ج- الحالة الفكرية والثقافية:
تبين لنا مما أوضحنا في الناحيتين السياسية والاجتماعية الظروف الصعبة التي عاشها المسلمون مما يصعب معه التهيؤ للنشاط العلمي، إذ يحتاج إلى استقرار وهدوء، وأنّى للمفكرين والعلماء أن يعملوا في جو الإرهاب الذي ساد الحياة في بغداد التي فقدت رئاستها الفكرية والثقافية في سنة ٦٥٦ هـ؟ وفي الشام ومصر التي داهمتها الحروب الصليبية وأشغلت الأمراء والعلماء عن التوجه إلى العلم والاشتغال به؟ إضافة إلى الصراعات الداخلية بين السلاطين والأمراء، من ناحية الحكم، والخلافات الفكرية بين الطوائف والفرق المتعددة. وإلى أن أكثر الكتب الإسلامية والعلمية في بغداد رميت في النهر. إلا أن الناحية العلمية لم تهن ولم تضعف، بل كادت تصل إلى درجة النبوغ العلمي في كافة التخصصات التي ميزتها عن غيرها في العصور المختلفة، وذلك يرجع إلى أنها كانت قوية متينة في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يكن من السهل القضاء عليها.
فما هي إلا فترة وجيزة بعد غزو التتار لبغداد إلا وقد جعل الله بعد الضيق مخرجا والشدة فرجا، فاستقرت الأوضاع نوعا ما، وقل الخوف والفزع وتهيأت النفوس لطلب العلم، ولقى العلماء تشجيعا من الأمراء، فأنشئوا دور العلم وأنفقوا على الأساتذة وطلبة العلم وأجروا عليهم الأرزاق من الطعام وغيره «١».
بل كان بعضهم يجلس بنفسه لطلب العلم وبخاصة الفقه والحديث «٢».
هذه العناية وهذا الاهتمام دفعا بطلاب العلم إلى التسابق في مضماره والإقبال عليه بصدق، كما دفعا بالعلماء أيضا إلى التأليف وحل عويص المسائل
_________
(١) انظر البداية والنهاية ١٣/ ١٣٩.
(٢) انظر شذرات الذهب ٥/ ٢٧٠.
1 / 31