ومن بين الأهداف الرئيسية لها تحليل جوهر فكرة «السياسة الجغرافية» وآثارها نقديا؛ على سبيل المثال: يعرض أوتواثيل هذا التعريف القياسي إلى حد ما ل «السياسة الجغرافية»، مثلما قدمه الجغرافي السياسي سول كوهين: «إن جوهر التحليل السياسي الجغرافي هو علاقة النفوذ السياسي الدولي بالموقع الجغرافي» (كوهين 1973، 29). بعد ذلك يشير إلى أنه في طيات هذا التعريف البسيط تختبئ افتراضات بأن:
السياسة الجغرافية هي نقطة محددة، وهوية معروفة، ووجود. وتوجد هذه النقطة في التقاطع ما بين مجالين أو إقليمين منفصلين للمعرفة، هما: «النفوذ السياسي الدولي» و«الموقع الجغرافي». وموضع تقاطع هاتين الأرضين هو موقع السياسة الجغرافية. والعلاقات الترابطية لهذا المصطلح ترسم خريطة لعلاقة بين الجغرافيا وما يقابلها (التاريخ/السياسة/الأيديولوجيا). وداخل التقليد الجغرافي السياسي تبرز الجغرافيا طبيعية لا تاريخية، سلبية لا ديناميكية، دائمة لا زائلة، صلبة لا مائعة، خشبة مسرح وليس دراما. (أوتواثيل 1994، 531)
يحلل الجغرافيون السياسيون النقديون أيضا كتابات الأعلام البارزة في مجالي السياسة الجغرافية والجغرافيا السياسية التقليدية مثل راتزل وهارتشورن، ويقرنونها بسياق سياسي من أجل إثبات تواطؤ منتجي المعرفة وشرعنة السلطة (باسين 2003؛ هيفرنان 2000؛ كيرنز 2003). وتهدف السياسة الجغرافية النقدية إلى زعزعة المفاهيم البديهية المسلم بها للإقليم التي يستند إليها جزء كبير من الفكر المعاصر بشأن السلطة على جميع مستويات التحليل والخبرة.
من ضمن المساهمين المهمين في إعادة التفكير بشأن الحيز السياسي الجغرافي جون أجنيو. يقدم أجنيو، اعتمادا على علماء وباحثي العلاقات الدولية أمثال ووكر وآشلي، تحليلا لما يطلق عليه «المصيدة الإقليمية» (1994، أعيد طباعته في أجنيو وكوربريدج 1995). تتألف هذه المصيدة التحليلية من «الافتراضات الجغرافية المحددة والضمنية التي تدعم التمثيلات التقليدية» للإقليم السياسي في العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية (1995، 79). وكذلك تكفل جزءا كبيرا من المنطق السليم الذي لم يخضع للفحص لمعظم التخصصات الاجتماعية.
من وجهة النظر هذه تكون الدول بمنزلة جهات فاعلة مركزية تتحدد طبيعتها بتفاعل كل منها مع الأخرى. وكل دولة تباشر عملية حسابية لحساب مدى تعاظم مكانتها بالنسبة إلى الدول الأخرى. ولا توجد وحدة مكانية خلاف إقليم الدولة متضمنة في العلاقات الدولية. أما العمليات التي تتضمن الوحدات الفرعية للدولة (مثل المراكز المحلية والمناطق)، أو وحدات أكبر (مثل مناطق عالمية، أو الكرة الأرضية)؛ فتستبعد بالضرورة. (1995، 81-82)
أول و«أهم» المفاهيم الخاطئة هو ذلك الذي يفيد بأن «الدول تجسدت كمجموعة من الوحدات الثابتة لحيز سيادي؛ فقد عمل هذا على تجريد عمليات تكوين وتفكيك الدولة من الطابع التاريخي والسياق. وقد عولت كل من الواقعية والمثالية تعويلا بالغا على هذا الافتراض» (أجنيو وكوربريدج 1995، 83-84). وهذا الجزء من المصيدة يضع «الأمن» - الذي «يساء» فهمه بطريقة خاصة للغاية - في قلب الاختصاص السياسي الجغرافي. «إن ما على المحك هو بقاء الدولة ودفاعها عن أرضها؛ فالسيادة الإجمالية للدولة على مساحتها الإقليمية في عالم مفتت إلى دول إقليمية ؛ تمنح الدولة أقوى مبرراتها، ودون هذا ستكون الدولة مجرد مؤسسة أخرى» (ص84). يتعلق الافتراض الثاني ب «استخدام تقاطبات المحلي/الأجنبي والقومي/الدولي الذي عمل على إضفاء نوع من الغموض على التفاعل بين عمليات تعمل على نطاقات مختلفة» (ص84). والاعتماد المطلق على هذه التقسيمات المفاهيمية من شأنه تيسير إنكار عمودية الإقليم؛ وهذا بدوره يضفي غموضا على سريان القوى والعمليات الأقل قابلية لقراءة أفقية مستوية للسلطة الإقليمية. أما المفهوم الخاطئ الأساسي الثالث فهو مفهوم يفيد بأن «الدولة الإقليمية كان ينظر إليها باعتبارها قائمة قبل المجتمع وحاوية له؛ ونتيجة لذلك يصبح المجتمع ظاهرة قومية. وهذا الافتراض مشترك بين جميع أنواع نظرية العلاقات الدولية» (ص84). وحين يضع محلل (أو أي شخص آخر) هذه الافتراضات، يكون قد وقع في المصيدة، ولا يخلو هذا من وقوع أشد العواقب؛ خاصة فيما يتعلق بقدرة الفرد على تقييم الأحداث المعاصرة؛ على سبيل المثال: تيسر المصيدة الإقليمية كثيرا النظر إلى الحرب باعتبارها مواجهة عنيفة، لنقل بين «الولايات المتحدة» و«العراق»، التي يفترض كل منهما أنه كيان موحد غير ملتبس؛ ومن ثم تضفي غموضا على آليات العسكرية العالمية، على سبيل المثال، والسيطرة الاقتصادية للنفط، ودور الموارد المالية الدولية، والأصوليات الدينية، والمستوى المرتفع من السخط السياسي داخل كل من هذه الساحات السياسية. وبالمثل، عندما ينظر إلى الهجرة عبر الحدود الأمريكية المكسيكية من منظور المصيدة، «يرى» المرء صراعات بين الدول القومية، ولكنه يعجز عن «رؤية» ديناميكيات العرق، والطبقة الاجتماعية، والنوع، وإعادة هيكلة التقسيم الدولي للعمل التي تعد، كما يزعم، أكثر أهمية.
