مُقَدّمَة
الْحَمد لله الَّذِي بعث سيدنَا مُحَمَّدًا صلوَات الله عَلَيْهِ إِلَى النَّاس ليَكُون هاديا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا ثمَّ ألهم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء الْمُجْتَهدين أَن يحفظوا سير نَبِيّهم طبقَة بعد طبقَة إِلَى أَن تؤذن الدُّنْيَا بِانْقِضَاء ليتم النعم وَكَانَ على مَا يَشَاء قَدِيرًا وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الَّذِي لَا نَبِي بعده صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ
1 / 13
أما بعد فَيَقُول الْفَقِير إِلَى رَحْمَة الله الْكَرِيم ولي الله بن عبد الرَّحِيم أتم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا نعمه فِي الأولى وَالْأُخْرَى إِن الله تَعَالَى ألْقى فِي قلبِي وقتا من الْأَوْقَات ميزانا أعرف بِهِ سَبَب كل اخْتِلَاف وَقع فِي الْملَّة المحمدية على صَاحبهَا الصَّلَوَات والتسليمات وَأعرف بِهِ مَا هُوَ الْحق عِنْد الله وَعند رَسُوله ومكنني من أَن أبين ذَلِك بَيَانا لَا يبْقى مَعَه شُبْهَة وَلَا إِشْكَال
ثمَّ سُئِلت عَن سَبَب اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة خَاصَّة فانتدبت لبَيَان بعض مَا فتح عَليّ بِهِ ساعتئذ بِقدر مَا يَسعهُ الْوَقْت ويحيط بِهِ السَّائِل فَجَاءَت رِسَالَة مفيدة فِي بَابهَا وسميتها الانصاف فِي بَيَان أَسبَاب الِاخْتِلَاف
وحسبي الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
1 / 14
بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي الْفُرُوع
إعلم أَن رَسُول الله ﷺ لم يكن الْفِقْه فِي زَمَانه الشريف مدونا وَلم يكن الْبَحْث فِي الْأَحْكَام يَوْمئِذٍ مثل بحث هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء حَيْثُ يبينون بأقصى جهدهمْ الْأَركان والشروط والآداب كل شَيْء ممتازا عَن الآخر بدليله ويفرضون الصُّور من صنائعهم ويتكلمون على تِلْكَ الصُّور الْمَفْرُوضَة ويحدون مَا يقبل الْحَد ويحصرون مَا يقبل الْحصْر إِلَى غير ذَلِك
أما رَسُول الله ﷺ فَكَانَ يتَوَضَّأ فَيرى أَصْحَابه وضوءه
1 / 15
فَيَأْخُذُونَ بِهِ من غير أَن يبين أَن هَذَا ركن وَذَلِكَ أدب وَكَانَ يُصَلِّي فيرون صلَاته فيصلون كَمَا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَحج فرمق النَّاس حجه فَفَعَلُوا كَمَا فعل وَهَذَا كَانَ غَالب حَاله ﷺ وَلم يبين أَن فروض الْوضُوء سِتَّة أَو أَرْبَعَة وَلم يفْرض أَنه يحْتَمل أَن يتَوَضَّأ إِنْسَان بِغَيْر مُوالَاة حَتَّى يحكم عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ أَو الْفساد إِلَّا مَا شَاءَ الله وقلما كَانُوا يسألونه عَن هَذِه الْأَشْيَاء
عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ مَا رَأَيْت قوما كَانُوا خيرا من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَن ثَلَاث عشرَة مَسْأَلَة حَتَّى قبض كُلهنَّ فِي الْقُرْآن مِنْهُنَّ ﴿يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ﴾ ﴿ويسألونك عَن الْمَحِيض﴾ قَالَ مَا كَانُوا يسْأَلُون إِلَّا عَمَّا يَنْفَعهُمْ
