بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة معالي مدير الجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أشرف ما تتجه إليه الهمم العالية هو طلب العلم، والبحث والنظر فيه، وتنقيح مسائله، وسلوك طريقه؛ لأن ذلك هو الذي يوصل إلى السعادة كما قال الرسول ﷺ: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة». وقال الله تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾.
وأول ما بدئ به رسول الله عنه هو وحي الله إليه بالعلم: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم - علم الإنسان ما لم يعلم﴾.
وقال تعالى يخاطبه: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ..﴾ وقال تعالى: ﴿وقل رب زدني علما﴾.
وما قامت الحياة السعيدة في الحياة الدنيا والآخرة إلا بالعلم النافع.
ولذا كان التعليم هو الهدف الأعظم لمؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز ﵀، ولأبنائه من بعده، ففي عهد خادم الحرمين الشريفين أول وزير للمعارف بلغت مسيرة التعليم العالي وارتقت الجامعات،
1 / 3
ومن هذه الجامعات العملاقة، الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فهي صرح شامل، يشرف بأن يكون إحدى المؤسسات العلمية والثقافية، التي تعمل على هدي الشريعة الإسلامية، وتقوم بتنفيذ السياسة التعلمية بتوفير التعليم الجامعي والدراسات العليا، والنهوض بالبحث العلمي والقيام والنشر، وخدمة المجتمع في نطاق اختصاصها.
ومن هنا، فعمادة البحث العلمي بالجامعة تضطلع بنشر البحوث العلمية ضمن واجباتها التي تمثل جانبا هاما من جوانب رسالة الجامعة ألا وهو النهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر.
ومن ذلك كتاب: «الانتصار في الرد على القدرية المعتزلة الأشرار» بتحقيق الدكتور / سعود بن عبد العزيز الخلف، وهو رسالة جامعية اجتهد فيها المحقق بالتعريف بالمؤلف والكتاب وإخراجه والتعليق على المسائل التي تطرق إليها المصنف حسب الحاجة إلى التوضيح والتأصيل وفق منهج السلف الصالح، فجزى الله الجميع خيرا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
مدير الجامعة الإسلامية د / صالح بن عبد الله العبود
1 / 4
مقدِّمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا، أما بعد:
فإن الله ﷿ قد امتن على هذه الأمة بمنة عظيمة إذ أرسل فيها هذا النبي الكريم وأنزل عليه هذا الكتاب العظيم وتكفل جل وعلا بحفظ كتابه ودينه، فسلم لهذه الأمة مصدر الخير والنور والهداية، كتاب الله ﷿ وسنة نبيه محمّد ﷺ، فتمسك بها أهل القرون الأولى من هذه الأمة تمسك الغريق بحبل النجاة وقارب السلامة، وقد أدركوا أن ذلك المصدر هو حبل الله المتين وطريقه القويم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، فكانوا منه ينهلون وعليه يعولون وإليه يفزعون كلما حزبهم أمر أو اختلطت عليهم واقعة، فيجدون فيه فصل أمرهم وحكم ما بينهم.
فيثوبون منه إلى الحق وحلاوته والاجتماع وقوته وسلامة الصدر وراحته، وقد أدرك أعداء هذا الدين ما لهذا المصدر من الأثر العظيم وأن هذه الأمة لا تهلك وفيها كتاب ربها وسنة نبيها ﷺ يحكمان في الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة. وقد أيقنوا أن لا سبيل إلى الوصول إلى كتاب الله وسنة النبي ﷺ بالتحريف أو التمزيق، وقد تكفل الله لوحيه بالحفظ والبقاء.
فأعملوا فكرهم واستحثوا عقولهم كيف يحجبون المسلمين عن مصدر عزهم ومعدن فلاحهم؟ فوقعوا على داء الأمم قبلنا ومفرق الجموع إلى شيع وأحزاب مختلفة متناحرة، ألا وهو الجدل والكلام الذي أخبر عنه
1 / 5
النبي ﷺ بقوله تحذيرًا وتنبيها: "ما ضل قوم بعدي هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون﴾ (^١).
وقوله ﵊: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" (^٢).
فألقى هؤلاء الأعداء هذا الداء بين المسلمين، فتلقفه من لم يكن له في الإسلام سابقة ولا قدم في العلم راسخة، ونشره بين المسلمين فعُطِل به كتاب الله عزوجل وردت سنة رسول الله ﷺ وظهر بسببه القيل والقال، وكثر التنقيب والتدقيق والسؤال، وقفا الناس به ما لا علم لهم به ولا سبيل لهم إليه إلا بالوحي الإلهي والنور الرباني، فجادلوا في الحق وتخرصوا بالباطل وجعلوا كتاب الله وراءهم ظهريا، وهم في ذلك كله يحسبون أنهم يحسنون صنعًا وأنهم لدين الله نصروا، ولعدوه كسروا، وهم في الحقيقة لم يكسروا إلا دينهم ولم يغلوا إلا قناة جماعتهم، ففاء المسلمون من هذا البلاء بالتحزب والتشيع والفرقة التي أوصلتهم إلى التباغض والتكفير والتلاعن كما فعل الذين من قبلهم.
