ثمة مهمة ثانية ونقدية ذات صلة، هي التأكيد على الإقليم باعتباره «أثرا» للممارسات الخطابية (ومن ثم إشارات ووكر إلى «المزاعم» و«التعبيرات»)، وتركيز انتباه خاص على الطرق التي تعمل بها هذه المطالبات والافتراضات في أساليب الخطاب التقليدية فيما يتصل بالعلاقات الدولية، وفن الحكم، والشئون الخارجية، وبالتبعية في الخيال الشعبي (جورج 1994). والخطاب هنا لا يشير ببساطة إلى النقل الشفاف والواضح ل «المعاني» فيما يتعلق بالخطوط الفاصلة والمساحات، أو حتى إلى آليات البلاغة، بل يشير إلى الأساليب المنظمة النمطية للتفكير والقول والكتابة والفعل، التي تؤدي إلى تنميط أو تعميم السيادة، والإقليم السيادي، وما يرتبط بهما من صور ومتناقضات. وفي مواجهة هذا، يقدم ووكر:
قراءة للنظريات الحديثة للعلاقات الدولية كخطاب يجسد تجسيدا منهجيا أنطولوجيا مكانية خاصة من الناحية التاريخية؛ توصيفا دقيقا لهذا المكان أو ذاك، وخطابا يوضح، ويثبت دوما، وجود أو غياب الحياة السياسية داخل وخارج الدولة الحديثة باعتباره الأرضية الوحيدة التي يمكن على أساسها فهم الضرورات الهيكلية، ويمكن الكشف عن مجالات جديدة للحرية والتاريخ. (1993،
ix )
علاوة على ذلك، لا تعد هذه الخطابات الإقليمية التقليدية وما يرتبط بها من مزاعم المعرفة، القائمة على خبرة من نوع خاص، والمدعومة بنظريات العلاقات الدولية الموروثة؛ جامدة فيما يتعلق بالآليات العملية للسلطة. وبحسب تعبير فيليب داربي، «العلاقات الدولية كنظام فكر لا يمكن فهمها بمعزل عن الوضع المسيطر للغرب في العلاقات العالمية، وخاصة التفوق التاريخي لبريطانيا والولايات المتحدة» (2003، 149). أغلب الظن أن داربي يقصد أن هذه العلاقات لا يمكن فهمها «على نحو دقيق»؛ لأنها بالتأكيد تفهم، في أغلب الأحيان، بمعزل عن هذه الظروف السياسية. ولكن بمزيد من الصراحة الحادة يقول سميث: «باسم التنوير والمعرفة، مالت النظرية الدولية لأن تكون خطابا متقبلا لخلق وإعادة خلق الممارسات الدولية التي تهدد وتؤدب وتسيء إلى الآخرين، ومتورطا في ذلك» (1995، 3). ومن بين أبرز مزاعم المعرفة الأساسية تلك المزاعم المتعلقة بالإقليم.
يفحص منظر بارز آخر للعلاقات الدولية النقدية، وهو ريتشارد آشلي، أيضا «النزعات التأويلية المسيطرة» لنظرية العلاقات العامة التقليدية؛ ففي مؤلف بعنوان «السياسة الجغرافية للحيز الجيوسياسي» (1987)، يقترح بدلا من ذلك اتخاذ «موقف نسبي» تجاه الخطاب السائد للسيادة الإقليمية للدولة؛ فهذا موقف تشككي تجاه إنتاج وتداول مزاعم المعرفة التي:
تهيئ المرء لاعتبار «استقلالية» و«هوية» المجال بمنزلة نتيجة لاستعراضات القوة بين العناصر المتعددة. فيهيأ المرء للبحث عن استراتيجيات وتقنيات وطقوس القوة التي تستبعد بها موضوعات ومفاهيم وقصص وممارسات، أو يتم إسكاتها، أو تبديدها، أو إعادة جمعها، أو منحها تأكيدا جديدا أو معكوسا، ومن ثم تفضيل بعض العناصر على أخرى، وفرض الحدود، وتطبيق الانضباط بطريقة تنتج هذا الشق المعياري من الحيز العملي فقط. (1987، 41)
يشير هذا «الحيز» في الوقت نفسه إلى التكوين الخطابي ل «مجال» العلاقات العامة في مقابل العلوم السياسية ، وإلى تمثيلات الإقليم السياسي التي تضمن «استقلاليته» و«هويته» المفترضة، والتي لا تقبل الانفصال فعليا عنه كمجال للخبرة الموثوق فيها. ولعل هذا الخطاب المكاني هو الأوضح فيما يتعلق بمتضادات الداخل/الخارج الهيكلية، والتي تتضح وفقا لها متضادات السيادة/الفوضى، والمحلي/الأجنبي، والقومي/الدولي.
