بغيره عنه، وقد عُلم بمستقر العادة أنّه لا يجوز أن يذهب أهل كلّ علمٍ
انتصبوا له، وقالوا بتعظيمه وتفضيله، ورأوا الشرف في حفظه، والنقص التامّ بالذهاب عنه، وعن حفظ أشرف بابٍ فيه، وضبط أعلى ضربٍ من ضروبه، ولا يجوز أن يتفق منهم - على كثرة عددهم - تركُ حفظ كلام من هو أصل ذلك العلم ومنبعه والرجوع إليه فيه والتشاغل بغيره.
هذه قصة الشعراء والخطباء وأصحاب الرسائل وعلم العربية وطلب
علم العروض، والأطبَّاء والفلاسفة، وأهل كل علم وصناعة، بها يصونونه
وعليها يعوّلون، في أنه لا يجوز عليهم التهاون بحفظ ما عظم قدره عندهم.
والاشتغال بما دونه، ولا حفظ كلام الجاهل عندهم والعُدول عن حفظ قول
العالم المبرّز، فإذا كان ذلك كذلك وكان شأن المسلمين في التديُّن
والتمسك بالشريعة ما وصفناه، وحال القرآن عندهم وفي نفوسهم، وقدره
في دينهم ما ذكرناه كان ذلك مانعًا من ذهابهم عن حفظهم له، وتوافي
هممهم على إهمال أمره، والتشاغل بغيره.
وكل ما وصفناه من حالهم وحال القرآن من نفوسهم من أدلّ الأمور
على جهل من ظنّ بهم احتقاره وتضييعه والاشتغال بغيره عنه، وأنّ الغنم
والداجنَ أكلَ كثيرًا منه لم يكن له أصلٌ ولا نسخة عند غير من أُكل من
عنده، وأنّه لم يكن المكتوب في المصحف مما أكل ومما لم يُؤكل محفوظًا
في صدور كثير من الأمّة بأسره، ومتفرقا عند آخرين منهبم، فإنه لو ظنّ
ظان أن الغنمَ والداجنَ أكل كثيرًا من كتاب إقليدس، أو "المجسطي "
1 / 76