انسان، حیوان، آلة: بازتعریف مداوم طبیعت انسانی
الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية
ژانرها
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: القدرات البشرية للحيوانات والآلات
1 - التعقيد
2 - التعلم
3 - العقل
4 - الذكاء
5 - الفضول
6 - الألم
7 - الوعي
صفحه نامشخص
8 - الثقافة
9 - الأخلاق
الجزء الثاني: الإنسان وعلاقته بالحيوانات والآلات
10 - الارتباط
11 - الانجذاب الجنسي
12 - الهوية
13 - المرآة
14 - الحقوق
15 - صفة الشخص
16 - المزج
صفحه نامشخص
17 - الاستبدال
الجزء الثالث: القدرات المميزة للإنسان عن الحيوانات والآلات
18 - الضحك
19 - الروح
20 - الوقت
21 - التخيل
خاتمة
ملاحظات
مراجع المؤلفين
شكر وتقدير
صفحه نامشخص
مقدمة
الجزء الأول: القدرات البشرية للحيوانات والآلات
1 - التعقيد
2 - التعلم
3 - العقل
4 - الذكاء
5 - الفضول
6 - الألم
7 - الوعي
8 - الثقافة
صفحه نامشخص
9 - الأخلاق
الجزء الثاني: الإنسان وعلاقته بالحيوانات والآلات
10 - الارتباط
11 - الانجذاب الجنسي
12 - الهوية
13 - المرآة
14 - الحقوق
15 - صفة الشخص
16 - المزج
17 - الاستبدال
صفحه نامشخص
الجزء الثالث: القدرات المميزة للإنسان عن الحيوانات والآلات
18 - الضحك
19 - الروح
20 - الوقت
21 - التخيل
خاتمة
ملاحظات
مراجع المؤلفين
الإنسان والحيوان والآلة
الإنسان والحيوان والآلة
صفحه نامشخص
إعادة تعريف مستمرة للطبيعة
الإنسانية
تأليف
فريدريك كابلن وجورج شابوتييه
ترجمة
ميشيل نشأت شفيق حنا
شكر وتقدير
يشكر المؤلفان كل من ساهموا في إدخال تعديلات على بعض أجزاء هذا الكتاب، ولا سيما جون أودوز، وتيري أوفريه فان دير كيب، وجون باستير، وداليلا بوفيه، وجون-كلود نويه، وأرنو ريفل، وميرويس سانجين، ونيكولا نوفا، وبيير إيف أودييه، وبيير-ماري بوجيه.
مقدمة
إن الإنسان الذي يتسم بالنقص والضعف، ويتميز مع ذلك بذكاء استثنائي - أتاح له في نهاية المطاف بسط سيطرته على الأرض - لطالما سعى إلى التعرف على ذاته وتحديد هويته.
صفحه نامشخص
وقد بدأ بطبيعة الحال بتحديد هويته نسبة إلى بقية الكائنات الحية التي تعيش معه على سطح الكوكب مثل «الحيوانات» التي تتشابه سلوكياتها مع سلوكه في العديد من الأمور، على الأقل فيما يتعلق بالسلوكيات الأكثر تعقيدا. ولكنه اضطر مؤخرا إلى مقارنة قدراته بقدرات كائنات اخترعها هو بنفسه بفضل ذكائه، ألا وهي «الآلات»
1
التي يزداد تعقيدها أكثر فأكثر، والتي من شأنها أن تتخطاه في بعض المجالات، والتي يدفع تطورها المنتظم إلى الاعتقاد أن أداءها في المستقبل قد يكون أكثر قربا من أدائه.
هذا هو النهج المزدوج الذي أردنا اتباعه هنا بالمقارنة بين البشر والكيانين المعقدين اللذين يقاسمانه حياته من الآن فصاعدا: الكائنات الحية والكائنات التقنية؛ أي التقنيات، وذلك في الميادين الرئيسية التي تتعلق بإنسانية الإنسان؛ أي قدراته العاطفية أو الفكرية وعلاقاته مع الحيوانات أو مع الآلات، وأخيرا الخصائص التي يتميز بها.
ومن أجل بلوغ هذه الغاية، فإن هذا العمل وليد تعاون بين عالم أحياء فيلسوف في علم الأحياء وهو جورج شابوتييه، وبين مهندس متخصص في الذكاء الاصطناعي وواجهات الاستخدام التي تعد وسيلة للتواصل بين الإنسان وأجهزة الكمبيوتر، وهو فريدريك كابلن. وجورج شابوتييه هو مدير الأبحاث بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي ومؤلف العديد من الكتب حول الحيوانات وعلاقاتها بالإنسان. أما فريدريك كابلن، فهو يشرف حاليا - بعد عشرة أعوام من القيام بأبحاث لصالح شركة سوني - على فريق يصمم أجهزة كمبيوتر من طراز جديد، وذلك بكلية الهندسة الفيدرالية بلوزان. وبغية ألا يصبح هذا الكتاب معقدا ومجردا، وقع الاختيار على تناول موضوعه عبر سلسلة من الفصول القصيرة واليسيرة الفهم والمنفصلة التي تتجمع معا لتكون مرجعا صغيرا «لكل ما تودون معرفته» حول «الإنسان نسبة إلى الحيوانات والآلات».
ومن الجدير بالذكر قبل البدء في عرض هذا المرجع أن نعرف مصطلحي «حيوان» و«آلة» اللذين سيسمحان لنا على مر الصفحات بفهم الإنسان وتعريفه.
يعد مصطلح «حيوان» غامضا؛
2
لأنه قد ينطبق على الحيوانات باستثناء الإنسان منها أو الحيوانات بما فيها الإنسان. وسوف نرى لاحقا أن الإنسان حيوان ولكن من نوع خاص. وعلى صعيد الدقة العلمية، ربما يكون أكثر دقة أن نتحدث عن الحيوانات بما فيها الإنسان وعندما نشير إلى النحل أو الشمبانزي، فنحن نتحدث عن حيوانات غير الإنسان. لكننا فضلنا مع ذلك أن نتبع العادة الأكثر شيوعا ولكن الأقل دقة علمية، ألا وهي الحديث عن الحيوانات باستثناء الإنسان منها، وذلك ليس تشكيكا منا بأي حال من الأحوال في النتيجة التي سنتوصل إليها، ألا وهي أن الإنسان هو عن حق حيوان! ولكن يرجع ذلك إلى سببين رئيسيين؛ أولهما: أن ذلك هو المفهوم الشائع للمصطلح الذي يفرق، لأسباب وجيهة، بين الإنسان والحيوانات التي تجاوره في الممارسات اليومية، ومن الأنسب أن نستخدم اللغة التي يفهمها الجميع. وثانيهما: أن القول إن الإنسان حيوان، هو أيضا نتيجة للبراهين التي سنعرضها في الكتاب؛ فبدا لنا أنه من الأفضل من الناحية العلمية ألا نستبق النتائج التي سنتوصل إليها.
أما مصطلح «آلة» فهو يعني جهازا صنع بغرض تلبية أهداف معينة. وقد يقوم شخص بإدارة الآلة، أو قد تعمل من تلقاء نفسها. وقد تحتاج لتشغيلها إلى مصدر للطاقة أو وقود أو كهرباء أو جر من جانب حيوانات أو طاقة بشرية بواسطة ذراع تدوير، على سبيل المثال. وليس ثمة فارق بين الأداة والآلة إلا بقدر إمساك الإنسان بها أو دعم آلة أخرى لها. فالمنجل أداة ولكن الحصادة آلة. وسوف نستخدم في هذا الكتاب مصطلح «آلة» بمعناه الواسع مشيرين بذلك أيضا إلى الآلات الميكانيكية أو الحاسوبية أو الآلات المعتمدة على الهواء المضغوط. ونحن نهتم بصفة خاصة بدرجة الاستقلال الذي قد تصل إليه الآلة، وأيضا بالطرق المختلفة التي قد تتواصل بها مع الإنسان؛ لذا سوف نستند إلى نتائج حديثة في مجال الذكاء الاصطناعي وواجهات الاستخدام، وسوف نتطرق أيضا إلى الروبوتات التي تعد حالة خاصة من الآلات المتعددة الاستعمالات والقابلة للبرمجة.
صفحه نامشخص
وينقسم كل موضوع يتم مناقشته إلى قسمين يتناولانه على التوازي نسبة إلى الحيوانات من جهة وإلى الآلات من جهة أخرى. سنناقش أولا قدرات الحيوانات والآلات على التعلم، وعلى امتلاك نوع من الوعي، وعلى الشعور بالألم، وعلى امتلاك ثقافة، وهي كلها طباع اعتقد الناس في بعض فترات التاريخ أنها مقصورة على الإنسان. وسندرس بعد ذلك علاقاتنا بالحيوانات والآلات وروابطنا المشتركة والطرق التي تساعدنا بها على التفكير في أنفسنا، وسنحاول في النهاية الوقوف على ما يميز الإنسان في مواجهة الحيوانات ذات القدرات الكبيرة والآلات فائقة التعقيد.
الجزء الأول
القدرات البشرية للحيوانات والآلات
الفصل الأول
التعقيد
(1) التطور والتعقيد لدى الكائنات الحية
تعد الكائنات الحية هياكل معقدة بصورة خاصة. فإلى جانب الكائنات كبيرة الحجم والمجهريات «الصغيرة جدا»، عادة ما يقال إن الكائن الحي «معقد جدا». كيف يتجلى هذا التعقيد؟ وكيف يجد الإنسان مكانه وسط ذلك؟
حتى لو لم يكن من السهل دائما تعريف التعقيد بدقة، فثمة طريقة بسيطة للغاية لإثبات التعقيد لدى الكائنات الحية وهي ملاحظة أنها تتكون من طبقات متداخلة. فعلى سبيل المثال تتكون أجسام الحيوانات من أعضاء تتكون بدورها من خلايا، وتتكون الخلايا من «عضيات» تتكون هي الأخرى من جزيئات شديدة التعقيد. وبغض النظر عن الأجسام يمكننا أيضا أن نجد طبقات مثل المجموعات من الفصيلة الواحدة (أو المجتمع)، أو السكان أو النوع ... وفي هذه الطبقات المتداخلة يتضح أن الجسم المكون من أعضاء هو أكثر تعقيدا من الأعضاء التي يحتوي عليها كل على حدة، وأن الخلية أكثر تعقيدا من «العضيات» التي تضمها، وهكذا ...
