أخيرا:
أستودعكم الله وأنا ذاهب لأموت في سبيل الدستور. (مدحت.)
وقعد الرئيس بعد تلاوة الوصية ثم قال: «قد سمعتم هذه الوصايا الثمينة، وبعضها قد سمعناه شفاها من أخينا سعيد، وبعضها جرتنا إليه الحوادث واقتضته الأحوال. فما رأيكم؟»
فنهض المحامي رفيق بك وقال: «إن بعض هذه الوصية قد عملنا به على قدر الإمكان وبعضها يحتاج إلى نظر، فنرجو من حضرة الأخ الرئيس أن يعرض هذه المسائل واحدة واحدة ويأخذ الآراء في شأنها.»
فقال الرئيس: «إن تربية الأمة أمر اقتضته طبيعة العمران، وإن كنا لم نستطع شيئا كثيرا لوقوف حكومة الاستبداد في طريقنا. أما الجمع بين العناصر فإننا ساعون فيه، ووصية أبينا وأستاذنا مدحت تجعلنا نسير فيه إلى النهاية. وهكذا وصيته في التعويل على الجندية فإنها خطتنا الجديدة، وقد وصلنا إليها بعد طول الاختبار، ونعم الرأي هو! أما تحذيره إيانا من عبد الحميد وعدم الركون إلى مواعيده فقد أتى إبان الحاجة إليه ونحن في اضطراب وتردد، وأظن هذه الوصية تكفي للفصل في هذه المسألة، فهل تترددون في رفض اقتراح عبد الحميد الذي أتانا به الأخ رامز؟» وأشار إلى الأعضاء يطلب رأيهم في ذلك، فصاحوا بصوت واحد: «مرفوض».
فقال الرئيس: «والفتك، ما رأيكم فيه؟ إن غرضنا حتى الساعة أن ننال الدستور بلا فتك ولا قتل، ولكن أستاذنا مدحت يلح في تحريضنا على الفتك، فما قولكم؟»
فوقف أنور بك وقال: «إن أستاذنا حدد الحالة التي يجوز فيها الفتك، إذا وجد شخص كثير الأذى للأحرار وكان وجوده حجر عثرة في سبيل مقاصدنا فلنقتله. إن هذه سياسة يقضي بها العقل والعدل، فإن قتل شخص واحد أفضل من ضياع حقوق أمة برمتها!»
فاستأذن الملازم ك للكلام، وهو شاب في حدود الخامسة والعشرين من عمره، وقد امتلأ صدره حماسة ولمعت عيناه ذكاء وحدة، فبش له الرئيس وأذن، فقال: «إذا كانت السياسة لا تقضي بهذا الفتك بأعدائنا فالحق يقضي به، إن أهل القصر وأتباعهم أعداء لنا، وهم يقتلون منا العشرات فضلا عن قتل الحرية وإماتة الشعائر. وشريعة الحرب تجيز أن نقتل منهم من يقف في طريقنا، هم يقتلون منا طلاب الدستور ونحن نقتل من يسعى في قتل الحرية والأحرار، وكل واحد منا يساوي مئات منهم.» قال ذلك وعيناه تبرقان وصدق اللهجة ظاهر في كل حركة من حركاته.
فأشار له الرئيس مبتسما أن يقعد، وقال مخاطبا الأعضاء: «هل توافقون على الفتك عند الحاجة؟ هذه خطوة جديدة في جمعيتنا، فتأملوا قبل إقرارها إنها خطوة مهمة جدا. فما قولكم؟»
فاستأذن سعيد في الكلام فأذن له، فقال: «إن هذه السنة قديمة، وأنا أعتقد أنها ستكون الدواء الناجع لهذه الحالة. إنكم تفتكون ببضعة من كبار الظالمين حتى تصغر نفوسهم ويهابوكم، إذ يعلمون أنكم لا تقتصرون في الدفاع عن الحرية والمطالبة بها على الأقلام ولكنكم تدافعون بالسيوف أيضا. وهؤلاء القوم لا يفهمون إلا بالإرهاب، فخاطبوهم بلسانهم وأنا الضمين بفوزكم بإذن الله.»
صفحه نامشخص