وأجمع المسلمون في مصر والشام والعراق والجزيرة (ديار بكر وديار ربيعة) وما وراءها أنهم إذا لم يشد بعضهم أزر بعض يضمحل الإسلام، ويزول سلطانه في الأنام؛ لأن من ملوك الصليبيين من كانوا يحاولون فتح الحجاز، وهو أرنولد صاحب الكرك، فأنشأ لذلك أسطولا في بحر القلزم (الأحمر) على أيلة مما يلي الشام، وسار في البحر فرقتان: فرقة أقامت على حصن أيلة تحصره ، وأخرى سارت نحو عيذاب تفني المسلمين في تلك الأرجاء، وأهان صاحب الكرك الرسول مرة بكلام روي عنه، فحلف صلاح الدين أن يقتله بيده إذا ظفر به، فتمت لصلاح الدين أمنيته في وقعة حطين، لما أخذه أسيرا مع غيره من أمرائهم وملوكهم، فأبقى عليهم كلهم وضرب عنق هذا بسيفه. وكانت وقعة حطين، وبعدها فتح الساحل والقدس، أول وقعة فاصلة بين العدوين المتقاتلين، ظهر فيها جيش الإسلام بمظهر من مظاهره العظيمة في الفتوح العربية الأولى.
ويلات الحروب الصليبية ومعالجة المسلمين ما كان لهم من نقص
ويعد في باب الخسائر أن من مدن الساحل الشامي ما خرب برمته؛ خربه أحد الفريقين عمدا لمقصد حربي، وخرب المسلمون كثيرا من الحصون والأسوار، مخافة أن تقع ثانية في أيدي العدو ويتحصن بها، فتطول مدة الحرب ويهلك الناس على غير طائل، وكانت أكثر أيام الحرب في ضيق شديد من العيش؛ لارتفاع أسعار الحاجيات خمسة أو ستة أضعاف، فظهر البؤس في البلاد لانقطاع الناس عن استثمار زراعتها كما كانت من قبل؛ ولأن غلاتها لا تكاد تسد حاجة جيوش المسلمين الجرارة، ولأن من الأرضين الصالحة للزراعة ما تعطل بحكم الطبيعة، فكانت حمى يحجز بين المتقاتلين، وربما ابتعد الزراع عن هذا الحمى فراسخ وأميالا؛ لأن العدو يتقدم ويتأخر في أرض عدوه تبعا للأحوال العسكرية، وهلك عشرات الألوف من المسلمين فأحدث فقدهم نقصا في الصفوف، وقلة في اليد العاملة، أما الغربيون فكانوا يقاتلون، فإذا نقص عددهم أتتهم النجدات من أوروبا، وجملة حملاتهم الكبيرة سبع حملات، منها ما جاوز عدده النصف المليون، وقلت في بعض الأحايين نجدات المسلمين، وعددها أقل من عدد نجدات الصليبيين.
قدر المسلمون قوة أعدائهم حق قدرها، وعرفوا كثرة سوادهم في بلادهم، واعترفوا لهم بالشجاعة، وإن عدوا أحيانا شجاعتهم خرقاء، بالقياس إلى من يقدرون المسائل بقدرها، لا يجبنون عند اللقاء، ولا يغامرون حين لا تنفع المغامرة، وكان التهور يبدو في صفوف الصليبيين، فيكثر قتلاهم على غير طائل. ومن النقص في المسلمين أنهم قلت معرفتهم بالغربيين، وقلما عنوا باستطلاع طلع أحوالهم، ولو كانوا على اتصال بهم بادئ بدء، ملمين بأحوال الغرب حق الإلمام، ربما استطاعوا أن يثنوا عزم الغربيين عن إشهار هذه الحرب الزبون، فيعقدون معهم معاهدات ومحالفات ويمنحونهم امتيازات ومسامحات، ويزيلون أسباب الشكوى. وأيقن المسلمون أن الصليبيين كانوا أشد منهم عناية بأخذ أخبار بلاد الإسلام في أوقاتها؛ ولذلك كتب لهم النصر أحيانا، وما لبث المسلمون أن أتقنوا أيضا فن استقاء الأخبار، بحيث لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة من أحوال أعدائهم، «وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم ومن بعدهم من الملوك أنهم لم يخلوا جانبا من صاحب خبر وبريد، فلم تخف عندهم أخبار الأقاصي والأداني.» واحتال الصليبيون لاستمالة جيرانهم من المسلمين، فما عدوهم إلا غاصبي أرضهم، دخلاء على الملك الإسلامي، لا يهدأ لهم بال إلا إذا طردوا آخر صليبي عن وطنهم.
استعمل أمراء المسلمين أنواع الخدع الحربية مع أعدائهم، فتوصلوا بدهائهم إلى أن يرشي صاحب دمشق جماعة الصليبيين في القدس بمائتين وخمسين ألف دينار، وأرسلها زيوفا طليت بالذهب كما قيل، وكان أمراء المسلمين في هذه الديار يعترفون لخلفاء العباسيين بالخلافة، ويستخدمون نفوذهم المعنوي في تقوية أمرهم وسوق الناس إلى الحرب، ولكن كان نفوذ بني العباس إلى ضعف، وتقل الماديات التي تصل إلى الجيش الإسلامي من طريقهم وبواسطتهم.
سياسة المسلمين مع ملوك الصليبيين
لقي أمراء المسلمين عجبا من شطط ملوك الصليبيين أيام انتصارهم وأيام انكسارهم، وما عاملوهم إلا بالسياسة الرشيدة، وحاسنوهم ما ساعدتهم الحال بما لا ينتظر أكثر منه من خصم شريف، هكذا كان طغتكين ثم نور الدين ثم صلاح الدين في الحملات الأولى، أما في الحملات الأخيرة فقلب أمراء المسلمين للصليبيين ظهر المجن؛ لإيقانهم أن لين الجانب ما نجع فيهم، ثم عرفوا أن الحال تبدلت في الغرب ففترت حماسة المتحمسين لنجدة الصليبيين في الشرق، فكان من الحزم في ملوك الإسلام أن يستأصلوا الفرنج من أرضهم.
كان نور الدين رجل الإسلام العظيم أسس ملكا ضخما ما كلفه فتحه مالا ولا رجالا، فلما توطد أمره أكثر من الغارات على حصون الصليبيين ففتح أكثرها بقوة نفسه وشدة إخلاصه وإجماع الناس على محبته، فتح أكثر من خمسين حصنا وبلدا، وكان إذا كسر الصليبيين لا يشتط في الطلب، ولا يتسامح كل التسامح بحقوق أمته، يسير بحسب الحال سير رجل عملي، كسر الصليبيين على حارم وكانت عدتهم ثلاثين ألفا من الروم والأرمن والفرنج،
11
ووقع بيمند أحد ملوكهم أسيرا في قبضته فباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد، وافتدى أحد ملوكهم نفسه أيضا بمال جسيم فأخذه وبنى به مستشفى عظيما، واشترط عليه أن لا يحارب المسلمين سنين عينها، فما إن وصل الصليبي إلى أهله حتى قضى نحبه، وكان أمراء الدولة لا يرون إطلاقه بحال لإيقانهم بأنه ينكث عهده.
صفحه نامشخص