إحساس ينبع من أين؟ مكان غامض في عقلها؟ في الجسد أو الروح؟ ذبذبة خفيفة في صمام البطين داخل القلب؟
بطرف عينها ترمقه وهو واقف في جوارها، يده اليمنى فوق الطاولة، أصابعه طويلة ممشوقة، مفاصله بارزة قليلا، ظهر يده أحمر اللون محروق بالشمس، تتخيله في قريتها يشتغل بالفأس مثل عبد الجليل الفلاح ابن عمتها، أو في النادي الرياضي قابضا بيده على مضرب التنس، طويل القامة مستقيم الظهر، يرتدي قميصا أبيض من دون ربطة عنق، وبنطلون رصاصي أدكن اللون، تتركز الزرقة في بؤرة عينيه وهو ينظر إلى موظف المطار، ويسأله: وما حدود ثمن القميص الذي تستطيع شركتكم دفعه للأستاذة؟
قال الموظف: مائة وخمسون دولارا أو مائتان على الأكثر.
يحمل جورج نلسون لقب بروفيسور، أستاذ دكتور، كان في استقبالها في المطار، ليس من عمله استقبال أحد، لكنها تحتل مكانة خاصة عنده لا يعرف ما هي بالضبط، لم يلتقها منذ عشرة أعوام، كانت فؤادة مرهقة بعد الرحلة الطويلة من أفريقيا إلى أمريكا، ولا يمكنها التجوال في سوق المطار لشراء القميص، بادر إلى القول: هل أنوب عنك ؟ أتثقين باختياري؟
هزت رأسها بالإيجاب.
عاد إليها بعد نصف ساعة بقميص حريري شفاف ثمنه مائة وثمانون دولارا، صاحت: هذا القميص يناسب فتاة مراهقة ليلة زفافها، كما أنني لا أنام إلا في قميص من القطن المصري طويل التيلة. وضحكت. - ومن أين أحصل على هذا القطن هنا في أمريكا؟ - ألا تستولون يا جورج على القطن المصري مثل الاستعمار البريطاني؟
ضحك جورج. - نحن في الحقيقة أشد شراسة من الاستعمار القديم.
هذه المشاكسات حدثت بينهما منذ أول لقاء، ينتمي مثلها إلى الفكر الاشتراكي الناقد للاستعمار والسوق الحرة والعولمة، مؤلفاته ومحاضراته حرضت الطلاب والطالبات على المشاركة في التظاهرات ضد النظام الرأسمالي والحروب الاقتصادية والعسكرية، تركها جالسة مسندة رأسها إلى الحائط، عيناها محمرتان قليلا نصف مغلقتين، راح يبحث في السوق بالمطار، عاد إليها بعد نصف ساعة ومعه قميص مكتوب عليه «مائة في المائة» من القطن. - شكرا يا جورج.
ضحكت، تتخفف من الحزن، في أعماقها حزن غامض متراكم، وتحت ضلوعها ترفرف عضلة صغيرة فرحا بشيء جديد، أهو القميص من القطن المصري مائة في المائة؟
بالرغم من نعومة القميص والتعب، أصابها الأرق تلك الليلة، فتحت جفونها تنظر إلى السماء من خلال الزجاج المغلق، بدت السماء المظلمة السوداء هي سماء القاهرة، تذكرت أن الشمس تطلع في مصر قبل أمريكا بسبع ساعات، في القاهرة الآن الضوء ساطع في منتصف النهار، يغلبها الحنين إلى طفلة ولدتها في الوطن ثم ماتت وهي تحبو، أو إلى جدة قديمة عاشت وماتت قبل أن تولد.
صفحه نامشخص