هذا كله حدث وكتاب الله يتلى بين ظهرانيهم، وسنة نبيه محمد ﷺ بأيديهم إلا أنهما معطلان عن أن يحكما في عقيدة أو شريعة، وقد أصاب الأعداء بذلك من المسلمين مقتلا أفرز ما هو ظاهر من حال المسلمين لا يخفى على ذي عينين، ولولا أن الله قد تكفل من رحمته ولطفه وكرمه أن لا تستباح بيضة المسلمين وأن لا يطمس الحق والنور فيهم ببقاء طائفة على الحق ظاهرة وله محكمة لحاق بالأمة الإسلامية ما حاق بالأمم قبلها من اندثار الحق واندراس آثاره، وعموم الضلالة
_________
(^١) أخرجه ت. كتاب التفسير ب، تفسير سورة الزخرف ٥/ ٣٧٨، جه. في المقدمة ١/ ١٩، حم ٥/ ٢٥٢ - ٢٥٦، عن أبي أمامة ﵁ وقال الترمذي حديث صحيح.
(^٢) أخرجه خ. كتاب الاعتصام ب. الاقتداء بسنة رسول الله ﷺ ٩/ ٧٧، م. كتاب الحج ب فرض الحج مرة في العمر ٢/ ٩٧٥ من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 6
وتنكب طريق الهداية حتى لا يستطيع أحد منهم أن يتوصل إلى النور الإلهي والهدي الرباني بما عندهم من كتاب، لتحريف الكتب الإلهية وانقراض أهل الحق فيهم، وإجماعهم على الضلالة والغواية.
فلولا هذا اللطف منه جل وعلا لضللنا جميعا كما ضلوا، وقد كان ضُلاَّل أهل الكتاب ومجرموهم أول من أدخل هذا الشر على المسلمين، فبدعة التشيع أول من دعى إليها عبد الله بن سبأ اليهودي، (^١) وبدعة القدر تعزى إلى رجل نصراني في البصرة يقال له سوسن (^٢)، وبدعة نفي الصفات أخذت عن بيان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وزوج ابنته وأخذها لبيد بن أعصم الساحر عن يهودي من اليمن (^٣)، ثم إن هذه البدع والانحرافات بدأت تجد من مرضى القلوب والاعتقاد أذنًا صاغية، حتى وجدت أتباعًا وأنصارا كمنوا على بدعتهم وقت ظهور السنة وسيادتها على المجتمع الإسلامي في زمن أواخر الصحابة وأوائل عهد بني أمية إلى أواسط العهد العباسي الأول حيث ترجمت كتب اليونان وتلقفها هؤلاء المرضى فدعموا شبههم بالكلام والجدل، حتى فتنوا كثيرا من المسلمين عن الحق بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يأت عليها منه برهان، وإنما هي شبه لَبَّسَتْ على مرضى القلوب وضعاف الإيمان.
وكان عسكر الإيمان وجند الرحمن ينافحون عن الحق وله يناصرون، يسرون بذلك ويعلنون لتستبين السبيل وتتضح المحجة لمن أراد الله سلامته وهدايته، فأقاموا الدروس والحلقات، ونادوا على المنابر بالآيات البينات فبينوا ووضحوا طريقة الرسول وشريعة الإسلام، وكتبوا وألفوا وردوا على أهل الباطل في كل ميدان، فأقاموا الحجة على الناس ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وكان لهم على كل بدعة جولة بالحق يدمغون بها الباطل فإذا هو زاهق، وكان رابع الخلفاء الراشدين
_________
(^١) انظر: الملل والنحل ١/ ١٧٤، الخطط للمقريزي ٢/ ٣٥٦.
(^٢) انظر: اللالكائي ٤/ ٧٥، الآجري في الشريعة ص ٣٤٢، الخطط للمقريزي ٢/ ٣٥٦.
(^٣) انظر: البداية والنهاية ٩/ ٤٩٣ في ترجمة الجعد بن درهم عام مقتله ١٢٤؟.
1 / 7
أبو السبطين علي ﵁ أول من واجه هذه الانحرافات بعد بروزها واضحة في المجتمع الإسلامي، فجالد الخارجين بسنانه وبيانه، فأظهره الله عليهم في الحالين، ثم من بعده الصحابة الذين أدركوا هذه الفتن كجابر وابن عباس وابن عمر وغيرهم ﵃، ثم كبار التابعين، ثم تابعيهم إلى الأئمة الأربعة، ثم كبار تلاميذهم، ثم بدأت الفتنة تأتي على أتباع الأئمة ممن لم يستنر بنور الكتاب والسنة ولم يعتمد عليهما الاعتماد الواجب من أمثالهم، حتى أصبح كثير منهم له إمام في الفقه وإمام من المتكلمين في العقائد، فعم البلاء وانتشر الداء، وثبتت الفئة التي على كتاب الله اعتمدت ولسنة نبيه ﷺ نصرت وهي التي تكفل الله ببقائها، فمضت في طريقها توضح السبيل وتنير الطريق في كل مكان وزمان، وهذا من عظيم منن الله عزوجل وفضله على هذه الأمة إذ لا تجتمع على ضلالة، ولا يندرس فيها الحق وتذهب آثاره بحيث يخفى على جميع الأمة.
