حد ذلك بينوه لنقف عليه؟
قلنا: أحوال الناس تختلف في ذلك: فمنهم من يكفيه الشيء اليسير، ومنهم من يحتاج الى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره حتى يزيد بعضهم على بعض الى أن يبلغ الى حد لا يجوز له الاقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته. وليس يمكن حصر ذلك لشيء لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه.
فان قيل: فعلى كل حال بينوا لذلك مثالا على وجه التقريب.
قلنا: أما على وجه التقريب فانا نقول: من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجودا ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظما ثم جنينا في بطن أمه ميتا ثم صار حيا فبقي مدة ثم ولد صغيرا فتتقلب به الأحوال من صغر الى كبر ومن طفولة الى رجولة ومن عدم عقل الى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة والى الهرم ثم الموت، وغير ذلك من أحواله، علم أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك.
فعلم بذلك أنه لا بد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له، لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه. ويعلم أنه لا بد أن يكون عالما من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والاتساق، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم، وبهذا القدر يكون عالما بالله تعالى على الجملة.
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد الى منتهاه، فمنه ما يصير شجرا عظيما يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ، ومنه ما يصير زرعا يخرج منه أنواع الأقوات، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح، ومنه ما يكون خشبة في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك،
صفحه ۱۶