هذه هي الكلمات التي تلقاها داروين من أبيه في وقت كان يلوح لأي إنسان يتأمل داروين أنها صحيحة، وأن هذا الشاب قد خاب الخيبة التامة، فقد تسكع في دراسات مختلفة، ولكنه لم يستقر على واحدة منها، فقد التحق بكلية الدين ثم تركها، والتحق بكلية الطب ثم تركها، وفي غضون ذلك كان يلعب، أو على الأقل كان يبدو كأنه يلعب، يخرج إلى الحقول ويجمع النباتات، ويصيد الحشرات ويقارن بين النباتات، ويفكر تفكيرا سريا كأنه يتآمر على الكون كله، كي يغيره أو يغير البصيرة البشرية فيه.
والآن بعد أكثر من مئة سنة من هذه الكلمات القاسية التي قالها أبوه عنه لا يعد داروين عارا على عائلته بل هو فخر أمته يتباهى به التاريخ الإنجليزي، وبعد نحو خمسين سنة من هذا التوبيخ الأبوي تأمل داروين حياته الماضية، ومبلغ ما أتمه من الخدمة في التوجيه.
مني للعالم فقال: «أظن أن أبي قد قسا علي بعض القسوة».
ومات داروين في عام 1882 بعد كفاح ثقافي طويل، ونحن الآن بعد وفاته بأكثر من خمسين سنة، نستطيع أن نقول: إنه أكسبنا فهما جديدا للطبيعة والكون والإنسان، وزودنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل، فإن كتابه «أصل الأنواع» الذي أخرجه في عام 1859 حمل إلى القراء شيئين: أولهما معارف تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعها ترجع إلى أصل واحد أو أصول قليلة، وثانيهما منهج للدراسة هو أن الاستقرار لا يعرف في الطبيعة، أو الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.
ونحن الآن لا نبالي الحقائق أو المعارف التي شرحها داروين، ولكننا قد اتجهنا الوجهة التي عينها لنا، فنحن نفكر في التطور، ونفكر متطورين، وأصبح التطور حقيقة علمية نقيسها بالمليمتر والميلجرام في الحيوان والنبات، كما أصبح أيضا مذهبا دينيا، أو مبدأ أخلاقيا عند المثقفين، وانفسح به التاريخ البشري آفاقا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين خلف البشر وبعد البشر.
لقد قيل: إن جاليل حط الإنسان من عليائه، حين أعلن أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها كوكب صغير يدور حول الشمس، ولعل الشمس أيضا نجم صغير لا يختلف عن ملايين النجوم التي نراها كل ليلة في المساء، ولكن داروين رفع الإنسان إلى هذه العلياء من جديد، وأثبت أنه لم يكن عاليا فسقط، وإنما هو كان ساقطا يعيش على حضيض الطبيعة حيوانا كسائر الحيوانات والحشرات، ثم ارتفع، وبهذه الكرامة الجديدة انتقل من أسر القدر، وأحس أنه تاج التطور، وأن له الحق في تدبير هذا العالم، وفي تعيين السلالات القادمة، بل ماذا أقول في إيجاد الأنواع البشرية الجديدة.
ومع ذلك لا أعتقد أن داروين نفسه كان يقدر الطاقة الكامنة في نظريته، ولا ينتقص هذا من عظمته، فإن تفكيرنا الشخصي يسير بقوات اجتماعية، لا نكاد نبصر بها أو نتعمق أصولها، ذلك أننا نفكر بحوافز من العواطف التي نكتسبها من المجتمع، بما يفرضه علينا من القيم والأوزان، وما يرسمه لنا من المطامع والآمال، والمجتمع يطالبنا باستجابات مختلفة تستحيل في كياننا النفسي إلى عادات عاطفية لا نستطيع الخروج منها، فنفكر في منهج خاص هو ثمرة هذا التوجيه الاجتماعي الذي لا نحسه لأنه لا يرتفع إلى وجداننا وتعقلنا.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن نظرية داروين وجدت الحافز الأول على التفكير فيها من المجتمع الذي عاش فيه داروين، ذلك أن داروين قضى من زهرة حياته إلى نضج الشباب وإيناع الكهولة فيما بين 1830 و1860، وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسين، وكانت إنجلترا في تلك السنين ترقى وتزيد بالحركة الصناعية الجديدة، فالمصانع تحتشد بالعمال من الرجال والنساء والصبيان، والثروات تنمو، والمزاحمة على أقصاها، وإنجيل النجاح يدرس، ويعبد، والسياسة تخدم الاقتصاد وتضرب الأمم النائية وتؤسس الأسواق في المستعمرات وأصبحت إنجلترا سيدة البحار؛ لأنها احتاجت إلى أكبر أسطول يحمي مستعمراتها وأسواقها التي تباع فيها مصنوعاتها الفائضة.
وعاش داروين في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لنكشير وغيره من الأقاليم الصناعية في إنجلترا.
وفي تلك السنين أيضا قرأ كتابا أحبه وتعلق به؛ لأنه وجد في نفسه الاستجابة لنظرياته بما تكون له من عواطف أحدثها الوسط الصناعي الإنجليزي، هو كتاب القسيس مالتوس عن السكان، فإن هذا القسيس كان من المحافظين الإنجليز الذين يكرهون العامة، ولا يرون فيهم سوى غوغاء، فلما انفجرت الثورة الفرنسية واستولى بها الشعب على حقوق السادة من الملوك والعظماء ثم أعلن رجالها مبادئ الإخاء والمساواة والحرية، فكر مالتوس كثيرا بحافز من عواطفه المحافظة، فأخرج كتابه عن السكان، وكان المغزى الذي قصد إليه أن هذه الآمال في الإخاء والمساواة والحرية لن تتحقق؛ لأن الدنيا لا تكفي الناس الذين يتوالدون على نظام تضاعفي 2 و4 و8 و16 ... إلخ، ولكن المحصولات لا تنتج إلا على نظام حسابي 1 و2 و3 و4 و5 ... إلخ، فإذا عاش الناس بلا مرض أو حرب أو حرمان لم تكفهم المحصولات، وإذن فالمرض والحرب والحرمان رحمة بالناس أو ضرورة لهم، وتأمل داروين هذا الكتاب الذي ألفه مالتوس عن المجتمع البشري فتساءل: لم لا ينطبق هذا الكلام على المجتمع النباتي والحيواني في الطبيعة؟ فإن الطعام لا يكفي جميع الأحياء التي تتوالد أو تتكاثر بالألوف، فهي يجب كي تعيش أن يزاحم بعضها بعضا، فتكون الحرب بينها؛ أي: تنازع البقاء، كما في لنكشير ومصانعها تماما.
صفحه نامشخص