وكان ممن نصر الحق وأبانه ونصح لله ودينه الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، إمام الشافعية في بلاد اليمن فأقام الحجة وأظهر المحجة ودعى إلى نبذ البدعة والكلام والالتزام بالكتاب وسنة سيد الأنام في العقائد وفي الأحكام، فنفع الله به خلقًا كثيرًا، اعتصموا بكتاب الله بدعوته، واهتدوا إلى الالتزام بسنة النبي ﷺ في العقائد والأحكام ببيانه ومنهجه، وقد كتب في هذا ثلاثة كتب هي: (مختصرة في مسألة الكلام) رد فيه على الأشعرية والمعتزلة و(رسالة في المعتقد على مذهب أهل الحديث) وكتابه الكبير (الانتصار) الذي نصر به الحق ودحض به الباطل وأقام به الحجة على كل مبتدع، وقد وفقني الله عزوجل إلى الاطلاع عليه فاجتهدت في تحقيق نصه والتعليق عليه لعلي أكون بذلك مشاركا لمؤلفه في الدعوة إلى الكتاب والسنة على نهج السلف لعل الله عزوجل يذكر به غافلا أو يعلم به جاهلا أو يهدي به من فضله وكرمه مبتدعًا. وقد قسمت عملي في الكتاب إلى قسمين:
القسم الأول: الدراسة للمؤلف والكتاب.
القسم الثاني: تحقيق النص والتعليق عليه.
1 / 8
المبحث الأول: حياته الشخصية
أولا: اسمه:
يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عمران العمراني.
هكذا سماه الجعدي في طبقاته - ص (١٧٤) وهو أقرب من كتب عنه لأنه تلميذ ابنه طاهر بن يحيى بن أبي الخير.
وذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات (٢/ ٢٧٨) فقال: "يحيى بن أبي الخير سالم بن أسعد بن يحيى العمراني بن عمران".
والسبكي في طبقاته (٧/ ٣٣٦) قال: "يحيى بن أبي الخير بن سالم بن سعيد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عمران العمراني".
وابن قاضي شهبة في طبقاته (١/ ٣٧٢) قال: "يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى".
فنخلص من هذا إلى أن المؤلفين اتفقوا على اسمه، واختلفوا في اسم أبيه وجده الأول والثاني وهو اختلاف قريب، ما عدا تسمية جده الثاني يحيى عند النووي وابن قاضي شهبة، وأقربهم إلى الصواب تلميذ تلاميذه ابن سمرة، الجعدي لقرب عهده منه ولأن من كتب عن العمراني اعتمد على ابن سمرة، وقد تكون تلك الاختلافات تصحيفا أو تحريفا من النساخ والله أعلم.
ثانيا: نسبته:
العمراني: وهي نسبة إلى عمران بن ربيعة بن عبس بن زهرة بن غالب ابن عبد الله بن عك بن عدنان، هكذا ذكره ابن سمرة الجعدي.
ونسبه الحموي في معجم البلدان (٣/ ٢٩٦) بقوله (السيري ثم العمراني) وهي نسبة إلى البلدة التي ولد فيها.
1 / 11
ثالثا: كنيته:
أبو الحسين وكناه النووي وابن قاضي شهبة بأبي الخير.
رابعا: مولده:
ولد الشيخ يحيى ﵀ في مصنعة سير (^١) في اليمن سنة تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة.
خامسا: موطن نشأته:
ولد العمراني ﵀ في اليمن وعاش فيها ومات فيها ولم يخرج منها إلا إلى مكة والمدينة حاجا وزائرا، وكانت اليمن في الفترة التي عاش فيها الشيخ العمراني تموج بالفتن والحروب والمذاهب المنحرفة، فقد كان فيها الشيعة الزيدية في صعده (^٢) وما حولها إلى نجران، والإسماعيلية الباطنية ويمثلهم الصلحيون (^٣) وكانوا تغلبوا على عموم اليمن ثم انحسر ملكهم إلى جبله (^٤) وحصن أشيح (^٥) وبعض الحصون الأخرى.
ومنهم الزريعيون في عدن وأبين (^٦) وتعز وكانوا تابعين للصليحيين ثم استقلوا بالحكم. ومنهم الياميون أبناء علي بن حاتم اليامي وكانوا في صنعاء وأعمالها. والدولة السنية التي كانت موجودة هي دولة بني نجاح الأحباش في زبيد
_________
(^١) بلدة من أعمال إب جنوب صنعاء. انظر: معجم البلدان اليمنية ص ٢١٩.
(^٢) مدينة تاريخية في الشمال من صنعاء بمسافة (٢٤٣ كم). انظر: معجم المدن اليمنية ص ٢٤٨.
(^٣) الصيلحيون نسبة إلى علي بن محمد الصليحي الإسماعيلي الباطني الذي استولى على اليمن عام (٤٥٥ هـ) وانتهت دولتهم بموت الملكة أروى بنت أحمد بن محمد الصليحي سنة (٥٣٢ هـ) انظر: اللطائف السنيه ص ٣٠ - ٤٥.
(^٤) جبله بكسر الجيم وسكون الباء مدينة بالجنوب الغربي من مدينة إب ابتناها عبد الله بن علي الصليحي سنة (٣٥٨ هـ) انظر: معجم المدن اليمنية ص ٨٠.
(^٥) حصن شهير في بني سويد يعرف الآن بحصن ظفار كان قاعدة لمملكة سبأ بن أحمد الصليحي. انظر: المرجع السابق ص ٢٥.
(^٦) أبين بفتح الهمزة مخلاف (منطقة) مشهور على ساحل البحر الهندي شرقي عدن. المرجع السابق ص ٨.
1 / 12
وتهامة وهي امتداد لدولة بني زياد، وقد قضى على هذه الدولة بنو مهدي الذين انتحلوا مذهب الخوارج وفتكوا بالناس وأهلكوا الحرث والنسل واستمرت دولتهم خمسة عشر عاما، وكان بين تلك الإمارات وأولئك الحكام حروب دائمة متصلة تنشر الدمار والخراب في كل مكان، وفي كثير من الأحيان كانت الدولة تنقسم على نفسها ويبرز فيها طامعون إلى أن قضى على جميع هؤلاء الدولة الأيوبية سنة (٥٦٩ هـ) (^١).
