المدخل لدراسة القرآن الكريم
المدخل لدراسة القرآن الكريم
ناشر
مكتبه السنة
شماره نسخه
الثانية
سال انتشار
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٣ م
محل انتشار
القاهرة
ژانرها
ـ[المدخل لدراسة القرآن الكريم]ـ
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: ١٤٠٣هـ)
الناشر: مكتبه السنة - القاهرة
الطبعة: الثانية، ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٣ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
صفحه نامشخص
[التعريف بالقرآن الكريم]
مقدمة الطبعة الثالثة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، والصلاة والسلام على شفيعنا يوم المآب.
أما بعد: فإن الله تعالى أنزل خاتم كتبه، على خير أنبيائه ورسله؛ ليكون كلمة الله الأخيرة للعالمين، فانقسم الناس في تلقّيه أحزابا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: ٣٢].
ولئن كان هذا القرءان تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٣] فإن هناك من يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة: ٣٢] وما يزال هذا دأبهم جيلا بعد جيل أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٣] فكان الواجب على علماء الأمة خدمة كتابها، وتبيين علومه، والذبّ عنه، خاصة في تلك الأوقات العصيبة التي تنطلق فيها سهام التشكيك من كل صوب، من وسائل الإعلام العالمية المتنوعة المرئية والمسموعة والمقروءة.
ولن تعدم خير الأمم من يقوم بهذا الواجب، فما زالت أيدي علمائها تسطّر من العلوم وتزيل الشبهات بما تبهر به العقول، وتقر أعين المؤمنين، وتنكّس رءوس المنافقين.
وكتاب «المدخل» لفضيلة الشيخ العلامة الدكتور محمد أبو شهبة يعد حسن الختام لما كتب في هذا المجال، فقد جمع فيه بين عمق المعرفة، وسلاسة الأسلوب.
جمع بين علوم القرءان على نهج المتقدمين، وبين تفنيده لشبهات المستشرقين، مع أدب عال في النقد والحوار، وغيرة شديدة على الإسلام وكتابه وعقيدته الصافية.
1 / 3
وها هو الكتاب يطبع للمرة الثالثة بعد أن نفدت طبعته الثانية تماما، وذلك لما جمع فيه من العلم الغزير مع النية الطيبة الحسنة، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
وكان المؤلف ﵀ قد ألحق بقلمه زيادات وتنقيحات على الطبعة الأولى للكتاب، فلما طبع الطبعة الثانية أدخلت هذه الزيادات فيها، ولكنها للأسف أحيانا أدخلت في غير موضعها! وفي أحايين قليلة استبدلت بعض الكلمات ظنا من المصحح أنها تصحيف!
لكن بحمد الله قمنا في هذه الطبعة بالمقابلة على الأصل- كما هو منهج المحدثين- فأرجعنا الزيادات إلى أماكنها الصحيحة، واستبقينا الكلمات التي صاغها المؤلف بيده إذا تبين أنها صحيحة لغة، وأن المؤلف قصدها بعينها.
وإذا كانت مكتبتنا تشرف بمثل هذا الكتاب، فلا ريب أن المكتبة الإسلامية تزداد به حسنا وبهاء.
نسأل الله أن يرحم المؤلف رحمة واسعة على ما قدم لخدمة كتابه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه، وأن يجزي خيرا كل من ساهم في خدمة الكتاب وتصحيحه، والقيام على نشره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مركز السنة للبحث العلمي بالقاهرة
1 / 4
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: «ما من نبي من الأنبياء إلا وآتاه الله من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد نفدت الطبعة الأولى من هذا الكتاب القويم الذي يدور في فلك القرآن الكريم، من منذ بضع سنين.
وقد رغب إليّ الكثيرون ممن قرءوه وانتفعوا به، من طلاب جامعة الأزهر الشريف، وغيرهم من طلاب المعرفة وعشاق الثقافة الإسلامية الأصيلة؛ هذه الثقافة التي تدور حول الأصلين الشريفين: القرآن الكريم، والسنة النبوية المنيفة.
