اسلام و تمدن بشری
الإسلام والحضارة الإنسانية
ژانرها
ومن أراد هذه الرسالة للجامع الأزهر فقد عرف من قبل رسالة القرآن الكريم، بل عرف المعجزة الكبرى لهذا الكتاب في ناحية إعجازه التي لا مراء فيها، وهي معجزة الأثر الخالد التي نستطيع نحن - أبناء هذا العصر - أن ندركها وأن يكون إدراكنا لها أقوى وأوضح ممن سبقونا إلى العلم بمعجزة الكتاب المبين.
معجزة الأثر في ألف وأربعمائة سنة أقوى وأوضح من معجزته التي شهدها أبناء القرن الأول، ثم شهدها أبناء القرون الأولى بعد عصر الدعوة. فإننا اليوم نستطيع أن ندرك تلك المعجزة التي لا نظير لها، والتي تقاصرت عنها الهمم ووقفت دونها دعوات الأفراد والأمم، وتم بها ما يتم بعمل إله وقول إله، وهيهات أن يتم بجهد الإنسان بغير معونة الله:
أربعمائة مليون من بني آدم فرقتهم الأجناس واللغات والبقاع والأزمان، وجمعتهم كلمات القرآن.
وكلمات حفظت اللغة التي نزلت بها وليست هذه اللغة هي التي حفظتها، ولم يتفق قط للغة من اللغات أن عاشت بكتاب واحد مدى هذه السنين، فلم تعش لغة اليونان خمسمائة سنة بكتاب هوميروس، ولم تعش لغة اللاتين بعض هذه السنين بلغة فرجيل وهوراس، وذهبت لغة فارس ولغة الهند وفيها من الكتب ما لا يقرؤه اليوم غير كهان المحاريب، وماتت لغات أخرى كانت تعيش قبل الإسلام، وبقيت لغة القرآن حية في عالم الديانة وفي عالم الكتابة وفي عالم الثقافة، وستحيا غدا كما حييت بالأمس إلى ما شاء الله، وصح فيها قول الأستاذ الفقيه: «إنها ليست في هذا المقام عربية الإقليم والجو ولا عربية النسب إلى أصل ينتسب إليه الجنس ... وصارت عربية الشخصية المعنوية المكونة من عنصري العروبة والإسلام ...»
ولما تكلم عن غايته من التعليم في المعهد الأكبر الذي تولاه قال: «نريد تخريج تبريز لأئمة في اللغة وفروعها وأئمة في الفقه وأصوله، نريده تخريجا أساسه النظر العميق والاجتهاد العلمي الذي يكون الشخصية الفقهية والشخصية اللغوية العربية، لا نريده تخريجا نلتزم فيه مخلفات الماضي من آراء ومذاهب، بل يجب أن نجتهد وأن نؤمن بأن حاجة اليوم في الفقه واللغة وعقائد الدين غيرها بالأمس، وأن نؤمن بأن فضل الله في كل ذلك لم يكن وقفا على الأولين.»
ونستعير من أسلوب الفقيد فنقول: إن الاجتهاد كما أراده هو الاجتهاد بعناصر «شخصيته» على تمامها كما ينبغي أن يضطلع به المجتهد في جميع العصور، وهو أتم من ذلك بالنسبة إلى عصرنا هذا الذي نعيش فيه، وبالنسبة إلى العصر المقبل الذي يواجهه المجتهدون عما قريب.
فما من عنصر من عناصر الاجتهاد إلا قد ظهر له في هذا العصر باعث يستدعيه لم يكن ظاهرا بهذا الجلاء وهذه الضرورة في عصر من عصوره الماضية.
فها هنا عنصر النظرة الموحدة إلى الكتاب المبين في العصر الذي ارتفعت فيه حواجز الاستعمار الأجنبي، ووجب أن تحل في مكانها روابط القربى بين أمم الإسلام على تباعد الديار وتباعد الشيع والمذاهب التي لا بقاء لها، مع توحيد النظرة إلى كتاب المسلمين أجمعين.
وها هنا عنصر اللغة في عصر النهضة العربية، وقوامها كله نهضة الثقافة العربية التي تتحد بها ثقافة الإسلام في جميع اللغات.
وها هنا عصر «الاستقلال» في عصر الحرية الفكرية أو عصر «الإنسان» الحر في الجماعة الحرة، وقد مضت الجماعات في طريقها إلى الخلاص من طغيان الاستبداد وطغيان الاستقلال.
صفحه نامشخص