إن هذا التعقيد الذي تتسم به الكائنات الحية هو نتاج ظاهرة شديدة الأهمية نسميها «تطور» أنواع الكائنات الحية، والتي اكتشفها لامارك وداروين في القرن التاسع عشر والتي تشير إلى أن ثمة خلايا قد أدت في فترات سحيقة من عمر كوكبنا إلى وجود النحلة والأخطبوط أو ... الإنسان. كيف حدث ذلك؟ كيف بني هذا «التعقيد ذو الطبقات المتداخلة» الذي أدى اليوم إلى وجود كائنات على الأرض أكثر تعقيدا من تلك التي تولدت منها؟ (1-1) الاصطفاء الدارويني
لا يعتبر تفسير ما يمكن أن نطلق عليه «آليات التطور» معروفا بالضبط، ولكننا قد نلاحظ أنه يفترض وجود عمليات عدة، وأشهرها هي ما أطلق عليها «الاصطفاء الطبيعي» أو «الاصطفاء الدارويني» الذي يقوم على التكاثر الجنسي للأفراد وعلى تغيرات عرضية في السمات الوراثية تسمى «الطفرات». وتتحدد سمات الكائنات الحية إلى حد ما عن طريق ما نسميه «الجينات»، وهي جزيئات موجودة بخلايا هذه الكائنات وتحدد العديد من سماتها مثل لون العينين وملامح الوجه وطريقة عمل أعضائها وأيضا حساسيتها بسبب بعض الأمراض. وتنتقل هذه الجينات من خلال التكاثر الجنسي من الآباء إلى نسلهم الذي يشبههم تبعا لذلك. ولكن قد تقع أحيانا أخطاء في الجينات نطلق عليها اسم «الطفرات»، وقد يكون بعضها مفيدا؛ فيجعل المولود الذي يحمل الطفرة أكثر تكيفا مع بيئته مما كان عليه والداه. وهكذا بسبب طفرة قد يولد ظبي بعنق أكثر طولا من عنق أبيه، مما يسمح له بتناول أوراق الشجر. ووفقا لنظرية الاصطفاء الطبيعي، فإن هذا المولود الأفضل تكيفا سيحظى بسهولة أكبر في البقاء وفي إيجاد شريك جنسي للتكاثر. وستكون «طفرته» إذن هي المعيار وستتطور المجموعة الحيوانية. وفي هذه الحالة الخاصة، ولدت بعض الزرافات من ظباء قديمة. ويعتقد المناصرون المتشددون للداروينية أن هذه الآلية يمكنها بمفردها أن تفسر كل شيء عن التطور حتى التعقيد. (1-2) الكائنات الحية تشبه «الفسيفساء»
صفحه نامشخص
قد نعتقد أيضا أن هذه الآليات التي لا جدال عليها (فكل علماء الأحياء الكبار حاليا يسلمون بالأفكار الداروينية) لا تفسر كل شيء، وأن بعض المبادئ التنظيمية قد تدل أيضا على التعقيد، ويمكن هذه المرة وصف مبدأين منها يتعلقان بالطريقة الأخرى الكبرى للتكاثر لدى الكائنات الحية، ألا وهي التكاثر «اللاجنسي». يعتمد هذا التكاثر على الانقسام والتكاثر «بالتماثل» لجسم حي. وهكذا فإن خلايا كبد الإنسان أو جلده، التي تنقسم لتوليد خليتين متماثلتين، تقوم بذلك بطريقة لا جنسية. ولكن الظاهرة أعم بكثير وتنتشر بصورة خاصة في عالم الكائنات الحية. ومن مظاهر التكاثر اللاجنسي: التعقيل في النباتات أو تولد دودتي أرض عبر انقسام دودة واحدة أصلية. وبالأساس تنفصل بعد ذلك الكيانات المولودة بهذه الطريقة لتعيش حياة مستقلة، ولكن توجد استثناءات.
إذا لم تنفصل هذه الكيانات وظلت متجمعة (أو متجاورة) فهي قد تشكل طبقة علوية. ودون الخوض في التفاصيل،
1
فعن طريق ترك الخلايا متجاورة، سيتشكل جسم متعدد الخلايا، وعن طريق ترك الأجسام المتعددة الخلايا متجاورة مثل البوليبات، ستتشكل مجموعات من البوليبات مثل تلك التي تنمو على الصخور المرجانية الكبيرة. وبمجاورة الديدان لدائرة حلقية واحدة، ستتشكل مجموعات حلقية من الديدان على غرار الديدان الموجودة بحدائقنا. وبمجاورة أفراد مع عصافير أو ثدييات، ستشكل تجمعات (تسمى حشودا). وفي هذه الحالات كافة، سوف تؤدي مجاورة هياكل متماثلة إلى تكوين هيكل من الطبقة العلوية. وبعد هذه المجاورة للكيانات المتماثلة سنشهد في أغلب الأحيان ظاهرة ثانية في عالم الكائنات الحية يطلق عليها اسم «التكامل»: تكف الهياكل المتجاورة عن تماثلها لتتخصص كل منها في وظيفة تختلف عن الأخرى. وستكتسب الخلايا مهام مختلفة لتشكل كائنا متعدد الخلايا بأعضاء مختلفة، وستظهر أجسام معقدة مكونة من بوليبات تقوم بمهام مختلفة: الطفو والدفاع والتغذية والتكاثر. ومقارنة بديدان الأرض الموجودة بحدائقنا، تصبح الحيوانات المتكاملة نحلا أو أخطبوطا أو ... إنسانا. وحتى لو كانت هذه الحيوانات تحتفظ أحيانا في أجسامها بآثار مجاورة الهياكل المماثلة لسلفها؛ فإن معدة النحلة مقسمة مثل جسم سلفها الحلقي، ويحتوي جسم الإنسان بالطريقة ذاتها على تقسيمات الضلوع والفقرات العظمية. وإذا تكاملت في النهاية «الحشود» المكونة من أفراد متماثلين فسنحصل على مجتمعات معقدة مثل مجتمعات النحل أو البشر التي يضطلع فيها الأفراد بأدوار مختلفة فيما بينهم.
ودون الخوض في تفاصيل هذه النقطة، نلاحظ إذن أن التطبيق المتكرر لمبدأي الجمع الكبيرين خلال تاريخ الأحياء (تجاور عناصر متماثلة ثم تكاملها بحيث تصبح هذه العناصر مختلفة فيما بينها) يسمح للعالم الحي بتشكيل طبقات متداخلة على مراحل، وهو ما يعد إحدى خصائص تعقيد الكائن الحي كما رأينا. وفي هذا الصدد، تعد صورة الفسيفساء موضحة للفكرة؛ فعلى غرار الفسيفساء بالمعنى الفني للكلمة، تعتبر الكائنات الحية طبقات متداخلة وتمنح كل طبقة للطبقات الأسفل منها استقلالية في العمل. وكما يحدث في الفسيفساء، تمنح الصورة الكبرى لونها وشكلها وبريقها للتربيعات الرخامية التي تتكون منها.
في المجمل يعد المبدأ التنظيمي لتعقيد الكائنات الحية بنية «من الفسيفساء» ناتجة عن طفرتين للتكاثر اللاجنسي، ألا وهما تجاور الكيانات المتماثلة ثم تكاملها. ويمكن إذن أن ينطبق غربال الاصطفاء الطبيعي على هذه الكائنات المعقدة إلى حد ما والمكونة بهذه الطريقة، وذلك لكي لا يبقى منها إلا الأكثر تكيفا. (1-3) أين الإنسان من كل ذلك؟
خضع الإنسان على غرار نظرائه من الحيوانات إلى عمليات تجاور وتكامل واصطفاء طبيعي. وفي هذا الشأن وفيما يتعلق بجسده المعقد فهو لا يختلف بصورة جوهرية عن نظرائه قريبي الشبه به مثل الشمبانزي أو بعيدي الشبه عنه مثل الأخطبوط. ولكنه يتميز بامتلاك عقل قوي بصورة خاصة، ولا يوجد مقياس عام لأداء هذا العقل حتى مع نظرائه الأكثر قربا منه. ويبلغ التعقيد في هذا العقل البشري ذروته الذهنية التي يستطيع الإنسان وحده أن يصل إليها على هذا الكوكب والتي تجعل منه حيوانا «فريدا من نوعه». إلا أنه من الممتع ملاحظة أننا قد نجد في نشاط العقل الإنساني فائق القوة (فكره) مبادئ التعقيد ذاتها الموجودة بتشريح الحيوانات. وهكذا تعتبر ذاكرتنا التي تبدو لنا موحدة مجموعة متجاورة وضعيفة التكامل من الذاكرات المختلفة، اكتسبتها الحيوانات السالفة لنا خلال التطور (انظر الفصل الثاني). وكذا وعينا (انظر الفصل السابع) وحديثنا،
2
وهما مقدرتان تجعلان من العقل البشري بنية معقدة بصورة خاصة. (2) تعقد التقنيات وتركيبها الطبقي
على غرار الكائنات الحية، تكون التقنيات على هيئة طبقات متداخلة؛ فعادة ما تتكون التقنية من مكونات تقنية أولية: نابض الاتزان والتروس في الساعة، ومكونات الدائرة الإلكترونية، وأجزاء برنامج الكمبيوتر، والتي تتقسم هي الأخرى إلى عناصر أساسية بصورة أكبر. ومن الأصح أن نعتبر أن التقنيات مرتبة على هيئة نظم تقيم بداخلها العديد من علاقات الترابط، بما في ذلك تبادل الطاقة (أجهزة موصلة بشبكة الكهرباء أو مزودة ببطارية) وتبادل المعلومات (شبكات الأجهزة الموصلة بعضها ببعض، وجهاز مشغل الوسائط). وسوف نتطرق إلى البيئات التقنية حتى لو كان هذا المصطلح يعد بلا شك إساءة استعمال للغة. وبداية من الترتيب السلس في بيئة ما وحتى التكامل المنتقى بداخل الجهاز نفسه، يمكن إذن توحيد عمل الأجهزة التقنية إلى حد ما بداخل النظام ذاته. (2-1) التطور التقني يتم أيضا عبر التجاور والتكامل
صفحه نامشخص
على غرار تطور الكائنات الحية، يمر التطور التقني بعمليتين متكاملتين، ألا وهما التجاور والتكامل. ففي البداية تنتج مجموعة جديدة عبر المزج بين عناصر تقنية أولية. وفي هذا الترتيب يضطلع كل عنصر تقني بمهام مكملة لمهام العناصر المجاورة، ولكن النظام الكامل يظل غير متكامل بصورة كبيرة. وفي البداية تكون العناصر التقنية المجمعة والناتجة عن عمليات تطور مستقلة متجاورة فقط. ثم تخضع التقنية الجديدة والمتكونة بهذه الطريقة لمسارها التطوري بالتحسن التدريجي عبر التكامل. ويكثف كل عنصر تفاعلاته مع العناصر الأخرى بغية تشكيل كل متماسك وموحد. ومن أجل وصف هذه العملية، يستخدم جيلبرت سيموندون مصطلح «الإتقان» بمعناه الأصلي (أي، ما ينمو بصورة متناسقة).
