Introduction to Tafsir Principles
أصول في التفسير
پژوهشگر
قسم التحقيق بالمكتبة الإسلامية
ناشر
المكتبة الإسلامية
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
ژانرها
المقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ﷺ، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا، أما بعد:
فإن من المهم في كل فن أن يتعلم المرء من أصوله ما يكون عونا له على فهمه وتخريجه على تلك الأصول، ليكون علمه مبنيًا على أسس قوية ودعائم راسخة ً، وقد قيل: من حٌرِم الأصول حرم الوصول.
ومن أجل فنون العلم، بل هو أجلها وأشرفها، علم التفسير الذي هو تبيين معاني كلام الله ﷿ وقد وضع أهل العلم له أصولًا، كما وضعوا لعلم الحديث أصولًا، ولعلم الفقه أصولًا.
وقد كنت كتبت من هذا العلم ما تيسر لطلاب المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فطلب مني بعض الناس أن أفردها في رسالة، ليكون ذلك أيسر وأجمع فأجبته إلى ذلك.
وأسأل الله تعالى أن ينفع بها.
ويتلخص ذلك فيما يأتي:
* القرآن الكريم:
١- متى نزل القرآن على النبي ﷺ، ومن نزل به عليه من الملائكة؟
٢- أول ما نزل من القرآن.
1 / 3
٣- نزول القرآن على نوعين: سببي وابتدائي.
٤- القرآن مكي ومدني، وبيان الحكمة من نزوله مفرقًا. وترتيب القرآن.
٥- كتابة القرآن وحفظه في عهد النبي ﷺ.
٦-جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان ﵄.
التفسير:
١-معنى التفسير لغة واصطلاحًا، وبيان حكمه، والغرض منه.
٢- الواجب على المسلم في تفسير القرآن.
٣- المرجع في التفسير إلى ما يأتي:
أ-كلام الله تعالى بحيث يفسر القرآن بالقرآن.
ب- سنة الرسول ﷺ؛ لأنه مبلّغ عن الله تعالى، وهو أعلم الناس بمراد الله تعالى في كتاب الله.
ج. كلام الصحابة ﵃ لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم.
د. كلام كبار التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة ﵃.
هـ. ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق، فإن اختلف الشرعي واللغوي، أخذ بالمعنى الشرعي إلا بدليل يرجح اللغوي.
٤- أنواع الاختلاف الوارد في التفسير المأثور.
٥- ترجمة القرآن: تعريفها - أنواعها - حكم كل نوع.
*- خمس تراجم مختصرة للمشهورين بالتفسير ثلاث للصحابة واثنتان للتابعين.
* أقسام القرآن من حيث الإحكام والتشابه.
1 / 4
موقف الراسخين في العلم، والزائغين من المتشابه.
التشابه: حقيقي ونسبي.
الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه.
*- موهم التعارض من القرآن والجواب عنه وأمثلة من ذلك.
الْقَسَم:
تعريفه - أداته- فائدته
* القصص:
تعريفها - الغرض منها - الحكمة من تكرارها واختلافها في الطول والقصر والأسلوب.
* الإسرائيليات التي أقحمت في التفسير وموقف العلماء منها.
* الضمير:
تعريفه - مرجعه - الإظهار في موضع الإضمار وفائدته - الالتفات وفائدته - ضمير الفصل وفائدته.
1 / 5
القرآن الكريم
القرآن في اللغة: مصدر قرأ بمعني تلا، أو بمعني جمع، تقول قرأ قرءًا وقرآنًا، كما تقول: غفر غَفْرًا وغٌفرانا ً، فعلى المعني الأول (تلا) يكون مصدرًا بمعني اسم المفعول؛ أي بمعني متلوّ، وعلى المعني الثاني: (جَمَعَ) يكون مصدرًا بمعني اسم الفاعل؛ أي بمعني جامع لجمعه الأخبار والأحكام (١) .
والقرآن في الشرع: كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد ﷺ، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس. قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) (الانسان: ٢٣) وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: ٢) . وقد حمى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التغيير والزيادة والنقص والتبديل، حيث تكفل ﷿ بحفظه فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ٩) ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحد من أعدائه أن يغير فيه، أو يزيد، أو ينقص، أو يبدل، إلا هتك الله ستره، وفضح أمره.
