كتاب
الانجاد
في أبواب الجهاد
تصنيف
الإمام المجاهد
أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي القرطبي
المعروف
بابن المناصف -رحمه الله تعالى-
(٥٦٣-٦٢٠هـ)
ضبط نصّه وعلّق عليه ووثق نصوصه وخرّج أحاديثه وآثاره
مشهور بن حسن آل سلمان ومحمد بن زكريا أبو غازي
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم
صلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وسلَّم تسليمًا
الحمد للِّه ربِّ العالمين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت؛ وإليه أنيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ونسألُ الله الصلاة على رسول الله وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الإمام المهدي (١)، وعن الأئمة الخلفاء الراشدين.
أمَّا بعد:
فإن تقوى الله والتزام أمره هو جماع الخير، ومِلاكُ الأمر، وفوزٌ في الدَّارين، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥] .
ولمَّا آتى الله في ذلك عبده: السيّد الأجل، المجاهد في سبيل الله، الحريص (٢) في التزام حدود الله أبا عبد الله ابن السيّد الأجلِّ أبي حفصٍ ابن الإمام الخليفة أمير المؤمنين ﵃، أوفر حظٍّ، وهداه من ذلك إلى أرشد سبيل، فاعتصم -في مراقبة حدود الشرع فيما يأتي ويذر (٣) - بالعُروة التي لا انفصام لها، وكان مما يسَّره الله له واستعمله فيه ملازمة أجلّ الأعمال، وأفضل أنواع الطاعات: جهاد عدو الله في عقر دورهم، وحراسة المسلمين في أقصى ثغورهم، تقبَّل الله قصده وعمله، وأبلغه من مراتب السعادة أمله؛ أجدّ في العزم، وأحفى في الإرشاد على تقييد مجموعٍ في الجهاد وأبوابه، وتفصيل فرائضه وسننه، وذكر
_________
(١) في هامش النسخة عبارة لم أستطع قراءتها، إلا أنه في أولها: يعني بالمهدي....
(٢) في هامش النسخة عبارة لم أستطع قراءتها.
(٣) في هامش النسخة كلمة لم أستطع قراءتها، وبعدها: أو كلمة نحوها بالأصل.
1 / 3
جُملٍ من آدابه ولواحق أحكامه، استظهارًا على ما يخصه من ذلك فيما وليه وأخلص فيه عمله، وسباقًا لإحراز الأجرين والجمع بين الحسنيين.
فانتدبت لذلك موجهًا قصدي وعملي في سبيل الله، ومشاركًا قدر وسعي ولو بالنية والقول في جهاد عدو الله، وأضرع مع ذلك إلى الله ربنا ﷻ في قبول ذلك لوجهه الكريم، وأن يوفر (١) الأجر، ويجزل المثوبة لسيدنا المبارك، فيما دعا من ذلك إليه، ودلَّ برأيه الموفق عليه، فجمع له بكرمه -تعالى- فضيلة
العلم إلى الجهاد، وتوخّي القول في الطاعة إلى العمل ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [فصلت: ٣٣] .
ومِنَ الله ربِّنا جلَّت قدرته نرجوا الإجابة وكمال الزُّلْفَى (٢) بِمَنِّه.
ولمّا توخيتُ أن يكون هذا المجموع مبنيًا على دلائل الكتاب والسُّنّة، مُنزَّهًا عن شبه التقليد واتباع مذهبٍ بغير دليل، قدّمت في عُمَدِ أبوابه، وأصول مسائله، ذِكْرَ ما بُنِيَتْ عليه من الكتاب والسنة وتجرَّد، وما يكون فيه من ذلك خلافٌ سَوْقَ (٣) المشهور من مذاهب العلماء، والإشارةَ إلى مستند كل فريقٍ من وجوه الأدلة، بأقرب اختصار يمكن، وربما نَبَّهتُ في مواضع من ذلك على الأرجح عندي، ووجه الترجيح متى أمكن، مالم تدع في كشف وجهِ الترجيح الضرورة لإطالةٍ، أو لم يظهر عندي للترجيح وجهٌ، فأترك القول فيه، وقد أقْتَصِر تارة في فروع المسائل، فلا أتعرض في بعضها لذكر الخلاف، إمّا لأن المذكور أظهر دليلًا، وتتبع الخلاف فيه يُفْضي إلى التطويل، وإما لأن خلافًا في ذلك لا أقف عليه، وهو مع ذلك حَرِيٌّ أن يكون؛ لأن ما لا خلاف فيه: إما لأنه إجماع، أو لأنَّ الخلاف في مثله غير معروف عند أهل العلم، فقد أُنبّه على أنه كذلك -إن شاء الله-.
_________
(١) بعدها في هامش المنسوخ كتب الناسخ: «كلمة متآكلة» .
(٢) في منسوخ أبي خبزة: «الرِّضا»، ثم صحَّحها في الهامش إلى: «الزُّلْفى» .
(٣) سَوْقَ، معطوف على ذِكر. كما في هامش المنسوخ.