3
يمثل التطور في صناعة هياكل السيارات مثالا جيدا على عمليات التجاور والتكامل. فعلى مر أجيال السيارات، قامت الهياكل على التوالي «بإدخال» الأجنحة والمصابيح والمرايا ومؤخرا الواقي من الصدمات لكي تتحول إلى الأشكال «البيضوية» للسيارات الحديثة.
4
إن التجاور والتكامل ليسا فقط مرحلتين مختلفتين بل اتجاهان لا يزالان مستخدمين في عملية تطور الأشياء. ويمكننا أن نعتبر أن هاتين القوتين تنطبقان على التوازي على المكونات التقنية الأولية (صمام دائرة إلكترونية، أو محرك سيارة، إلخ ...) وينطبقان أيضا على مستوى الأشياء الضخمة، ألا وهي البيئات التقنية. وثمة اتجاه الآن لدى البيئة الشاملة لتكنولوجيا المعلومات إلى التكامل، مما يجعل كل تقنية تشارك في هذه العملية (كمبيوتر، مشغل موسيقى، البنى التحتية للشبكات) تميل إلى تكثيف التفاعلات مع الأشياء الأخرى؛ ومن ثم تحدد إطارها.
وحتى لو تميل التقنية إلى التكامل إلا أنها لا تتكامل أبدا بصورة كلية، وهذا ما يتضح عبر بقاء أجهزة متنوعة لا تزال تحتفظ بدرجة من درجات الاستقلالية. فيمكننا إذن أن نتحدث بكل وجاهة عن «الفسيفساء» التقنية. (2-2) التقنيات تتطور في شكل سلالات
تتطور التقنيات في شكل سلالات وتخضع لعمليات اصطفاء وأنظمة تكاثر مختلفة. وتنطبق عمليات الاصطفاء على التوازي على مستويات عدة بداية من المكونات الأولية حتى الأنظمة البيئية نفسها. وتتسم معايير اصطفاء التقنيات وانتشارها بالتعقيد، وبالإضافة إلى ذلك فهي لا تزال غير معروفة. ويبدو أن انتشار معظم الابتكارات التقنية يمر عبر ثلاث مراحل متتالية.
خلال الفترة الأولى وهي فترة التكون، تشكل مجموعة تقنية جديدة عبر تجاور عناصر تقنية قائمة بالفعل أو في طور النمو، وتتسم هذه المجموعة بدرجة منخفضة من التكامل. وتعد العناصر التقنية المستخدمة ناتجة عن سلالات تقنية مستقلة بعضها عن بعض، وربما تكون شديدة القدم. وبصورة عامة، ظهر تاريخيا في ذلك التوقيت «مخترع»، وهو يستحق هذا اللقب حتى لو لم يكن سوى حلقة صغيرة من حلقات سلسلة طويلة من المبتكرين. فعلى سبيل المثال صنع فانفر بوش في عام 1930 أول جهاز كمبيوتر على هيئة آلة عملاقة تضم مكونات كهربية وميكانيكية مختلفة. وفي الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لم يكف هذا النوع من الكمبيوتر عن النمو عبر التجاور حتى ضم 2000 أنبوب كاثودي و150 محركا كهربيا. وتطورت عملية تكامل على التوازي مما أدى إلى إحلال الترانزستور والدوائر المتكاملة بدلا من العناصر الكهروميكانيكية. وبداية من عام 1958 كان الكمبيوتر جاهزا للانتشار في بيئات أكثر انفتاحا من بيئة مختبر البحث.
وخلال الفترة الثانية وهي فترة النضوج، يمكن إذن للتقنية أن تنتشر مستمرة في تحولها عبر التجاور والتكامل، وعند بلوغها درجة معينة من الانتشار، تصل إلى نقطة انفصال، ويتم تبني هذه التقنية من خلالها بفضل ديناميكية التعزيز الذاتي؛ فيؤدي كل شيء جديد ومنتشر إلى زيادة في الطلب عليه (فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يحملون هاتفا كان من المفيد الحصول على واحد منه). وتقود هذه السرعة في الانتشار من جهة إلى تكامل أقوى للتقنية، ومن جهة أخرى إلى بزوغ أنظمة بيئية جديدة تتمحور حول التقنية المنتشرة أو حول أحد أجزائها. ومنذ بداية الستينيات بدأت أجهزة الكمبيوتر في الانتشار بعدد متنام من المكاتب. وفي عام 1971، نجحت شركة إنتل للمرة الأولى في وضع كل أجهزة الترانزستور لإحدى وحدات المعالجة المركزية على دائرة واحدة متكاملة؛ مما أدى إلى اختراع المعالج الدقيق. وأتاح هذا التصغير زيادة استخدام الكمبيوتر (حيث قلت المسافة بين المكونات)، وخفض التكاليف وصناعة أجهزة كمبيوتر أصغر حجما: أجهزة الكمبيوتر الصغيرة، وهو ما أدى إلى ميلاد أجهزة الكمبيوتر الشخصية التي تسللت من بيئة الشركات إلى العالم المنزلي. وعبر ربط أجهزة الكمبيوتر فيما بينها على المستوى المحلي في بادئ الأمر ثم في شكل شبكات عالمية، أدى ذلك إلى نشأة بيئة جديدة تتضمن بنى تحتية للتواصل وبرامج من شأنها هي الأخرى أن تمثل سلالات تقنية جديدة.
وفي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التشبع، تشهد بعض السلالات التقنية استقرارا أو تراجعا. وثمة سببان من شأنهما أن يقودا إلى هذا التشبع. فقد تقترب التقنية المتكاملة من الحدود الفيزيائية التي لا يمكن تجاوزها، مثل قانون الديناميكا الحرارية للحد الأقصى من الطاقة المنتجة للمحركات . ومع ذلك، غالبا ما يستبدل به سلالة تقنية أخرى أكثر تكيفا مع بيئة معينة. وشهدت دقة الساعات الميكانيكية زيادة مطردة خلال ستة قرون. إلا أنه في العشرينيات وبعد ظهور ساعات الكوارتز صارت هذه السلالة التقنية غير مستعملة، على الأقل فيما يتعلق بقياسات الدقة.
صفحه نامشخص
ويمكن أيضا وصف تاريخ الطباعة والطيران أو المحرك البخاري عبر عمليتي التجاور والتكامل ووفقا لمراحل التكون والنضوج والتشبع. وكان دور الإنسان في هذه التطورات أساسيا وغير مباشر في آن واحد. فخلال بعض الفترات تطورت بعض السمات التقنية المرغوب فيها بصورة ضخمة وسريعة. فبين عامي 1400 و1920 على سبيل المثال، تضاعفت دقة الساعات الميكانيكية كل 45 عاما في المتوسط. وبين عامي 1884 و1965 تضاعف الرقم القياسي للسرعة في الهواء كل 17 عاما. وفي وقت قريب من وقتنا، تنبأ قانون مور بأن الحد الأقصى لعدد مكونات المعالج الدقيق يتضاعف في المتوسط في أقل من عامين. وحتى لو يجب النظر إلى هذه التطورات في ضوء سياقها الاجتماعي والثقافي العام الذي يحدد ما هو مرغوب فيه وما ليس كذلك؛ فإنها تمخضت بصورة أساسية عن ديناميكية جوهرية لتطور التقنيات وانتشارها. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو متناقضا، فإن تلاؤم هذه التطورات مع الإنسان يبدو في أغلب الأحيان أمرا ثانويا في هذه العمليات؛ فلوحة مفاتيح دفوراك المبسطة التي تم اختراعها في عام 1932 والتي تم تحسين ترتيبها للتلاؤم مع سرعة الكتابة، لم تنجح قط في شغل مكان لوحة مفاتيح كويرتي التي صممت في عام 1873، على الرغم من أن هذه الأخيرة أقل كفاءة بكثير من الأولى. (2-3) هل يمكن المقارنة بين تطور التقنيات وتطور الكائنات الحية؟
هكذا يتشابه تطور التقنيات مع تطور الكائنات الحية في العديد من الأمور: الترتيب في سلالات تطورية وأنظمة بيئية متداخلة، ودرجة متباينة من التكامل، واصطفاء على مستويات متعددة، وعمليتي التجاور والتكامل، إلا أنه يبدو واضحا أن التقنية يمكنها أن تحظى بآلية لزيادة التعقيد قد تكون أكثر فاعلية من الآلية المستخدمة في التطور البيولوجي؛ وذلك بالتحديد لأن التقنية من صنع الإنسان وليست وليدة ديناميكيات عمياء . ويجمع الإنسان عبر السلالات التقنية في عصره بين الترتيبات الجديدة بقدر إمكانية إعادة استعمال المكونات التقنية الفسيفسائية والمتكاملة إلى حد ما بداخل جهاز واحد، بحيث يعاد استعمالها في سياقات غير مسبوقة.
ويعتمد مدى هذا الجمع على انتشار التقنيات والمعارف التقنية الدالة على بيئة وعصر محددين. فقد أدت النزعة إلى الموسوعية في القرن الثامن عشر إلى تحويل الفنون اليدوية التي تتسم بمهارات سرية وانتشار جغرافي محدود إلى معارف عامة يمكن أن يستخدمها الجميع. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يكف تحويل الفنون إلى تقنيات والتطوير الصناعي وتحديد معايير التفاعلات وعولمتها عن توسيع نطاق الإمكانيات التقنية. واليوم فإن العصر الرقمي الذي يضمن وصف المعلومات وتكاثرها ومشاركتها على الصعيد العالمي، منح التقنيات في مجملها قدرة تطورية لم يسبق لها مثيل. وفي حين أن التطور البيولوجي لا يزال محصورا في زمانية بطيئة، فإن التقنيات تعد اليوم في قلب الديناميكيات القوية لإعادة التركيب والانتشار والاصطفاء مما يؤدي إلى بزوغ ترتيبات جديدة كل يوم، ترتيبات من شأنها أن تقلب هيكل البيئة التي نعيش فيها رأسا على عقب.
