74
يسير إلى الأمام بسرعة تحير العقول، ومع هذا لم يبرح فتيا غض الإهاب، وعلى ما كتب لطاليس وأرخميدس من النبوغ لم يعرفا شيئا مما يعلم اليوم في المدرسة الابتدائية، وأجهل شاب حاز الشهادة الثانوية يحسن أمورا كثيرة كان جاليله يجهلها بالمرة، ولم يمض من عهد فرنكلين إلى إنشتين مائة وخمسون سنة كاملة، ولكم تقدم العلم في هذه الحقبة، ولكم تبدلت التصورات والأفكار، ولم يكن يعرف علم مطمورات الأرض من النبات وغيره (باليونتولوجيا)، ولا علم الجراثيم ولا الحاكي ولا الطيران ولا السكك الحديدية ولا الحل الطيفي؛ فعمر الإنسانية العلمي لا يقدر له أكثر من مائة وخمسين سنة، وهي أربعة أجيال، نرى وأنت ترى، أن هذا العمر غير طويل. ا.ه.
وقال سنيوبوس:
75
لم يأت زمن في تاريخ البشر تبدلت فيه الأسباب المادية في الحياة بسرعة تبدلها في القرن التاسع عشر في أوروبا، وهذا الانقلاب هو نتيجة الاختراعات التي قامت بالتجربة فقط، أو بتطبيق أساليب العلوم العملية، وكثير منها ينتهي إلى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، بيد أن نتائجها العملية لم يشعر بها في جمهور الشعوب في أوروبا قبل أواخر حرب الإمبراطورية الفرنسية، فتغير الحياة المادية لم يبدأ إلا بعد سنة 1814، فهو أعظم حادث عصري بل هو حادث دولي؛ لأن تلك الاختراعات أوجدتها عقول العلماء والمخترعين من جميع الأمم، فهي مشتركة بينهم بحيث يتعذر كل حين تمييز من له الحظ الأوفر من الأمم من هذه الخدمة؛ لانتقالها من أمة إلى أخرى مفيدة لها كلها على السواء. ا.ه.
وعلى هذا فليعذرنا الذين طالما أوجعوا رءوسنا، وحاولوا إذلال نفوسنا، لقصور أجدادنا في التصوير، وما القصور في الحقيقة إلا قصور الزمن، وربما كنا فقنا فيه، لو ظللنا على تعهد مدنيتنا المسكينة، ولقد ذكر سيديليو أن فني النقش والحفر كانا راقيين عند عرب الجاهلية، وقد صنعوا تصاوير البشر وتماثيل الأرباب، حتى جاء القرآن بمنعهما فوقفا عن التقدم، وجاء العباسيون فاشتغلوا بهما وتقدموا فيهما اشتغالهم بفني الموسيقى والبناء، وقال جوتيه: إن محصول المدنية العربية في العلم على اختلاف أنواعه يفوق محصول المدنية اليونانية كثيرا؛ ذلك لأن العلم العربي كانت له أصول قديمة، أما فيما يتعلق بالفنون والآداب فإن دائرة اليونان أوسع من دائرة العرب بكثير، فقد كان قدماء المصريين نقاشين مبدعين، وترك سكان بين النهرين صورا نصفية جميلة، أما خلفاؤهم فليس لهم تصاوير ولا تماثيل، ما خلا تزييناتهم الهندسية وهذا نقص غريب، فقد رأوا أمام أعينهم نحو ألف سنة النحت اليوناني والنقش والتصوير البيزنطي فتخلوا عن كل ذلك دفعة واحدة.
قال: وينبغي أن نقدر في التصوير والنحت اليوناني والبيزنطي أن تمثيل الصورة البشرية كانت تمثيل الصورة الإلهية، سواء كانت صورة المسيح أو أبولون أو غيرها من تماثيل الوثنيين، ولا يفوتنا ذكر من قاموا بإنكار تكريم الصور البيزنطية، وأن فكرة المولى لم تنشأ في مصر ولا في كلدة بل نشأت في اليهودية، ثم غرست في الإسلام أي غرس، وما فكر اليهود قط أن يصوروا يهوه، ولم يجوز المسلمون أيضا تصوير الله، وصور النصارى المولى فقط، ومثلوه في لحية بيضاء وأجلسوه في السحاب، والمظنون أن الهندسة العربية البديعة كانت غريبة عن الماضي لا صلة بينها وبين القبور والمعابد المصرية، ولا بين قصور الأخمانيين، ولا مع الهندسة البيزنطية التي نشأت منها بل هي إبداع جديد. ا.ه.
هذا، وقد ثبت أن الرسول
76
أقر نقود العرب في الجاهلية، وكانت ترد من الممالك الأخرى وهي مصورة، وضرب عمر الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها، وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلد سيفا، واستعمل زيد بن خالد الصحابي الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله، وكانت تأتيهم من اليمن ثياب وستور وحجال فيها تصاوير، واستعمل يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب وخازنه الصور في داره، وصنعت الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وهما من التابعين، فلم يحرم الإسلام إذا صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال، ويحتاج إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وكان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر والحيوان في المصنوعات، وقد أبقت الأيام في دور الكتب والآثار كتبا كثيرة مصورة من عهد العباسيين وبعدهم، ويقول محمد عبده: «ويغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.» وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية، ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل، ومع هذا لم يخلف العرب في النقش ولا في التصوير آثارا خارقة للعادة. ا.ه.
صفحه نامشخص