ورآه يقوم ببعض البطولات العنترية فيضرب ويعتدي، وأصبح له بفضل أعماله التي ذكرنا بعضها مداخلات، وبات رغم دخوله السجن سنوات من أصحاب النفوذ، يدخل على الكبراء بدون كلفة، ويفاوضهم، يهش لهم ويبشون له، بينما المهذبون من الناس ينتظرون ساعات ليؤذن لهم بالدخول، ثم هم يخرجون بالنتيجة صفر اليدين.
وعندما نهض في الصباح قص على أصدقائه ذلك الحلم المزعج، فضحكوا له قائلين: «إن هذا ناتج لا ريب من عشاء البارحة الثقيل، إنه أضغاث أحلام، إن بلادك من فضل الله بألف خير.»
لقد أكمل سليم دروسه وعاد يحمل دبلوم الفنون، وهو يعتقد أنه سيعمل عملا فكريا محسوسا، تهتم له البلاد وتقبل عليه، فيرتفع مستواها الفكري، وتنعم بثقافة صحيحة أسوة بالبلاد الراقية، وما درى المسكين أنه بتفكيره هذا، كان كمن يكتب على صفحة الماء أو ... أو كمن ينفخ في رماد، وأنه يعمل في بلاد المادة، بلاد بدائية في فكرها وروحها، وإن طليت بدهان المدنية الزائفة.
جاء سليم إلى مدينته بيروت، وقد تغيرت عليه الأشياء وتغير الناس والأهل منهم والأصدقاء، المتعلمون والجهلاء، فعندما غادر سليم البلاد يافعا كان الناس يؤمنون بشيء يسمى الصدق والأمانة والوفاء، وكان يوجد ما يدعى الحياء والإخاء، فإذا بهذه الألفاظ الشعرية باتت في نظر أهل اليوم، وقد تمدنوا وتطوروا، سخافة وضربا من البلاهة، وحل مكانها الخدعة والرياء، حتى الجريمة، فمن تحلى بها ونجح عد ذكيا لامعا موفقا، وبعض الأحيان عد عبقريا.
ومنذ أن حل سليم في بيروت، أحاط به رهط ممن تظاهروا له بالمحبة والغيرة فخدعوه واستغلوه، ومن الأصدقاء من استغلوا إخلاصه، فكانوا ينعمون عنده باسم الصداقة، ومنهم من كان يسمسر بأشغاله ويكسب المال، ومنهم من كان يروي لزملائه على لسانه الأحاديث الملفقة ليخلق له العداوة، وأخيرا ضج واتخذ مكانا نائيا لينعم بالعزلة، وقد أصابه نوع من كره المجتمع، حتى إن من علمهم من تلامذته مجانا حبا بالفن، كانوا يدسون عليه ويطعنون به.
الفصل الرابع
عاد سليم إلى وطنه وهو يعتقد بصدق رسالته، شأنه في ذلك شأن أكثر أصحاب المثل العليا، فأخذ يكافح في سبيل نشرها بإيمان عجيب، ومن الحق أن نقول إن بعض الطبقات قدرت له هذه الروح، ونظرت إليه نظرة إعجاب واحترام، لا سيما الأوساط الأجنبية، وهي التي تدرك قيمة هذه الأشياء، وقد بدأت تظهر ثمرات كفاح سليم بما كان يقيمه من معارض تمثل نقاطا هامة من حياة البلاد وتوجيه حكيم وتمثيل عميق لبعض النواحي الاجتماعية، مما دل على أن سليما لم يتخذ الفن لمجرد تمثيل صور جميلة ليغري بها أو يثير الغرائز الجنسية، بل هو يهدف منها التوجيه والبناء، ثم إنه فوق ذلك أخذ يدرس فنه في المدارس، فخلق في النشء حب الفن وإدراكا له، كما أنه أخذ ينشر في الصحف والمجلات الأبحاث الفنية بأسلوب علمي، مما ساعد على اتساع فكرة الفن في البلاد.
لقد أضاع سليم فرصا كثيرة كان بإمكانه أن يستغلها استغلالا ماديا كما يفعل غيره اليوم، ولكنه كان مأخوذا بهوس الفن، وقد أفاق بعد زمن على فن ممسوخ يعتمد التجارة والاستثمار والطائفية والعائلية والسفسطة فحسب، مما لا يصدر عن فن حق، وقد حز في نفسه أن يرى هذه النتيجة المؤسفة لنهاية الفن في بلاده الجميلة.
الفصل الخامس
لقد عرف سليم باطلاعه أن للفن حالات عجيبة تتصل بالمجتمع وبالأحداث القريبة منها والبعيدة، فقد يطرأ على الفن مثلا ما يؤخره أو يدفعه للركود، ولكن الفن لا يموت إلا إذا مات الجنس البشري؛ لأنه هو من الإنسان بمكان الروح تماما، ولكن الفن في بعض الحالات ينطوي على شكل آخر، فعدما يكون المجتمع الإنساني بحالة طبيعية وصحة جيدة، يكون الفن كذلك في حالة حسنة من الازدهار والتقدم، وعندما يكون المجتمع مريضا هزيلا أو شاذا مشوشا تفتك فيه الفوضى وتنتابه النزعات الهدامة والآراء الخطيرة، يكون الفن أيضا في حالة جنون ويعمل عن غير هدى، ويضرب دون وعي ، وتكثر فيه الثرثرة والشعوذة والتضليل، ويصبح على اللسان أكثر منه في العمل والبرهان، ولهذا نرى اليوم حالة الفن ونزعاته الحديثة التي يدعونها طورا «بالسورياليزم» وبالتجريدي وطورا «بالوحشي والتكعيبي» وغيرها من المذاهب التي تمثل في الواقع مرض المجتمع الإنساني وحالة الهستيريا، أو الهذيان الشديد الذي يصيب عادة المريض في حالة الحمى الشديدة.
صفحه نامشخص