سادسا: أولاده:
لم يذكر للشيخ من الأولاد سوى ابنه طاهر وبنتين، تزوج الفقيه عمرو بن عبد الله بن سليمان إحداهما فتوفيت في نفاسها فتزوج الأخرى.
سابعا: وفاته:
توفي العمراني ﵀ في ذي السفال (^٢) مبطونا شهيدا قبيل الفجر من ليلة الأحد لست وعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة من الهجرة وله تسع وستون سنة، وكان نزعه ليلتين ويوما بينهما.
ولم يترك صلاة في مرضه، يسأل عن وقت كل صلاة بالإيماء لأنه اعتقل لسانه، وكان كثير التهليل يعرف منه بالإشارة بالمسبحة (^٣).
_________
(^١) انظر في تاريخ هذه الدول: تاريخ اليمن المسمى بهجة الزمن في تاريخ اليمن ص ٤٩ - ٧٥ بقية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد ص ٣٩ - ٦٧، اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية ص ٣٠ - ٥٤.
(^٢) مدينة جنوب إب بمسافة ٤٣ كم بالسفح الجنوبي من جبل التعكر معجم المدني والقبائل اليمنية ص ٢٠٧.
(^٣) انظر ترجمته في: طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة الجعدي ص ١٧٦ - ١٨٢. وقد استفاد منه كل من ترجم للعمراني لقرب عهد ابن سمرة منه وتتلمذه على تلاميذه. وانظر:
معجم البلدان لياقوت الحموي ٣/ ١٩٦. وتهذيب الأسماء واللغات للنووي ٢/ ٢٧٨. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٧/ ٣٣٦ - ٣٣٨. وطبقات الشافعية للأسنوي ١/ ٢١٢. وغربال الزمان في وفيات الأعيان ليحيى بن أبي بكر العامري اليماني ص ٤٣٦ - ٤٣٨، والأعلام للزركلي ٨/ ١٤٦.
1 / 13
المبحث الثاني: حياته العلمية وآثاره
أولًا: طلبه للعلم ورحلاته فيه:
الشيخ العمراني ﵀ أوقف حياته للعلم تعلما وتعليما وتأليفا، لهذا نجده ﵀ قوي العزيمة في تحصيل العلم جاد الرغبة، فيه تنقل بين بلدان اليمن طلبا للعلم.
وله تخصص بالفقه الشافعي مع المشاركة في علوم اللغة والعقيدة، وكان خاله أبو الفتوح بن عثمان بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عمران أول من أخذ عنه من الشيوخ، فقد أخذ عنه كتاب (كافي الفرائض في المواريث) للصردفي.
وارتحل ﵀ إلى ذي الحفر (^١) وقرأ كتاب (التنبيه) للشيرازي، وأخذ عن الشيخ الفقيه عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني (المهذب) وحفظه عنه و(اللمع) كلاهما لأبي إسحاق، و(الملخص) و(إرشاد ابن عبدويه)، و(كافي الفرائض) للصردفي أيضا.
ثم ارتحل إلى أحاظه (^٢) فقرأ على الشيخ زيد بن الحسن الفايشي فأعاد عنده (المهذب)، وأخذ عنه تعليق الشيخ أبي إسحاق في أصول الفقه، و(غريب الحديث) لأبي عبيد في اللغة، و(مختصر العين) للخوافي، و(نظام الغريب) للربعي وكتاب (التبصرة في أصول الدين) تصنيف أبي الفتوح على مذهب السلف، وأخذ عن خبيره (^٣) عمر بن إسماعيل الجماعي الخولاني كتابي (الكافي) للصفار في النحو و(الجمل) للزجاجي.
_________
(^١) ذى الحفر: حصن في عزلة نعيمة على مقربة من مدينة جلبة. انظر: معجم المدن اليمنية ص ١٢٥.
(^٢) أحاظه: ويقال لها وحاظه تقع شمال إب وهي اليوم مزارع وأطلال. انظر: المرجع السابق ص ٤٦٠.
(^٣) قال محقق كتاب طبقات فقهاء اليمن: "الخبير في اللهجة اليمانية الرفيق والصديق".
1 / 14
ولما وصل الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي سنة (٥١٢ هـ) إلى الجند (^١) قادما من مكة جاءه جماعة من الفقهاء ومن ضمنهم الشيخ العمراني فقرأ عليه (النكت) وهو في المسائل المختلف فيها بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة تصنيف أبي إسحاق الشيرازي، كما سمع (المنهاج) للقاضي أبي الطيب الطبري ودرس كتاب (التعليق في الخلاف) للشيخ أبي إسحاق و(التبصرة في أصول الدين) لأبي الفتوح مرة أخرى وكتبًا أخرى، وبقي عند الشيخ اليفاعي إلى أن توفي سنة (٥١٤ هـ) (^٢) فانتقل إلى سهفنة (^٣) فأخذ عن القاضي مسلم بن أبي بكر بن أحمد الصعبي كتاب (الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الزيغ والبدعة) للشيخ حسين بن جعفر المراغي (^٤).
ثم انتقل إلى ذي أشرق (^٥) سنة (٥١٧ هـ) فسمع (الجامع للسنن) للترمذي على الشيخ سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم بن عبد الله.
