وبعد مضي برهة من الزمن قدم القطار وفتحت الأبواب بشكل أوتوماتيكي، فهرع الناس للدخول وأقفلت الأبواب بنفسها أيضا، وكان مسيو «دورييه» يشير إلى سليم عن أسماء المحطات التي كان يمر بها، وعندما بلغ إحداها نزلا واتجه الصديق نحو يافطة كهربائية حمراء الضوء كتب «مبادلة» وذلك للاتجاه لخط آخر، وسليم يتبع رفيقه وكأنه في حلم، كيف لا، وهو يقدر المجهود العظيم والعبقرية الفذة التي تقوم بتحقيق أمثال هذه المشاريع الجبارة، بينما هو لا يرى في الشرق العربي غير كلام ودس وحقد وغرور ومحاربة للعاملين وسيطرة المشعوذين المضللين، فلا يأتون بعمل مفيد، ولا يدعون غيرهم يعمل، وعندما يأتي الأجنبي بمشاريعه ويقبضون عليها يسكتون إلى حين، ثم هم يبدءون بالشغب ليقبضوا من جديد. هذا هو عملهم وهذا أسلوبهم، والبلاد في تأخر وجمود بينما العالم يسير قدما نحو الرقي، وإذا جاء مستعمر قوي قاموا يتشدقون ويندبون، ناسين أن الدنيا هي للقوي العامل النشيط، وأن الجاهل الكسول لا حق له في الحياة، هذا هو ناموس هذه الدنيا منذ وجدت الدنيا.
ثم تقدم سليم ورفيقه واستقلا قطارا آخر حملهما إلى الناحية التي يرغبان، فإذا هما قد قطعا مسافة عظيمة من المدينة الواسعة، وقد عرف ذلك من أسماء المحطات، وعند مخرج كل محطة توجد خارطة يستدل المسافر بها عن الاتجاه الذي يريده قبل النزول تحت الأرض، ولم يخف سليم عن صديقه الدهشة التي اعترته والتي كادت تفقده رشده من كثرة ما رأى وبرم ولفت، فضحك رفيقه قائلا: «سيكون العشاء هذا المساء حسنا مكافأة على صبرك هذا اليوم، ولكن إياك أن تفكر بالنوم هذه الليلة قبل منتصف الليل، واعلم أنك في باريس، هي فرصة نادرة عليك أن تقتنصها فلا تقضها في النوم والكسل، بل عليك الاستفادة من كل دقيقة تمر.»
كانت وجهتهما هذه الليلة هي حي «مونبرناس»، وهذا الحي هو ملتقى العالم بمختلف أممه وأجناسه وألوانه ولغاته وعقائده.
وقد أوصى الرفيق سليما أن يصطحب معه دفتره وقلمه؛ لأن الصيد هناك كثير، وعند الساعة الرابعة كان سليم ورفيقه في هذا الحي الشهير يحتلان مكانهما في إحدى مقاهيه الشهيرة وأعذبها «له كوبول» «والروتند» وغيرها كعبة الفن والمتعة والجمال، وكانت عينا سليم تجول كالزئبق في أنحاء المقهى الفخم الكبير تتأمل هذا وتنظر ذاك، وتكاد نظراته المتوقدة تلتهم كل ما تقع عليه من أناس وأشياء، إن روحه الفنية وجدت مقرها ولقيت تربتها، والمجال هنا؛ أي في باريس، رحب لمن يريد التقدم ويهوى العمل ويسعى وراء المعرفة. إن عند سليم ظمأ غريبا لهذه المعرفة، ولذلك تراه حيثما كان يدرس ويبحث ويتأمل ثم يسجل، فلا تكاد تفوته مسألة، فهو شديد الملاحظة دائم الرقابة، لذلك ما كاد يستقر به المقام حتى تناول دفتره وراح يسجل ما كان يمر أمامه وبسرعة فائقة، فكانت بعض وجوه الموجودين هناك ممن لفتوا نظره تحتل مكانها في دفتره إلى الأبد، وكان الطعام قد حضر فناداه رفيقه لتناوله؛ لأنه أحس أن صاحبه قد نسي نفسه. ولندع الآن سليما يتكلم: المطعم هنا أنيق، سواء في الصحاف والشراشف وما إليها من كافة وسائل الخدمة؛ أي إن المظاهر كانت تغري وتجعل العين وكافة الحواس تتهيأ للاشتراك بالطعام، كما أن كل ما كان حولنا جميل مرح أنيق مهذب يحبب المرء بالاستمتاع بلذائذ الحياة، فلا ضجة ولا جلبة ولا صراخ ولا خصام ولا روائح كريهة ولا مشاهد مؤذية، كل ما حولك جميل بهيج، والسكوت يخيم على المكان الذي يعج بالناس، فكيف لا تكون هناك شهية للأكل؟ وقديما قيل: «العين تأكل قبل الفم.»