وقد رأيت أن تجيء هذه الطبعة الثانية- كما هي سنة الله في التطور والارتقاء- مشتملة على مزيد من التحقيقات، ومن الموضوعات التي لا يستغني عنها الدعاة الذين نصبوا أنفسهم للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولا سيما فيما أورده المستشرقون والمبشرون على القرآن من شبهات، فقد عرضت للشبه التي أثيرت على الوحي، ورددتها بالقواعد العلمية الصحيحة لا بالعاطفة والعصبية.
وكذلك زدت بحوثا حول ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين، وسلامة هذ النص من التحريف والتبديل، وهي خصيصة للقرآن لم تتوافر لأي كتاب آخر سماوي.
وكذلك زدت فيه بحوثا حول نزول القرآن على سبعة أحرف، ورد شبه
1 / 5
بعض المستشرقين في هذا، والكتاب المعاصرين الذين لم يأخذوا من الدراسات القرآنية بحظ وافر.
والله أسأل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعل عملي مقبولا، وأجري موصولا، إنه سميع مجيب، وهو حسبي! ونعم الوكيل.
أبو عمر محمد بن محمد أبو شهبة
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده «محمد» القرآن مشتملا على الحكم والأحكام والمواعظ والآداب، والصلاة والسلام على سيدنا «محمد» الذي خصه الله بجوامع الكلم، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله وصحابته، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الحساب.
أما بعد: فإن أحق ما يشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق فيه المتسابقون- مدارسة كتاب الله، ومداومة البحث فيه، والغوص عن لآلئه والكشف عن علومه وحقائقه، وإظهار إعجازه وتجلية محاسنه، والدفاع عن ساحته ونفي الشكوك والريب فيه، والقرآن بحر لا يدرك غوره، ولا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فما أحق الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تشغل به، وكل ساعة يقضيها الباحث في النظر في كتاب الله، والتأمل فيه أو في البحث فيما يتصل به، في سبيل الله، وفي سبيل الإسلام.
ولما أسند إليّ تدريس «علوم القرآن» بقسم «الدراسات العليا» بكلية أصول الدين من كليات الجامعة الأزهرية رأيت أن أضع في هذا مؤلفا وسطا: لا هو بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل؛ ليكون مرجعا لطلاب هذا القسم وغيرهم من عشاق القرآن وعلومه. ولما كانت مباحث هذا العلم مدخلا وسبيلا لدراسة «القرآن الكريم» وفهمه وتدبره لم أجد نفسي في حاجة إلى أن أتكلف لهذا المؤلف اسما وسميته: «المدخل لدراسة القرآن الكريم»، ويعتبر هذا «المدخل» أول كتاب ألف في هذا الفن، من أحد رجال الطبقة التي تلي طبقة شيوخنا وأول باكورة شهية، لقسم الدراسات العليا شعبة «التفسير وعلومه، والحديث وعلومه» أقول هذا تحدثا بنعمة الله عليّ ولله الحمد، والمنة. والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يجعل نفعه عاما موصولا.
أبو عمر محمد بن محمد أبو شهبة
1 / 7
التعريف بالقرآن الكريم
القرآن الكريم:
هو كتاب الله- ﷿ المنزل على خاتم أنبيائه محمد ﷺ بلفظه ومعناه، المنقول بالتواتر المفيد للقطع واليقين المكتوب في المصاحف من أول سورة «الفاتحة» إلى آخر سورة «الناس».
أحكمه الله فأتقن إحكامه، وفصّله فأحسن تفصيله، وصدق الله كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: ١]، لا يتطرق إلى ساحته نقض ولا إبطال.
وصدق العلي العظيم حيث يقول: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) [فصلت: ٤١ - ٤٢].
وهو المعجزة العظمى، والحجّة البالغة الباقية على وجه الدهر لرسول البشرية سيدنا «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، تحدى به الناس كافة، والإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو ببعضه فباءوا بالعجز والبهر.
وقد وقع التحدي «بالقرآن» على مرات متعددة، كي تقوم عليهم الحجة تلو الحجة، وتنقطع المعذرة.
تحداهم أولا أن يأتوا بمثله فعجزوا وما استطاعوا، قال عز شأنه في سورة «الإسراء» المكية الآية [٨٨] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) سورة الطور المكية الآية [٣٣ - ٣٤].
