بادئ ذي بدء، ما معنى أن يكون الشيء «سياسيا»؟ إن أي علاقة مشربة بالسلطة يمكن التفكير فيها بوصفها تعني ضمنيا نوعا من السياسة؛ فالسياسة تتمحور حول كل الأنشطة والأحداث الاجتماعية المحيطة بالعلاقات الاجتماعية التي تتسم بالهيمنة، أو التبعية، أو التجريح، أو المقاومة، أو التعاون، أو التضامن، أو الوفاق، أو التفاوض. وينطبق هذا على علاقات النوع، أو علاقات العرق، أو العلاقات بين الشباب والسلطات، أو العلاقات في محيط العمل، بقدر ما ينطبق على العلاقات بين الحكومات أو بين الجهات الفاعلة الحكومية والجهات الفاعلة غير الحكومية. ووفقا لهذا، فإن أي تعبير للإقليمية (مثل فرض شبكات إقليمية على الشعوب الأصلية، وإخراج الأطفال من الفصول، وعزل اللاجئين في المعسكرات، وإجلاء واضعي اليد عن الأبنية، واستبعاد النساء من الأندية الاجتماعية) سيكون له بعد سياسي. وعلى نحو تبادلي، سوف يشير العديد من أشكال الحراك السياسي (سياسة الهوية، وسياسة الحركات الاجتماعية، وسياسة النوع، والسياسة البيئية) ضمنيا إلى الإقليم بطرق معقدة. ولما كانت السلطة تتخلل العلاقات الاجتماعية، وجب أن تكون السياسة كذلك. وجزء من الفكرة وراء تحليل الخطاب هو كشف النتائج السياسية المترتبة فرضا على أحداث غير سياسية، والكشف عن كل من الأيديولوجيات التسويغية والأيديولوجيات المضادة التي يصبح لعناصر العالم من خلالها معنى ومغزى. وبالرغم من كل مزاياها الكبيرة، فإن كتاب «الإقليمية البشرية» يتبنى موقف أولئك الذين يفرضون إرادتهم على الآخرين (يتحكمون فيهم). فلا يوجد سوى اهتمام محدود للغاية بما يبدو عليه الأمر حين تكون الطرف المتلقي لمحاولات السيطرة، أو كيفية تأثير ديناميكيات المقاومة أو المراوغة على عمليات الأقلمة. وعموما، يرى ساك أن الطرف المتحكم فيه إما أن يخضع وإما أن يعاقب؛ وهذا يعطي إدراكا ملتويا للغاية للطبيعة الفعلية للإقليمية في العالم؛ ولذلك فهو يعطي إدراكا ملتويا لكيفية خلق وتنقيح العوالم الاجتماعية والحفاظ عليها عبر الإقليمية.
على نحو متصل، يسقط من النماذج والأمثلة التوضيحية العديدة الواردة في كتاب «الإقليمية البشرية» أي اعتراف بالدور الذي يلعبه العنف في الممارسات الإقليمية؛ فقد «تفرض» أوامر وتعليمات المسيطرين بالقوة، وقد «يعاقب» المنتهكون لهذه التعليمات، ولكن هاتين الكلمتين تميلان إلى تجميل التشكيلات الإقليمية محل النقاش. وهكذا لا تبين التحولات في العمل في أقاليم التشيبيوا الواردة في الفصل الأول من كتاب «الإقليمية البشرية» أي أثر للعنف والمعاناة اللذين جلبتهما. بالمثل، وصفت نتائج التحولات على ظهور الرأسمالية واستمرارها على هذا النحو: «من بين الوسائل التي يسيطر بها رأس المال التجاري «تجريد» الفلاحين من الأرض حتى يتمكنوا من دخول السوق، مع ضمان عدم امتلاكهم خيار العودة إلى معيشة الكفاف أو المعيشة التقليدية حال فشل التجارة» (ص79). كيف تسنى لهم هذا «الضمان»؟ كيف استجاب الفلاحون «لتجريدهم» من خيار إطعام أنفسهم؟ الكثير من مظاهر الإقليمية، وربما معظمها، تولد من الاستخدام المباشر للعنف، ولكن الكثير منها، وربما معظمها، يجلب على الأقل التهديد الضمني إذا لم يتح ل «المسيطرين» تحقيق ما يرغبونه. والسيادة والملكية الخاصة - الأعمدة التأسيسية لجزء كبير من الإقليمية الحديثة - في حد ذاتهما جزءان ثابتان في لعبة العنف والخوف؛ لذا يعد كتاب «الإقليمية البشرية» وصفا لا دمويا نوعا ما لما يعد في الغالب جانبا فوضويا للغاية يتسم بالتقلب العاطفي من التنظيم الاجتماعي المكاني البشري. ولو كان ساك قد نظر بمزيد من الاهتمام إلى الجانب الآخر من العلاقات الإقليمية، لربما حدد ميولا وتوافقات أخرى مهمة. (3-5) طرق أخرى للنظر عبر الإقليم
