطي للطرف الآخر ذات الحق والمبرر بجعلها ذات وضع خاص بسبب قدسيتها اليهودية. خاصة وأن هذا الآخر لديه حقوق أوضح من وجهة نظر عالم اليوم؛ فمقدسنا ولشديد الأسف لا يفهمه أحدا سوانا. أما عندما يتحدث اليهود رطانة الدين فإن هذا العالم يسمع ويفهم ويتفهم، خاصة مع النجاح الذي حققه التواجد اليهودي على خريطة الإعلام العالمي، واجتهاده الذي يفضح قصور الإعلام العربي ويخزيه ... هذا إضافة لما هو أهم وأخطر بكثير (؟).
إن خطاب الحق الديني المرفوع الآن في مظاهرات الشارع العربي، بتوجيه أحمق من وسائل التثقيف، من التلفاز، إلى الصحافة، إلى كافة المنابر الإعلامية، ينسى أمرا شديد الأهمية وهو في دروشته الدينية وخطاباته المسجوعة البلاغية. وهو أنه في الوقت الذي كان يقوم فيه الإسرائيليون من المهاجرين الأوائل بمذابحهم الرهيبة في فلسطين (من مذبحة بلدة الشيخ إلى قرية سعسع إلى أبي كبير إلى دير ياسين إلى أبي شوشة إلى اللد إلى عيليون إلى دير الأسد إلى قبية إلى كفر قاسم إلى خان يونس) ... هرب الفلسطينيون العزل أمام الرعب ونهر الدم. لكن هناك آخرون أصروا على البقاء، فقدوا الأحبة لكنهم استماتوا هناك يعضون على الأرض. هم عرب الداخل الذين يسميهم الأعلام «عرب إسرائيل»، الذين يشكلون لإسرائيل مشكلة مزمنة متفاقمة. وبين تلك القلة الباقية حوالي ربع مليون مسيحي فلسطيني، فقدوا من هاجر ومن تشتت ومن استشهد مع إخوانهم المسلمين إبان المجازر الصهيونية؛ لأن القنبلة الإسرائيلية عندما كانت تنطلق من المدفع أو الدبابة لم تكن تميز بين المسلم الفلسطيني والمسيحي الفلسطيني. ترى أين نضع المسيحيين الآن من أهل فلسطين أو من العرب عموما على خريطة خطابنا الإسلامي الديني الحقوقي في القدس؟ وهم من سجل قبل ذلك مواقف وطنية شجاعة، من المطران كابوتش إلى بابا الكنيسة المصرية صاحب الموقف المعلن الواضح. لقد اختار المسيحيون الوطن، رغم أن مقدسهم الإنجيلي يلزمهم تقديس كتاب اليهود (العهد القديم)، حتى إنهما يجمعان في كتاب واحد هو المقرر المسيحي المقدس. ولأن المسيح قال «ما جئت لأنقض الناموس، بل جئت لأكمل.» وهذا الناموس هو ناموس الحق الديني اليهودي في فلسطين يوما بيوم وسردا لملوكهم ملكا ملكا عبر أسفار الملوك وحتى مجيء المسيح الذي وصف في الأناجيل بأنه «ملك اليهود» (متى، 2: 2)، و«ملك إسرائيل» (يوحنا، 1: 49)؛ فقد وقف المسيحيون العرب موقفا حداثيا مدنيا من قضية الوطن رغم أن الكتاب المقدس لا يعطي اليهود فلسطين وحدها بل «من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» بالنص.
وها نحن نرفع في وجوههم خطابنا الطائفي العنتري الذي يتجاهل وجودهم تماما، ليشعروا أنهم غرباء في وطنهم مرتين، مرة بالاحتلال البغيض، ومرة باستلابهم التاريخي من قبل إخوانهم المسلمين على أرض فلسطين.
هو الخطاب الذي وقف صريحا واضحا لا يكن ولا يحتشم ولا يخزى عند الملتحين من مسلمي الداخل الفلسطيني، الذين أصروا على بناء مسجد شهاب الدين في حوم أرض مسيحية مقدسة منذ زمن المسيح هي كنيسة المهد؛ لنستعدي العالم المسيحي كله ضدنا، ولأننا حسب المثل الشعبي المصري (لم يقدر على الحمار فانهار ضربا على البردعة). ودون أن نتساءل عن موقفنا لو أراد المسيحيون العرب (من باب التجاوز والمحبة كما قال الخطاب اللئيم في أزمة كنيسة المهد) أن يقيموا كنيسة في مكة أو في المدينة؟ اللطيف في الأمر وغير المدهش أبدا أن إسرائيل أعطت للمسلمين حق الترخيص ببناء المسجد بينما تحرمهم من تراخيص بناء بيوت للمأوى (؟).
أما بقية العالم، فهو إن اعتاش على الدين كل ساعات حياته مثلنا وتراجع عن الحداثة، فإنه سيعطيها كاملة خالصة ليهود على أي مساحة بين نهر مصر وبين نهر الفرات، وبضمير مرتاح؛ لأن معظم العالم القوي الآن يدين بالمسيحية التي تدين أيضا بالعهد القديم مقدس يهود، ناهيك عن انتشار المسيحية الصهيونية وتوغلها الآن في الغرب المسيحي . (8) وخطاب مولانا أيضا
ليس بيني وبين شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي إلا كل المودة والاحترام بل والإجلال من جانبي لشخصه ولمواقفه من قضايا الوطن، بحسبانه بين أكثر من جلس في هذا المكان الرفيع استنارة. لكن ذلك كله لا يمنعني من نقد خطابه عندما لا يكون في إطار المصالح التي نرجوها، وهو خطاب خرج فيه مولانا عما يعلم إلى ما لا يعلم.
صفحه نامشخص