ثم تحداهم: أن يأتوا بعشر سور مثله، فما قدروا، قال تعالى في سورة «هود» المكية الآية [١٣ - ١٤] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (١) وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا
_________
(١) هذا من قبيل التنزل مع الخصم، والمساهلة معه في الحجاج، كي يكون الإفحام أدل-
1 / 8
لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) أي أسلموا، فهو طلب برفق ولين وهو لون من ألوان أدب الخطاب في القرآن.
ثم تحداهم مرة ثالثة: بأن يأتوا بسورة منه، أيّ سورة مهما قصرت، كسورة «الكوثر» فما رفعوا بذلك رأسا، قال تعالى في سورة «يونس» المكية الآية [٣٨ - ٣٩]: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩).
وهذا الذي ارتضاه جمهور العلماء وارتضيته في ترتيب آيات التحدي هو ما يجب أن يصار إليه، ومن العلماء من يجعل آية «يونس» متقدمة على آية «هود»؛ لتقدم نزول سورة يونس على نزول سورة هود، فيجعل التحدي بسورة قبل التحدي بعشر سور (١)، والجواب أنه على فرض تسليم ذلك فلا يمنع من تأخر نزول آية في سورة متقدمة، على نزول آية في سورة متأخرة، على أن بعض العلماء يرى تقدم سورة «هود» على سورة «يونس»؛ وحينئذ يكون ما ذهبنا إليه هو الحق والصواب، وإذا كان
مستقبحا في الكلام العادي التحدي بشيء فإذا عجز تحداه بعشرة أمثاله فما بالك بأبلغ الكلام، وأحكمه هذا ما لا يمكن أن يكون في الكتاب المعجز المبين ثم كرر التحدي بسورة ما، فقال في سورة «البقرة» المدنية [الآية ٢٣ - ٢٤] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤).
فألقموا حجرا، ولم ينبسوا في المعارضة بكلمة ... !
_________
على الإعجاز، أي إن كان مفترى- كما تزعمون- فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، والمراد: المماثلة في الفصاحة والبلاغة وجزالة المعنى وسمو المقاصد والاشتمال على العلوم والمعارف وليس المراد من الآية أن له مثلا.
(١) تفسير البغوي على هامش تفسير ابن كثير (ج ٤/ ص ٣٤٩).
1 / 9
وبذلك ثبت إعجاز «القرآن» على أبلغ وجه وآكده، وإذا ثبت عجز العرب فغيرهم بالعجز أحرى وأولى (١).
١ - القرآن كتاب العربيّة الأكبر
والقرآن هو كتاب العربية الأكبر، ورمز وحدة العرب الكبرى وجامعتهم العظمى، وبه اكتسبت لغة العرب بقاءها، وحيويتها؛ وبه صار العرب أمة واحدة مؤمنة موحدة، متآلفة القلوب متجانسة المزاج، متحدة اللسان، متشابهة البيان، وبه صار المسلمون في صدر الإسلام أمة واحدة، لا يفرق بينها جنس، ولا لون، ولا لغة، فقد انصهرت كل هذه الفوارق في نور الإسلام، ولم يبق إلا الاعتزاز بالإسلام والقرآن، وصار لسان الواحد منهم يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ومنه استمد العرب والمسلمون علومهم ومعارفهم، فما من علم من علومهم إلا وله بالقرآن سبب، وله منه ورد ومدد، ولولا هذا الكتاب العربي المبين لاستعجمت لغة العرب، وأضحت في عداد اللغات الميتة، فهو الذي يجدد شبابها كلما اعتراها الهرم والضعف، ويأخذ بيدها إذا ألمّ بها التخلف والركود، ولولا هذا الكتاب لما كانت هذه الثروة الطائلة من العلوم التي تدور حول القرآن، ولغة القرآن وتجول في رحابه الواسعة.
وما من عربي- أيا كان دينه- إلا وله بهذا الكتاب مفخرة واعتزاز وحب ووفاء؛ لأنه يخاطب فطرته اللغوية ووجدانه البياني، وروحه العربية الصافية الشفافة.
٢ - القرآن كتاب الهداية الكبرى
والقرآن هو هداية الخالق لإصلاح الخلق، وشريعة السماء لأهل الأرض. وهو التشريع العام ... الخالد الذي تكفل بجميع ما يحتاج إليه
_________
(١) اكتفيت في هذا الموضع بهذا القدر، أما إشباع القول في الإعجاز فلذلك محل آخر إن شاء الله.
