ثم إنه ينبغي علينا لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي كما كان يفهمه، هو أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الطويلة الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام، ويرجع بحثنا إلى أيام بولص الرسول الذي لم يفهم تعليم المسيح، بل حمله على محمل آخر ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيين وتعاليم العهد القديم.
وبولص كما لا يخفى كان رسولا للأمم أو رسول الجدال والمنازعات الدينية، وكان يميل إلى المظاهرات الخارجية الدينية كالختان وغيره، فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي؛ فأفسد جوهره .
ومن عهد بولص ظهر التلمود المسيحي المعروف بتعاليم الكنائس ، وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية، بل أصبح إحدى حلقات سلسلة الوحي التي أولها منذ ابتداء العالم وآخرها في عصرنا الحالي المتمسكة بها جميع الكنائس.
إن أولئك الشراح والمفسرين يدعون يسوع إلها دون أن يقيموا على ذلك الحجة، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار؛ موسى، والزبور، وأعمال الرسل، ورسائلهم، وتآليف آباء الكنيسة، مع أن تلك الأقوال لا تدل أقل دلالة على أن المسيح هو الله.
كل الرجال الذين ظهروا بعد المسيح وشرحوا تعاليمه وألفوا فيها التآليف الكثيرة كانوا يؤيدون للناس بأنهم يكتبون بإلهام الروح القدس، كبولص الرسول ورجال المجامع الذين عند عقدهم المجامع كانوا يفتتحونها دائما بالصلاة إلى الله ليسكب عليهم نعمة الروح القدس، ومثل ذلك تراتيب البابوات والمجامع المقدسة والأريوسييين وجميع المفسرين الكذبة الذين يجاهرون على رءوس الملأ بأن الروح القدس يتكلم بأفواههم؛ ليعززوا أقوالهم ويثبتوا للناس حقيقتها، ويدعون أن مطابقتهم التعاليم لبعضها ليست من مبتكرات بنات أفكارهم، بل هي صادرة عن الروح القدس.
إن تعاليم الإله الذي نزل إلى الأرض لا يمكن أن تكون متناقضة، فإذا كان الإله نزل إلى الأرض ليظهر الحقيقة للناس، فأقل شيء يطلب منه عند كشفه تلك الحقيقة أن تكون مفهومة لدى الجميع، فإذا لم يستطع ذلك فإنه ليس إله، فإذا كانت التعاليم الإلهية على شكل لا يستطيع الله نفسه أن يجعلها مفهومة، فالناس مهما أوتوا من الحكمة والذكاء فإنهم يعجزون عن إيضاحها وتفسير غامضها.
وأما إذا لم يكن المسيح إلها؛ بل إنسانا عظيما، فإن تعاليمه لا تتولد منها أيضا الأباطيل؛ لأن أقوال الرجل العظيم تعرف ببساطتها وقرب مأخذها.
ولم تظهر الطوائف والشيع في الديانة المسيحية ابتداء من أريوس فصاعدا إلا من كثرة البحث في تعاليم المسيح، وتفسيرها تفسيرا يطابق هوى المفسر أو الشارح التي لم تطابق عقائد الآخرين.
والقول بإن هذه العقيدة إلهية صادرة من الروح القدس قول بلغ أقصى درجات الكبر والحماقة؛ لأنه أي كبرياء يتصف بها الإنسان أعظم من ادعائه بأن الله يتكلم بفمه ولسانه ؟! وهل توجد في العالم حماقة أعظم من هذه؟! فما هذا الغش والضلال؟! ألا يجوز لكل إنسان أن يضع كتابا دينيا ثم يدعي أنه منزل من السماء؛ لأن الله أوحى به له حيث تكلم بفمه ولسانه؟! ومن هذا القبيل جميع تآليف المجامع الكنائسية وعقائدها ودستور إيمانها؛ ولذلك دخلت على الكنائس ما يسمونه بالهرطقات التي زعزعت أركان الدين المسيحي وهدمت معالم حقيقته.
والغريب أن مبتدعي تلك التعاليم يدعون أنهم يكتبون بإلهام الروح القدس الذي حل على الرسل، ولا يزال يحل على مفسري الكتاب الكذبة، ومع تماديهم في الادعاء فإنهم لا يستطيعون إقامة برهان واحد على صحة دعواهم يوضحون لنا ماهية الوحي، ويكشفون لنا النقاب عمن هو الروح القدس، بل ما زالوا يغررون بالناس ويدعون أنفسهم كواكب الكنيسة المسيحية، والأنكى من ذلك أن حيلتهم انطلت على البشر مدة عشرين جيلا.
صفحه نامشخص