1 / 16
قَالَ ابْن عمر ﵁ لَا تسْأَل عَمَّا لم يكن فَانِي سَمِعت عمر بن الْخطاب ﵁ يلعن من سَأَلَ عَمَّا لم يكن
قَالَ الْقَاسِم
إِنَّكُم تسْأَلُون عَن أَشْيَاء مَا كُنَّا نسْأَل عَنْهَا وتنقرون
1 / 17
عَن أَشْيَاء مَا كُنَّا ننقر عَنْهَا وتسألون عَن أَشْيَاء مَا أَدْرِي مَا هِيَ وَلَو علمناها مَا حل لنا أَن نكتمها
وَعَن عَمْرو بن إِسْحَاق قَالَ لمن أدْركْت من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ أَكثر مِمَّن سبقني مِنْهُم فَمَا رَأَيْت قوما أيسر سيرة وَلَا أقل تشديدا مِنْهُم
وَعَن عبَادَة بن نسي الْكِنْدِيّ سُئِلَ عَن امْرَأَة مَاتَت مَعَ قوم لَيْسَ لَهَا ولي فَقَالَ أدْركْت أَقْوَامًا مَا كَانُوا يشددون تشديدكم وَلَا يسْأَلُون مسائلكم أخرج هَذِه الْآثَار الدَّارمِيّ
وَكَانَ ﷺ يستفتيه النَّاس فِي الوقائع فيفتيهم وترفع إِلَيْهِ القضايا فَيَقْضِي فِيهَا وَيرى النَّاس يَفْعَلُونَ مَعْرُوفا فيمدحه أَو مُنْكرا فينكر عَلَيْهِ وَمَا كل مَا أفتى بِهِ مستفتيا عَنهُ أَو قضى بِهِ فِي قَضِيَّة أَو أنكرهُ على فَاعله كَانَ فِي الاجتماعات
وَلذَلِك كَانَ الشَّيْخَانِ أَبُو بكر وَعمر إِذا لم يكن لَهما علم فِي الْمَسْأَلَة يسألان النَّاس عَن حَدِيث رَسُول الله ﷺ وَقَالَ أَبُو بكر ﵁ مَا سَمِعت رَسُول الله ﷺ قَالَ فِيهَا شَيْئا يَعْنِي الْجدّة وَسَأَلَ النَّاس فَلَمَّا صلى الظّهْر
1 / 18
قَالَ أَيّكُم سمع رَسُول الله ﷺ قَالَ فِي الْجدّة شَيْئا فَقَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنا قَالَ مَاذَا قَالَ أَعْطَاهَا رَسُول الله ﷺ سدسا قَالَ أيعلم ذَلِك أحد غَيْرك فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة صدق فَأَعْطَاهَا أَبُو بكر السُّدس
وقصة سُؤال عمر النَّاس فِي الْغرَّة ثمَّ رُجُوعه إِلَى خبر الْمُغيرَة وسؤاله إيَّاهُم فِي الوباء ثمَّ رُجُوعه إِلَى خبر عبد
1 / 19
الرَّحْمَن بن عَوْف وَكَذَا رُجُوعه فِي قصَّة الْمَجُوس إِلَى خَبره وسرور عبد الله بن مَسْعُود بِخَبَر معقل بن يسَار
1 / 20
لما وَافق رَأْيه وقصة رُجُوع أبي مُوسَى عَن بَاب عمر وسؤاله عَن الحَدِيث وَشَهَادَة أبي سعيد لَهُ وأمثال ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة مروية فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن
1 / 21
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ كَانَت عَادَته الْكَرِيمَة ﷺ فَرَأى كل صَحَابِيّ مَا يسره الله لَهُ من عباداته وفتاواه وأقضيته فحفظها وعقلها وَعرف لكل شَيْء وَجها من قبل حفوف الْقَرَائِن بِهِ فَحمل بَعْضهَا على الْإِبَاحَة وَبَعضهَا على الِاسْتِحْبَاب وَبَعضهَا على النّسخ لأمارات وقرائن كَانَت كَافِيَة عِنْده وَلم يكن الْعُمْدَة عِنْدهم إِلَّا وجدان الاطمئنان والثلج من غير الْتِفَات إِلَى طرق الِاسْتِدْلَال كَمَا ترى الْأَعْرَاب يفهمون مَقْصُود الْكَلَام فِيمَا بَينهم وتثلج صُدُورهمْ بالتصريح والتلويح والإيماء من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