إن الهدف هنا ببساطة هو إعادة فحص حدود أو تخوم كتاب «الإقليمية البشرية» من أجل الكشف عن بعض مما استبعد أو همش من هذا المنظور. وفي سبيل هذا الهدف قد يكون من المفيد عقد مقارنة سريعة بين كتاب ساك وكتاب ديفيد سيبلي «جغرافيات الإبعاد» (1995). إن كتاب سيبلي ليس رحلة نظرية عبر مجال الإقليمية في حد ذاته، وأيضا لا يتطلع سيبلي إلى بلوغ المجال التاريخي الواسع الذي بلغه ساك. وبينما تم تأليف الكتاب من منظور «ما بعد التخصصي» (ص
xv )، فإنه يعد في الأساس جغرافيا اجتماعية مدعومة بالتحليل النفسي وإثنوجرافيا للأشخاص العاديين؛ فالاهتمام الأساسي بالنسبة إلى سيبلي يتعلق بالجوانب المكانية للعلاقات الشخصية لكونها منظمة لأساليب الخطاب المتعلقة بالاختلاف. ومما يمثل أهمية خاصة لسيبلي أساليب الخطاب المرتبطة بالعرق، والنوع، والسن، والأدوار التي تلعبها في «الإنتاج الخطابي للغرباء» (ص
xv ). ولعل السمة الأهم لما أطلقنا عليه الإقليمية، بالنسبة إلى سيبلي، هي الكيفية التي تعمل بها في العمليات الاجتماعية للتهميش والاضطهاد. وهو يعرف «السيطرة الاجتماعية» بمصطلحات مشابهة لمصطلحات ساك: «إن السيطرة الاجتماعية هي التنظيم المدبر لسلوك الأفراد والجماعات من قبل أفراد وجماعات أخرى في مواقع حاكمة» (ص81). ولكن، على عكس ساك - ومعظم المنظرين الآخرين - يبدأ سيبلي بالجوانب التجريبية للإقليم؛ فيكتب قائلا: «أود أن أبدأ بدراسة مشاعر الأشخاص تجاه الآخرين؛ نظرا لأهمية المشاعر في تأثيرها على التفاعل الاجتماعي، خاصة في مواقف العنصرية والأشكال الأخرى للاضطهاد» (ص3). كذلك تتميز أسئلته الإرشادية بالاختلاف على نحو مدهش؛ فيتساءل: «إلى من تنتمي الأماكن؟ من هم المستبعدون منها؟ وكيف يبقى على أنواع الحظر هذه عمليا؟ بعيدا عن دراسة النظم القانونية وممارسات وكالات السيطرة الاجتماعية، تتطلب تفسيرات الإبعاد وصفا للحواجز والمحظورات والقيود على الأنشطة من وجهة نظر المبعد (ص
x ). ومما يحظى باهتمام خاص فهم «الكيفية التي تتجلى بها عمليات السيطرة في إبعاد أولئك الناس الذين يحكم عليهم بأنهم منحرفون، أو فاسدون، أو على الهامش، وعمليات إقامة الحدود من قبل جماعات في المجتمع يعتبر أفرادها أنفسهم عاديين أو تقليديين» (ص
xv ). ومن بين هذه العمليات تلك المتضمنة في فهم مصطلحي «اعتراض» و«تطهير»؛ فالاعتراض هو «المفتاح لفهم الإبعاد» (ص11). «إن الإصرار على إجراء عمليات فصل ، بين الطاهر والدنس، المنظم وغير المنظم، «نحن» و«هم»، أي طرد الوضيعين؛ يتم تشجيعه في الثقافات الغربية؛ مما يخلق مشاعر قلق نظرا لأن مثل هذه الانفصالات لا يمكن تحقيقها على نحو مكتمل إطلاقا» (ص8). و«الفصل هو جزء من عملية التطهير - إنه الوسيلة التي يتم من خلالها تجنب التدنيس أو التلويث - ولكن الفصل يفترض سابقا تصنيفا للأشياء ما بين نقية ونجسة» (ص37).