وقد وصفه الله تعالى بأوصاف كثيرة، تدل على عظمته وبركته وتأثيره وشموله، وأنه حاكم على ما قبله من الكتب.
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر: ٨٧) . ... (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (ق: الآية ١) . وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: ٢٩) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام: ١٥٥)
_________
(١) ويمكن أن يكون بمعني اسم المفعول أيضًا، أي بمعني مجموع؛ لأنه جٌمع في المصاحف والصدور.
1 / 6
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: ٧٧) (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: الآية ٩) .
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: ٢١) (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون (١٢٥) (التوبة: ١٢٤-١٢٥) (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: الآية ١٩) (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان: ٥٢) . وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: الآية ٨٩) (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) (المائدة: الآية ٤٨) .
والقرآن الكريم مصدر الشريعة الإسلامية التي بعث بها محمد ﷺ إلى كافة الناس، قال الله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: ١) (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيد (٢ٍ) (ابراهيم: ١-٢) .
وسنة النبي ﷺ مصدر تشريع أيضًا كما قرره القرآن، قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (النساء: ٨٠) (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا) (الأحزاب: الآية ٣٦) (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: الآية ٧) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
1 / 7
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ) (آل عمران: ٣١)
١- نزول القرآن
نزل القرآن أول ما نزل على الرسول ﷺ في ليلة القدر في رمضان، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: ١) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) (الدخان: ٣-٤) . (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: الآية ١٨٥) .
وكان عمر النبي ﷺ أول ما نزل عليه أربعين سنة على المشهور عند أهل العلم، وقد روي عن ابن عباس ﵄ وعطاء وسعيد بن المسيِّب وغيرهم. وهذه السِّن هي التي يكون بها بلوغ الرشد وكمال العقل وتمام الإدراك.
والذي نزل بالقرآن من عند الله تعالى إلى النبي ﷺ، جبريل أحد الملائكة المقربين الكرام، قال الله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) (الشعراء: ١٩٢- ١٩٥) .
وقد كان لجبريل ﵇ من الصفات الحميدة العظيمة، من الكرم والقوة والقرب من الله تعالى والمكانة والاحترام بين الملائكة والأمانة والحسن والطهارة؛ ما جعله أهلًا لأن يكون رسول الله تعالى بوحيه إلى رسله قال الله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ " (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين (٢١ٍ) (التكوير: ١٩- ٢١) . وقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) (لنجم: ٥-٧) .
وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى
1 / 8
لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: ١٠٢) وقد بين الله تعالى لنا أوصاف جبريل الذي نزل بالقرآن من عنده وتدل على عظم القرآن وعنايته تعالى فإنه لا يرسل من كان عظيما إلا بالأمور العظيمة.
٢- أول ما نزل من القرآن
أول ما نزل من القرآن على وجه الإطلاق قطعا ً الآيات الخمس الأولي من سورة العلق، وهي قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) (العلق: ١- ٥) . ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الآيات الخمس الأولى من سورة المدثر، وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) (المدثر: ١-٥) . ففي «الصحيحين»: صحيح البخاري ومسلم (١) . عن عائشة ﵂ في بدء الوحي قالت: حتى جاءه الحق ٌّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ، فقال النبي ﷺ ما أنا بقارئ (يعني لست أعرف القراءة) فذكر الحديث، وفيه ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق (١» إلى قوله: (عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥» (العلق: ١- ٥) . وفيهما (٢) عن جابر ﵁، أن النبي ﷺ قال وهو يحدث عن فترة الوحي: (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء....)
فذكر الحديث، وفيه، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) إلى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُر (٥) (المدثر: ١-٥) .
وثمت آيات يقال فيها: أول ما نزل، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون أولية مقيدة مثل: حديث جابر ﵁ في «الصحيحين» (٣) . إن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله:
_________
(١) أخرجه البخاري، كتاب ب دء الوحي، باب ١: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ ...، أصول في التفسير، حديث رقم ٣؛ ومسلم كتاب الإيمان باب ٧٣: بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، حديث رقم ٤٠٣ ﴿٢٥٢﴾ ١٦٠.
(٢) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب ١: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، حديث رقم ٤؛ ومسلم كتاب الإيمان باب ٧٣: بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، حديث رقم ٤٠٦ ﴿٢٥٥﴾ ١٦١.