1 / 10
البشر في أمور دينهم ودنياهم. في العقائد، والأخلاق وفي العبادات وفي المعاملات: المدنية، والجنائية، وفي الاقتصاد، والسياسة، والسلم، والحرب، والمعاهدات، والعلاقات الدولية وهو في كل ذلك حكيم كل الحكمة، لا يعتريه خلل ولا اختلاف، ولا تناقض ولا اضطراب وصدق الله:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (٨٢) [سورة النساء: ٨٢] وأصيل غاية الأصالة، وعدل غاية العدالة، ورحيم غاية الرحمة، وصادق غاية الصدق، وصدق الله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) [سورة الأنعام: ١١٥].
فلا عجب .. أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالاهتداء بهديه، والتزام ما جاء به وأن كان الشفاء لأمراض النفوس وأدواء المجتمع؛ فاهتدت به القلوب بعد ضلال، وأبصرت به العيون بعد عمى، واستنارت به العقول بعد جهالة، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات، وصدق الله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (١٠) [سورة الإسراء: ٩ - ١٠]. وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا (٨٢) [سورة الإسراء: ٨٢].
وقال: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) [سورة المائدة: ١٥ - ١٦].
٣ - القرآن حارب التقليد، ودعا إلى النظر، والتأمل في الكون
وهو الكتاب الذي فك العقول من عقالها، وأطلق النفوس من إسارها، وأنحى على التقليد والمقلدين بالذم والتوبيخ، قال عز شأنه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) [سورة البقرة: ١٧٠]، وقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ
1 / 11
آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)! [سورة المائدة: ١٠٤].
وهو الكتاب الذي وجه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس، وما فيها من عجائب وأسرار وغرائز واستعدادات، قال عز شأنه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) [سورة الذاريات: ٢١] والنظر في الآفاق والآيات الكونية علويّها وسفليّها، ظاهرها وخفيها وعما تنطوي عليه من حكم، وما أودع الله فيها من خواص وسنن وأفاض في ذلك في غير ما سورة وآية، وإن شئت اليقين في ذلك فاقرأ قول الحق ﵎: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) [سورة البقرة:
١٦٤] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) [سورة آل عمران: ١٩٠].
وقد روي: أن النبي ﷺ قال لما نزلت: «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر» رواه ابن مردويه وعبد بن حميد، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) [سورة ق: ٦ - ٨] وقال سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) [سورة الغاشية ١٧ - ٢٢] وقال: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ (١) يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) [الرعد: ٤] إلى غير ذلك من الآيات التي لا يحصيها العد.
وقد زخر القرآن العظيم بهذا النوع من الآيات، وكثرت كثرة زادت على
_________
(١) جمع صنو أي نخلات أصلها واحد ونخلات ليست كذلك وهذه الآية مشتملة على أحكم دليل للرد على الماديين القائلين بالطبيعة، وأن الكون وجد بلا موجد.
1 / 12
آيات الأحكام (١)، ولا سيّما في القسم المكي، ولذلك سرّ: ذلك أن هذا النظر، وذاك التأمل غالبا ما ينتهيان بالإنسان العاقل المجرد عن الأهواء والشهوات، إلى الوصول إلى الإيمان بالخالق- جل وعلا- ووحدانيته وتفرده بصفات الكمال والجلال، والجمال والإيمان بالبعث والمعاد، وأن هناك حياة أخرى خيرا من هذه الحياة، والإيمان بالملائكة والرّسل الكرام وإذا ما آمن البشر بهذه العقائد سهل عليهم بعد تلقي الشرائع، والتزامها علما، وعملا، وسلوكا، وخير الإيمان ما كان عن بينة ودليل، وخير العلم والعمل ما كان عن اطمئنان وبحث، واقتناع.