الفصل الثاني
التعلم
(1) إلى أي مدى تستطيع الحيوانات أن تتعلم؟
ما الذاكرة؟ ما التعلم؟ يعتمد النهج الأكثر شيوعا على مقارنة الكائنات الحية «بأنظمة تسجيل»، إذا لجأنا إلى استعارة تقنية كما هو الحال في أغلب الأحيان. وسيكون «التعلم» إذن هو القدرة التي تمتلكها بعض الكائنات الحية على تسجيل معلومات قد تغير سلوكها المستقبلي. أما «الذاكرة» فستكون مجموعة المعلومات التي يخزنها الجهاز العصبي.
وخلافا لما قد توحي به رؤية ما تتبع «مذهب المركزية البشرية»، فالبشر ليسوا الكائنات الحية الوحيدة التي تمتلك ذاكرة. ففي الواقع، تستطيع جميع الحيوانات تقريبا أن تتذكر ولكن بطرق مختلفة عن الإنسان. وفي الوقت ذاته، فإن المقارنة بين قدرات التذكر لدى الحيوانات والقدرة نفسها لدى الإنسان تعطينا بعض الأفكار عن طبيعة جنسنا.
1
وفيما يلي تفصيل لهذه النقاط.
صفحه نامشخص
من أجل المقارنة بين قدرات التذكر لدى مختلف الأجناس الحيوانية، يتعين امتلاك جداول لفئات التعلم التي يمكن أن تخضع إليها مختلف الفصائل. وقد تخيل العلماء مثل هذه الجداول وكانت تضم طرق تعلم بسيطة للغاية مثل التعود أو الميل إلى تبديل الاختيارات، وطرق تعلم معقدة إلى حد ما مثل الاشتراط، وطرق تعلم فائقة التعقيد مثل تعلم الدوران حول الهدف أو تعلم القواعد الإدراكية. (1-1) الأنواع المختلفة للذاكرة
يكمن «التعود» في تعلم عدم الاستجابة من جديد إلى موقف يتكرر بصورة مستمرة، مثل صوت المنبه في الصباح، الذي لم يعد يجعلنا نستيقظ. ولكن ذلك يفترض أن نتذكر خصائص «ما تعودنا عليه». يمكن أن تنطبق هذه الفئة ليس فقط على الإنسان بل أيضا على غالبية الحيوانات: فهكذا يمكننا تعويد نحلة على البرق أو تعويد دودة أرض على هزات أرضية متكررة. أما «الميل إلى تبديل الاختيارات» فهو أننا عندما نكون في موقف اختيار بين أمرين، إذا اخترنا الأمر الأول ذات مرة فسنميل في المرة التالية إلى اختيار الأمر الثاني (وهو ما يفترض أننا نتذكر الأمر الأول)؛ فإذا دارت الحشرة أو الفأر إلى اليمين في متاهة على شكل حرف تي، فستميل بالأحرى في المرة التالية إلى الدوران إلى اليسار. وإذا وجد الإنسان نفسه أمام مائدة طعام عليها قطع حلوى بالتفاح وبالفراولة وإذا كان قد تناول عدة قطع من الحلوى بالتفاح، فهو سيميل بالأحرى إلى اختيار قطعة حلوى بالفراولة بعد ذلك. أما «الاشتراط» فهو طريقة تعلم منتشرة بصورة كبيرة ونمطية للغاية (من لم يسمع عن كلب بافلوف؟) وهي عبارة عن تعلم الجمع بين العامل المثير ورد الفعل؛ على سبيل المثال في حالة كلب بافلوف، فإن الحيوان الذي يعتقد أن تقديم قطعة اللحم مرتبط بصورة منتظمة بعامل مثير جديد مثل صوت آلة الكمان يتعلم أن يفرز لعابا عندما يسمع صوت الكمان. ويسمح «الاشتراط الإجرائي» بالجمع بطريقة آلية بحتة بين سلوك ما والحصول على مكافأة (مثل قطعة صغيرة من الطعام) أو تفادي عقوبة ما (مثل الصدمة الكهربية). أما «تعلم الدوران حول الهدف» فيكمن في تعلم الابتعاد عن الهدف للعودة إليه لاحقا، على سبيل المثال، إذا وقف حيوان أمام زجاج شفاف ذي ارتفاع معين يوجد خلفه مكافأة غذائية شهية، فيستطيع أن يتعلم الدوران حول الزجاج. وفيما يتعلق «بتعلم القواعد الإدراكية»، وخلافا لما يحدث في عملية الاشتراط، فهو يقوم على التعلم بفضل قاعدة عامة بدلا من التعلم الآلي أو المنهجي عبر محاولات متتالية وعديدة. وعلى سبيل المثال فإن الحمامة التي تنقب عن مفتاح يجعلها تصل إلى غذاء يمكنها أن تقوم بذلك عندما نوفر لها صورة شفافة تعكس مساحة مائية ممتدة أيا كان نوعها. (1-2) ذاكرة الحيوانات
أي فصائل حيوانية تمتلك هذه الأنواع المختلفة من الذاكرة؟ بصورة إجمالية،
2
نجد عمليات التعود وتبديل الاختيارات، وهي ذاكرات بدائية، في جميع الفصائل الحيوانية تقريبا، باستثناء بعض الحيوانات الطفيلية، ذات التنظيم الأكثر بساطة من بقية الفصائل، وبعض الحيوانات القديمة للغاية مثل الإسفنج. وتظهر عملية الاشتراط على مستوى الديدان مثل دودة الأرض الموجودة بحدائقنا، وتتقنها بصورة كبيرة الحيوانات الأكثر تطورا، فالنحلة على سبيل المثال، قادرة على القيام بعمليات اشتراط شديدة التعقيد. أما تعلم الدوران حول الهدف فلا نجده إلا لدى الفقاريات، وهي المجموعة التي تبدأ من الأسماك وحتى الثدييات (التي ينتمي إليها الإنسان) ولدى بعض الرخويات شديدة الذكاء مثل الأخطبوط. ولا نجد تعلم القواعد الإدراكية إلا لدى الفقاريات ذوات الدم الحار (الطيور أو الثدييات) وأيضا لدى الأخطبوط. ولنلاحظ أنه لدى الحيوانات التي تمتلك ذاكرات معقدة (مثل الأخطبوط أو الثدييات)، لا تحل هذه الذاكرات المعقدة محل الذاكرات الأكثر بساطة ولكنها تكملها؛ فيمتلك الأخطبوط أو القرد أيضا قدرة التعود أو تبديل الاختيارات أو الاشتراط، وهكذا الحال لدى الحيوانات ذوات الذاكرات الأقل أداء مثل النحلة التي لا تمتلك القدرة على الدوران حول الهدف ولا الذاكرات الإدراكية، ومع ذلك لا تمسح الذاكرات الأعلى أداء (وهي الاشتراط في هذه الحالة) الذاكرات الأكثر بساطة مثل التعود أو الميل إلى تبديل الاختيارات.
وتخبرنا هذه النتيجة أيضا عن تنظيم الذاكرة لدى الجنس البشري. فنحن نعتقد أن ذاكرتنا هي كل موحد ومتناسق، ولكن ذلك غير صحيح على الإطلاق؛ فذاكرتنا «كالفسيفساء» عبارة عن مجموعة من القدرات المتباينة تبدأ من التعود وحتى التعلم الإدراكي الأكثر تعقيدا. وخلال التطور اكتسب أسلافنا من الحيوانات القدرات المختلفة لذاكرتنا والتي تشبه أوجه الفسيفساء. ونحن نستدعي هذه القدرات وفقا للمواقف؛ ففي موقف تكرار صوت المنبه في الصباح، نستدعي قدرات التعود. ومن أجل تعلم السباحة نستدعي القدرة على الاشتراط. ومن أجل حل مسألة رياضية نستدعي قدراتنا الإدراكية، وذلك دون أن ندرك أننا نستدعي آليات مختلفة لذاكرتنا الفسيفسائية حسب الموقف. وأخيرا تعد الذاكرة أحد مكونات الذكاء الأساسية (انظر الفصل الرابع). (2) كيف يمكن للآلات أن تتعلم؟
من الغريب أن نلاحظ أنه حتى يومنا هذا يتعجب الكثير من الأشخاص من قدرة الآلة على التعلم، إلا أن الآلات «المتعلمة» توجد منذ خمسين عاما على الأقل، فكأننا نرفض مسبقا منح الآلات قدرة لم يكن الكثيرون يريدون منحها للحيوانات حتى وقت قريب. وسوف نستكشف لاحقا الأسباب الممكنة التي تدفعنا إلى الرغبة في إنكار قدرة الآلات على التعلم (انظر الفصل الثاني عشر). وسنحاول الآن أن نقدم بصورة علمية الطريقة التي يمكن بها للآلات أن تغير من سلوكها وفقا لتجاربها الماضية. وربما يتطلب هذا العرض مجهودا من جانب القارئ كي يفهمه، ولكنه سيسمح على الأرجح بإقناعه بأن الآلات تستطيع بالفعل التعلم. (2-1) كل تقنية هي دعامة للذاكرة
قبل أن نناقش كيف تستطيع الآلات التعلم عن طريق ما تحفظه، يتعين ذكر الروابط الوثيقة التي تجمع منذ قديم الأزل بين التقنية والذاكرة.
تعتبر كل تقنية دعامة للذاكرة، وحتى التقنيات التي لا تترك أثرا أو تسجل الماضي تقوم بذلك بصورة ضمنية، مثل حجر الصوان المشكل الذي نعثر عليه اليوم، فهو يسجل في ثناياه أفعال صانعيه القدماء. فيمكننا بواسطة هذه الأحجار أن نتعرف على المهارات والعادات والتقاليد والشعائر الخاصة بصانعيه. وعلى صعيد آخر، فإذا وجدنا كنزة صوفية بها ثقب عند المرفق ومنسية في خزانة ملابس فهي قد تذكرنا بفترة مراهقتنا.