(٣) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب ٣ قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) حديث رقم٤٩٢٤؛ ومسلم كتاب الإيمان باب ٧٣: بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، حديث رقم ٤٠٩ ﴿٢٥٧﴾ ١٦١
1 / 9
أي القرآن أنزل أول؟ قال جابر: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر: ١) قال أبو سلمة: أنبئت أنه
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: ١) فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله ﷺ: قال رسول الله ﷺ: (جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت ...) فذكر الحديث وفيه: (فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصبوا علي ماء باردًا، وأنزل علي: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر: ١) إلى قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر: ١-٥» .
فهذه الأولية التي ذكرها جابر ﵁ باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي، أو أول ما نزل في شأن الرسالة؛ لأن ما نزل من سورة اقرأ ثبتت به نبوة النبي ﷺ، وما نزل من سورة المدثر ثبتت به الرسالة في قوله (قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر: ٢)
ولهذا قال أهل العلم: إن النبي ﷺ نبئ ب (اقْرَأْ) (العلق: ١) وأرسل ب الْمُدَّثِّرُ) (المدثر: ١)
٣- نزول القرآن ابتدائي وسببي
ينقسم نزول القران إلى قسمين:
الأول: ابتدائي: وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه، وهو غالب آيات القران، ومنه قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة: ٧٥)
الآيات فإنها نزلت ابتداء في بيان حال بعض المنافقين، وأما ما اشتهر من أنها نزلت في ثعلبة ابن حاطب في قصة طويلة، ذكرها كثير من المفسرين، وروجها كثير من الوعاظ، فضعيف لا صحة له. (١) .
القسم الثاني: سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه. والسبب:
_________
(١) رواه الطبراني، وفيه على بن يزيد الألهاني وهو متروك.
1 / 10
أ - ... إما سؤال يجيب الله عنه مثل (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: الآية ١٨٩) .
ب - أو حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (التوبة: الآية ٦٥) الآيتين نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله ﷺ وأصحابه، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر النبي ﷺ فيجيبه (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (التوبة: الآية ٦٥) (١) .
ج- أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه مثل: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: ١)
فوائد معرفة أسباب النزول:
معرفة أسباب النزول مهمة جدا، لأنها تؤدي إلى فوائد كثيرة منها:
١- بيان أن القران نزل من الله تعالى، وذلك لأن النبي ﷺ يسأل عن الشيء، فيتوقف عن الجواب أحيانا، حتى ينزل عليه الوحي، أو يخفى الأمر الواقع، فينزل الوحي مبينا له. مثال الأول: قوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا) (الإسراء: ٨٥) . ففي صحيح البخاري " (٢) عن عبد الله ابن مسعود ﵁: أن رجلا من اليهود قال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت، وفي لفظ: فأمسك
_________
(١) ذكر هذه الحادثة ابن كثير في تفسيره (٢/٣٦٨)، والطبري أيضًا (١٠/١٧٢)
(٢) أخرجه البخاري كتاب العلم باب قوله تعالى (وما أؤتيتم من العلم إلا قليلا) حديث رقم (١٢٥) ومسلم كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب سؤال اليهود النبي ﷺ عن الروح، وقوله (ويسألونك عن الروح ...) الآية. حديث رقم (٢٧٩٤) .
1 / 11
النبي ﷺ، فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: ٨٥) الآية مثال الثاني قوله تعالى (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلّ) (المنافقون: الآية ٨) وفي صحيح البخاري (١)
أن زيد ابن أرقم ﵁ سمع عبد الله ابن أبى رأس المنافقين يقول ذلك، يريد أنه الأعز ورسول الله ﷺ وأصحابه الأذل، فأخبر زيد عمه بذلك، فأخبر به النبي ﷺ، فدعا النبي ﷺ زيدا فأخبره بما سمع ثم أرسل إلى عبد الله ابن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله ﷺ، فأنزل الله تصديق زيد في هذه الآية؛ فاستبان الأمر لرسول الله ﷺ.
٢- بيان عناية الله تعالى برسوله ﷺ في الدفاع عنه مثال ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان: ٣٢) وكذلك آيات الإفك؛ فإنها دفاع عن فراش النبي ﷺ وتطهير له عمّا دنسه به الأفاكون.
