ثمة فكرة مفيدة على نحو خاص وظفها الكثير من الجغرافيين النقديين، ولها تداعيات مهمة على فهم آليات عمل الإقليمية، وهي فكرة «إنتاج الحيز». صيغ هذا المفهوم في البداية على يد الفيلسوف الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر. تبدأ الفكرة بفرضية مفادها أن الحيز الاجتماعي - بما في ذلك التشكيلات الإقليمية دون الاقتصار عليها - هو «منتج «اجتماعي»؛ ومن ثم يعمل الحيز الناتج أيضا كأداة للتفكير والفعل ... وهو أيضا وسيلة للرقابة، ومن ثم الهيمنة والسلطة؛ غير أنه لا يلحظ جزئيا من جانب أولئك الذين يستفيدون منه» (1991، 26). وقد وجد العديد من الباحثين أن تمييز لوفيفر بين «تمثيلات الحيز» و«التمثيلات المكانية» مفيد على نحو خاص؛ فتشير «تمثيلات الحيز» إلى «حيز متصور، حيز العلماء، والمخططين، ومخططي المدن الحضرية، والتكنوقراط، والمهندسين الاجتماعيين» (ص38)، بينما تدل «المساحات التمثيلية» على «الحيز مثلما يعاش مباشرة من خلال الصور الذهنية والرموز المرتبطة به، ومن ثم يشير إلى حيز السكان» (ص39). قد يرصد هذا الاختلاف الفرق بين كيفية تخيل الإقليم وتمثيله من قبل ممارسي العلاقات الدولية التقليدية، والسياسة الجغرافية، وإدارة الدولة، والزراعة الجماعية أو تفكيك الزراعة الجماعية، والتخطيط، ومن قبل المحامين والقضاة العقاريين من جانب؛ وبين الكيفية التي يختبر بها من قبل المهاجرين، أو اللاجئين، أو جنود الاحتلال، أو المستأجرين على الجانب الآخر. من الممكن الدفع بأن العديد من وجهات النظر بشأن الإقليم التي استعرضناها في الجزء الأول من هذا الفصل يعطي مثالا على «تمثيلات الحيز» اللوفيفرية؛ فقد تفهم آليات الإقليم جزئيا بالإشارة إلى التوترات أو التناقضات بين هذه النزعات المتباينة (والمتعارضة) نحو الحيز والممارسات التي تشترطها هذه التناقضات. ومع إشارة خاصة إلى عمليات الأقلمة للدولة السيادية ونظام الملكية الحرة، يوجه لوفيفر انتباهنا إلى التناقض «بين مظهر الأمن والتهديد المتواصل، وبالطبع الاندلاع العارض للعنف» (ص53).
يقدم كتاب «إنتاج الحيز» موارد لا حصر لها لإعادة تصور الإقليمية، وفيما يتعلق بأهداف هذه «المقدمة القصيرة»، سوف أركز فقط على انهيار الاختلاف الوجودي بين الإقليم (أو «الحيز» على نحو أعم) و«المجتمع»، وظهور مفاهيم أكثر «جوهرية» مثل «المكانيات»، أو «المكاني-الاجتماعي»، التي تنقل جزءا كبيرا من الجغرافيا النقدية المعاصرة؛ فقد أسهم إدوارد سوجا، على سبيل المثال، معتمدا على عمل لوفيفر ومفسرا له، في تفكيك الاختلاف الموروث بين «المجتمع» و«الحيز»؛ فكتب يقول: «أن تحيا هو أن تشارك في الإنتاج الاجتماعي للحيز، أن تشكل وتتشكل بمكانية دائمة التطور وتضفي طابعا ماديا على الحراك والعلاقة الاجتماعيين» (1985، 90). ويؤكد على أن «الحياة الاجتماعية مكون للحيز وعارض للحيز» (ص94). وقد قام سوجا بتطوير وتوسيع نطاق بعض من هذه الأفكار في كتابه المؤثر للغاية «جغرافيات ما بعد الحداثة» (1989). الفكرة بالنسبة إلينا هي أنه في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدأ الإقليم يدرك ليس كشبكة غير فاعلة من الخطوط والمساحات التي تميز ببساطة الحاويات المتعددة لما هو اجتماعي، بل كشيء مقحم على نحو لا يقبل الانفصال تقريبا في جميع جوانب الحراك الاجتماعي، والوجود، والوعي، والخبرة الإنسانية بطريقة ما أو بأخرى.