3
صفحه نامشخص
تهدف بعض التقنيات بوضوح إلى الاحتفاظ بالذكريات ونقلها، وتسمى طرق الاستذكار. ويتسبب كل ظهور جديد لطريقة استذكار في التأثير على نحو عميق على المجتمع: اللغة الشفهية، والفن الجداري، والكتابة المسمارية ، ثم الأبجدية والطباعة والبطاقات المثقوبة والفونوجراف والكاميرات السينمائية وذاكرات التخزين الرقمية. واليوم، يمكن تسجيل الملامح المختلفة لحياتنا وتصفحها ومشاركتها أكثر من ذي قبل. فيستطيع كل فرد أن يتذكر وأن يحتفظ بآثار لمساره في الحياة وأن يسلط الضوء على بصماته الخاصة. (2-2) الاستباق والتنبؤ عبر عناصر محفوظة في الذاكرة
تسمح تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي منذ حوالي خمسين عاما بابتكار تقنيات قادرة ليس فقط على حفظ المعلومات بل تحليلها أيضا، وهو ما يعد حدثا فارقا في تاريخ طرق الاستذكار. فعلى سبيل المثال تحاول بعض تقنيات ضغط البيانات أن تفرغ التراكيب المكررة في مقطع موسيقي أو مقطع فيديو لتحويل محتواه إلى صورة مدمجة. وتقوم صيغ الضغط المشهورة حاليا مثل
mp3
على هذا النوع من التحليل.
ويسمح أيضا فهم هيكل مسار زمني ما بالاستباق والتنبؤ بالقيم المستقبلية لهذا المسار. وثمة أساليب عدة للتنبؤ بواسطة سلسلة مسجلة مسبقا. فلنتخيل مثلا آلة تحاول التنبؤ بمكان هبوط كرة أطلقناها للتو في الهواء. فستحاول الآلة أن تلائم بين نقاط المكان «أ» (وهو مسار الكرة في بداية حركتها) ونقاط المكان «ب» (موقع الكرة بعد مرور ثانية). وفي الرياضيات هذه إحدى مسائل تحليل الانحدار وهي إعادة تجميع دالة في مجملها عبر بعض النقاط. وبغية حل هذه المسألة، نفترض مسبقا بعض خصائص هذه الدالة، مثل تعدد الحدود، ونبحث في هذه المجموعة الفرعية عن تلك التي من شأنها أن تقترب بصورة أفضل من النقاط المتوفرة.
يمكن أيضا اللجوء إلى أساليب غير معيارية وأكثر بساطة وذات فاعلية متساوية في بعض الأحيان. فيعتمد التعلم عبر النماذج الأولية على حفظ كل أمثلة الاتفاق بين مكاني «أ» و«ب» واستخدام الأمثلة الأقرب من السياق ذي الصلة للقيام بتنبؤ جديد. وهكذا عند رؤية صورة فطر والرغبة في التنبؤ بما إذا كان ساما أم لا، فقد يكتفي نظام ما بالمقارنة بين هذه الصورة وكل الصور المرئية السابقة ووصفها ب «سامة» أو «قابلة للأكل» وفقا لغالبية التصنيفات المرتبطة بالصور الأكثر تشابها لهذه الصورة.
ويوفر الذكاء الاصطناعي في هذه الأيام مجموعة هائلة من طرق التعلم ، تتناسب كل منها مع بعض المشكلات دون غيرها، ولكل منها خصائصها، ويتعين معرفة اختيار الطرق الأكثر تناسبا وفقا لنوع التعلم المطلوب تحقيقه أو ترك الآلة تختار بنفسها في بعض الحالات (انظر الفصل الخامس).
بدأ استخدام هذه التقنيات في مجالات تطبيقية متزايدة، تبدأ من التنبؤ بمعناه الدقيق (التنبؤ بأحوال الطقس، والتنبؤ المالي والاقتصادي) وحتى استكشاف قواعد بيانات ضخمة (محركات البحث على شبكة الإنترنت، والتحكم في الجودة في الصناعة، والأبحاث في العلوم العصبية والطب). وقد بدأت أيضا في الظهور في واجهات الاستخدام في شكل نظم إكمال تلقائي للنص (سواء في الرسائل القصيرة أو واجهات نظام تحديد المواقع العالمي) أو التوصية بمحتويات مرئية وسمعية. وسيزداد في القريب العاجل عدد الأنظمة الاصطناعية التي تتعلم.
وأخيرا يمكن القول إنه من بين كل هذه الأساليب، يمكن اعتبار بعضها نماذج شائقة لفهم الطريقة التي تتيح للحيوانات أو الإنسان الاستباق والتنبؤ. وقد سمحت شبكات الخلايا العصبية الاصطناعية، دون أن تكون بالتحديد نماذج بيولوجية، بتطوير بداهتنا بطريقة يمكن بها التعلم بصورة متوازية وموزعة.
4
صفحه نامشخص
وكان أيضا من الممكن دراسة الخصائص العامة لبعض البنيات العصبية مثل القدرة على التذكر وتعميم الشبكات المتكررة؛ أي تلك التي تكون فيها بعض «المخرجات» مربوطة على شكل حلقات «بالمدخلات».
5 (2-3) التنبؤ يتيح اتخاذ القرار وفقا لأهداف يحددها نظام قيم
يمكننا إعطاء الآلة بصورة عشوائية إشارة بأن بعض هذه الحالات مرغوب فيها في حين أنه يجب تجنب البعض الآخر (انظر الفصل السادس)؛ أي نزودها بما نسميه نظام قيم. فيمكننا، على سبيل، المثال أن نشير إلى الروبوت بأنه من غير المستحسن الاصطدام بالحائط، وذلك بالاتفاق معه على أنه ينبغي تجنب المواقف التي تتلقى فيها لاقطات اللمس لديه صدمات عنيفة. وبواسطة قدرات التنبؤ يستطيع حينئذ محاولة التصرف بطريقة تسمح بتحقيق هذا الغرض؛ فهو سيستبق القيمة المحتملة لأي حركة في سياق معين اعتمادا على تجاربه الماضية. وحين يرصد عائقا على مسافة ما، فسيقوم على سبيل المثال بنصف استدارة لتفادي الاصطدام، فيظهر بهذه الطريقة نوعا من الاستقلالية.
تقوم أنظمة القيم بترميز ما تحاول الآلة تحقيقه بصورة ضمنية أو صريحة. فبدلا من برمجة سلوك الآلة مباشرة، يكفي ترميز نظام قيم. فعلى سبيل المثال، كان كمبيوتر ديب بلو الذي طورته شركة آي بي إم والذي هزم بطل العالم في لعبة الشطرنج جاري كاسباروف، يعتمد على نظام تقييم معقد لجودة ترتيب معين للعبة، ويقوم هذا النظام على أربعة مبادئ: القيمة الحقيقية لكل قطعة من قطع الشطرنج، وموقعها، ودرجة أمان الملك، والمبادرة في الحركة. وعبر هذا النظام كان يقوم على التوازي بحركات متعددة لكي يختار الأفضل منها (انظر الفصل الرابع). (2-4) الميل إلى الاستقلالية هو عملية عامة للسلالات التقنية
من الجدير بالذكر أن كل شيء في حياتنا اليومية قد يصير شيئا استثنائيا ومستقلا؛ فالعملية التي وصفناها الآن هي في الواقع عامة بصورة كبيرة، ويمكن تطبيقها أيا كان نوع التقنية، فكل شيء قادر على الإدراك والعمل في بيئته له وجوده الخاص بطريقة ما، ويمكن أن يصبح استثنائيا باستذكار آثار هذه التفاعلات مع الزمن. وعلى مدار تاريخه، سيتسنى له عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي أن يتنبأ ويستبق الأحداث المستقبلية. وإذا أضفنا للشيء نظام قيم يحدد المواقف التي يجب البحث عنها والتي يجب تجنبها، فيمكننا أن نفكر في تزويده بشكل من أشكال الاستقلالية. وسيكون تعقد هذا السلوك المستقل مرتبطا بصورة أساسية بأداء قدرات التنبؤ لدى الآلة وبنوع نظام القيم الذي تم اختياره.
إن هذا الميل نحو الاستقلالية هو عملية عامة للسلالات التقنية (انظر الفصل السابع عشر). فتكون الأداة في البداية جهازا بديلا، ثم تكتسب الكفاية الذاتية من الطاقة، ثم تزود بعمليات تحكم ذاتي أكثر تعقيدا لتميل في النهاية إلى الاستقلال التام. فقد حلت المطرقة الآلية المستخدمة في طرق المعادن محل المطرقة اليدوية ثم جاء دور آلة ترقيق المعادن ثم الروبوت. واستبدل بالدفة المحرك المؤازر (السيرفو) الذي يسمح بتوجيه السفن الكبرى باستخدام قوى البخار، وهو الجيل السابق للتوجيه الآلي في سياراتنا. وتعد هذه العملية التي تهدف إلى جعل النظام التقني مستقلا نتيجة مباشرة لعمليات التجاور والتكامل التي تتسم بها الديناميكيات التقنية (انظر الفصل الأول)، وهي أيضا بلا شك أحد الميول القوية للأنظمة البيولوجية. (2-5) دراسة التعلم الاصطناعي تسمح بإعادة تفسير مختلف أنواع الذاكرة لدى الحيوانات
بصورة إجمالية، يتضح إذن أن الآلات قادرة على التعلم بأشكاله كافة. فكيف يمكن مقارنة هذه القدرات بما نعلمه عن التعلم لدى الحيوانات؟ فلنعد إذن إلى الجدول الطبقي لأشكال الذاكرة والتعلم لدى الحيوانات كما عرضناه من قبل: (أ)
التعود والميل إلى تبديل الاختيارات، وهما عمليتان بدائيتان يمكن ملاحظتهما لدى كل الحيوانات تقريبا، ويتفقان مع نظام قيم متأصل لدى الحيوان مما يسهل المواقف التي يمكن إدراكها على أنها جديدة نسبة إلى قصة حديثة إلى حد ما. وهذا يرجع إلى إعطاء قيمة أقل للمواقف التي يمكن استباقها بسهولة. ويعد بناء نظام اصطناعي يتصرف بهذه الطريقة أمرا سهلا نسبيا، وتكفي شبكة خلايا عصبية لا تحتوي إلا على بعض العناصر. (ب)
عمليات الاشتراط الموجودة بالفعل لدى دودة الأرض التي قد تبلغ مستويات هائلة من الإتقان لدى حيوانات أخرى، فهي تتميز بوجود أنظمة قيم عرضية مرتبطة بعوامل مثيرة (طعام أو سمات جنسية خاصة، إلخ) وتتميز أيضا بأنظمة استباق بعيدة المدى إلى حد ما. وقد درست أساليب الاشتراط الاصطناعي بصورة جيدة وبسطت رياضيا في شكل ما نسميه «التعلم عن طريق التعزيز».
