إلى أن يقول مخاطبا طالب المعرفة: «وحدث لك الإيمان الصحيح، وشهدت ما غاب عن غيرك من الدهماء، وبلغت أن تتدرج إلى العلوم الشريفة المكونة التي مبدؤها تعلم المنطق؛ فإنه الآلة في تقويم الفهم والعقل الغريزي، ثم الوصول به إلى معرفة الخلائق وطباعها، ثم التعلق بها والتوسع فيها، والتوصل منها إلى العلوم الإلهية، وحينئذ تستعد لقبول مواهب الله عز وجل وعطاياه؛ فيأتيك الفيض الإلهي، فتسكن عن قلق الطبيعة وحركاتها نحو الشهوات الحيوانية، وتلحظ المرتبة التي ترقيت منها أولا من مراتب الموجودات، وعلمت أن كل مرتبة منها محتاجة إلى ما قبلها في وجودها.
وعلمت أن الإنسان لا يتم له كماله إلا بعد أن يصل إلى ما قبله، وإذا صار إنسانا كاملا وبلغ غاية أفقه أشرق نور الأفق الأعلى عليه، وصار إما حكيما تاما تأتيه الإلهامات فيما يتصرف فيه من المحاولات الحكمية، والتأييدات العلوية في التصويرات العقلية، وإما نبيا مؤيدا يأتيه الوحي على ضروب المنازل التي تكون له عند الله تعالى ذكره، فيكون حينئذ واسطة بين الملأ الأعلى والملأ الأسفل؛ ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقومين والمنفعين.»
وفحوى كلام ابن مسكويه أن الترقي الطبيعي ينتهي إلى غاية وسع الطبيعة من ترقية الجسد، وإتمام حسه وأعضائه، ثم يبدأ الترقي بالعقل والخلق من أفق الحيوان إلى ما هو أعلى وأرفع وأقرب إلى الملأ الأعلى.
ولابن مسكويه بحث كهذا في كتابه «الفوز الأصغر» يبدأ فيه من البداءة، وهي ما سماه بالمركز فيقول: «إن أول أثر ظهر في عالمنا هذا من نحو المركز بعد امتزاج العناصر الأولى أثر حركة النفس في النبات، وذلك أنه تميز عن الجماد بالحركة والاغتذاء، وللنبات في قبول الأثر مراتب مختلفة لا تحصى، إلا أنها مقسمة إلى ثلاث مراتب: الأولى والوسطى والأخيرة؛ ليكون الكلام عليه أظهر.» ثم ينتهي كما انتهى بكلامه في تهذيب الأخلاق إلى آخر مرتبة الحيوان، وهي «مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقته الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانا». •••
وأشار ابن خلدون إلى هذا التدرج - أو التطور - فترقى به من المعدن إلى القرد إلى الإنسان، وعلل اختلاف الناس بتأثير الإقليم وأحوال المعيشة على الأبدان والأخلاق.
قال: «إن عالم التكوين ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذور له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان، مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إليه الفكر والروية بالفعل. وكان ذلك أول أفق الإنسان من بعده، وذلك غاية شهودنا.»
وينفي ابن خلدون أوهام القائلين بنسبة الألوان والطبائع إلى الدعوات أو اللعنات فيقول: إن «بعض النسابين ممن لا علم لهم بطبائع الكائنات توهم أن السودان - وهم ولد حام بن نوح - اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه، ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة، وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه أن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام علة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات.»
ويقول في موضع آخر: «استولى الحر على أبدانهم وفي أصل تكوينهم، فكان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم، وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته.»
ويصحح بعض المتقدمين ما لعله سبق إلى الوهم من القول بتدرج الكائنات؛ إذ يخيل إلى الجاهلين بمعناه أنه يعني الكائنات في درجة من مراتبه المترقية، وإنما حقيقته كما قال الخازني: «إننا إذا قلنا: إن الإنسان بلغ حد الكمال وكان يوما عجلا، فصار حمارا، فغدا حصانا، فأضحى بعده قردا ، فليس معنى ذلك أنه كان يوما عجلا فصار حمارا، فغدا حصانا، فأضحى بعده قردا حتى صار في النهاية إنسانا.»
فليس عندهم من الضروري أن يكون كل كائن رفيع قد تنقل قبل ذلك بين أطوار الكائنات التي هي دونه، وإن كان جميع المتكلمين في أطوار الكائنات الحية لا يمنعون إمكان التسافد بين الحشرات والحيوانات المختلفة، كما جاء في كتب الحيوان جميعا، وأسهب فيه الجاحظ على الخصوص إسهابا سلم فيه من كثير من خرافات المتقدمين عليه واللاحقين به في هذا الباب.
صفحه نامشخص