ولذلك نستطيع أن نرجح أن النظام الأبوي للعائلة لم ينشأ إلا بعد أن تألفت القبائل للغزو، بسبي المرأة أولا، ثم خطف الدواجن ثانيا، وما دام هناك دواجن فلا بد أيضا من غزو المراعي ثم الشروع في امتلاك الأرض، وكل هذا يجوز أن يحدث قبل الاهتداء إلى الزراعة.
ثم ظهر عنصر آخر تغير به نظام العائلة البشرية، ذلك أنه عندما اهتدى الإنسان إلى الدين كان أول إيمانه، وهو بعد في نظام القبيلة، أن هناك ربا يحمي قبيلته دون سائر القبائل، ثم كان الغزو لسبي المرأة يجري بين قبيلة وأخرى كما يجري لخطف الماشية أو للمرعى، فأصبح الزواج بأبناء القبيلة الأخرى سنة مألوفة إن لم تجر بالسبي جرت بما يشبه السبي من تعويض المهر، ونشأ من ذلك كراهة الزواج الداخلي، فلا يتزوج الأخ أخته بل لا يتزوج من قبيلته، وصار لكل قبيلة «طوطم» هو شعار القبيلة الذي يمنع الزواج بين أعضائها.
وللتلخيص نقول: (1)
إن العائلة البشرية الأولى هي عائلة الأم دون الأب؛ أي: العائلة العامة بين اللبونات والقردة العليا، والأب هنا هو صديق مرافق، وقد يهجر العائلة في أي وقت، ثم إن النظام العائلي «وبؤرته الأم» لا يبقى إلا ريثما يتم نضج الأطفال. (2)
عندما عرفت القبيلة، ثم عرف سبي المرأة وغزو الماشية والمرعى، ظهر نظام العائلة الأبوية، الأب هو السيد؛ لأن المرأة التي تسبى لا يمكن أن يكون لها سلطان في العائلة، بل هي تستعبد. (3)
لما تماسك نظام القبيلة بعض الشيء اهتدت إلى الدين بإيجاد طوطم تنتسب إليه وترتبط به، وهو يمثل في أغلب الأحيان حيوانا مألوفا أو بريا، وفي الأكثر طيرا تعزى إليه حماية القبيلة وإكسابها الشجاعة للنصر. (4)
ما دام السبي قد وجد وعرف الغزو فإن العادة تنشأ في كراهة الزواج من الإخوة أو الأقارب، ثم يحرم، ويعود الزواج مقصورا على الجنس الآخر من القبيلة الأخرى بالسبي أو التعويض بالمهر، وتعم القاعدة بأن أبناء الطوطم لا يتزاوجون فيما بينهم، كل هذا والإنسان لم يعرف الزراعة ولم يستقر، ولكن هذا التدرج لا يؤخذ على أنه يسير في نظام واضح كل واحد يلي الآخر؛ إذ هو يتداخل، وزواج الأخت عند الفراعنة برهان على أن نظام الغزو والسبي لم يعش في مصر المدة الكافية لإلغائه، وقد كان رمسيس الكبير ثمرة خمسة عشر زواجا متواليا من هذا النوع؛ أي: زواج الأخ بالأخت.
كذلك يجب ألا ننسى عوامل أخرى للضمد؛ أي: زواج المرأة لعدة رجال، منها وأد البنات للفقر؛ لأنه إذا شاعت هذه العادة في أمة ما قل عدد النساء وزاد عدد الرجال، فيصبح الضمد محتوما، كما رأينا عند العرب قبل الإسلام، وكما نرى الآن في تبت وسيلان. •••
العالم البشري المتمدن يعيش في عصرنا في النظام الأبوي: ثمرة الغزو والسبي، وقد لاحظ نيتشة أن الكلمة اللاتينية لمعنى الفضيلة مشتقة من الجذر الذي اشتقت منه كلمة الرجولة “Virility, Virtue”
وهذا طبيعي؛ لأن الأخلاق السائدة يجب أن تكون أخلاق السادة وقد كان السادة في الدولة الرومانية، دولة الغزو والنهب، رجالا، فصارت صفاتهم فضائل، وصار مجتمعهم أبوي العائلة، وكان مجتمعهم أقسى المجتمعات لذلك، حتى كان القانون يجيز للأب قتل ابنه، وقد ورث الأوروبيون هذه العائلة الأبوية عنهم، ولكن هل العائلة الأبوية هي الكلمة الأخيرة في المجتمع البشري؟
صفحه نامشخص