ولكن أجنيو يذهب إلى أن:
كلا من هذه الافتراضات إشكالي وتتزايد إشكاليته؛ فالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا يمكن احتواؤها وجوديا داخل الحدود الإقليمية للدول. والحركات السكانية المعقدة، والحركية المتنامية لرأس المال، والاعتماد البيئي المتبادل المتزايد، و«السياسة الوقتية» للتقنيات العسكرية الجديدة؛ تتحدى الأساس الجغرافي لنظرية العلاقات الدولية التقليدية. (أجنيو وكوربريدج 1995، 100)
ولعل الطريقة المثلى لفهم السياسة الجغرافية النقدية هي اعتبارها مكونا للجغرافيا النقدية على نحو أعم. ويشترك الجغرافيون مع العلماء في التخصصات الاجتماعية الأخرى في تأثرهم بمجموعة ممتدة من الموارد النظرية خلال الجيل الأخير والمساهمة فيها، مثل أن المواضع النظرية (والمحادثات الدائرة داخلها) غالبا ما تكون أهم من المواضع المعرفية (والمحادثات الدائرة بداخلها)؛ على سبيل المثال: قد يكون الجغرافيون النسويون على اتصال أكثر اكتمالا مع النسويين في تخصصات أخرى مقارنة بغيرهم من الجغرافيين؛ وقد يشعر جغرافيو ما بعد الحداثة برابطة أقوى مع غيرهم من المنتمين إلى ما بعد الحداثة من الجغرافيين الآخرين. وبينما تعنى الجغرافيا البشرية بما هو أكثر بكثير من الإقليم، كان للكثير من التطورات النظرية أثر عميق على الكيفية التي أعيد بها تصور الإقليم.
في إطار التأثير الأولي والأهمية الدائمة داخل المجال ووراءه، لا يمكن أن تكون هناك مبالغة في تقدير ظهور الفلسفات الماركسية والفلسفات الأخرى للجغرافيا؛ فعلى النقيض من المفاهيم السائدة لما ترمز إليه «سياسة» الجغرافيا السياسية، بدأ الجغرافيون الماركسيون (أمثال ديفيد هارفي، ودورين ماسي، وريتشارد بيت، ونيل سميث، وآخرين عدة) في وضع تفسيرات الإقليم (والحيز والمكان على نحو أعم) داخل سياق العمليات التاريخية الخاصة بتراكم رأس المال، والإنتاج الصناعي، وعلاقات العمل، والتطور غير المتكافئ، والاستهلاك (ستوربر وسكوت 1986؛ ستوربر وووكر 1989). فقد بات ينظر إلى الأقاليم على نحو متزايد بوصفها تعكس، أو تعزز، أو تقوض آليات قوى اجتماعية أكثر انتشارا وتغلغلا، وليست مجرد حاويات للسلطة السيادية. فيكتب هارفي أن «الأقلمة في النهاية هي نتاج لصراعات سياسية وقرارات تتخذ في سياق الظروف التكنولوجية والسياسية والاقتصادية» (2000، 75). كذلك يربط الجغرافيون الماركسيون التقييمات المعيارية لهذه العمليات بمخاوف صريحة بشأن العدالة الاجتماعية والمعاناة البشرية الواقعية التي ترتبت على الأساليب الرأسمالية للإنتاج والتنظيم الاجتماعي. إذا فالتشكيلات الإقليمية في اقتصاد سياسي رأسمالي ليست مقتصرة على حاويات ثابتة ثنائية الأبعاد، حتى إنه قد لا يكون من الممكن رسم خريطة لها بواسطة وسائل خرائطية تقليدية؛ بل إنها تتشكل عن طريق تحويل المجموعات التي تعكس العمليات المتأصلة في تراكم رأس المال، وتعززها وتعيد استنساخها، وفي بعض الأحيان تقوضها. وفي كتاب مؤثر بعنوان «السياسة الجغرافية للرأسمالية» (1985)، يكتب هارفي أن «التناقضات الداخلية للرأسمالية يعبر عنها من خلال التشكيل وإعادة التشكيل المستمرين للمشاهد الجغرافية. هذا هو الإيقاع الذي يجب أن ترقص عليه الجغرافيا التاريخية للرأسمالية وما يرتبط بها من عمليات أقلمة وإعادة أقلمة بلا توقف» (ص150). وتسري هذه العملية في عمليات اجتماعية-مكانية واسعة النطاق، وتكون مقروءة وواضحة فيها ، مثل تكوين الدولة (وتفكيكها)، والاستعمارية، وإزالة الاستعمار، وكذا عمليات الاستثمار وسحب الاستثمارات الأصغر نطاقا والمعبر عنها محليا، وعمليات الأقلمة الجزئية المرتبطة بتقسيم أسواق العمل وتنظيم أو تفكيك أماكن العمل.
صفحه نامشخص