كما طالع بذي أشرق شروح المزني وكتبا أخرى (كالمجموع) للمحاملي و(الشامل) لابن الصباغ وكتاب (الفروع) لسليم و(شرح المولدات) للقاضي أبي الطيب و(العدة) للقاضي حسين بن علي الطبري.
وقد حج ﵀ وزار مسجد النبي ﷺ وقبر النبي ﷺ في المدينة سنة (٥٢١ هـ).
ولقي في مكة الفقيه الواعظ محمد بن أحمد العثماني الديباجي فتناظرا
_________
(^١) الجند: بفتح الجيم والنون بلدة تقع بالشرق الشمالي من مدينة تعز وبها أول مسجد بني في اليمن وهي اليوم بليدة صغيرة. انظر: المرجع السابق ص ٩٥.
(^٢) طبقات فقهاء اليمن ص ١٥٢ - ١٥٣.
(^٣) سفهنه: هي قرية شمال الجند بالقرب من القاعدة على الطريق منها إلى ذى السفال. معجم المدن اليمنية ص ٢١٨.
(^٤) طبقات فقهاء اليمن ص ١٢٤.
(^٥) ذي أشرق بلدة أثرية في سفح جبل التعكر بالجنوب الغربي من إب المرجع السابق ص ٢٤.
1 / 15
وتذاكرا في مسائل الفقه والأصول وكان الديباجي أشعريا فنصر العمراني ﵀ مذهب السلف في أن القراءة هي المقروء (^١) واحتج على الديباجي بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (^٢) وأن الإشارة بهذا إلى المتلو المقروء إلى أن سكب الديباجي العرق عن وجهه.
ثم عاد ﵀ إلى بلده مصنعة سير وبقي فيها يصنف ويدرس إلى سنة (٥٤٩ هـ) حيث تعذر سكنى سير بسبب حروب وفتن جرت بين أهلها فانتقل إلى ذي السفال، ثم إلى ذي أشرق ومكث فيها سبع سنين وكسرا انشغل خلالها بالتدريس والإقراء والتصنيف كما سمع خلالها عام (٥٥٥ هـ) (صحيح البخاري) و(سنن أبي داود) من الشيخ الحافظ علي بن أبي بكر الهمداني.
ثم ظهر ابن مهدي الخارجي واستولى على زبيد وتهامة ثم خلفه بعد موته ابنه مهدي بن علي فأغار على الجند وبواديها، فجعل الشيخ العمراني ﵀ خوف ابن مهدي سبيلًا للخروج من ذي أشرق فقد كان كره البقاء فيها بسبب فتن وقعت بين فقهاء ذي أشرق وفقهاء زبيد تسببت بالتباغض والتحاسد والتكفير، فتوجه الشيخ بعد خروجه في شوال سنة (٥٥٧ هـ) إلى ضراس (^٣) ثم إلى ذي السفال واستقر بها إلى أن توفي ﵀ في ربيع الآخر سنة (٥٥٨ هـ) كما سبق ذكره (^٤).
_________
(^١) الصواب أن بين القراءة والمقروء فرقا لأن القراءة فعل القارئ والمقروء كلام الله عزوجل وعدم التفريق بينهما مذهب لبعض السلف لدقة الفرق وعدم تبين كثير من الناس للفرق بينهما، وسأتي توضيح ذلك عند رد المصنف على اللفظية في الفصل رقم (٩٦).
(^٢) سورة الإسراء آية (٩).
(^٣) ضراس: قرية من أعمال ذى السفال. انظر: معجم المدن اليمنية ص (٢٥٩).
(^٤) انظر: طبقات فقهاء اليمن ص ١٧٤ - ١٨٠، طبقات الشافعية الكبرى ٧/ ٣٣٦.
1 / 16
ثانيا: شيوخه
ذكرنا فيما تقدم رحلات العمراني ﵀ وطلبه للعلم وقد أخذ في رحلاته تلك عن شيوخ اليمن في وقته، وهم:
١ - خاله أبو الفتوح بن عثمان بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عمران (^١).
٢ - الشيخ موسى بن علي الصعبي قال عنه الجعدي: سكن ذي الحفر في نعيمه تفقه بمقبل بن زهير وكان مدرسا في ذي الحفر توفي سنة (٤٥٠ هـ) (^٢).
٣ - الشيخ عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني سكن زبران من بادية الجند وتوفي سنة (٥١٨ هـ) تفقه بشيوخ منهم الفقيه أبو بكر بن جعفر بن عبد الرحمن المخائي وزيد بن عبد الله اليفاعي وأكثر أخذه عنه، وقرأ على ابن عبدويه (الإرشاد) في أصول الفقه والجدل له وسمع عليه قراءة المهذب وكان زاهدا ورعًا (^٣).
٤ - الشيخ الفقيه عبد الله بن عمير العريفي تفقه بزيد بن عبد الله اليفاعي (^٤).
٥ - الشيخ زيد بن الحسن بن محمد الفايشي ولد سنة (٤٥٨ هـ) وتوفي سنة (٥٢٨ هـ) تفقه بشيوخ كثير وكان عالمًا بعلوم كثيرة، منها علم القراءت من طريق أبي معشر الطبري حيث قرأ عليه بمكة ومنها التفسير والحديث
_________
(^١) طبقات فقهاء اليمن ص ١٧٤.
(^٢) هكذا في طبقات فقهاء اليمن ص ١٥٥. ولا شك أنه خطأ، فلعله من الناسخ لأن العمراني ﵀ ولد سنة (٤٨٩ هـ).
