هذا ما قاله دوزي وأكثر كلامه حقيقة لا مرية فيها، إلا قوله: إن العرب لم يأتوا بجديد، ولا تدين أوروبا لهم بأدنى فكر عال أو واسع؛ ذلك لأن ما تم على أيديهم في باب العلم والمخترعات كان كثيرا بالنسبة إلى القرون التي فاقوا خلالها بسياستهم سائر أمم الحضارة، على ما فصلنا ذلك في الباب الذي عقدناه لعلوم العرب وما وفقوا إلى كشفه، واستندنا فيه إلى بعض علماء الغرب في هذا الشأن، أمثال لبون ودرابر وجوتيه وسيدليو وجبون.
مبدأ تمثل العرب للحضارة
تمثل العرب الحضارة كأهل كل دولة، فكانوا مقلدين في طور المدنية وأحوالها للدولة السابقة قبلهم، ولما ملك العرب فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم لم يكونوا على رأي ابن خلدون في شيء من الحضارة؛ فقد زعم
18
أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعا، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا، وأمثال ذلك، فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم، واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم، واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليه، أفادوهم علاج ذلك، والقيام على عمله والتفنن فيه، مع ما حصل لهم من اتساع العيش، والتفنن في أحواله، فبلغوا الغاية في ذلك وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال، واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثي،
19
وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية.
ولم ينتصف القرن الأول حتى جمع العرب في المدن التي نزلوها أصنافا من الرفاهية، ومنهم من تجافت نفوسهم عن الانغماس فيها، ومنهم من انغمسوا فيها إلى رءوسهم، وكان الصحابة إلى الخشونة، فلما جاء بنو أمية جمعوا بين الرفاهية وشيء من أخلاق العرب في الخشونة إلى آخر القرن الأول؛ فكان من خلفائهم من لا ينزل المدن في الشام إلا قليلا، ويتخذون لهم قصورا في الأرياف والبوادي؛
20
لئلا يغلب الترف على نفوسهم ونفوس بنيهم فيفسدها، ويضيع بذلك مضاء العرب ومتانتهم، وأخذ الحجاز وأعطى من هذه الحضارة الجديدة، حتى يخيل للباحث أنه كان في مكة ويثرب مدارس لتعليم الغناء والموسيقى، وكانت الجارية التي تتعلم في مدرسة الحجاز تصيب حظا عاليا من السعادة؛ ذلك لأنه لم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب. وفي النصف الأول من القرن الأول اتخذ عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي
صفحه نامشخص