٤ - القرآن فتح الباب للعلوم التجريبية
والقرآن حينما دعانا إلى النظر في الآيات الآفاقية والأنفسية لم يقف بنا عند حد الاعتبار والاتعاظ بالظواهر والصور والأشكال فحسب، وإنما أراد- إلى ذلك- استكشاف المستور، واستكناه الأسرار، والتقصي عما فيها من عجائب وسنن وخواص عن طريق الملاحظة حينا والتجارب أحيانا أخرى؛ وبذلك يكون القرآن فتح أبوابا للعلوم التجريبية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان.
ولو أن المسلمين استفادوا بما في هذا الكتاب الكريم من توجيهات وإرشادات؛ لكانوا- كما كان الشأن في سلفهم الأولين- أسبق الأمم إلى الكشوف العلمية والاختراع والابتداع، ولصاروا سادة الدنيا، وأضحى بيدهم زمام الأمور، ولكنهم جمدوا ولم يستفيدوا بهدي القرآن وإرشاداته، فكانوا على ما ترى ... !
٥ - القرآن حارب العنصرية، والعنجهية الجاهلية
والقرآن هو الذي قضى على العنجهية، ودعاوى الجاهلية، وقضى على التفرقة العنصرية والنسبية واللونية، ووضع أساس المساواة بين الناس
_________
(١) أكثر ما قاله العلماء في آيات الأحكام أنها خمسمائة، وغاية ما قالوه في تعداد آيات القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية.
1 / 13
كافة، فالناس ربهم واحد وكلهم لآدم لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض، وإنما التفاضل بالتقوى، والتقوى جماع كل هدى وحق وخير.
وصدق الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) [الحجرات: ١٣]، فالناس مهما تعددت شعوبهم، وتباينت أممهم فيجمعهم رباط واحد، وهو رباط الإنسانية العام، وهذا أسمى ما يطمع فيه من تشريع!
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [سورة النساء: ١].
٦ - القرآن كوّن أمة مثالية
وهو الكتاب الذي صلحت به الدنيا، وحول مجرى التاريخ، وأقام أمة كانت مضرب الأمثال في الإيمان والإخاء والعدل والوفاء، والوفاق والوئام، وأظل العالم بلواء الأمن والسلام حقبا من الزمان، وصيّر من رعاة الإبل والشاء علماء حكماء رحماء، وسادة قادة في الحكم، والسياسة والسلم، والحرب، عقمت الدنيا عن أن تجود بمثلهم.
وهو الكتاب الذي لا تفنى ذخائره، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يزداد على التكرار إلا حلاوة وطلاوة، وصدق القائل:
تزداد منه- على ترداده- مِقَة ... وكلّ قول- على التّرداد- مملول
وتلك لعمر الحق خصيصة من خصائص «القرآن» ومن كان في شك من هذا فليستفت الذوق والوجدان والقلب والآذان، وليوازن في هذا بين كلام الله وكلام الإنسان، وحينئذ سيتذوق، ومن ذاق عرف، ومن عرف اعترف.
ومهما تعاقبت على هذا الكتاب العزيز الأجيال والسنون لا يزداد إلا جدة وطرافة ولا يزال غضا طريا كما أنزل، وكلما تقدمت العلوم والمعارف الإنسانية تكشف للناس منه العجب العجاب وصدق الحق ﵎
1 / 14
حيث يقول: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ (١) الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) [سورة فصلت: ٥٣] بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
وقصارى القول وحماداه: أنك لن تجد في الكشف عن حقيقة هذا الكتاب وخفاياه وفضائله ومزاياه أوفى مما وصفه به نبينا «محمد بن عبد الله».
روى الترمذي (٢) بسنده عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على «عليّ» فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث قال: أوقد فعلوها
قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» قلت: وما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء (٣) ولا تلتبس به الألسنة (٤)، ولا يشبع منه العلماء (٥) ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه،
_________
(١) الضمير في أنه عائد على القرآن لأنه معلوم من المقام، وقيل يعود إلى الإسلام، وهما متلازمان، فالقرآن أساس الإسلام، والإسلام كتابه القرآن.
(٢) قال الترمذي فيه: حديث غريب، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال ولكن ذكره الحافظ «السيوطي» في الإتقان، وقال أخرجه الترمذي، والدارمي وغيرهما، وسكت عنه، وكذا ذكره الحافظ «ابن كثير» في «فضائل القرآن» له، وتعقب كلام الترمذي بما يدل على اعتماده للحديث، والمتأمل فيه يجد فيه قبسا من نور النبوة، وحكما من ينابيع الوحي، مما يجعل القلب يطمئن إليه.
