انتکاس مسلمانان به بتپرستی: تشخیص پیش از اصلاح
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
ژانرها
وكما كان للصحراء قيمها كان لبيئة النهر قيمها، وقيم النهر أنشأت حضارات كبرى قبل الأديان وبعدها، والقول إن قيم الصحراء هي المثال النموذجي هو أمر يجافي حقائق الواقع على مدى التاريخ، وإلا لكانت جغرافية مهبط الأديان تحوي أقوى وأعظم الحضارات، ولكانت لها السيادة والريادة، ولما ظهرت اليوم دعوات الإصلاح لبلاد مهبط الأديان، ولقام العالم كله يسعى للتشبه بنا والنقل عنا لا العمل على إصلاحنا. وعليه فإن البيئة تشكل بمشاركة البشر ونتيجة تفاعلهم معها، ضميرا جميعا يتمثل واقعيا في مجموعة نظم وقواعد وعادات وتقاليد، تحكمها القيم التي توافق عليها هذا الضمير الجمعي. وهو ما يتم غرسه في الطفولة والتنشئة الاجتماعية، فتتحول القيم إلى معان داخلية تصع شروط السلوك، تصبح مثل أوبريتور داخلي باطني سبق تصنيعه، مهمته تشغيل السلوك وفق ضوابط تحمي هذه القيم؛ ومن ثم تتشكل القيم بحسب ظروف الجغرافيا والبيئة وشكل المجتمع وظروفه. وفقهاء زماننا يحرمون المسلمين من تشغيل هذا الأوبريتور باعتباره نقيضا للقيم الدينية؛ لذلك حرموا الإبداع بحسبانه بدعة، بينما قام الإنسان في الغرب بتشغيل هذا الأوبريتور فأبدع وابتدع وأفاد بعلومه وقيمه الإنسانية كلها.
إذن البيئة والإنسان يصنعان معا ما يلزم من تكنيك لإشباع الحاجات الإنسانية وفق نظام قيمي، ولحماية هذه القيم تم اكتشاف القوانين أو اختراعها اختراعا لضمان قيم الجماعة وصيانتها. فالبيئة حكمت على مصر مبكرا بإدارة محكمة ونظام تكافلي مقدس في مواجهة توحش النيل، للسيطرة عليه واستئناسه وتوظيفه بما يعطي أفضل منفعة؛ لذلك كانت القيم تناسب هذا الوضع الخاص، وهو وضع يختلف بالمرة عن بيئة الندرة الشحيحة الفقيرة في البوادي، حيث لا يمكن الحديث سوى عن قبائل متفرقة متقاتلة على خير البيئة الضنين، لا عن دولة مركزية إدارية.
ومثل الدكتور الصاوي فإن الشيخ الدكتور «عمر حسنة» يضع تعريفا للقيم في ثوب يبدو مدنيا بالكامل، بينما يستبطن الرؤية الدينية وحدها؛ فهو يقول: «إن القيم معايير ومقاييس للفعل البشري، ومحددات للسلوك، وضابط للنشاط الإنساني ومسيرة البشرية في المجالات جميعا» (المصدر نفسه). ولعل أول ملحوظة هي إسقاط هذا التعريف عن قصد وعمد، المشاعر والأحاسيس الإنسانية وقيمها ومعاييرها؛ مما يعني إنكار وجود أي قيم للتذوق الفني والجمالي، هو تعريف إسلامي في لغة محايدة، تعريف لا ينظر إلى الآثار المصرية أو تماثيل بوذا التي دمرتها طالبان بأنها أشياء ذات قيمة. فإن سألنا عن المعيار أحالونا إلى المعيار الإلهي. ولو ذهنا معهم إلى المعيار ذاته لوصلنا إلى نتائج مخالفة لمقدماتهم، فإذا كان هناك معيار إلهي للقيم، فلا شك أنه كان قديما أزليا سابقا لكل الرسل، ولأن آدم هو من كان مؤهلا لفهم القيمة والحكم عليها، وبدون وجود إنسان لا وجود لأي قيمة لأن من يعطيها القيمة هو الإنسان، إذن لا شك أن هذا المعيار الإلهي قد صاحب عملية خلق آدم؛ لأنه لن يصح القول إن الله قد خلق آدم بلا أخلاق وتركه وذريته ألوف السنين، ثم استدرك ذلك بملحق أخلاقي يحمله له الأنبياء، ناهيك عن كون آدم نفسه نبيا لأولاده حسب العقيدة الإسلامية. إذن لو سلمنا لفلاسفة القيم المسلمين بما يسمونه قيما إلهية لها معيار إلهي، فلا شك أن هذا المعيار هو الذي صاحب الإنسان في عصره الحجري في صورة قيم مغروسة فيه، تتناسب مع مطالب القوة البدنية للدفاع عن النفس والحصول على الغذاء في الغابات والأحراش في بيئة بدائية قاسية، وذلك للحفاظ على نوعه من الانقراض. كانت القيم تناسب الحال، كانت هي الغرائز والحاجات الأساسية والشهوات وحدها لا غير.