فانقضى عصره الْكَرِيم وهم على ذَلِك ثمَّ إِنَّهُم تفَرقُوا فِي الْبِلَاد وَصَارَ كل وَاحِد مقتدى نَاحيَة من النواحي فكثرت الوقائع ودارت الْمسَائِل فاستفتوا فِيهَا فَأجَاب كل وَاحِد حسب مَا حفظه أَو استنبطه وَإِن لم يجد فِيمَا حفظه
1 / 22
أَو استنبطه مَا يصلح للجواب اجْتهد بِرَأْيهِ وَعرف الْعلَّة الَّتِي أدَار رَسُول الله ﷺ عَلَيْهَا الحكم فِي منصوصاته فطرد الحكم حَيْثُمَا وجدهَا لَا يألو جهدا فِي مُوَافقَة غَرَضه ﵊ فَعِنْدَ ذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف بَينهم على ضروب
١ - مِنْهَا أَن صحابيا سمع حكما فِي قَضِيَّة أَو فَتْوَى وَلم يسمعهُ الآخر فاجتهد بِرَأْيهِ فِي ذَلِك وَهَذَا على وُجُوه
أَحدهَا أَن يَقع اجْتِهَاده مُوَافق الحَدِيث مِثَاله مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره أَن ابْن مَسْعُود ﵁ سُئِلَ عَن امْرَأَة مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا وَلم يفْرض لَهَا فَقَالَ لم أر رَسُول الله ﷺ يقْضِي فِي ذَلِك فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ شهرا وألحوا فاجتهد بِرَأْيهِ وَقضى بِأَن لَهَا مهر نسائها لَا وكس وَلَا شطط وَعَلَيْهَا الْعدة وَلها الْمِيرَاث فَقَالَ معقل بن يسَار فَشهد بِأَنَّهُ ﷺ قضى بِمثل ذَلِك فِي امْرَأَة مِنْهُم ففرح بذلك ابْن مَسْعُود فرحة لم يفرح مثلهَا قطّ بعد الْإِسْلَام
وَثَانِيها أَن يَقع بَينهمَا المناظرة وَيظْهر الحَدِيث بِالْوَجْهِ الَّذِي يَقع بِهِ غَالب الظَّن فَيرجع عَن اجْتِهَاده إِلَى المسموع
مِثَاله مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة من أَن أَبَا هُرَيْرَة ﵁ كَانَ
1 / 23
من مذْهبه أَنه من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ حَتَّى أخْبرته بعض أَزوَاج النَّبِي ﷺ بِخِلَاف مذْهبه فَرجع
وَثَالِثهَا أَن يبلغهُ الحَدِيث وَلَكِن لَا على الْوَجْه الَّذِي يَقع بِهِ غَالب الظَّن فَلم يتْرك اجْتِهَاده بل طعن فِي الحَدِيث
مِثَاله مَا رَوَاهُ أَصْحَاب الْأُصُول من أَن فَاطِمَة بنت قيس شهِدت عِنْد عمر بن الْخطاب بِأَنَّهَا كَانَت مُطلقَة الثَّلَاث فَلم يَجْعَل لَهَا رَسُول الله ﷺ نَفَقَة وَلَا سُكْنى فَرد عمر شهادتها وَقَالَ لَا نَتْرُك كتاب الله بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى
1 / 24
وَقَالَت عَائِشَة ﵂ يَا فَاطِمَة أَلا تتقي الله يَعْنِي فِي قَوْلهَا لَا سُكْنى وَلَا نَفَقَة
1 / 25