(٣) بفتح التاء: أي لا تميل عن الحق باتباعه الأهواء أو بضمها: أي لا تميله الأهواء المضلة عن نهج الاستقامة إلى الاعوجاج، من الإزاغة: بمعنى: الإمالة والباء لتأكيد التعدية.
(٤) ولا تلتبس: أي لا تتعسر عليه ألسنة المؤمنين، ولو كانوا من غير العرب قال تعالى:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وقال فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ.
(٥) أي لا يحيطون بكنهه إحاطة من يشبع من الشيء، بل كلما اطلعوا على شيء منه اشتاقوا
1 / 15
هو الذي لم ينته الجن إذ سمعوه حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ من قال به صدق، ومن عمل أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
إن كتابا هذا بعض شأنه لجدير أن يضعه الإنسان بين عينيه، ويجعله أنيسه في خلوته، ورفيقه في سفره، وصديقه الصدوق في يسره وعسره، ومستشاره الأمين في أمور دينه ودنياه، وحجته البالغة في حياته وأخراه.
٧ - عناية الأمة الإسلامية بالقرآن
فلا عجب- والقرآن كما سمعت- أن عنيت الأمة الإسلامية به عناية فائقة، من لدن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، فحفظوا لفظه، وفهموا معناه، واستقاموا على العمل به وأفنوا أعمارهم في البحث فيه والكشف عن أسراره، ولم يدعوا ناحية من نواحيه الخصبة إلا وقتلوها بحثا وتمحيصا، وألفوا في ذلك المؤلفات القيمة، فمنهم من ألف في تفسيره ومنهم من ألف في رسمه، وقراءاته، ومنهم من ألف في: محكمه ومتشابهه ومنهم من ألف في مكيّه ومدنيّه ومنهم من ألف في جمعه وتدوينه في الرقاع واللخاف والأكتاف ثم في الصحف، ثم في المصاحف، ومنهم من ألف في استنباط الأحكام منه ومنهم من ألف في ناسخه ومنسوخه، ومنهم من ألف في أسباب نزوله ومنهم من ألف في إعجازه، ومنهم من ألف في مجازه، ومنهم من ألف في أمثاله، ومنهم من ألف في أقسامه، ومنهم من ألف في غريبه، ومنهم من ألف في إعرابه، ومنهم من ألف في قصصه، ومنهم من ألف في تناسب آياته وسوره إلى غير ذلك من العلوم المتكاثرة.
وقد تبارى علماؤنا في هذا المضمار الفسيح، وجروا فيه أشواطا بعيدة
_________
إلى غيره، ومعنى «ولا يخلق عن كثرة الرد» يخلق- بفتح الياء وضم اللام، وبضم الياء وكسر اللام-: من «خلق» الثوب: إذا بلي، أو من «أخلق»، وعن على بابها؛ أي لا يصدر الخلق عن كثرة تكراره، وقال الحافظ «ابن حجر»: (عن): بمعنى (مع) وفي بعض النسخ للترمذي: «على» مكان «عن»، وهو يؤيد ما ذهب إليه «ابن حجر».
1 / 16
حتى زخرت المكتبة الإسلامية بميراث مجيد من تراث سلفنا الصالح، وعلمائنا الأعلام، وكانت هذه الثروة- ولا تزال- مفخرة نتحدى بها أمم الأرض، ونباهي بها أهل
الملل في كل عصر ومصر.
وأضحت هذه العناية بحق أروع مظهر عرفه التاريخ لحراسة كتاب هو سيد الكتب وأجلها، وأبعدها من التحريف والتغيير، وبذلك هيأ الله الأسباب المتكاثرة لحفظ كتابه، وهل هذا إلا مصداق قوله- ﷾: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) [سورة الحجر: ٩].
***
1 / 17
المبحث الأول [معنى علوم القرآن وتحليل هذا المركب الاضافى]
١ - معنى علوم القرآن
يقتضينا منهج البحث التحليلي أن نبين معنى كل من طرفي هذا «المركب الإضافي» ثم نبين بعد ذلك المراد منه بعد التركيب ثم بعد ما صار فنّا مدونا.