6
صفحه نامشخص
واقترحت لوغاريتمات عديدة قاد بعضها إلى تفسيرات جديدة حول بنية العقد القاعدية (مجموعة موجودة أسفل القشرة في وسط المخ البشري تقريبا) أو بنية المخيخ (الذي يقع أسفل المخ مباشرة) وهما جزءان من المخ نعتقد أنهما يشتركان في عمليات التعلم.
7 ،
8 (ج)
من أجل القدرة على تعلم الدوران حول الهدف، التي تتسم بها الفقاريات والرخويات رأسيات الأرجل، والتي تكمن في القدرة على الابتعاد عن الهدف لبلوغه في وقت لاحق، يتعين أن تكون الآلة مزودة بنظام استباق متوسط المدى. ويكمن أحد الأساليب في تزويد الآلة بقدرات على المحاكاة الداخلية عن طريق الاستخدام المتكرر لنتائج نظام التنبؤ. ويمكن لبعض برامج لعبة الشطرنج أن تختار أي قطعة تحركها بمحاكاة نتائج هذه الحركة لاحقا. ويكمن أسلوب آخر في التقييم الدائم لنتائج الاختيارات الماضية مقارنة بالأهداف المنشودة وتحديث «خريطة» لأفضل الاختيارات الواجب اتباعها في موقف معين. وفي كل الأحوال، فإن هذا النوع من التعلم المتاح حاليا للعديد من برامج الذكاء الاصطناعي يتطلب بلا جدال عمليات أكثر تعقيدا من التعود أو الاشتراط. (د)
تعلم القواعد الإدراكية والعامة المستخدمة في غير سياقها، وهو النوع الذي تجيده فقط الفقاريات ذوات الدم الحار والأخطبوط، والذي يتطلب آليات تنبؤ أكثر تعقيدا. وتستطيع العديد من لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي القيام بهذا النوع من التعلم. ولكن من بين الآليات المعقولة بيولوجيا، يبدو أن شبكات الخلايا العصبية المتكررة بصورة كبيرة (التي تضم حلقات التغذية الراجعة بين بعض مخارجها ومداخلها) هي وحدها التي تمتلك قدرات تعميم كافية. أما الهياكل المقابلة لها في عقلنا فهي القشرة الجديدة والحصين، وهي هياكل جديدة نسبيا على مستوى التطور.
رأينا كيف يمكن للأبحاث في الذكاء الاصطناعي أن تبرز قدرات التعلم لدى الحيوانات بصورة غير مسبوقة بالإضافة إلى توفير الأسس لآلات مبتكرة تميل نحو مزيد من الاستقلالية. فهي تسمح بتطوير بداهتنا بالطريقة التي تقود بها بعض الهياكل العصبية إلى بعض أنواع التعلم. وسوف نلاحظ على مدار هذا الكتاب هذه الطبيعة المزدوجة للآلات بصفتها أدوات ونماذج.
الفصل الثالث
العقل
(1) هل تمتلك الحيوانات عقلا؟
تبدو الإجابة مؤكدة وغريبة أيضا فيما يتعلق بالحيوانات الأكثر تطورا! لا يشك أحد في أن الحصان أو طائر الشرشور يمتلك بالفعل عضوا بداخل جمجمته يسمى «مخا». ولكن هذا التأكد ينطوي على بعض التحفظات.
صفحه نامشخص
في البداية، يرجع ذلك إلى أنه يوجد الكثير من الحيوانات الأقل تطورا التي إما لا تمتلك أي آلية عصبية (مثل الإسفنج أو الدودة الشريطية) وإما تمتلك جهازا عصبيا ولكنه جهاز غير مجتمع على الإطلاق في عضو كبير مثل جهازنا العصبي (مثل الديدان الحلقية والعديد من الرخويات والحشرات التي يتكون جهازها العصبي من سلسلة من الغدد الموزعة على أنحاء الجسم كافة). وتمتلك الفقاريات والرخويات المسماة ب «رأسيات الأرجل» (مثل الأخطبوط أو الحبار) وحدها عضوا مركزيا يمكن وصفه بالمخ. إلا أنه سرعان ما نلاحظ أن الحيوانات التي تمتلك سلسلة من العقد العصبية مثل دودة الأرض والحلزون والنحلة هي أيضا مزودة بالقدرة على الإحساس. فلا يعد إذن امتلاك مخ كبير إلا أحد احتمالات التعبير عن الإحساس الحيواني وهو احتمال يسمح بظهور سلوكيات أكثر تكاملا. وإذا كانت الفقاريات والرخويات رأسيات الأرجل تعتبر حيوانات ذكية بصورة خاصة فذلك ليس وليد الصدفة (انظر الفصل الرابع).
ومن جهة أخرى، فمن الجدير بالذكر في هذا المقام أن كلمة «مخ» لا تعني المعنى ذاته لدى العلماء ولدى عامة الناس، فما نسميه نحن في اللغة الشعبية «المخ» أي مجموعة البنى التي تضمها الجمجمة هو ما يطلق عليه العلماء «الدماغ». وبالنسبة للعلماء، لا يحتل «المخ» بمعناه الدقيق إلا جزءا من الدماغ ولكنه الجزء الأكبر الذي يتفق تقريبا مع أنصاف الكرة المخية لدى الفقاريات والمناطق المعادلة لدى رأسيات الأرجل، وربما يكون مقر التفكير الواعي. وفي هذا الصدد، قد تمتلك فقط بعض الحيوانات عقلا بمعناه الدقيق وليس فقط جهازا عصبيا، وهي إجمالا الحيوانات المزودة ب «الوعي التام» (انظر الفصل السابع) أي إدراك عناصر بيئتها. ودون أن نستطيع الجزم بصورة كاملة في علم مثل علم الأحياء الذي يعيد النظر في جميع الأمور بصورة دائمة، يمكننا على أي حال أن نعتبر أن الفقاريات والرخويات رأسيات الأرجل على الأقل تمتلك «عقلا» بصورة واضحة! (2) هل يمكن أن تمتلك الآلات عقلا؟ (2-1) لا يمتلك الكمبيوتر عقلا، والعقل ليس كمبيوتر
عادة ما يشبه العقل بنوع من الكمبيوتر المتطور. وفي أغلب الحالات يكون التشابه خادعا. فلنؤكد في البداية أن العديد من الآلات التي يمكن اعتبار سلوكها ذكيا والقادرة على التعلم من النماذج ليست مصنوعة على الإطلاق بناء على مبادئ مماثلة لمبادئ عقل الثدييات. فعلى سبيل المثال يختلف عمل الكمبيوتر الذي هزم جاري كاسباروف بطل العالم في لعبة الشطرنج عن عمل العقل البشري. وبالإضافة إلى ذلك يبدو الذكاء الاصطناعي التقليدي الذي يقوم بصفة أساسية على الاستدلال الرمزي شديد البعد عن النماذج التي تقترحها حاليا العلوم العصبية، حتى إن كان قد استطاع في بعض الأوقات أن يؤثر في بعض النظريات بشأن الاستدلال الإدراكي.
وبصفة عامة، لا تشبه بنية الكمبيوتر على الإطلاق ما نعرفه عن بنية العقل. ولكن إذا أردنا المقارنة بينهما على صعيد الأداء، فيبدو العقل كجهاز كمبيوتر أشد بطئا من أجهزة الكمبيوتر الأكثر سرعة، ولكن يعوض عن هذا البطء بإجراء «العمليات الحسابية» جميعها بصورة متوازية، ولكن يتعين أن نتذكر أن هذا التشابه القديم والدائم بين العقل والكمبيوتر هو قبل كل شيء استعارة. فيستخدم كل عصر الأدوات التقنية المتوفرة فيه لمحاولة فهم الطريقة التي نفكر ونعمل بها. وكان اليونانيون يستخدمون استعارات مائية، وكان مهندسو عصر النهضة يلجئون أيضا إلى نماذج آلية ونماذج أخرى تعمل بالهواء المضغوط. وشهد القرن التاسع عشر ازدهار النماذج الكهربية. فلا يعد إذن التشابه الناشئ في القرن التاسع عشر بين الكمبيوتر والعقل إلا مرحلة من جملة مراحل أخرى في تاريخ النماذج (انظر قسم «هل نحن نعتبر آلات؟») (2-2) آلات جديدة مستوحاة من العقل
يوضح العديد من الباحثين اليوم أنهم يستوحون من معارفنا الحديثة عن العقل البشري لاختراع آلات من نوع جديد. فقد تطورت العلوم العصبية بصورة كبيرة خلال العقود المنصرمة. وقد تسمح تقنيات التصوير الجديدة بصورة خاصة برؤية التفاعل الفوري للعقل مع العوامل المثيرة في العالم الخارجي بدقة غير مسبوقة. وتصمم نماذج هذه المعطيات التجريبية بصورة أفضل عبر عمليات محاكاة تتطلب استخدام أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة والقوة. ولكن للأسف ليس من السهل تحويل هذه النماذج الوصفية إلى نماذج عملية، فالنماذج التي تتخذ أشكالا عصبية والتي تستوحي مما نعرفه عن مبادئ عمل العقل البشري تطلق العنان حاليا للتخيل والابتكار لدى الباحثين الذين يصممونها.
وعلى عكس ما هو شائع الاعتقاد، فنادرا ما نصمم آلات جديدة عن طريق «محاكاة» الطبيعة؛ فالطائرات ليست طيورا تحولت إلى نماذج مصممة بصورة مباشرة، شأنها في ذلك شأن الكمبيوتر الذي لم يصنع كالعقل البشري. فيتبع الاختراع التقني قواعده الخاصة، ويتعلق الأمر قبل كل شيء بالمزج بصورة غير مسبوقة بين العناصر التقنية المتوفرة في عصر معين. ويستطيع المخترعون، شأنهم شأن أي مؤلف ، أن يستلهموا من العالم الذي يعيشون فيه، ولكننا لن نبالغ في أهمية هذه الملاحظات نسبة إلى خيالهم التركيبي الذي يعد المصدر الحقيقي للابتكار التقني. فمن غير المرجح أن نعتبر أن الآلات ستمتلك عقلا في يوم ما، ولكن في المقابل يجوز الاعتقاد أننا سوف نغير فهمنا «لعمل العقل البشري» عن طريق الاستلهام من الآلات الجديدة التي سنصممها.
