هذه آراء بعض كبار العلماء من الغربيين في الحضارة العربية، وتلك سخافات متعصبي الشعوبية، ونحن أميل إلى حسن الظن ببعض المؤلفين من الإفرنج، وقد نلتمس لهم أعذارا في بعض أحكامهم على حضارتنا وحكمهم الظالم عليها، بمظاهر قليلة رأوها في بعض الشعوب الإسلامية، رأوهم متدنين في المدنية عن مستوى أرباب المدنيات الكبرى لعهدنا، فحكموا على الإسلام في أوله، والإسلام في آخره، والإسلام في الشرق، والإسلام في الغرب، حكما واحدا، ومعلوم أن الإسلام في أواسط إفريقية غيره في شمالها، وفي أكثر أصقاع أوروبا وآسيا، والإسلام في قرونه الأولى غيره في القرون الوسطى والقرون الحديثة، والإسلام في الحكومات العربية غيره في الحكومات الأعجمية، وأن الإسلام تختلف مظاهره من عنصر إلى عنصر ومن قطر إلى قطر، فإن بدا اليوم ضعف قد لا يحتمل في بعض منتحليه، فليس السبب فيه أنهم انتحلوا الإسلام، بل الذنب ذنب العنصر والبيئة، وقانون الرجعة والعوامل الاجتماعية العظيمة الطارئة على من دانوا به، وعلى هذا يكون المشاهد من النصرانية، فإنها في عهد الباباوات غيرها في عهد الإصلاح الديني، ورأيناها في أولها على غير ما ظهرت به في العصور الأخيرة ، ورأيناها في شرقي أوروبا غيرها في غربها، وفي شمالها غيرها في جنوبها، وفي أميركا الشمالية غيرها في أميركا الجنوبية؛ ذلك لأن كل ما في العالم عرضة للنشوء والارتقاء تفعل فيه الأرجاء والأجواء.
وبعد، فإذا كان ما صارت إليه بعض الشعوب الإسلامية من الانحطاط في القرون الأخيرة مما دعا بعض علماء الاجتماع من الغربيين إلى أن يسيئوا ظنهم بدين القوم ومدنيتهم وتاريخهم، فإن للانحطاط أسبابا وعوامل معروفة سنعرض لها في الفصول المقبلة، ومسائل الدين والمدنية محررة مدونة يمكن الناظر المنصف أن يضعها كل ساعة تحت منظار النقد وفي بوتقة الحل، وإنما الذي يؤلم أن بعض أولئك الباحثين قد يحترمون مدنية وثنية ويبالغون في عظمتها؛ لأنها قامت بأرضهم وعلى أيدي بعض أجدادهم بزعمهم، ثم بارت واضمحلت بعوالم كثيرة، وظل المتشبعون بحب الأجداد يتناغون بها، كأن الوثنية أنفع من التوحيد، وكأن عبادة الأصنام تبعث على الارتقاء أكثر من عبادة إله واحد، وكأن من أهانوا الإنسان أحسن ممن كرموه، وكأن من حسنوا الأخلاق أوقع أثرا ممن عبثوا بها بما لا يقبل به عقل سليم.
شق على بعض الشعوبية أن تنسب مزية للعرب، فسلبوهم كل فضائلهم المحسوسة الثابتة في الإسلام والجاهلية، وشق على آخرين وهم معترفون ضمنا بفضل العرب، أن يقوم العرب بقسطهم من خدمة الحضارة، ومنهم شارل ريشه، وهو من العلماء لكنه لم يتمحض لدراسة تاريخ العرب
12
فقال: «ثم ما لبثت ليالي القرون الوسطى الداجية أن غطت كل شيء بظلامها المشؤم، فاضطر العلم المسكين أن يلجأ إلى العرب.» واضطرار العلم إلى الالتجاء إلى العرب الذي قد يفهم منه الاستخفاف بهم، لا يفيد في معرض تقرير الحقائق، ما دام ما عمله العرب لم يبرح الدهر ماثلا للعيان كالشمس في رائعة النهار، وبعد أن درست مؤلفات ابن سينا والرازي في مدارس أوروبا قرونا، ولم يبطل تدريس قانون ابن سينا من جامعات الغرب إلا في القرن الثامن عشر، أي غضاضة على العلم إذا لجأ إلى حمى العرب، فآووه وأكرموا وفادته، وانتفعوا بفوائده ونفعوا به غيرهم.
ثم كيف يلام العربي في نقل هذه الحضارة وأوروبا قد قضت قرونا، كما قال توفنر، حتى بلغت الغاية التي وصل إليها مسلمو إسبانيا في قرن واحد. وإن
13
إسبانيا نفسها ما لبثت أن أدركت أن هؤلاء البرابرة كانوا أرقى في العلم من كثير من شعوب أوروبا النصرانية، وقد تمتعت إسبانيا على عهد المسلمين بنجاح لم تصل إليه بعد ذلك، واقتضى طوعا أو كرها أن يعترف الغربيون أن العرب يعرفون صناعات السلم كما يعرفون صناعة الحرب.
هذا، وإن دعوى من يدعي من الشعوبيين الغربيين أن الإسلام مانع من الترقي ما دانت به أمة إلا انحطت، مردود بشواهد التاريخ الصادق، وها هي أوروبا بقيت
14 «ملفوفة في حنادس الهمجية من بعد ما تنصرت بألف سنة، وبلغ من جهلها وانحطاطها أن مائة عربي افتتحوا قسما من إيطاليا وقسما من سويسرا في أوائل القرن العاشر،
صفحه نامشخص