٣- بيان عناية الله تعالى بعباده في تفريج كرباتهم وإزالة غمومهم. مثال ذلك آية التيمم، ففي " صحيح البخاري " (٢) أنه ضاع عقد لعائشة ﵂، وهي مع النبي ﷺ في بعض أسفاره فأقام النبي ﷺ لطلبه، وأقام الناس على غير ماء، فشكوا ذلك إلى أبي بكر، فذكر الحديث وفيه: فأنزل الله أية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. والحديث في البخاري مطولًا.
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير سورة المنافقون باب قوله (إذا جاءك المنافقون قالوا إنك لرسول الله) الآية. حديث رقم (٤٩٠٠) ومسلم كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب صفات المنافقين وأحكامهم. حديث رقم (٣٦٧) ..
(٢) أخرجه البخاري كتاب التيمم قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه حديث رقم (٣٣٤) ومسلم كتاب الحيض باب التيمم حديث رقم (٣٦٧)
1 / 12
٤- فهم الآية على الوجه الصحيح. مثال ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة: الآية ١٥٨) أي يسعى بينهما، فإن ظاهر قوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْه) ِ (البقرة: الآية ١٥٨) أن غاية أمر السعي بينهما، أن يكون من قسم المباح، وفي صحيح البخاري " (١) عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك ﵁ عن الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (البقرة: الآية ١٥٨) إلى قوله: (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة: الآية ١٥٨) وبهذا عرف أن نفي الجناح ليس المراد به بيان أصل حكم السعي، وإنما المراد نفي تحرجهم بإمساكهم عنه، حيث كانوا يرون أنهما من أمر الجاهلية، أما أصل حكم السعي فقد تبين بقوله: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة: الآية ١٥٨)
عموم اللفظ وخصوص السبب:
إذا نزلت الآية لسبب خاص، ولفظها عام كان حكمها شاملا لسببها، ولكل ما يتناوله لفظها، لأن القران نزل تشريعا عاما لجميع الأمة فكانت العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه.
مثال ذلك: آيات اللعان، وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) إلى قوله (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: ٦- الآية ٩) ففي صحيح البخاري " (٢) من حديث ابن عباس ﵄: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ﷺ بشريك بن سحماء فقال النبي ﷺ: البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرء ظهري من الحد، فنزل جبريل،
_________
(١) أحرجه البخاري كتاب الحج باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، ومسلم كتاب الحج باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به حديث رقم (١٢٧٨)
(٢) أخرجه البخاري كتاب الشهادات باب إذا دعي أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة. حديث رقم (٢٦٧١) .
1 / 13
وأنزل عليه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) (النور: الآية٦) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: الآية٩)
فهذه الآيات نزلت بسبب قذف هلال بن أمية لامرأته، لكن حكمها شامل له ولغيره، بدليل ما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد ﵁، أن عويمر العجلاني جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال النبي ﷺ: قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك. فأمرهما رسول الله ﷺ بالملاعنه بما سمى الله في كتابه، فلاعنها. الحديث (١) .
فجعل البني ﷺ حكم هذه الآيات شاملا لهلال بن أمية وغيره.
المكي والمدني
نزل القران على النبي ﷺ مفرقا في خلال ثلاث وعشرين سنة، قضي رسول الله ﷺ أكثرها بمكة، قال الله تعالى (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) (الإسراء: ١٠٦) ولذلك قسم العلماء رحمهم الله تعالى القرآن إلى قسمين: مكي ومدني:
فالمكي: ما نزل على النبي ﷺ قبل هجرته إلى المدينة.
والمدني: ما نزل على النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة.
وعلى هذا فقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا) (المائدة: الآية ٣) من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي ﷺ في حجة الوداع بعرفة، ففي صحيح البخاري (٢) عن عمر ﵁ أنه قال: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير سورة النور باب قوله ﷿ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ) الآية. حديث رقم ... (٤٢٣) ومسلم كتاب اللعان حديث رقم (١٤٩٢) .
(٢) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه حديث رقم (٤٥) ومسلم كتاب التفسير باب في تفسير آيات متفرقة حديث رقم (٣٠١٥) .
1 / 14
ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع:
أ- أما من حيث الأسلوب فهو:
١- الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب، لأن غالب المخاطبين معرضون مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك، أقرأ سورتي المدثر، والقمر.
أما المدني: فالغالب في أسلوبه البين، وسهولة الخطاب، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، أقرا سورة المائدة.