طرفا هذا المركب هما لفظ «علوم» ولفظ «القرآن».
أما «العلوم»: فهو جمع «علم»، والعلم في اللغة العربية: مصدر بمعنى الفهم والمعرفة، ويطلق ويراد به: اليقين أيضا (١).
أما في الاصطلاح: فقد اختلفت فيه عبارات العلماء باختلاف الاعتبارات، فعرفه الشرعيون بتعريف، وعلماء الكلام بتعريف آخر، وعرفه الفلاسفة والحكماء بتعريف ثالث (٢).
وليس شيء من هذه التعريفات بمراد هنا، وإنما المراد: العلم في اصطلاح أهل التدوين وعرفهم، و«العلم» في عرف التدوين العام عبارة عن: «جملة من المسائل المضبوطة بجهة واحدة» سواء أكانت وحدة الموضوع أم وحدة الغاية، والغالب أن تكون تلك المسائل كلية نظرية، وقد تكون ضرورية، وقد تكون جزئية، مثل: «مسائل علم الحديث رواية» كقولهم: «إنما الأعمال بالنيات ...» بعض قوله ﷺ.
أما «العلم» بمعنى: «الملكة التي بها تستحصل هذه المسائل» أو بمعنى:
«إدراك المسائل» فغير مراد هنا؛ لأن بحثنا في «العلم» بمعنى: الفن المدون، ومعلوم أن الذي يدوّن ويؤلف هي «المسائل والقواعد» لا الملكة
_________
(١) في «القاموس المحيط» [علمه كسمعه علما- بالكسر- عرفه، وعلم هو في نفسه] وفي المصباح المنير «العلم اليقين، يقال: علم يعلم. إذا تيقن. وجاء بمعنى المعرفة أيضا».
(٢) عرفه الشرعيون بأنه: «العلم بالله تعالى وما يتعلق به من جليل صفاته وحكيم أفعاله، ومعرفة حلاله وحرامه»، وعرفه المتكلمون بأنه: «صفة تنكشف بها الأشياء لمن قامت به»، وعرفه الحكماء بأنه: «صورة الشيء الحاصلة في العقل».
1 / 18
ولا الإدراك.
وأما «القرآن»:
لفظ «قرآن» قد اختلف فيه العلماء من جهة الاشتقاق أو عدمه، ومن جهة كونه مهموزا أو غير مهموز، ومن جهة كونه مصدرا أو وصفا على أقوال نجملها فيما يأتي:
أما القائلون: بأنه «مهموز» فقد اختلفوا على رأيين:
الأول: قال جماعة منهم «اللحياني»، القرآن: مصدر «قرأ» بمعنى:
تلا، كالرجحان والغفران، ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل اسما للكلام المنزل على نبينا «محمد» ﷺ، من باب «تسمية المفعول بالمصدر»، ويشهد لهذا الرأي ورود القرآن مصدرا بمعنى: القراءة في الكتاب الكريم، قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) [سورة القيامة: ١٧ - ١٨] أي قراءته.
وقول «حسان بن ثابت» يرثي «ذا النورين» عثمان- ﵁:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة وعلى هذا يكون على وزن فعلان.
الثاني: قال جماعة منهم الزجاج «إنه وصف على فعلان مشتق من «القرء» بمعنى الجمع، يقال في اللغة: «قرأت الماء في الحوض، أي جمعته، ثم سمي به الكلام المنزل على النبي ﷺ لجمع السور والآيات فيه أو القصص والأوامر والنواهي، أو لجمعه ثمرات الكتب السابقة.
وهو على هذين الرأيين مهموز، فإذا تركت الهمزة فذلك للتخفيف، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها والألف واللام فيه ليست للتعريف، وإنما للمح الأصل وعلى هذا أيضا يكون على وزن فعلان.
والقائلون بأنه غير مهموز اختلفوا في أصل اشتقاقه: ١ - فقال قوم منهم «الأشعري» هو مشتق من «قرنت الشيء بالشيء» إذا ضممت أحدهما إلى الآخر وسمي به «القرآن» لقران السور والآيات
1 / 19
والحروف فيه.