إن الهدف من هذه الممارسات النقدية، مرة أخرى، هو توضيح «عرضية» - عدم ضرورة - أساليب التفكير، وممارسات التنظير، و«طرق تشكيل العالم» المرتبطة بالإقليمية الحديثة المتركزة حول الدولة، والهويات الخاضعة للأقلمة. إن الهدف هو التأكيد على أن هذه الممارسات متوقفة على توزيعات قائمة للسلطة وعلى توفير منفذ نتخيل من خلاله احتمالات أخرى، وتوليفات أخرى من «الحيز - السلطة - المعنى - الخبرة» خلاف تلك التي تقر بها الإقليميات الأخرى. ويختتم ووكر كتابه «الداخل/الخارج» (1993) بمطالبتنا بتخيل كيف قد يصبح ممكنا «صياغة وصف معقول للهوية، أو الديمقراطية، أو المجتمع، أو المسئولية، أو الأمن، دون افتراض وجود حيز إقليمي؛ حد قاطع يفصل بين هنا وهناك» (ص182).
والانتباه إلى الآليات الخاصة بداخل/خارج منقسم في الوعي وفي الطرق التي تقدم بها عمليات أقلمة السلطة، الحديثة والمتركزة حول الدولة، دعما للمضادات الأخرى؛ يعد جزءا من تحول أوسع نحو التحليل النقدي للحدود. قد ينظر إلى الحدود على أنها مختلفة عن الأطراف الواضحة الثابتة للدول السيادية. وعلى نحو أكثر تحديدا، في النظرية النقدية للعلاقات الدولية يوجد تحول عن النظر إلى الأقاليم كحاويات مغلقة باتجاه استكشاف حركات التنقل العابرة للحدود، وسوف أتناول هذا الموضوع بمزيد من التفصيل أدناه. أما فيما يتعلق بالأهداف الحالية، فينظر إلى الاعتراف بحركات التنقل العابرة للحدود بوصفه أمرا يتطلب إعادة توجيه للفكر التقليدي للعلاقات الدولية بشأن الإقليم؛ فيؤكد بيتر ماندافيل، على سبيل المثال، أنه نظرا لتزايد أهمية ما سماه «التنقل عبر المحلي» في الحياة الاجتماعية العالمية، «قد تمر الطبيعة الأساسية للإقليمية بتغير معين» (1999، 653). بل إنه يذهب إلى أن «الإقليم بمعناه الكلاسيكي - الذي أفهمه كمجال محدود بالولاية الخالصة لنفوذ سياسي بعينه - ربما لم يعد يشكل الحيز الأساسي للموقف السياسي» (ص654). ويكتب قائلا: «لقد صارت الحدود أكثر نفاذية بفضل التعبيرات الملموسة والمادية للكيان السياسي. والناس يعيشون حياتهم عبر الأقاليم وبينها وليس داخل «الصناديق الصغيرة» للمساحة الرسمية للدولة» (ص658). وهو يؤيد تحويل منظري العلاقات الدولية انتباههم إلى دراسة «سياسة التنقل عبر المحلي» التي استطاعت، بحسب زعمه، أن تقدم «وصفا أكثر ثراء للهوية، والمجتمع، والإقليم» (ص655). ولم تمر هذه الأطروحة الخاصة ب «اللاأقلمة» دون جواب، كما سنرى فيما يلي؛ فقد أخضع منظرو العلاقات الدولية الأكثر حداثة طرق الفهم الموروثة للإقليم لمستوى غير مسبوق من التحليل النقدي؛ فالعالم البديهي للدول القومية السيادية وما يرتبط بها من هويات وقوى يبدو أكبر قليلا من مكان للعبة خداع تمارس على نطاق كوكبي. (3-2) السياسة الجغرافية النقدية
ثمة إسهام مهم في إعادة التنظير العامة للإقليمية المتركزة حول الدولة، هو مشروع السياسة الجغرافية النقدية الذي طور في الأساس على يد الجغرافيين السياسيين. ووفقا للمساهمين الأساسيين سايمون دالبي وجيرويد أوتواثيل، يعد هذا «استجوابا فكريا مستمرا لسياسة المعرفة الجغرافية في كل من السياسة الدولية والقومية، وعلى نحو متزايد في تلك الأماكن التي تفند هذه الاختلافات» (1996، 452). وكتب أوتواثيل أن: «السياسة الجغرافية النقدية» تبشر بدرجة جديدة من التسييس لطرق فهم الجغرافيا، ودرجة جديدة من الجغرفة لدراسة السياسة العالمية. إنها تسعى لتجاوز الحدود وتتحدى ما يعتقد أنه هويات أساسية، سواء أكانت مجتمعات متخيلة أم حدودا فلسفية موروثة. (1994، 525)
صفحه نامشخص