الفصل الرابع
الذكاء
(1) هل الحيوانات ذكية؟
ليس من السهل أن نفسر ما هو الذكاء، فإذا كان هو القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، فالحيوانات وأيضا النباتات تمتلك هذا الشكل من الذكاء. وإذا كان هو القدرة على فهم تغيرات البيئة المحيطة بصورة واعية إلى حد ما بغية استخلاص سلوك ما، فإذن كل الحيوانات المزودة بجهاز عصبي مركزي تمتلك شكلا من الذكاء. وسوف نتبنى هذا التعريف الأخير هنا حتى لو ظلت حدود الوعي مسألة صعبة (انظر الفصل السابع). في الواقع، يستثني مؤرخو الذكاء الحيواني بصفة عامة مفهوم الوعي الذي يصعب احتواؤه ويعتبرون أن الذكاء الحيواني خاصية العقل الذي يعمل لجعل السلوك ملائما. وعلى غرار كل ما يتعلق بالحيوانات، يظهر الذكاء في مستويات التعقيد لدى الكائنات الحية على مراحل متتالية مثلما رأينا في الذاكرة التي تعد أحد مكونات الذكاء (انظر الفصل الثاني). وبهذا الشكل، يصبح الذكاء مرادفا للتفكير الواعي أو غير الواعي.
صفحه نامشخص
ومن الجدير بالذكر أننا نتساءل بصفة خاصة عن مسألة «الذكاء» لدى الحيوانات الأكثر تطورا مثل الفقاريات والرخويات مثل الأخطبوط. وإجمالا تعتبر هذه الحيوانات أكثر ذكاء مما كنا نعتقد على مدار فترات طويلة وبالإضافة إلى ذلك يؤدي كل اكتشاف جديد إلى النظر إلى الذكاء الحيواني على أنه في تطور متزايد.
وفيما يلي بعض الأمثلة: (1-1) ذكاء الثدييات والطيور
لن نندهش من وجود قدرات ذكاء ملحوظة للغاية لدى الشمبانزي لا سيما أننا نعلم أنه يستطيع استخدام الأدوات أو تعلم مبادئ اللغة بالتواصل مع الإنسان (انظر الفصل الثامن). ويستطيع الشمبانزي أيضا أن يقوم بأنشطة ترتيب الأشياء (حسب الشكل أو اللون ...) ولكن هذه الملاحظات التي تنم عن ذكاء مرتفع جدا قد شوهدت أيضا لدى كل الحيوانات ذوات الدم الحار سواء الثدييات أو الطيور. فقد استطاع هيرمان وزملاؤه في السبعينيات تعليم بعض الدلافين تنفيذ التعليمات التي يعطيها لها الإنسان في شكل إشارات حركية عشوائية. وتستطيع الجرذان تعلم القواعد المعقدة مثل «اختيار علبة مماثلة لتلك التي وضعت بها للتو» كما دلل على ذلك ألكسنسكي وآخرون في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي في جيف-سور-إيفت بفرنسا (عام 1978). ويدرك العديد من الثدييات والطيور مفهوم العدد وهي قادرة على العد حتى رقم سبعة أو ثمانية. ولقد رأينا سابقا رد فعل الحمام عند رؤية صورة شفافة تعكس مفهوما عاما مثل مساحة ممتدة من المياه أو غابة (انظر الفصل الثاني). ويستطيع الحمام أيضا تعميم شكل حرف أبجدي مكتوب بطرق مختلفة بطريقة مماثلة لتلك التي نتبعها حينما نقرأ رسالة مكتوبة بخط اليد. ويمكنه أيضا تمييز مفهوم «شيء جديد» نسبة إلى أشياء معروفة من قبل. وتستطيع طيور أبي زريق التعرف على «متتالية منطقية من الأشكال» وهي مشكلة يقابلها الإنسان بطريقة مختلفة خلال اختبارات نسبة الذكاء! ويمكننا بالطبع مضاعفة عدد الأمثلة.
استطاعت الباحثة الأمريكية إيريني بيبربرج بداية من الثمانينيات تعليم بعض الببغاوات القيام بمهام شديدة التعقيد مثل ترتيب الأشياء حسب الشكل أو اللون، أو فهم حوالي خمسين كلمة، أو إدراك مفهوم «المتشابه» و«المختلف» أو تقدير مفهوم الحجم النسبي للأشياء، وذلك باتباعها لأسلوب تعليم مبتكر يسمى «أسلوب النموذج وعكسه» الذي يعتمد على وضع الببغاء أمام شخصين يقول أحدهما للآخر أسماء الأشياء التي يستخدمانها، بحيث يكافأ أحدهما إذا توصل إلى الإجابة الصحيحة. ويثير هذا الموقف الاجتماعي اهتمام الببغاوات وقدرات التعلم لديها بصورة كبيرة.
وتكشف هذه الأبحاث الحديثة التي أجريت على طيور اشتهرت دون وجه حق بأنها محدودة الذكاء، عن سرعة تطور معارفنا في هذا الميدان وإلى أي مدى قللنا من شأن ذكاء الفقاريات (وأيضا بعض الرخويات مثل الأخطبوط). وينبغي أن نتوقع اكتشافات عديدة في هذا المجال في السنوات القادمة لا سيما لدى الأنواع الأكثر ذكاء من الثدييات مثل القردة العليا أو القردة الشبيهة بالإنسان أو الدلافين أو آكلي اللحوم أو الفيلة، والطيور مثل الغربان أو الببغاوات أو أشباهها. على الرغم من شدة الذكاء البشري، فإنه يستمد أصوله من الذكاء الحيواني الذي لا يزال يستهان به بصورة كبيرة! (2) هل يمكن أن تكون الآلات ذكية؟
إن تصنيع آلة ذكية هو حلم قديم للمهندسين، والآلة «الذكية» هي أساسا آلة تقوم بشيء يستطيع الإنسان وحده فعله دون بقية الحيوانات كافة. وبما أن القدرة على الكلام كانت لفترة طويلة أحد المعايير الأساسية للتفرقة بين الإنسان والحيوان، فقد انكب العديد من المهندسين على استحداث آلات ناطقة، وحاول البعض الآخر تصميم آلات تلعب الشطرنج أو تجد حلا لمشاكل أخرى تعتبر معقدة. وسنناقش باختصار هذين المثالين. (2-1) المهندسون يريدون إنطاق الآلات
كان ديكارت يفسر من قبل أنه من أجل إنطاق آلة ما، يتعين إعادة إنتاج الأصوات البشرية من ناحية، ومن ناحية أخرى تنظيم هذه الأصوات بحيث تشكل خطابا ذا معنى. فكان يستطيع الإقرار بأن المحاكاة الصوتية للحديث ممكنة في المستقبل، ولكنه كان يستبعد إمكانية قدرة آلة ما في يوم من الأيام على ترتيب الحديث «بطريقة مغايرة للرد على معنى ما سيقال في وجودها».
1
فكان الإنسان وحده هو من يستطيع القيام بذلك حينئذ.
وفي القرن الثامن عشر حاول متخصصو الآلات في عصر النهضة مواجهة هذا التحدي بتناول قضية إعادة إنتاج الأصوات أولا. فقد أطلق جاك دي فوكونسن، وهو مبتكر العديد من الآلات ذاتية الحركة الشهيرة، والذي يعتبر، عن جدارة، أحد رواد الذكاء الاصطناعي، مشروع «المتحدث» الذي لم ينجح في إنهائه. وفي عام 1783 صمم القس ميكال «رأسين ناطقين» قادرين وفقا للافوازييه وفيك دازير على إعادة إنتاج الصوت البشري بصورة غير متقنة.
صفحه نامشخص
2
وفي عام 1791 صمم فون كمبلن أيضا آلة ناطقة قال عنها جوته: إنها «ليست ثرثارة ولكنها تنطق بعض الكلمات الطفولية بطريقة مهذبة.» ويقال إن ألكسندر جراهام بيل عندما رأى نسخة من هذه الآلة بدأ برفقة أخيه في صناعة عدد كبير من الرءوس الناطقة. وبعد بضعة أعوام، اخترع الهاتف وأدخل التقنية التي تسمح بتمثيل الصوت عبر إشارات كهربية مما تسبب بطريقة ما في التوقف عن استخدام المحاولات الآلية المختلفة للحصول على النتيجة ذاتها. وتركزت الأبحاث بعد ذلك على التحدي الثاني الذي يواجه الآلة الناطقة والذي كان ديكارت يرى أنه مستحيل؛ ألا وهو تكوين خطاب.
وفي عام 1950 اقترح آلان تورنج تجربة لحسم مسألة ذكاء الآلات؛ الآلة الذكية هي التي يمكن اعتبارها إنسانا خلال محادثة نصية تتم عن بعد. وتنبأ تورنج بأن أي نظام نزوده بقدرات تعلم ملائمة قد يستطيع اجتياز هذا الاختبار بنجاح قبل نهاية القرن العشرين. وتعد مساهمة تورنج فلسفية بصورة أساسية باقتراحه لاختبار يقوم فقط على الملاحظة وليس على افتراض آلية داخلية من نوع خاص. إلا أن العديد من الباحثين فسروا بطريقة حرفية التحدي الذي أطلقه تورنج؛ فحاولوا تصميم آلات قادرة بالفعل على تقليد الإنسان، وأشهرها نظام إليزا الذي صممه جوزيف فايتسنبوم في عام 1966 والذي نجح في بعض الحالات في إعادة إنتاج سمات محادثة ذات معنى عبر الاستناد فقط إلى تفسيرات جمل، مع أنه لا يفهم شيئا من الأحاديث المتبادلة التي يشارك فيها. وعلى هذا المنوال، ابتعدت العديد من المحاولات عن القيام بمعالجة حقيقية لمعنى المحادثات في سبيل محاولة النجاح في اختبار تورنج.
إن تصميم آلة قادرة على فهم ما نقوله لها يعد مشكلة صعبة بصورة جوهرية. وبالرجوع إلى الوراء، يتضح لنا أن تاريخ النظريات بشأن الخصائص المميزة للقدرات اللغوية البشرية يعكس مباشرة تاريخ التقنيات المتوفرة في عصر معين. وإذا كنا قد بدأنا منذ الخمسينيات في اعتبار تعلم الحديث مشكلة حاسوبية، فذلك ليس وليد الصدفة. ففي مواجهة نظريات تشومسكي التوليدية التي تبرهن على أن تعلم الكلام بفضل أمثلة يواجهها الأطفال يعد مشكلة صعبة للغاية ما لم يكن هناك تراكيب فطرية موجودة من قبل من شأنها تسهيل هذه المشكلة، تشير النظريات الإحصائية إلى أن تقدم تقنيات الاستخلاص والتعلم الآلي يسمح بإيجاد مزيد من الهياكل التي لم نتخيلها من قبل.