٢ - وقال «الفراء»: هو مشتق من «القرائن» لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا، وهي قرائن، أي أشباه ونظائر.
وعلى هذين القولين: فنونه أصلية، بخلافه على القولين الأولين، فنونه زائدة ويكون وزنه على هذين فعال.
رأي خامس: مقابل للأقوال السابقة:
وهو أنه اسم علم غير منقول، وضع من أول الأمر علما على الكلام المنزل على «محمد» ﷺ وهو غير مهموز، وهذا القول مروي عن الإمام «الشافعي»، أخرج البيهقي والخطيب وغيرهما عنه، أنه كان يهمز قراءة، ولا يهمز «القرآن» ويقول: «القرآن» اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قراءة، ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل.
وبالتخفيف قرأ «ابن كثير» وحده؛ أما بقية السبعة فقرءوا بالهمزة.
وأرجح الآراء وأخلقها بالقبول «الأول» ويليه الرأي الثاني.
ومما يقوي مذهب القائلين بالهمز، أنهم خرجوا التخفيف تخريجا علميا صحيحا، ولا أدري ماذا يقول القائلون بالرأي الأخير في توجيه قراءة لفظ «القرآن» بالهمز، مع أن عليها معظم القراء السبعة، كما ذكرنا آنفا!
رأي آخر:
يرى بعض الباحثين (١):
أن «قرآن» مأخوذ من «قرأ» بمعنى «تلا» وهذا الفعل أصله في اللغة الآرامية ثم دخل العربية قبل الإسلام بزمن طويل ولو صح هذا، فلا ضير فيه؛ لأن هذه الكلمة وأمثالها- وإن كانت في الأصل أعجمية- فقد صارت بعد التعريب عربية بالاستعمال وبإخضاعها لأصول العرب في نطقهم ولغتهم، واندمجت فيها حتى صارت جزءا منها فنزل القرآن بها، وهي على
_________
(١) الأستاذ عبد الوهاب حمودة «مجلة لواء الإسلام» العدد الأول من السنة الأولى ص ٢٨.
1 / 20
هذا الحال.
وهذا القول لا يخرج عما ذكره اللحياني فهو مكمل له، لأنه ليس في كلام اللحياني ما ينفي أن يكون أصل الكلمة من اللغة الآرامية.
٢ - «تعريف القرآن» عند الأصوليين والفقهاء، وأهل العربية
هو كلام الله المنزل على نبيه «محمد» ﷺ المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر، المكتوب في المصاحف، من أول سورة «الفاتحة» إلى آخر سورة «الناس» وقد خرج بقولنا: المنزل على نبيه «محمد» المنزل على غيره من الأنبياء كالتوراة والإنجيل والزبور والصّحف.
وخرج بالمعجز بلفظه المتعبد بتلاوته الأحاديث القدسية على الرأي بأن لفظها من عند الله، فإنها ليست معجزة ولا متعبد بتلاوتها.
وخرج بقولنا (المنقول بالتواتر ... الخ) جميع ما سوى القرآن المتواتر من منسوخ التلاوة.
والقراءات غير المتواترة سواء نقلت بطريق الشهرة كقراءة «ابن مسعود» في قوله تعالى في كفارة الأيمان فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة: ٨٩] بزيادة متتابعات، أو بطريق الآحاد مثل قراءة: متكئين على رفارف خضر وعباقري حسان [الرحمن: ٧٦] بالجمع فإنها ليست قرآنا؛ ولا تأخذ حكمه.
ثم إن العلماء بحثوا في الصّفات الخاصة ب «القرآن» فوجدوا أنها تنحصر في الإنزال على النبي ﷺ والإعجاز، والنقل وبالتواتر، والكتابة في المصاحف، والتعبد بالتلاوة، فرأى بعض العلماء زيادة التوضيح والتمييز، فعرفه بجميع هذه الصفات كما ذكرنا آنفا.
واقتصر بعضهم على ذكر الإنزال على النبي، والإعجاز، لأن ما عداهما من الصفات ليس من الصفات اللازمة، لتحقق القرآن بدونها في زمن النبي ﷺ فقالوا في تعريفه: «هو الكلام المنزل على محمد ﷺ، المعجز».
1 / 21