(^٣) طبقات فقهاء اليمن ص ٢٥٤.
(^٤) طبقات فقهاء اليمن ص ١٥٥.
1 / 17
واللغة والنحو والفقه والخلاف وأصول الفقه وعلم الكلام في التوحيد وكان كثير الحج وربما جاور في مكة وكان رحالًا في طلب العلم فبذلك كثرت علومه وظهرت فضائله وكان قوامًا بالليل يصلي بالسُبُع من القرآن كل ليلة في غالب أحواله وأكثر زمانه، وصنف في مذهب الشافعي مختصرًا مليحا سماه كتاب (التهذيب) وتفقه به خلق كثير (^١).
٦ - عمرو بن بيشى وهو من ترب الشيخ العمراني أخذ عنه كتاب (كافي النحو) لأبي جعفر الصفار و(الجمل) للزجاجي (^٢).
٧ - الإمام زيد بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم اليفاعي من أعيان علماء اليمن وأشياخ فقهاء الزمن أستاذ الأستاذين وشيخ المصنفين أخذ عن جلة علماء اليمن ثم ارتحل إلى مكة فقرأ على تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي ثم عاد إلى اليمن فاجتمع الناس إليه للتدريس، وخاف الأمير مفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري القرمطي من تجمعهم أن يخرجوا عليه فأمر خاصته بإحداث فتنة بين هذا الشيخ والشيخ أبي بكر بن جعفر بن عبد الرحمن المخائي وبالفعل تمت الفتنة بينهما وتشتت أتباع الشيخين فهاجر الشيخ زيد اليفاعي مرة أخرى إلى مكة وجاور فيها ثنتي عشرة سنة يدرس ويفتي، ثم عاد إلى اليمن بعد هلاك الأمير المفضل بن أبي البركات سنة (٥١٣ هـ)، فسكن الفقيه زيد الجند واجتمع عليه جلة فقهاء اليمن يقرؤون عليه ويسمعون منه حتى توفي ﵀ سنة (٥١٥ هـ) (^٣).
٨ - القاضي مسلم بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الله الصعبي كان عالما بعلم الكلام محجاجا ظريفا ماهرا في الأصول مع تبريزه في الفقه وقد بيض الجعدي تاريخ ولادته ووفاته (^٤).
_________
(^١) المرجع السابق ص ١٥٥، طبقات الشافعية الكبرى ٧/ ٨٥.
(^٢) طبقات فقهاء اليمن ١٧٥ - ٢٢٦.
(^٣) طبقات فقهاء اليمن ص ١١٩ - ١٢٣ - ١٢٥ - ١٥٣، طبقات الشافعية الكبرى ٧/ ٨٦.
(^٤) طبقات فقهاء اليمن ص ١٢٤.
1 / 18
٩ - الشيخ سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم ولد في رمضان سنة (٤٥١ هـ)، وتوفي في ذي الحجة سنة (٥٣٢ هـ) في ذي أشرق، وكان إمام جامعها تفقه بأبيه وأخذ عن أبيه كتاب جامع الترمذي وعنه أخذه العمراني ﵀ (^١).
١٠ - الشيخ سراج الدين شيخ المحدثين الحافظ أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن حمير بن الهمداني العرشاني، روى عنه الشيخ العمراني (صحيح البخاري) و(سنن أبي داود)، وقال الجعدي: كان إماما في الحديث متقنا للرواة عالما بصحيحه ومعلوله وله تصنيف مليح محقق يعرف بكتاب (الزلازل والأشراط) وتوفي سنة (٥٥٧ هـ) (^٢).
ثالثا: تلاميذه:
قال ابن سمرة الجعدي عن العمراني: "وانتشر علمه في الأجانب والقرباء، وأجاب عن المعضلات، وأوضح المشكلات وقسم الأوصاف والاحترازات وطبق الأرض بالأصحاب فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجودا ومناظرا مجتهدا إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه" (^٣).
وقد أقام ﵀ كما سبق ذكره في بلده مصنعة سير بعد عودته من الحج سنة (٥٢١ هـ) يدرس إلى سنة (٥٤٩ هـ) ثم انتقل إلى ذي أشرق واستمر في التصنيف والتدريس إلى سنة (٥٥٧ هـ) قبل وفاته ببضعة أشهر وكان ﵀ كما ذكر عنه ابن سمرة الجعدي والسبكي: من أحسن العلماء تعليما وتدريسا وطريقته كما ذكرها الجعدي بقوله: "وكان ﵀ إذا درس من يعلم فهمه فإنه بعد فراغ القارئ من الفصل يعيده هو بنفسه
_________
(^١) المرجع السابق ص ١١٥ - ١١٦.
(^٢) المرجع السابق ص ١٧١.
(^٣) طبقات فقهاء اليمن ص ١٨٢.
1 / 19
عليه حفظا مع تنبيهه له على خلاف الإمام مالك وأبي حنيفة خاصة، وقد يذكر معهما غيرهما في بعض المسائل، ثم يذاكره باحتراز الأقيسة والوجوه في أصولها. لم خصت بجعلها أصولًا؟ وذلك إما من جهة النص عليها في الكتاب والسنة، أو تسليم المخالف في حكم المسألة المقيسة، وإن كان في عبارة الكتاب استغلاق أو قصر فهم القارئ أبدلها له بعبارة أخرى إلى أن يتصور القارئ الفصل ويفهمه، ومن كان من الطلبة غير فاهم لم يسلك به هذا المسلك بل يجيبه عما سأل عنه لا غير مع رده عليه التصحيف" (^١).