ثمة تطور آخر مهم في الفكر الاجتماعي فرض إعادة التفكير في البنائية المتبادلة ل «المكاني» و«الاجتماعي»؛ إنه تطوير وتوسيع انتشار الأساليب النسوية للتحليل والنقد المكاني-الاجتماعي؛ فالجغرافيون النسويون، والنسويون في مجالات أخرى من المهتمين بالعلاقة بين الحيز والسلطة والخبرة، لا يميلون لتقديم العلاقات كفكرة أو موضوع في إطار الإقليم في حد ذاته، مفضلين بدلا من ذلك الكتابة عن الحيز والمكان. غير أنني أشير إلى أن أساليب الفهم النسوية للحيز والسلطة ضرورية من أجل رؤية أوضح لكيفية ممارسة ومعايشة الإقليم (آيكين وآخرون 1998؛ ماكدويل وشارب 1997).
يتعقب كتاب «وضع المرأة» (2001) تأليف دوموش وسيجر ، على سبيل المثال، العلاقة بين النوع، والجنسانية، والسلطة الأبوية، والتحييز التاريخي للحياة الاجتماعية على مستويات متعددة من الخبرة والخيال. ويركز الكثير من أهم جوانب تحليلهما على ما يطلق عليه الآخرون عمليات أقلمة: الفصل القائم على النوع بين «العمل» و«المنزل»، والتحييز المنقسم ل «العام» و«الخاص»، وتقسيم العمل القائم على النوع. ويتناولان أيضا أقلمة الحيز الحضري، بقيوده واستثناءاته التي تميزه، والدور التأسيسي لأيديولوجيات النوع (والخبرات المتباينة) في مشروعات القومية والاستعمارية والإمبريالية؛ فكل هذه الأمور تظهر التشكيلات الإقليمية المتغيرة والكثيفة التي عيشت في إطارها الحياة - حياة الرجال والنساء على حد سواء.
تعمل التحليلات النسوية لتاريخ وسياسة الحيز الاجتماعي القائم على النوع على توسيع طرق فهمنا للعلاقات المعقدة للسلطة، والأيديولوجيا، والخبرة، والأشكال المتعددة للأقلمة. ومن الإسهامات المهمة ازدياد الوعي بأن مسائل النوع والنشاط الجنسي استبعدت على نحو ممنهج من جميع المعالجات التقليدية تقريبا - وكذا من المعالجات «النقدية» الكثيرة للغاية - للإقليم. كذلك تستكشف القراءات النسوية للإقليمية كيف تتقاطع الأشكال التاريخية والمتغيرة ثقافيا من الإقليميات القائمة على النوع، مع القوى الاجتماعية الأخرى وتعمل على تكييفها، حتى عندما تتطلب منا مراجعة المفاهيم الموروثة بشأن «العمل»، أو «الجانب السياسي»، أو «المواطن». وأخيرا توفر موارد لوضع مفاهيم تتعلق بتعبيرات وممارسات الإقليم على جميع مستويات التحليل من الجسدي الداخلي (المهبلي، الرحمي) إلى العالمي. كذلك فتحت الدراسات المكانية النسوية طرقا لإعادة التفكير في هذه الصلات في سياقات أخرى للسلطة، كتلك التي تركز على التوجه الجنسي، والعرق، والإعاقة، والسن. (3-3) نظرية الثقافة
ثمة مشروع آخر متداخل الاختصاصات كان له تأثير كبير على التصور الحديث للإقليم؛ إنه نظرية الثقافة، ولمزيد من التحديد: نظرية الحدود. انبثقت نظرية الثقافة من التطورات في مجال الأنثروبولوجيا التي بدأ فيها الأنثروبولوجيون في فحص المفاهيم التقليدية للثقافة نقديا بطرق مشابهة لإعادة تقييم «السيادة» في العلاقات الدولية، و«الحيز» في الجغرافيا، و«السياسة» في النظرية النسوية. وكما هي الحال مع المشروعات الأخرى المتداخلة الاختصاصات، أدى هذا إلى إعادة تقييم للكيفية التي هيأت بها التمثيلات المسلم بها الرؤى البديهية للموضوعات الأساسية لهذه التخصصات. كذلك أثرت تفسيرات أحدث للحيز والثقافة، بشكل متبادل، على النظرية النقدية للعلاقات الدولية والجغرافيا النقدية، خاصة في المناقشات الخاصة بأهمية العولمة.
