وهو في فن تقليدي كفن الرثاء يغلب الناحية العاطفية الطاغية على مزاجه، فلا يجعل وكده مدح الميت على نحو ما كان يفعل أغلب العرب القدماء، وبخاصة عندما يرثون عظماء الرجال والحكام الذين لا تربطهم بهم وشيجة قربى خاصة، حتى قال بعض نقادهم: إن الفرق بين المديح والرثاء هو أن المديح للأحياء والرثاء للموتى.
ولعلنا نستطيع أن نجد خير تدليل على هذه الحقيقة عند صبري في رثائه للزعيم مصطفى كامل؛ وذلك لأنه من الثابت تاريخيا أن إسماعيل صبري كان من المعجبين المؤيدين للزعيم الشاب، بل إننا لنذكر أنه خالف رغبة الحكومة أثناء توليه منصب محافظ الإسكندرية تأييدا لمصطفى كامل، وحرصا على تمكينه من أداء رسالته الوطنية عندما أراد أن يخطب أهل الإسكندرية، فأوعزت الحكومة إلى إسماعيل صبري، محافظ المدينة، أن يحول بينه وبين ما يريد محتجة بالأمن أن يختل نظامه، والقانون أن تنتهك أحكامه، فأبى صبري على الحكومة كل الإباء، وخلى بين مصطفى وبين شعبه يخطبه كما يشاء، وقال للحكومة: «أنا مسئول عن الأمن والنظام في محافظتي، ومحتمل ما تعقبه هذه الخطبة من تبعات.» ومع ذلك، عندما مات الزعيم الشاب ووقف إسماعيل صبري ليرثيه، لم يتجه نحو المدح والإشادة بالوطنية والوطنيين، بقدر ما أطلق لحزنه العنان، وأخذ يتحدث عن لوعته لفقد هذا الصديق العزيز أكثر مما يتحدث عن عظمة الزعيم وقضية الوطن؛ مما دعا البعض إلى أن يظن خطأ أن إسماعيل صبري قد أخذ بالتقية، وتجنب في رثائه للزعيم الخوض في المسألة الوطنية والجهاد ضد الاستعمار. وهم في ذلك جد ظالمين؛ وذلك لأن إسماعيل صبري لا يجوز أن يتهم باصطناع الاتجاه العاطفي في رثائه للزعيم؛ لأن هذا الاتجاه هو الغالب على شعره كله، وهو الجوهر الأصيل في نفسه، حتى ليحدثنا الرواة أن إسماعيل صبري أراد إنشاء رثائه على قبر الزعيم يوم وفاته، ولكنه لم يكد ينشد البيت الأول حتى غلبه البكاء، فقطع إنشاده، ولم يلق القصيدة كلها إلا في حفل تأبينه بعد مرور أربعين يوما على وفاته، وفيها يقول (ص213 من الديوان):
أجل أنا من أرضاك خلا موافيا
ويرضيك في الباكين لو كنت واعيا
وقلبي ذاك المورد العذب لم يزل
كما ذقت منه الحب والود صافيا
سوى أنه يعتاده الحزن كلما
رآك عن الحوض المهدد نائيا
ويعثر في بعض الخطوب إذا مشى
إلى بعض ما يهوى فيرجع داميا
صفحه نامشخص