فلا غرو بعد هذا أن يكون الشيخ ﵀ إمام الشافعية باليمن وجميع من جاءوا بعده ممن ترجم لهم ابن سمرة الجعدي هم تلاميذه أو من المستفيدين من علمه والغارفين من بحره، ونقتصر في الترجمة لبعضهم وهم:
١ - ابن عمه محمد بن موسى بن الحسين بن أسعد العمراني وهو أقدم أصحابه قراءة عليه وأعلاهم رتبة وأرفعهم درجة، كان حافظا مجودا جمع بين الفقه والزهد والعبادة والورع، ومع ذلك حسن الخلق توفي سنة (٥٦٨ هـ) في مصنعة سير أفتى ودرس في حياة شيخه العمراني وكان يثني عليه ويمدحه (^٢).
٢ - ابنه طاهر بن يحيى بن أبي الخير أبو الطيب العمراني ولد في ذي الحجة سنة (٥١٨ هـ) تفقه بأبيه وخلفه في حلقته ومجلسه وأجاب على المشكلات في حياته، جالس العلماء وروى عنهم، وأخذ عن غير واحد وجاور في مكة وهاجر إليها بأولاده الرجال والنساء لعموم فتنة ابن
_________
(^١) المرجع السابق ص ١٧٨، وانظر: طبقات الشافعية الكبرى ٧/ ٣٣٧.
(^٢) طبقات فقهاء اليمن ص ١٨٥.
1 / 20
مهدي (^١) في مخاليف اليمن. وأقام سبع سنين روى عن كبار المحدثين في الحرم، ثم عاد إلى اليمن سنة (٥٦٦ هـ) وولي قضاء ذي جبلة وأعمالها وله مصنفات منها: (مقاصد اللمع) و(كسر قناة القدرية) وكتاب في (مناقب الإمامين الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله) وكتاب (معونة الطلاب بفقه معاني كلم الشهاب) وجمع بين علم القراءات والحديث والفقه وغلب عليه الكلام وتوفي ﵀ سنة (٥٨٧ هـ) (^٢).
وذكر الجعدي أن الشيخ العمراني جمع أحبابه وأصحابه وأمر ابنه طاهرا أن يصعد المنبر في ذي أشرق سنة (٥٥٤ هـ) وسأله أبوه عن اعتقاده وذلك لما شاع أنه على خلاف عقيدة أبيه فأجاب الابن بما كذب كل حاسد وأدحض تلبيس كل بغيض ومعاند، فالتقاه والده عند أسفل المنبر وقال: هل أنكر الإخوان من هذا شيء (^٣).
وهذا يرد على ادعاء يحيى العامري في كتابه غربال الزمان ص (٤٣٧) أن طاهر بن الشيخ يحيى العمراني كان أشعريا وأنه كان ينكر على والده ويرد عليه عقيدته، لأن الجعدي تلميذ طاهر بن يحيى ونقله عنه أثبت وأدق، ولعل الذي بلغ العامري فحكاه في كتابه هو من الشائعات التي كانت بلغت العمراني ﵀ فطلب من ابنه أن يفصح عن عقيدته على المنبر أمام الناس. وهي قوة في الحق.
٣ - الفقيه أحمد بن عبد الله بن مسعود بن أسلم البريهي ثم السكسكي ثم الكندي سيف السنة زين الحنبلية سكن في إب (^٤) وأفضت إليه الرئاسة فيها، جمع بين الزهد والورع والعلم والحديث، وارتحل إلى مكة وسمع فيها صحيح مسلم في سنة (٥٨٠ هـ) ورجع إلى مدينة إب ثم نزل الجند
_________
(^١) سبق الإشارة إليها في الكلام على موطن نشأة العمراني.
(^٢) المرجع السابق ص ١٨٧، طبقات الشافعية للأسنوي ١/ ٢١٣.
(^٣) طبقات فقهاء اليمن ص ١٨٨.
(^٤) إب: مدينة في الجنوب من صنعاء في السفح الغربي لجبل ريمان وهي منطقة خصبة. معجم المدن اليمنية ص
1 / 21
واجتمع إليه الأصحاب من ظبا (^١) وذي أشرق والشعبانية وأعمال الجند وغير ذلك فأسمعهم إياه في رجب بمدينة الجند سنة (٥٨١ هـ) (^٢).
هؤلاء هم كبار تلاميذ العمراني وله تلاميذ آخرون ذكرهم ابن سمرة الجعدي.
وقال: "وصحب الإمام يحيى بن أبي الخير خلق كثير ممن استحق بالحفظ والنظر درجة الفتوى وممن لم يستحق، وسأذكر عدد من يحضرني معرفته مع من قدمت ذكره من المشهورين بالفتوى والتدريس".
ثم ذكر مجموعة أخرى من التلاميذ نحيل فيها إلى كتاب ابن سمرة من ص (١٩٨ - ٢١٠).
رابعا: عقيدته:
العمراني ﵀ سلفي العقيدة وداعية إلى هذه العقيدة ومنافح عنها وهو في هذا الشأن من علماء اليمن الكبار وكان وقع له ﵀ كتاب الشريعة للآجري عن طريق تلاميذ خير بن يحيى الملامس عن أبي بكر البزار عن الآجري ﵀.
كما أنه اخذ عن القاضي مسلم الصعبي (كتاب الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الضلالة والبدعة) لمصنفه الشيخ الحسين بن جعفر المراغي.