3
واليوم، يسمح لنا التقدم المحرز في علم تصميم الروبوتات بإعادة النظر في هذه المشكلة من زاوية أخرى؛ فالطفل يحتاج إلى عدة أشهر للبدء في إتقان مبادئ طرق الحديث. وحين يدخل تدريجيا في المرحلة اللغوية في سن عام ونصف تقريبا، يكون بالفعل يتمتع بأداء حسي وحركي ملحوظ. وإذا كان يجب الاستلهام من الطريقة التي يتعلم بها الأطفال للوصول في يوم ما إلى تصميم آلة ناطقة كما يعتقد تورنج، فقد يعني ذلك أنه لهذا الغرض يتعين على أي آلة المرور بكل مراحل النمو التي تسبق تعلم الكلمات الأولى؛ معرفة جسدها، والتعرف على الأشياء والتحكم فيها، والتفاعل مع نظرائها بطريقة غير لغوية، وتعلم توزيع الانتباه، إلخ ... فنحن ما زلنا بعيدين كل البعد عن فهم هذه العمليات بصورة كافية وجيدة مما يمنعنا من تصميم آلة من شأنها أن تبدأ مسيرة النمو مثل الطفل ولكن البحث يتقدم (انظر الفصلين الخامس والثامن). وبهذه الطريقة الجديدة في معالجة الأمور، يتعين من جديد إعادة صياغة النقاش حول الأمور الفطرية والأمور المكتسبة في تعلم اللغة. (2-2) الآلات تستطيع حل المشاكل المعقدة
بالإضافة إلى الحديث، يستطيع الإنسان استخدام الرموز والتفكير بصورة مجردة وحل مشاكل معقدة. كانت هذه القدرات التي يتقنها الإنسان البالغ وحده أهدافا مميزة للمهندسين الحريصين دائما على تصميم آلة تتجاوز كل الآلات الموجودة.
تمثل ملحمة الآلات التي تلعب الشطرنج مثالا جيدا على هذا البحث. وتجسد آلة «ذا تورك» التي تلعب الشطرنج، والتي صممها البارون فون كمبلن في عام 1771، أحلام انتصار الآلة على الإنسان على صعيد الذكاء. واتخذت هذه الآلة بعد ذلك مسارا نموذجيا حتى بعد وفاة صاحبها ونجحت في هزيمة أكبر شخصيات عصره بداية من نابليون بونابرت وحتى بنجامين كونستان. وفي عام 1836 أظهر إدجار آلان بو الحيلة التي لجأ إليها البارون للقيام بهذه المعجزة: كان ثمة رجل ضئيل مختبئ بمهارة داخل الآلة. ومنذ ذلك الوقت، ستعتبر لعبة الشطرنج على مدار فترات طويلة ساحة معركة رمزية يواجه فيها الذكاء الإنساني الذكاء الاصطناعي.
وفي عام 1997، عندما نجح كمبيوتر ديب بلو الذي صممته شركة آي بي إم في الانتصار أخيرا على بطل العالم في الشطرنج جاري كاسباروف، كان أول رد فعل للرأي العام هو أنه إذا هزمت الآلة الإنسان، فهي تهزمه «دون قصد». وفي الواقع كانت الطريقة المستخدمة تعتمد بطريقة ما على محاولة التنبؤ بنتائج عدد من الحركات عبر التكرار واستكشاف العديد من الاحتمالات بسرعة إعجازية تبلغ 300 مليون حركة في الثانية (انظر الفصل الثاني). وربما نكون محقين في اعتقادنا أن بطلا كبيرا مثل كاسباروف لا يتبع بالضرورة النهج نفسه في اختيار خططه. ومع ذلك، اتفق الكثيرون بسرعة كبيرة على القول إن الشطرنج كان في النهاية مثالا أسيء اختياره للمقارنة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. وفي الواقع، تقوم لعبة الشطرنج قبل كل شيء على التفكير بصورة منطقية في مساحة رمزية ومغلقة وفقا لقواعد صارمة يمكن التنبؤ بها، فهي تشبه بطريقة ما عالما من الآلات. ولا يقترب التعقيد الجوهري في لعبة الشطرنج أيا كانت درجته من تعقيد العالم الفيزيائي أو التفاعلات الاجتماعية. فمن الصعب جدا على آلة أن تتصرف «بذكاء» في هذه الظروف الأخرى.
وهكذا يقودنا التقدم في مجال ذكاء الآلات بطبيعة الحال إلى إعادة تعريف الذكاء. فنحن كنا نعتقد أن الذكاء هو لعب الشطرنج، أما اليوم فيتفق الكثيرون على أن ذكاءنا يتجلى قبل كل شيء في المجال الفيزيائي أو الاجتماعي؛ أي في التعقيد الغريب لسلوكياتنا اليومية المتكررة. فلن يستطيع إذن الذكاء الاصطناعي أن يصل إلى هدفه في يوم من الأيام؛ لأنه كلما اقترب من ذلك يتغير هذا الهدف.
صفحه نامشخص
وحتى لو كنا في بداية القرن الحادي والعشرين ولا نعرف بعد معنى كلمة «ذكاء»، وحتى لو لم تنجح أي آلة في اجتياز اختبار تورنج رسميا، فنحن اليوم مجبرون بصفة شبه يومية على أن نثبت للآلات أننا نستحق لقب إنسان. وبالإضافة إلى ذلك فإن اختبارات التعرف البصرية التي تنتشر منذ بضعة أعوام على المواقع الإلكترونية بهدف منع «الروبوتات» الافتراضية من كتابة تعليقات أو رسائل، تزداد تعقيدا بقدر تطور أداء الأنظمة الاصطناعية في هذا المجال. وباستثناء بعض الأمور، كان تورنج إذن محقا إلا في أننا لم نعد نحن الذين نختبر الآلات بل هي التي تختبرنا!
الفصل الخامس
الفضول
(1) هل تتسم الحيوانات بالفضول؟
يقول المثل الشائع: «الفضول قتل القطة»، ولكن هذا قول خاطئ. فالفضول عملية أساسية تسمح للحيوانات باكتشاف التغيرات والمستجدات في بيئتها الجسدية والبيولوجية والاجتماعية والاندماج معها. فلدى الحيوانات كافة نزعة إلى استكشاف أي بيئة جديدة؛ أي التحلي بالفضول. (1-1) الفضول لما هو «مختلف بصورة طفيفة»
يتوقف الانجذاب إلى «ما هو جديد» عند «الجديد الذي يبث الخوف»، فغالبا ما يجد حيوان ما نفسه في صراع بين رغبتين متعارضتين: فضوله الذي يدفعه إلى استكشاف بيئة جديدة، وفي الوقت ذاته خوفه من المجهول. أما لدى الشباب، فيمكن حل هذه المشكلة عن طريق الانجذاب إلى «ما هو مختلف قليلا وليس كثيرا». وقد سمحت بعض التجارب التي أجريت على الكتاكيت، في إطار طريقة تعلم مبتكرة تسمى «البصمة»، بتوضيح هذه المسألة؛ فالبصمة تعني الارتباط المبكر لحيوان صغير السن بأحد والديه أو بديل له، وهي كثيرة الحدوث في المملكة الحيوانية ولا سيما لدى الطيور التي تترك العش بعد مولدها مثل الكتكوت؛ فبما أن هذه الطيور لا تظل في عش، فيتعين عليها حتما اتباع الأم تجنبا لافتراسها. وبهذه الآلية، يرتبط الكتكوت الذي خرج حديثا من البيضة بأول شيء متحرك يقابله ويتبعه بصورة تلقائية، وعادة ما تكون أمه هي هذا الشيء لكنه قد يكون إنسانا (مثل الباحث كونراد لورنتس الذي كان أول من وصف هذه الآلية) أو كرة مطاطية متحركة.
ولكن إلى أي مدى سيدفع هذا الفضول الحيوان؟ فهل سيتبع أي شيء متحرك ويترك والدته ليتبع أول شيء يقابله غير أمه، مثل ثعلب يريد استغلال حداثة سنه؟ أظهر الباحثون أن ذلك ليس صحيحا؛ فإن بعض الكتاكيت التي حصلت في المعمل على بصمات بعض الأشياء تفضل لاحقا الأشياء المختلفة إلى حد ما ولكن ليس المختلفة بشدة. ففي الطبيعة تدفع هذه الظاهرة الكتكوت إلى اكتشاف جسم والدته تدريجيا بزوايا مختلفة (مختلفة إلى حد ما عن تلك التي أعطته انطباعه الأولي) ولكنه لا يرتبط بما هو «مختلف بشدة» كجسم الثعلب الذي يبث في روعه خوفا نافعا. وبلا شك يمكن تعميم مفهوم الفضول واستكشاف ما هو مختلف بصورة طفيفة وما هو «جديد إلى حد ما»، في حين أن الجديد للغاية يثير الخوف، ويمكن تعميم ذلك أيضا حتى على الجنس البشري. (1-2) اللعب
يتجلى الفضول الذي يهدف إلى القيام بحركات معقدة لدى الحيوانات الأكثر تطورا ولا سيما تلك التي تعيش في مجموعات، وذلك في نشاط مبتكر؛ نشاط اللعب المنتشر خاصة لدى صغار الثدييات وصغار الطيور. ففي أثناء اللعب، يقلد صغار الحيوانات بعض المواقف التي قد تضعها الطبيعة أمامها: كالصراعات أو التوازن على الجذوع أو المطاردة أو التزاوج، مع الالتزام بالحدود التي لا تعرض بها أنفسها أو شريكها للخطر. وكذلك لا يقوم أطفالنا الصغار الذين يلعبون لعبة «اللص والشرطة» أو ألعابا يؤدون فيها أدوار الأب والأم بأي شيء آخر في إطار جنسنا، ولكنهم يشبعون بهذا اللعب فضولهم إلى اكتشاف عالم البالغين الذي سيعيشون فيه مستقبلا. (1-3) لعب الإنسان البالغ
قد تضطر الكائنات البالغة أيضا إلى اللعب ولكن قلما يحدث ذلك، باستثناء الفصائل التي تحتفظ «بروح طفولية»، مثل الجنس البشري. فقد أكد العلماء في أحيان كثيرة الطابع الشبابي للجنس البشري، الذي يتضح حتى في هيئتنا الجسمانية: فنحن نشبه جنين الشمبانزي برأسنا الكبير وعينينا الواسعتين وقلة الشعر. وكان ديزموند موريس في كتاب شهير
1
صفحه نامشخص