وَمِثَال آخر روى الشَّيْخَانِ أَنه كَانَ من مَذْهَب عمر ابْن الْخطاب أَن التَّيَمُّم لَا يجزىء الْجنب الَّذِي لَا يجد المَاء فروى عِنْده عمار أَنه كَانَ مَعَه فِي سفر فأصابته جَنَابَة وَلم يجد مَاء فتمعك فِي التُّرَاب فَذكر ذَلِك عَن رَسُول الله ﷺ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تفعل هَكَذَا وَضرب بيدَيْهِ الأَرْض فَمسح بهما وَجهه وَيَديه فَلم يقبل عمر وَلم ينْهض عِنْده حجَّة تقاوم مَا رَآهُ فِيهِ حَتَّى استفاض الحَدِيث فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة من طرق كَثِيرَة واضمحل وهم القادح فَأخذُوا بِهِ
وَرَابِعهَا أَن لَا يصل إِلَيْهِ الحَدِيث أصلا
مِثَاله مَا أخرج مُسلم أَن ابْن عمر كَانَ يَأْمر النِّسَاء إِذا اغْتَسَلْنَ أَن يَنْقُضْنَ رؤوسهن فَسمِعت عَائِشَة ﵂ بذلك فَقَالَت يَا عجبا لِابْنِ عمر هَذَا يَأْمر النِّسَاء أَن يَنْقُضْنَ رؤوسهن أَفلا يَأْمُرهُنَّ أَن يَحْلِقن رؤوسهن
لقد كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله ﷺ من إِنَاء وَاحِد وَمَا أَزِيد على أَن افرغ على رَأْسِي ثَلَاث افراغات
مِثَال آخر مَا ذكره الزُّهْرِيّ من أَن هندا لم تبلغها رخصَة
1 / 26
رَسُول الله ﷺ فِي الْمُسْتَحَاضَة فَكَانَت تبْكي لِأَنَّهَا كَانَت لَا تصلي
٢ - وَمن تِلْكَ الضروب ان يرَوا رَسُول الله ﷺ فعل فعلا فَحَمله بَعضهم على الْقرْبَة وَبَعْضهمْ على الْإِبَاحَة
مِثَاله مَا رَوَاهُ أَصْحَاب الْأُصُول فِي قصَّة التحصيب أَي النُّزُول بِالْأَبْطح عِنْد النَّفر من عَرَفَات نزل رَسُول الله ﷺ بِهِ فَذهب أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عمر إِلَى أَنه على وَجه الْقرْبَة فجعلوه من سنَن الْحَج وَذَهَبت عَائِشَة ﵂ وَابْن عَبَّاس إِلَى أَنه كَانَ على وَجه الِاتِّفَاق وَلَيْسَ من السّنَن
وَمِثَال آخر ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الرمل فِي الطّواف سنة وَذهب ابْن عَبَّاس ﵁ إِلَى أَنه إِنَّمَا فعله النَّبِي ﷺ على سَبِيل الِاتِّفَاق لعَارض عرض وَهُوَ قَول الْمُشْركين
1 / 27
حطمتهم حمى يثرب وَلَيْسَ بِسنة
٣ - وَمِنْهَا اخْتِلَاف الْوَهم
مِثَاله أَن رَسُول الله ﷺ حج فَرَآهُ النَّاس فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ مُتَمَتِّعا وَبَعْضهمْ إِلَى أَنه كَانَ قَارنا وَبَعْضهمْ إِلَى أَنه كَانَ مُفردا
مِثَال آخر أخرج أَبُو دَاوُد عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ قلت لعبد الله بن عَبَّاس يَا أَبَا الْعَبَّاس عجبت لاخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ فِي إهلال رَسُول الله ﷺ حِين أوجب فَقَالَ إِنِّي لأعْلم النَّاس بذلك إِنَّهَا إِنَّمَا كَانَت من رَسُول الله ﷺ حجَّة وَاحِدَة فَمن هُنَاكَ اخْتلفُوا خرج رَسُول الله ﷺ حَاجا فَلَمَّا صلى فِي مَسْجده بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ أوجب فِي مَجْلِسه وَأهل بِالْحَجِّ حِين فرغ من ركعتيه فَسمع ذَلِك مِنْهُ أَقوام فحفظوه عَنهُ