٢- الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة، لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون، فخوطبوا بما تقتضيه حالهم، أقرا سورة الطور.
أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام، مرسلة بدون محاجة، لأن حالهم تقتضي ذلك، أقرأ آية الدين في سورة البقرة.
ب- وأما من حيث الموضوع فهو:
١- الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، خصوصا ما يتعلق بتوحيد الألوهية والإيمان بالبعث، لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك.
أما المدني: فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات، لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
٢- الإفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني لاقتضاء الحال، ذلك حيث شرع الجهاد، وظهر النفاق بخلاف القسم المكي.
فوائد معرفة المدني والمكي:
معرفة المكي والمدني نوع من أنواع علوم القرآن المهمة، وذلك لأن فيها فوائد
1 / 15
منها:
١- ظهور بلاغة القران في أعلى مراتبها، حيث يخاطب كل قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة، أو لين وسهولة.
٢- ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئا فشيئا بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ.
٣- تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القران في الأسلوب والموضوع، من حيث المخاطبين، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها.
٤- تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية، يتحقق فيهما شروط النسخ، فإن المدنية ناسخة للمكية، لتأخر المدنية عنها.
الحكمة من نزول القرآن الكريم
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني، يتبين أنه نزل على النبي ﷺ مفرقا. ولنزوله على هذا الوجه حكم كثيرة منها:
١- تثبيت قلب النبي ﷺ، لقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (يعني كذلك نزلناه مفرقًا) كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ (ليصدوا الناس عن سبيل الله) إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) (الفرقان: ٣٢-٣٣)
٢- أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئا فشيئا، لقوله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) (الإسراء: ١٠٦)
1 / 16
٣- تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القران وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك واللعان.
٤- التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا، فنزل في شأنه أولا قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: الآية ٢١٩) فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه.
ثم نزل ثانيا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء: الآية ٤٣) فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات، ثم نزل ثالثا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: ٩٠) (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة: ٩١) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة: ٩٢) فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منها باتا في جميع الأوقات، بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات.
ترتيب القران:
ترتيب القرآن: تلاوته تاليا بعضه بعضا حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور.
1 / 17
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ترتيب الكلمات بحيث تكون كل كلمة في موضعها من الآية، وهذا ثابت بالنص والإجماع، ولا نعلم مخالفا في وجوبه وتحريم مخالفته، فلا يجوز أن يقرأ: لله الحمد رب العالمين بدلا من (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: ٢)
النوع الثاني: ترتيب الآيات بحيث تكون كل آية في موضعها من السورة، وهذا ثابت بالنص والإجماع، وهو واجب على القول الراجح، وتحرم مخالفته ولا يجوز أن يقرأ: مالك يوم الدين الرحمن الرحيم بدلا من: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: ٣) (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة: ٤) ففي صحيح البخاري (١) أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان بن عفان ﵃ في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) (البقرة: الآية ٢٤٠) قد نسخها الآية الأخرى يعني قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) (البقرة: الآية ٢٣٤) وهذه قبلها في التلاوة قال: فلم تكتبها؟ فقال عثمان ﵁: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
وروي الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ٠من حديث عثمان ﵁: أن النبي ﷺ كان ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول، ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (٢) النوع الثالث: ترتيب السور بحيث تكون كل سورة في موضعها من المصحف، وهذا ثابت بالاجتهاد فلا يكون واجبا وفي " صحيح مسلم " (٣) عن حذيفة بن اليمان ﵁: أنه
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ...) الآية حديث رقم (٤٥٣٠) .
(٢) أحمد (٣٩٩) وأبو داوود (٧٨٦)، والنسائي في السنن الكبرى (٨٠٠٧) والترمذي (٣٠٨٦)
(٣) أخرجه مسلم كتاب الصلاة المسافرين باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل حديث رقم (٧٧٢) .
1 / 18
صلّى مع النبي ﷺ ذات ليلة، فقرأ النبي ﷺ البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وروى البخاري (١) تعليقا عن الأحنف: أنه قرأ في الأولى بالكهف، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أن صلى مع عمر بن الخطاب الصبح بهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: " تجور قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة. ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة ﵃ في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان ﵁، صار هذا مما سنة الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب أتباعها " أهـ.
