قال: ولا يكون محادثة إلا ومعها ما لا يحصى عدده من النظر، إلا أن يكون عني بالنظرة المحرمة النظر إلى الشعر والمجاسد
44
وما تخفيه الجلابيب مما يحل للزوج والولي ويحرم على غيرهما، ثم لم يزل للملوك والأشراف إماء يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين ونساء يجلسن للناس ، وذكر أسماء كثيرات منهن، وقال: كن يبرزن للناس أحسن ما كن وأشبه ما يتزين به، فما أنكر ذلك منكر ولا عابه عائب.
لا جرم أن عادة الحجاب قد نفعت وأضرت في بعض الأقطار في العهد الأخير لخروج الحجاب عن حقيقته؛ فارتكبت باسمه موبقات مؤلمة وأخر سير المرأة في مضمار الترقي فضاعت الحكمة منه أو كادت، وقد عالج هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة بعض علماء الأمة في أوائل هذا القرن وفي مقدمتهم قاسم أمين فأخذته الألسن، ولغطت بما كتب وتعاورت الأقلام ما كتبه بالجرح والتعديل، ونجح الفريق الذي قال بقوله إلى حد لم يكن يتصوره؛ وذلك لإثبات قضيته بالحجج المستعارة من الشرع وتاريخ الملة، على أن تيار القائلين بكشف الحجاب قد فاض بفعل المدنية الحديثة، بل بفعل الطبيعة التي لا تبقي إلا على الأنسب، وقد أزال الأتراك حجاب نسائهم بقانون سنوه وعملوا به، وكاد الحجاب عن المصريات يزول، بدون أن تعمد مصر إلى تشريع جديد، أو تلجأ إلى الشدة والضغط، ونشأ ذلك من اختلاط الشرق بالغرب، وأهل مصر من أكثر الأقطار الإسلامية اختلاطا بأهل الغرب، وقد رأى المستنيرون منهم بقبس الحضارة الحديثة، أن مضار السفور أقل من مضار الحجاب، فاختاروا طوعا أو كرها أخف الشرين، وهكذا تعمل بلاد إيران اليوم فيغضي القائمون بالأمر فيها عن السافرات في المدن ولا يمضي زمن طويل حتى يزول الحجاب أو يدخله تعديل كثير في معظم البلاد الإسلامية، فيصبح النساء في تحجبهن إلى حالة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط.
وقد رأى قاسم أمين نفسه، وحقا ما رأى، أن الغربيين
45
قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء، وقد تغالينا نحن في طلب التحجب والتحرج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيرنا المرأة أداة من الأدوات أو متاعا من المقتنيات، وحرمناها كل المزايا العقلية والأدبية التي أعدت لها بمقتضى الفطرة الإنسانية، وبين هذين الطرفين حجاب وسط وهو الحجاب الشرعي. ا.ه.
قال هملتن من علماء الإنجليز: «إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية بوقايتها من كل ما يؤذيها ويشين سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض الكتاب، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة.»
وبعد، فليس من المعقول ما وصلت إليه أكثر نساء الغرب من التبذل في السفور، وحالتهن في المجتمعات والسمر والشوارع مما لا ينطبق كثيرا على المعقول ويخشى منه الفتنة، والرجل رجل مهما تهذب، والمرأة امرأة مهما ارتقت، بيد أن عادة ألفها الغرب قرونا وأدخلها في مجتمعه مختارا، ليس للشرق الإسلامي ما يوجب عليه السير فيها على أثره، فما يلائم الغرب قد لا يلائم الشرق، وما كان لأمة أن تتحدى أمة أخرى لها مميزاتها وعاداتها، لتحملها على قبول ما اصطلحت هي عليه، والحجاب نفسه قد كان مألوفا في الغرب إلى القرن الثالث عشر، ثم أخذ يرق حتى وصل إلى ما وصل إليه.
وما نخال عقلاء الغرب وعلماء الأخلاق في أوروبا وأميركا إلا مقبحين عادة التبذل التي صار إليها بعض النساء عندهم، لما ينبعث عنها من المفاسد الاجتماعية التي لا يسع مكابرا إنكارها، وأي عقل سليم تجرد من المؤثرات يقول مثلا بالرقص الغربي، وما يتبعه من مخاصرة وضم وشم، وإذا كان الرقص فنا من الفنون كما يقولون، ليس فيه ما يدعو إلى مواقف التهم، فلم لا يرقص الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة، على حين جعلوا من أمهات قواعده أن يرقص الرجل مع المرأة إلا ما ندر، ولولا ابتذال الحجاب والتفلت من التصون المحمود، هل كانت تبلغ الفتنة إلى هذا الحد؟ ومن أجل هذا رأينا بعض المدن الأوربية ثابت إلى رشدها فكبحت بعض الشيء من جماح الجامحات في هوى السفور، ومن الأمم من كثر فيها مذهب العري، وتناغى في فائدته الجنسان على صورة لا يجوزها عقل إنسان؛ لأنها تقرب الآدميين من جنس الأعجم من الحيوان.
صفحه نامشخص