كما استفاد ﵀ فائدة واسعة من كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للحافظ اللالكائي حيث اعتمد عليه في كتابه الانتصار مع الشريعة للآجري وصحيح البخاري وجامع الترمذي، وكان قد ألف كتابه (الانتصار) انتصارا للعقيدة السلفية لما طعن فيها القاضي جعفر بن عبد السلام الزيدي المعتزلي وذلك حين رد على رسالة سابقة للعمراني في بيان عقيدة
_________
(^١) ظبا: بضم الظاء واد بالجنوب من مدينة جبلة. معجم المدن اليمنية ص ٢٥٧.
(^٢) لم يتبين لي عمن أخذ هذا الكتاب حيث لم يشر إليه ابن سمرة الجعدي في ترجمة الشيخ العمراني.
1 / 22
أصحاب الحديث في القدر بكتاب سماه (الدامغ للباطل من مذهب الحنابل) (^١) فانبرى له الشيخ بهذا الكتاب المطول شرح فيه عقيدة السلف وأظهر فساد مذهب المعتزلة، كما رد فيه على الأشاعرة وأظهر انحرافهم في مسائل في الصفات وغيرها، وقد استفاد العلماء من هذا الكتاب وفرحوا به وانتسخوه ودانوا الله به واعتقدوه.
كما ناظر ﵀ في مكة الواعظ محمد بن أحمد العثماني الديباجي الأشعري ونصر مذهب الحنابلة وأهل السنة في أن المقروء هو كلام الله عزوجل الذي تكلم الله به واحتج على الديباجي بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ وأن الإشارة بهذا إلى المتلو المقروء إلى أن سكب الديباجي العرق من وجهه (^٢).
وكان ﵀ مع ذلك يكره الخوض في الكلام فقد ذكر عنه الجعدي أنه كان يحب طلبة العلم والفقه واجتماعهم ويكره لهم الخوض في الكلام (^٣).
وكتابه الانتصار يدل على سعة علمه وتمسكه بعقيدة السلف إلا أنه يؤخذ عليه ﵀ استخدامه لبعض تعبيرات المتكلمين وتأثره بهم في المسائل الدقيقة من العقيدة كمسألة الحكمة والتعليل والاستطاعة وغيرها، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن المآخذ على الكتاب.
خامسا: مذهبه الفقهي
العمراني ﵀ إمام من أئمة الشافعية في اليمن وقد ذكر الجعدي أن اليمن كان الغالب فيه مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة - رحمهما الله - إلى نهاية القرن الثالث الهجري (^٤)، وأول من أظهر المذهب الشافعي في اليمن الفقيه موسى بن عمران المعافري (^٥)، وأول من انتشر عنه المذهب الشافعي
_________
(^١) انظر: التعريف به ص ٣٣.
(^٢) طبقات فقهاء اليمن ص ١٧٧.
(^٣) المرجع السابق ص ١٨٠.
(^٤) المرجع السابق ص ٧٤.
(^٥) المرجع السابق ص ٨٠.
1 / 23
وظهر إمام الشافعية في صنعاء وعدن الشيخ القاسم بن محمد الجمحي القرشي المتوفى سنة (٤٣٧ هـ) في سهفنة فقد انتشر عنه المذهب في مخلاف الجند وصنعاء وعدن ومنه استفاد فقهاء هذا المذهب في تلك البلاد، وكانت مدرسته في سهفنة فأخذ عنه شافعية المعافر (^١) ولحج (^٢) وأبين وأهل الجند والسحول (^٣) وأحاظه وعنه (^٤) ووادي ظبا (^٥).
وعن تلاميذ القاسم بن محمد انتشر المذهب الشافعي حتى وصل إلى الشيخ أبي الحسين يحيى بن أبي الخير العمراني فانتشر عنه المذهب إلى سائر البلدان وصنف فيه وألف الكتب الكثيرة وأظهرها كتاب (البيان) وهو معدود من كتب الشافعية الكبار ويحيل عليه كثيرا السبكي في طبقاته ويذكر ترجيحاته ومسائله في مواطن كثيرة من كتابه مما يدل على قيمته وقدره عند الشافعية.
وسيأتي ذكر بقية مصنفاته في المذهب في فصل خاص فهو إمام من أئمة الشافعية (^٦) وقد قال عنه الجعدي: (فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجودا ومناظرا مجتهدا إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه) (^٧).
سادسا: مصنفاته
أتحف العمراني ﵀ المكتبة الإسلامية وطلاب العلم بمصنفات عديدة جلها في المذهب الشافعي وهي:
_________
(^١) المعافر: بفتح الميم وكسر الفاء تسمى الآن (الجحريه) بضم الجيم وفتح الحاء وهي وطن كبير جنوب تعز. معجم المدن اليمنية ص ٣٩٤.
(^٢) لحج: مخلاف كبير في الشمال الغربي من عدن. المرجع السابق. ص ٣٥٥.
(^٣) السحول: بلد بين إب جنوبا وحتى قفر يريم شمالا وهي أرض خصبة كثيرة الخيرات. المرجع السابق. ص ٢٠١.
(^٤) عنه: بفتح العين وتشديد النون واد في بلاد العدين غربي إب يصب في وادي زبيد. المرجع السابق. ص ٢٩٩.
(^٥) طبقات فقهاء اليمن. ص ٨٨.
(^٦) تقدم في مبحث طلبه للعلم عنايته بالفقه الشافعي وحفظه المهذب وغيره.
(^٧) المرجع السابق. ص ١٨٢.
1 / 24