كان الإنسان نصف وحش نصف إنسان، كان بحاجة لما يواجه به البيئة المتوحشة، ولأن لكل مقام مقال، ولأن لكل زمن أو مكان ما يناسبه، فإننا لو قلنا معهم بقيم إلهية فستكون هي الغرائز والحاجات للسكن والطعام والجنس والأمن؛ لذلك أعطاه الله الغرائز، أعطاه حواس الإشباع لحفظ نوعه وحياته، وهي قيم كانت موجودة سواء جاء الأنبياء ليقولوا لنا عن القيم الإلهية أو لم يأتوا. كان كبقية الوحوش ينكح أخته كما في صراع هابيل وقابيل مثلا، وحتى زمن إبراهيم الذي تزوج من أخته سارة، وحتى زمن الأسباط عندما تزوج عمران عمته يوكابد. ولو كان لدى آدم ما لدينا اليوم من قيم إنسانية لفشل وانقرض لعجزه عن التعامل مع بيئة لا ترحم ضعيفا.
وعندما طور الإنسان بيئته طور قيمه لتناسب الجديد؛ فهو يطور البيئة فتتطور القيم لاحقا، وهو ما يفسر لنا بقاء قيم شديدة البدائية في المجتمعات المتخلفة التي لا تخترع ولا تنتج ولا تضيف جديدا، بينما يحاول العالم المتحضر مساعدة هذه المجتمعات للخروج من بدائيتها. وكان معنى الخير بدائيا ماديا بحتا فالخير هو الطعام أو الإحسان بالطعام والماء، مجموعة الأفعال المسببة للذة والسعادة كانت هي قيمة الخير، كانت عند البدائي حرة عشوائية بلا قيود، يجامع كالحيوانات أمام الآخرين دون حرمات، كل شيء كان مباحا فلو وجدت قيود وتحريمات لاندثر وانقرض. كان هو الوحشية الطليقة غير المقيدة، يأكل ويفترس غيره ويشبع غرائزه، حتى جاء فجر الضمير مع قيام دولة مصر القديمة الموحدة، فيما وصل إليه الحبر اليهودي الأركيولوجي الأمريكي جيمس هنري برستد، وقبلها كان الظلام الدامس، قبلها كان الإنسان لا يزال حيوانا بعد.
القاعدة الأساسية لقيمة الخير عند البدائي هي ما يخطط للإنسان حياته ونوعه، كل شيء مباح ما دام يحقق الراحة والسعادة واللذة، ومع التحضر والتطور أخذ الإنسان يهذب من سلوكه ويتنازل عن بعض حرياته للمجتمع، وبدأ تعريف القيم وسنت لها القوانين عند حمورابي وفي القانون المصري القديم وهو قانون شديد الثراء، وعني المجتمع بأن يعرف أفراده حقوقهم وواجباتهم عبر تعليم القوانين والعقوبات في المدارس كما وصلنا من العمق البعيد لتدريبات تلاميذ المدارس في مصر القديمة.