إن قراءة سيبلي للإقليمية في المنزل الحديث تتعارض تعارضا صارخا مع قراءة ساك؛ فبالرغم من اعترافه بأن «المنزل كملجأ» يعد موضوعا أكثر شيوعا بكثير في العلوم الاجتماعية من «المنزل كمصدر للصراع»» (ص92)، فإنه مع ذلك يركز الانتباه على آليات الإقليم، والسلطة، والخبرة داخل بعض البيوت على الأقل. و«حيثما لا تعد الرغبة في بيئة نقية مشتركة بين جميع أفراد عائلة ما، يكون المنزل مكانا للصراع» (ص91)؛ «ففي المجال المنزلي، سوف يعنى الأفراد المهيمنون بالحفاظ على الحدود المكانية، مثل إبعاد الأطفال عن المساحات الخاصة بالكبار، وبالتنظيم الزمني لأنشطة الأطفال؛ فالحفاظ على السيطرة يعني الحفاظ على حدود واضحة بعيدة عن أي غموض.» (ص96). وبربط هذه الأقاليم بقوى اجتماعية أوسع، يعتقد سيبلي أن:
الإبعاد المستمر والفرض الصارم للحدود أو التدخل المتواصل في حياة الأطفال ومساحاتهم المعيشية؛ قد يسهم في حدوث مشكلات سلوكية لدى الأطفال والمراهقين؛ فالمنزل المعد كحيز عالي التنظيم وخال من التلوث، من قبل متعهدي توريد لوازم ومفروشات المنازل، لا يوفر بيئة عطوفة وودية للأطفال. وتتفاقم الميول الإبعادية بفعل التمثيلات التجارية للمنازل المثالية التي تمنح الأطفال وجودا باعثا على التلوث. (ص98)
إن رؤية سيبلي الأكثر قتامة على نحو ملحوظ للعمليات المحتملة للإقليمية في المنزل الحديث نابعة من تعاطفه الوجداني مع المبعدين، والمهمشين، والمدنسين. والإقليم، وعوالمنا الحياتية المفرطة في الأقلمة، تبدو مختلفة من هذا المنظور. والواقع أن وجهة النظر هذه في حد ذاتها عادة ما تستبعد من الاستكشافات الخاصة بالإقليمية؛ غير أن الفكرة ليست في كون رؤية سيبلي صحيحة أو أن رؤية ساك تقف في حاجة إلى التصحيح؛ فكلتاهما منقوصة بالأساس. إن قيمة كتاب «جغرافيات الإبعاد» تكمن في تحديد بعض من حدود كتاب «الإقليمية البشرية». وقراءة «الإقليمية البشرية» في ضوء «جغرافيات الإبعاد»، تكشف «ميولا» أخرى بالإضافة إلى تلك التي عددها ساك. ومثل هذه القراءة أيضا من شأنها تعقيد الالتزام بالعقلانية الذي يشكل جزءا كبيرا من «الإقليمية البشرية»، بل أيضا العناصر الأمامية للباثولوجيا الاجتماعية التي تملأ التشكيلات الإقليمية الحديثة على نحو مميز على جميع المستويات.
صفحه نامشخص