فبادره عزت قائلا: «اسمح لي أن أقول بحرية تامة إن السلطان عبد الحميد مظلوم، إنه أشد غيرة على سلامة الدولة من أي واحد منا، لأن في سلامتها سلامته وتأييد سيادته. وهو لم يعدل عن الحكم الدستوري إلا غيرة على الدولة وصيانة لها من مطامع الدول التي أحدقت بها من كل ناحية، وقد استطاع بدهائه وذكائه وسهره أن يحافظ عليها، ولو لم يتدارك الأمر بنفسه لانحلت وتقاسمتها الدول. أنا أعلم الناس بالحقيقة صدقني.»
فأطرق رامز عند سماع ذلك، وكاد يقتنع بأنه مخطئ لو لم يستدرك الأمر فقال: «يا للعجب! كيف تقول هذا وليس في الدنيا رجل واحد يوافقك عليه؟! لقد أجمع الناس قاطبة من عثمانيين وغيرهم على أن الخلل المستحوذ على الدولة سببه سوء الإدارة الحاضرة، ولا سيما لأنها في قبضة القصر وأهله. سامحني على هذا التصريح.»
فضحك عزت ملء فيه وقال: «هذا هو موضع الخلاف ومنشأ المتاعب، إن سبب ذلك في الواقع هو أننا نسيء الظن بسلطاننا، بينما الأجانب يسعون في توسيع الخرق وتفريق قلوبنا ... هذه هي الحقيقة يا بني، فسبب الاختلال ليس رجال القصر، بل الشبان الخوارج الذين يسمون أنفسهم الأحرار، إنهم يطنطنون ويصيحون رجاء أن يعمد جلالة السلطان إلى إسكاتهم بالمناصب أو المال. ولا أنكر أن بينهم أناسا يعملون بإخلاص، ولعلك واحد من أولئك المخلصين، ولكن الباعث الأول لحركتهم هو ما ذكرته لك، وقد مضى عليهم ثلاثون سنة ظهروا في أثنائها بمظاهر مختلفة انتهت دائما بما يثبت قولي. يظهر أنك حديث العهد في هذا الأمر، وقد اندفعت في تيار الأفكار الإفرنجية التي يبثها الأعداء في رعايا الدولة باسم الدستور أو الحرية، إن لكل أمة حالا غير حال الأمم الأخرى. ولو أنهم تركونا وشأننا لكنا في خير، إنهم ليسوا أكثر غيرة على دولتنا من جلالة البادشاه، فهو ما فتئ منذ أخذ على عاتقه إصلاح الدولة ينشئ المدارس العالية لتخريج الشبان الجديرين بتولي مناصب الحكومة. ولكن المتخرجين أصبحوا أكثر من المناصب الموجودة، وهؤلاء الغاضبون الطاعنون في الحكومة هم الذين فاتتهم المناصب، وقد اتخذوا ذلك سبيلا إلى المال، لأن جلالة السلطان كان يقبل النادمين منهم ويحسن معاملتهم. ومن هنا تكاثر الشاكون وتفننوا في الأسباب والذرائع، وقلدوا الإفرنج في جمعياتهم السرية، فالجمعية التي ألفت أخيرا في سلانيك ليست الأولى من نوعها. وأؤكد لك أنه لا تمضي برهة وجيزة حتى يأتينا العقلاء من أعضائها مستغفرين طالبين رضى الذات الشاهانية، فأرى أن تكون أنت أعقلهم وأنا أضمن لك حياتك وكل ما تريده، وغاية ما يطلب منك أن تدلي إلى جلالة السلطان بأسماء القائمين بهذا العمل.»
وكان رامز يسمع هذا الكلام وهو مطرق يفكر، فظنه عزت باشا قد اقتنع ولا يلبث أن يوافقه فقال له: «من هم أولئك المؤسسون للجمعية؟ أظنهم بعض المتفرنجين الذين كانوا في باريس أو جنيف؟»
فانتبه رامز لنفسه وقال: «ليس في هذه الجمعية فرق بين مؤسس وغير مؤسس، وأؤكد لك أن الخيانات التي بدت من بعض الأحرار في الماضي لن تتكرر، لأن الأمة تعلمت كيف تطلب حقوقها. فإذا كنت من محبي الإصلاح حقيقة فهذا وقت العمل.»
فهز عزت رأسه استخفافا وقال وهو يضحك: «يظهر أن الغرور متمكن من نفسك ، وقد استهواك ما يطنطنون به من الألفاظ الضخمة كالحرية والدستور ونحوهما. وأتأسف لأن نصيحتي ذهبت عبثا، فاختر لنفسك ما يحلو، وقد فعلت ما علي. وسوف تعترف بالواقع مكرها عندما تذوق العذاب.» قال ذلك وتحرك من مجلسه وهو يخرج علبة السجائر، ثم وقف وهو يظهر العتب أو الغضب.
أما رامز فظل جالسا مطرقا وعينه على غطاء المنضدة التي أمامه وقد استغرق في أفكاره، فتوسم عزت باشا قرب انصياعه، وتشاغل بإشعال السيكارة، ثم رأى الخادم داخلا بالقهوة فقعد وأشار إلى رامز أن يتناول الفنجان ففعل، ثم تناول عزت فنجانه وهو يراقب حركات رامز فرأى الارتباك ظاهرا في محياه، فاستأنف الكلام قائلا: «قد أغضيت عما سمعته من حديثك لأني أحسبك قلته قبل إعمال الفكر، وأنصح لك يا بني بأن تفكر قبل الجواب ثانية. تأمل فيما يهددك من الخطر على حياتك إذا أصررت على التكتم.» وسكت وهو يلاحظ حركات رامز، فرأى حيرته ظاهرة في حركة يده وهو يدني الفنجان من فيه وينظر إلى ما بين يديه نظر المفكر.
فقدم له سيكارة وقال: «لا ألومك على ما بدا من سوء ظنك بجلالة السلطان وأهل القصر، لأنك لا تسمع أخبارهم إلا من أعدائهم، ولو مكثت هنا حينا وتعرفت إليهم لتحققت أنكم مخطئون، ولعلك تعود إلى رشدك وتصدق الخدمة وترى صدق قولي.»
وكان رامز قد فرغ من شرب القهوة، فوضع الفنجان على المنضدة ونظر إلى عزت باشا وعيناه تبرقان وقال: «إذا لم يكن بد من أن أقول شيئا آخر فإني لا أقوله إلا للسلطان نفسه.»
فبش له وقال: «أنت مخير في ذلك، وأنا أقدمك لجلالته وأوصيه بك.» قال ذلك وقد سر لنجاح مهمته.
صفحه نامشخص