ثمَّ ركب فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهل وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام وَذَلِكَ أَن النَّاس إِنَّمَا كَانُوا يأْتونَ أَرْسَالًا فسمعوه حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته يهل فَقَالُوا إِنَّمَا أهل رَسُول الله ﷺ حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته
ثمَّ مضى رَسُول الله ﷺ فَلَمَّا علا على شرف الْبَيْدَاء أهل
1 / 28
وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام فَقَالُوا إِنَّمَا أهل حِين علا على شرف الْبَيْدَاء وأيم الله لقد أوجب فِي مصلاة وَأهل حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته وَأهل حِين علا على شرف الْبَيْدَاء
٤ - وَمِنْهَا اخْتِلَاف السَّهْو وَالنِّسْيَان
مِثَاله مَا رُوِيَ أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول اعْتَمر رَسُول الله ﷺ عمْرَة فِي رَجَب فَسمِعت بذلك عَائِشَة فقضت عَلَيْهِ بالسهو
٥ - وَمِنْهَا اخْتِلَاف الضَّبْط
مِثَاله مَا روى ابْن عمر عَنهُ ﷺ من أَن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ فقضت عَائِشَة عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وهم بِأخذ الحَدِيث على هَذَا مر رَسُول الله ﷺ على يَهُودِيَّة يبكي عَلَيْهَا أَهلهَا فَقَالَ إِنَّهُم يَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا تعذب فِي قبرها فَظن أَن الْعَذَاب مَعْلُول للبكاء وَظن الحكم عَاما على كل ميت
وَمِنْهَا اخْتلَافهمْ فِي عِلّة الحكم
مِثَاله الْقيام للجنازة فَقَالَ قَائِل لتعظيم الْمَلَائِكَة فَيعم
1 / 29
الْمُؤمن وَالْكَافِر وَقَالَ قَائِل لهول الْمَوْت فيعمهما وَقَالَ قَائِل مر على رَسُول الله ﷺ بِجنَازَة يَهُودِيّ فَقَامَ لَهَا كَرَاهَة أَن تعلو فَوق رَأسه فيخص الْكَافِر
٧ - وَمِنْهَا اخْتلَافهمْ فِي الْجمع بَين الْمُخْتَلِفين
مِثَاله رخص رَسُول الله ﷺ فِي الْمُتْعَة عَام خَيْبَر ثمَّ نهى عَنْهَا ثمَّ رخص فِيهَا عَام أَوْطَاس ثمَّ نهى عَنْهَا فَقَالَ ابْن عَبَّاس كَانَت الرُّخْصَة للضَّرُورَة وَالنَّهْي لانقضاء الضَّرُورَة وَالْحكم بَاقٍ على ذَلِك وَقَالَ الْجُمْهُور كَانَت الرُّخْصَة اباحة وَالنَّهْي نسخا لَهَا
مِثَال آخر نهى رَسُول الله ﷺ عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الِاسْتِنْجَاء فَذهب قوم إِلَى عُمُوم هَذَا الحكم وَكَونه غير مَنْسُوخ وَرَآهُ جَابر يَبُول قبل أَن يتوفى بعام مُسْتَقْبل الْقبْلَة فَذهب إِلَى أَنه نسخ للنَّهْي الْمُتَقَدّم وَرَآهُ ابْن عمر قضى حَاجته مستدبر الْقبْلَة مُسْتَقْبل الشَّام فَرد بِهِ قَوْلهم وَجمع قوم بَين الرِّوَايَتَيْنِ فَذهب الشّعبِيّ وَغَيره إِلَى أَن النَّهْي مُخْتَصّ بالصحراء فاذا كَانَ فِي المراحيض فَلَا بَأْس بالاستقبال والاستدبار وَذهب قوم إِلَى أَن القَوْل عَام مُحكم وَالْفِعْل يحْتَمل كَونه خَاصّا بِالنَّبِيِّ ﷺ فَلَا ينتهض نَاسِخا وَلَا مُخَصّصا
وَبِالْجُمْلَةِ فاختلفت مَذَاهِب أَصْحَاب النَّبِي ﷺ وَأخذ عَنْهُم التابعون كل وَاحِد مَا تيَسّر لَهُ فحفظ مَا سمع من حَدِيث رَسُول الله ﷺ ومذاهب الصَّحَابَة وعقلها وَجمع