في كتابهما «ما وراء «الثقافة»: الحيز والهوية وسياسة الاختلاف» (1997أ)، ينتقد جوبتا وفيرجسون «التماثل المفترض للحيز، والمكان، والثقافة» (ص34) وجذبا الانتباه، بدلا من ذلك، إلى «عالم تصبح فيه الهويات، على نحو متزايد، خاضعة للأقلمة ولو اختلفت الكيفية، إن لم تكن غير خاضعة لها كليا» (ص37). إنه عالم يصبح فيه ««هنا» و«هناك» ضبابيين» (ص38). يحاول هذان الكاتبان الكشف عما تخفيه التمثيلات الإقليمية التقليدية للثقافة والهوية؛ ما يعني أنهما ينتقدان نسخة ثقافية من المصيدة الإقليمية. أولا: تميل الخطابات الموروثة للثقافة والهوية إلى تجاهل «أولئك الذين يقطنون الحد، ذلك «الشريط الضيق الممتد على طول أطراف منحدرة» للتخوم القومية؛ فيصير أدب الثقافات كظواهر مميزة أشبه بشيء مادي تشغل مساحات متمايزة غير منطقية بالنسبة إلى أولئك الذين يقطنون مناطق الحدود» (ص34). ثانيا: تفترض أساليب الخطاب المتعلقة بالمجالات المعرفية قدرا كبيرا من التجانس الثقافي، وتضفي غموضا على جوانب اللاتجانس «داخل» المساحات الإقليمية أو تتجاهلها؛ على سبيل المثال: «تحاول فكرة «الثقافات الفرعية» الحفاظ على فكرة «الثقافات» المتمايزة، بينما تعترف بعلاقة الثقافات المختلفة بثقافة سائدة ما داخل الحيز الجغرافي والإقليمي نفسه» (ص35)؛ وبهذا يتم احتواء وتدجين التغاير الثقافي بواسطة مفاهيم الإقليم المتركزة حول الدولة. ثالثا: من شأن هذه الطرق لتخيل الإقليم أن تجعل استقصاءات الديناميكيات الثقافية لما بعد الاستعمار صعبة. فيتساءل جوبتا وفيرجسون: إلى أي أماكن تنتمي الثقافات المهجنة لحقبة ما بعد الاستعمار؟ هل تخلق المواجهة الاستعمارية «ثقافة جديدة» في كل من الدولة المستعمرة والمستعمرة، أم أنها تزعزع فكرة أن الأمم والثقافات متماثلة؟ إن ما بعد الاستعمار يضفي نوعا من الإشكالية على العلاقة بين الحيز والثقافة» (ص35)؛ ومن ثم تجعل نظرية ما بعد الاستعمار طرق الفهم التقليدية للعلاقة أقل نفعا في إدراك الثقافة أو الإقليم السياسي. ويثير رفض فرضية التماثل بين الإقليم والثقافة مجموعة من التساؤلات والمشكلات الجديدة التي أضفي عليها نوع من الغموض بفعل العمل غير المدروس الذي يحققه الإقليم في أساليب الخطاب التقليدية؛ فيؤكدان أن «التحدي الخاص يكمن في استخدام بؤرة تركيز على الطريقة التي يتخيل بها الحيز (ولكن دون أن يكون خياليا) كوسيلة لاستكشاف الآليات التي تلبي من خلالها مثل هذه العمليات المفاهيمية المتعلقة بصنع المكان وعمليات الأقلمة الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية المتغيرة للمساحات المأهولة. ويقترحان أنه:
بدلا من الإحجام عن مفهوم اللاأقلمة، وسحق حيز الحداثة المتقدمة، نحن بحاجة إلى التنظير لكيفية «إعادة» أقلمة الحيز في العالم المعاصر. إن الموقع المادي والإقليم المادي، اللذين ظلا لفترة طويلة للغاية الشبكة «الوحيدة» التي يمكن تخطيط الاختلافات الثقافية بناء عليها، بحاجة لأن يستعاض عنهما بالمصفوفات المتعددة التي تمكننا من إدراك أن الصلات والتجاور يتنوعان تنوعا كبيرا بحسب عوامل عدة، منها الطبقة الاجتماعية، والنوع، والعرق، والجنسانية، ومتاحان على نحو مختلف لأولئك القابعين في مواقع مختلفة في مجال السلطة. (1997أ، 50)
إحدى المحاولات المؤثرة للغاية الرامية إلى توفير مثل هذه «الشبكة المتعددة» نجدها في عمل آرجون أبادوراي عن العولمة الثقافية؛ فيكتب قائلا إن «اللاأقلمة ... واحدة من السمات الأساسية للعالم الحديث» (1990، 11). وفي ظل تفضيله للتنقل على المساحات الثابتة، يرسم مخططا ل «أبعاد التدفقات الثقافية» المتعلقة بالاختلافات بين الكيفية التي يتوزع بها الأشخاص والأشياء والمال والصور الذهنية والأفكار عبر الكون، من خلال الشبكة الإقليمية للدول القومية، التي تتقاطع إحداها مع الأخرى من خلق «تضاريس» أو «عوالم متخيلة» معقدة. وهذه التضاريس «المنفصلة» - و«السياسة الثقافية للاأقلمة» (ص13) التي تترتب عليها - غالبا ما تتناقض مع عمليات الأقلمة التقليدية المتركزة حول الدولة فيما يتعلق بالسلطة والهوية. وأخذ كل هذا في الاعتبار يتطلب منا «البدء في التفكير في تكوين القوى الثقافية في عالم اليوم كتكوين كسوري في الأساس، بمعنى أنه لا يحوز أي تخوم، أو هياكل، أو تناسقات إقليدية» (ص20). «نحن بحاجة إلى دمج المجاز الكسوري لشكل الثقافات مع وصف متعدد الخصائص لتشابكاتها وتشابهاتها» (ص20). (3-4) نظرية الحدود
تشكل الحدود الإقليمية وتتشكل بما تحتويه، وما يعبرها أو يمنع من عبورها؛ ف «الحاوية» و «المحتويات» لهما طبيعة بنيوية متبادلة. وتنبثق أهمية الحدود في الأساس من أهمية الإقليمية كمبدأ منظم للحياة السياسية والاجتماعية. ولطالما كانت وظائف ومعاني الحدود غامضة ومتناقضة بطبيعتها، ويبدو أن هذه السمات تتخذ أهمية جديدة في ظل مزاعم بظهور «عوالم بلا حدود» وإفساح «حيز الأماكن» المجال ل «حيز التدفقات». (أندرسون وأودود 1999، 594)
صفحه نامشخص