كتابة القرآن وجمعه
لكتابة القرآن وجمعه ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: في عهد النبي ﷺ، وكان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الاعتماد على الكتابة، لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة، ولذلك لم يجمع في مصحف بل كان من سمع آية حفظها، أو كتبها فيما تيسر له من عسب النخل، ورقاع الجلود، ولخاف الحجارة، وكسر الأكتاف وكان القراء عددا كبيرا.
ففي " صحيح البخاري " (٢) عن أنس بن مالك ﵁: أن النبي ﷺ بعث سبعين رجلا يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب الآذان باب الجمع بين السورتين في الركعة..
(٢) أخرجه البخاري كتاب الجهاد باب العون بالمدد حديث رقم (٣٠٦٤) .
1 / 19
معونة فقتلوهم، وفي الصحابة غيرهم كثير كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء ﵃.
المرحلة الثانية: في عهد أبي بكر ﵁ في السنة الثانية عشرة من الهجرة. وسببه أنه قتل في وقعة اليمامة عدد كبير من القراء منهم، سالم مولى أبي حذيفة، أحد من أمر النبي ﷺ بأخذ القرآن منهم.
فأمر أبو بكر ﵁ بجمعه لئلا يضيع، ففي صحيح البخاري" (١) أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر ﵄ بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة، فتوقف تورعا، فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك، فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه، وعنده عمر فقال له أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه، قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ﵄. رواه البخاري مطولا.
وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدوه من حسناته، حتى قال على ﵁: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
المرحلة الثالثة: في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁ في السنة الخامسة والعشرين، وسببه اختلاف الناس في القراءة بحسب اختلاف الصحف التي في أيدي
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب قوله (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) الآية.
1 / 20
الصحابة ﵃ فخيفت الفتنة، فأمر عثمان ﵁ أن تجمع هذه الصحف في مصحف واحد؛ لئلا يختلف الناس، فيتنازعوا في كتاب الله تعالى ويتفرقوا.
ففي " صحيح البخاري " (١) أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان من فتح أرمينية وأذربيجان، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، ففعلت، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وكان زيد بن ثابت أنصاريا والثلاثة قرشيين - وقال عثمان للرهط الثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وقد فعل عثمان ﵁ هذا بعد أن استشار الصحابة ﵃، لما روي أبن أبي داود (٢) عن على ﵁ أنه قال: والله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملاء منا، قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا، فنعم ما رأيت.
وقال مصعب بن سعد (٣): أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد، وهو من حسنان أمير المؤمنين عثمان ﵁ التي وافقه المسلمون عليها، وكانت مكملة لجمع خليفة رسول الله ﷺ أبي بكر ﵁.
والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر ﵄ أن الغرض من جمعه في عهد أبي بكر الله عنه تقييد القرآن كله مجموعا في
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب فضاءل القرءان باب جمع القرءان حديث رقم (٤٩٨٧) .
(٢) أخرجه الخطيب في كتاب الفصل للوصل المدرج ٢ / ٩٥٤؛ وفي الإسناد المحفوظ (محمد بن أبان الجعفي) علل الدارقطني ٣ /٢٢٩ - ٢٣٠، قال ابن معين (ضعيف الجرح والتعديل للرازي ٧ /٢٠٠ أخرجه أبي داود في كتاب المصاحف صـ ٢٢.
(٣) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف صـ ١٢.
1 / 21
مصحف، حتى لا يضيع منه شئ دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد؛ وذلك أنه لم يظهر أثر لاختلاف قراءاتهم يدعو إلى حملهم على الاجتماع على مصحف واحد.
وأما الغرض من جمعه في عهد عثمان ﵁ فهو تقييد القرآن كله مجموعا في مصحف واحد، يحمل الناس على الاجتماع عليه لظهور الأثر المخيف باختلاف القراءات.
وقد ظهرت نتائج هذا الجمع حيث حصلت به المصلحة العظمى للمسلمين من اجتماع الأمة، واتفاق الكلمة، وحلول الألفة، واندفعت به مفسدة كبرى من تفرق الأمة، واختلاف الكلمة، وفشو البغضاء، والعداوة.
وقد بقي على ما كان عليه حتى الآن متفقا عليه بين المسلمين متواترا بينهم، يتلقاه الصغير عن الكبير، لم تعبث به أيدي المفسدين، ولم تطمسه أهواء الزائغين. فلله الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين.
1 / 22