1 / 30
الْمُخْتَلف على مَا تيَسّر لَهُ وَرجح بعض الْأَقْوَال على بعض واضمحل فِي نظرهم بعض الْأَقْوَال وان كَانَ مأثورا عَن كبار الصَّحَابَة كالمذهب الْمَأْثُور عَن عمر وَابْن مَسْعُود فِي تيَمّم الْجنب اضمحل عِنْدهم لما استفاض من الْأَحَادِيث عَن عمار وَعمْرَان بن حُصَيْن وَغَيرهمَا فَعِنْدَ ذَلِك صَار لكل عَالم من عُلَمَاء التَّابِعين مَذْهَب على حياله وانتصب فِي كل بلد إِمَام مثل
سعيد بن الْمسيب وَسَالم بن عبد الله بن عمر فِي الْمَدِينَة وبعدهما الزُّهْرِيّ وَالْقَاضِي يحيى بن سعيد وَرَبِيعَة بن عبد الرَّحْمَن فِيهَا
وَعَطَاء بن أبي رَبَاح بِمَكَّة
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ بِالْكُوفَةِ
وَالْحسن الْبَصْرِيّ بِالْبَصْرَةِ
وَطَاوُس بن كيسَان بِالْيمن
وَمَكْحُول بِالشَّام
فأظمأ الله أكبادا إِلَى علومهم فرغبوا فِيهَا وَأخذُوا عَنْهُم الحَدِيث وفتاوى الصَّحَابَة وأقاويلهم ومذاهب هَؤُلَاءِ الْعلمَاء وتحقيقاتهم من عِنْد أنفسهم واستفتى مِنْهُم المستفتون ودارت الْمسَائِل بَينهم وَرفعت إِلَيْهِم الْأَقْضِيَة
وَكَانَ سعيد بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وأمثالهما جمعُوا
1 / 31
أَبْوَاب الْفِقْه أجمعها وَكَانَ لَهُم فِي كل بَاب أصُول تلقوها من السّلف
وَكَانَ سعيد وَأَصْحَابه يذهبون إِلَى أَن أهل الْحَرَمَيْنِ أثبت النَّاس فِي الْفِقْه وأصل مَذْهَبهم فَتَاوَى عمر وَعُثْمَان وقضاياهما وفتاوى عبد الله بن عمر وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس وقضايا قُضَاة الْمَدِينَة فَجمعُوا من ذَلِك مَا يسره الله لَهُم ثمَّ نظرُوا فِيهَا نظر اعْتِبَار وتفتيش فَمَا كَانَ مِنْهَا مجمعا عَلَيْهِ بَين عُلَمَاء الْمَدِينَة فانهم يَأْخُذُونَ عَلَيْهِ بنواجذهم وَمَا كَانَ فِيهِ اخْتِلَاف عِنْدهم فانهم يَأْخُذُونَ بأقواها وأرجحها إِمَّا لِكَثْرَة من ذهب إِلَيْهِ مِنْهُم أَو لموافقته لقياس قوي أَو تَخْرِيج صَرِيح من الْكتاب وَالسّنة أَو نَحْو ذَلِك وَإِذا لم يَجدوا فِيمَا حفظوا مِنْهُم جَوَاب الْمَسْأَلَة خَرجُوا من كَلَامهم وتتبعوا الْإِيمَاء والاقتضاء فَحصل لَهُم مسَائِل كَثِيرَة فِي كل بَاب بَاب وَكَانَ إِبْرَاهِيم وَأَصْحَابه يرَوْنَ أَن عبد الله بن مَسْعُود وَأَصْحَابه أثبت النَّاس فِي الْفِقْه كَمَا قَالَ عَلْقَمَة لمسروق هَل أحد مِنْهُم أثبت من عبد الله وَقَول أى حنيفَة رَضِي الله ٢ عَنهُ للأوزاعي إِبْرَاهِيم أفقه من سَالم وَلَوْلَا فضل الصُّحْبَة لَقلت إِن عَلْقَمَة أفقه من عبد الله بن عمر وَعبد الله هُوَ عبد الله وأصل مذْهبه فَتَاوَى عبد الله بن مَسْعُود وقضايا على ﵁ وفتاواه وقضايا شُرَيْح وَغَيره من قُضَاة الْكُوفَة فَجمع من ذَلِك مَا يسره الله ثمَّ صنع فِي آثَارهم كَمَا صنع أهل الْمَدِينَة فِي آثَار أهل الْمَدِينَة وَخرج كَمَا خَرجُوا فتلخص لَهُ مسَائِل الْفِقْه فِي كل بَاب بَاب
1 / 32