إذن حسب الرؤية الدينية فإن المعطى الإلهي كان الغرائز الموضوعة في خلقة آدم، مع معارف أولية بسيطة ابتدائية، ومثل هذه المعارف الأولية لا تندرج تحت معنى القيم اليوم إلا بمعناها السلبي، ويبدو أن المعطى الإلهي كان به شوائب كثيرة لحكمة يعلمها الخالق سبحانه وتعالى، حتى العقل الذي هو سر التكريم الإنساني كان أيضا ناقصا ومعيبا بدليل تعرضه للخداع من إبليس، وسقوطه ومعه ذريته حسبما نؤمن عن قناعة.
لم ينزل آدم إذن على محطة لمترو الأنفاق ولا أمام هوليود وناطحات السحاب، وهي مستحدثات تحتاج كل منها إلى تقييم يعطيها قيمة وقوانين تحمي هذه القيمة، حتى تسيل حركة المجتمع دون عوائق، فمثلا عندما استحدث الإنسان السيارة وضع لها قيمة ثم وضع للقيمة قانونا يحميها هو قانون المرور؛ وهكذا كان كل مستحدث من صنع الإنسان، يضع له القيمة الإنسان، ومن يعايره بقانون يحمي القيمة هو الإنسان؛ لذلك لا يوجد قانون مرور إسلامي مثلا لأنها مستحدثات لم يعرفها الإنسان البدائي، بينما آدم حسب القصة الدينية ما كان محتاجا لكل هذا، فقد نزل في برار وأحراش وغابات ومفترسين ومفترسات وأرض غير مستقرة ما بين إعصار وبركان، ومع التطور ظهرت قيم الحضارة في البلاد النهرية، ومع التطور التالي ظهرت قيم عصر النهضة ومع التطور التالي ظهرت قيم زمن العولمة، وفقهاؤنا المتفلسفون يحدثوننا عن قيم زمن العولمة كما لو كانت هي القيم الإلهية، بينما قيم العولمة في زماننا هي نتيجة تطور هائل حدث للمعاني والمفاهيم القيمية لتحمل دلالات جديدة تناسب زماننا، ولم تكن في مخزونهم المعرفي أصلا، لقد أنشا الله الغابة وأنشأ لها قيمها، وأنشأ الإنسان الحضارة وأنشأ لها قيمها. (8) القيم الأخلاقية والاسلام
في كتابه «الإخوان المسلمون» يشرح لنا الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي السر وراء رفض المسلمين لقيم البلاد المتقدمة مع قبول منتجها التكنولوجي، بداية وقبل كل قول. وهو ما يعني قبول الصنعة دون الصانع ودون القيم التي أدت إلى ظهور هذه الصنعة، وما يعني أيضا وجودنا الدائم في حال من الدونية والقزمية غير منتجين بل متطفلين على منتج الغرب المدني، عملا بقول الشيخ شعراوي تجاوز الله عن سيئاته، إن الله منحهم العلم والعقل ليشقوا بهما كالأنعام وينتجون لنا ونحن نستهلك على الجاهز بما أعطانا من بترول أو غيره. تصور يا مواطن هم في هذه المقارنة هم الأنعام! تصور!
المهم يقول قرضاوي وهو ينعى على المدنية قيمها الأخلاقية: «إن أهم الظواهر التي لازمت تلك المدنية الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي، والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستماع وإطلاق الغرائز. والأثرة في الأفراد فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه. والربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة للتعامل، وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحتة في المجتمع الأوروبي، فساد النفوس وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة، وأثبتت هذه المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني، وفشلت في إسعاد الناس» (ص139، مكتبة وهبة، القاهرة).
صفحه نامشخص