والذي يلفت النظر في هذا المقهى أنه معرض لأجناس البشر، فترى الإنكليزي جلست بقربه فرنسية تغازله وهو بقربها كلوح الثلج جامد كالمومياء، ثم الأميركي وبقربه زنجية تتقد نارا وهو ينظر إليها باهتا، وترى الفرنسي يتأبط ذراع فتاة صينية صفراء، والإيطالي يتحدث إلى ابنة مراكشية، وهلم جرا.
قضينا في جبل «البرناس» موطن الأدباء والشعراء وأهل الفن، ساعات هي من أحلى أيام العمر، وعدنا عند منتصف الليل كل إلى داره، وكنت أنا أهجس طول ليلي بما رأيت من الأمور الملاح والأشياء العذاب وما عساي سألقاه في غدي برفقة الصديق، وهو الخبير بأسرار باريس ومخبآتها، وهو كان يهيئ المنهاج سلفا، لذلك قال لي قبل أن يتركني: «إنني أخبئ لك مفاجأة تنسيك «مونبرناس» وروعته.» «ماذا تقول؟ وهل يوجد بعد أروع من مونبرناس؟» «أجل يا عزيزي، إنك في باريس، نعم في باريس.»
وفي الغد مساء جاءني وقال: «هيا بنا.» وكانت الساعة التاسعة عندما كنا نقف أمام مدخل مسرح «فولي برجير» ثم أخذنا مقاعدنا، وكان المكان غاصا بالجماهير، ولكنه كالعادة هدوء وسكون ونظام، وفي الوقت المحدد ارتفع الستار على أنغام الموسيقى، تلك الموسيقى المرحة الراقصة التي تدفع في النفس البهجة والحب والحياة، فتشعرك أن الدنيا جميلة ساحرة، وأنها ملك لك، وأنك يجب أن تنعم بها وتتلذذ بجمالها، وأن تسعد ما أمكنتك السعادة، لا أن تحزن وتبكي وتموت.
الخلاصة، ارتفع الستار، فإذا بنا نرى عجبا، باقة عظيمة من الزهر تملأ المسرح لونا وجمالا، ثم أخذت تتفتح رويدا رويدا عن أضواء الفجر بزهرات مصغرة بتدرج ونعومة، كأنوار الفجر تماما، ثم ألوان جديدة زادتها روعة وارتعاشا، ولكن هذه الزهرة العظيمة التي ملأت باحة المسرح وتلك الأزهار الأخرى التي تفرقت عنها، ليست في الحقيقة سوى باقات رائعة من ألحان انتظمت إلى بعضها بفن وانسجام يسحر الألباب.
وبالطبع فإن الناظر إلي في تلك اللحظة كان يرى الدهشة مرتسمة كلها على وجهي، وهنا يحسن القول: «ليس من سمع كمن رأى، وليس الخبر كالعيان.»
يالله من روعة الفن ومن قوة سحره! تاج عظيم مرصع بشتى الألوان المنسجمة، يطفو عليها عطر غريب وغشاء بهي، ليس هو من نتاج هذه الدنيا، ولا هو من جواهرها وورودها المعروفة، إذن ما هذا الذي نرى؟ وما هذا الماس العجيب؟ وما هذه اليواقيت الغريبة؟ بل، ما هذا النور المتلألئ المتحرك على هذا التاج السحري؟ ولكن لم يلبث بعد هنيهة أن انقشع السر العجيب عندما أشرقت علينا الشمس بوهجها الذهبي وسنائها السحري، عندما انبثق من قلب هذا التاج حسناء شقراء كالذهب الخالص تحمل بيديها، وهي شبه عارية، الكرة والصولجان، ومن حولها انتشرت الحسان بأوضاع رائعة من الجمال، وكلهن شبه عاريات، يمثلن الرعية التي تقدم خضوعها واحترامها لتلك التي تجلس على سدة الملك؛ ملك لويس الرابع عشر «ملك الشمس» العظيم كما كان يدعى يومذاك، ثم أخذت تنفخ من هنا وهناك الأبواق وتخفق من حولها الرايات وتنثر الزهور والعطور.
صفحه نامشخص