1 / 4
ومهما ذكرت دليلًا أو توجيهًا لقولٍ فهو على ضربين: منه ما وقفت عليه نقلًا، ومنه ما استدللت عليه انتزاعًا من أصولهم (١)، وإنما نبهت على هذا رفعًا لعمدة الحمل فيه.
وأكثر ما أوردته دليلًا في هذا من حديثٍ عن رسول الله ﷺ، فهو حجّة ثابتة؛ لأني قد خرَّجته من «الصحيحين»: البخاري ومسلم، أو مما هو صحيحٌ من غيرهما، وإن كان قد يكون في بعضها اختلاف بين أهل الحديث في إثبات القول بصحَّته؛ لاختلافهم في بعض رجال سنده، إلاّ أن ما هذه سبيلهُ، مما لم يَتَرقَّ إلى الصِّحَّة المتفق عليها عندهم؛ فله مع ذلك درجة في العلو والحُجَّة عن كثير مما يتسامح به بعض أصحاب المذاهب في كتبهم، ثم أرجو أن يكون وقوعُ هذا النوع الذي اعتذرتُ منه في هذا المجموع قليلًا جدًا، وأكثر ما يقع إن وجد في أبواب الرَّغائب والآداب، مما لا يقع مواقع الفصل في الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمحظور (٢) .
ومع هذا؛ فأنا -إن شاء الله- أنسبُ كل حديثٍ إلى الأصل الذي نقلته منه، كالبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبي داود، والترمذي، وغيرهم؛ ليكون ذلك سهلًا لمن أراد الوقوفَ عليه هنالك، بحول الله وقوّته، وسَمَّيْتُ هذا المجموع، ملاءمة لِقصدي، وملاحظةً لما أرجو أن تبلغ به عند الله نِيَّتي:
كتاب «الإنجاد في أبواب الجهاد» .
وقَسَّمتُ فصوله ومسائله على عشرة أبواب:
الباب الأول: في حدِّ الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه: من فرضٍ على الأعيان، وعلى الكفاية، ونَفْلٍ، وصِفَةِ مَنْ يجب ذلك عليه، وهل تجب الهجرة؟
_________
(١) بعدها في الأصل كلمة مَمْحُوَّة. وكذا في هامش نسخة أبي خبزة.
(٢) بيّنَّا درجة هذه الأحاديث، وكلام الأئمّة النقاد عليها، مع ذكر عللها، على وجه فيه إيجاز، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
1 / 5
الباب الثاني: في فضل الجهاد والرِّباط، والنفقة في سبيل الله، وماجاء في طلب الشهادة وأجر الشهداء.
الباب الثالث: في صحة الجهاد، وما يَحِقُّ فيه من طاعة الإمام، ومياسرة الرفقاء، وما جاء في آداب الحرب، والدعوة (١) قبل القتال.
الباب الرابع: في وجوب الثبوت والصبر عند اللقاء، وحكم المبارزة، وما يحرم من الإنهزام، وهل يباح الفرار إذا كثر عدد الكفار؟
الباب الخامس: فيما يجب، وما يجوز أو يحرم من النكاية في العدو، والنيل منهم، ومعرفة أحكام الأسرى والتصرف فيهم.
الباب السادس: في الأمان وحكمه، وما يلزم من الوفاء به، والفرق بينه وبين مواقع الخديعة في الحرب، وهل تجوز المهادنة والصلح؟
الباب السابع: في الغنائم وأحكامها، ووجه القسم، ومن يستحق الإسهام، وبم يستحق، وسهمان الخيل، وما جاء في تحريم الغُلول.
الباب الثامن: في النَّفَل والسَّلَب، وأحكام الفئ والخمس، ووجوه مصارفهما، وتفصيل أحكام الأموال المستولى عليها من الكفار.
الباب التاسع: في حكم ضرب الجزية، وشرط قبولها، وممَّن يحق أن تُقبل من أصناف الكفر، ومقاديرها على الرؤوس، وما يجب لأهلها وعليهم.
الباب العاشر: في المرتدين والمحاربين، وقتال أهل البغي، وتفصيل أحكامهم، وذكر ما يتعلق بجناياتهم، ويلزم من عقوباتهم.
وبالله -تعالى- نستعين، وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
*****
_________
(١) كذا في الأصل والمنسوخ -وهو في الكتاب (ص ١٣٣) -: «والأمر بالدعوة قبل القتال» .
1 / 6
الباب الأول
في حدِّ الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه من فرض على الأعيان
وعلى الكفاية، ونَفل، وصفة من يجب ذلك عليه، وهل تجب الهجرة؟
1 / 7
قال الله -ربنا ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: ١٠-١٣] .
وخرَّج النَّسائي وأبو داود كلاهما عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، قال النسائي: «بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (١) .
*****
_________
(١) أخرجه النسائي في «المجتبى» (٦/٧ رقم ٣٠٩٦)، وأبو داود في «سننه» (رقم ٢٥٠٤)، وأحمد في «المسند» (٣/١٢٤، ١٥٣، ٢٥١)، والدارمي في «مسنده» (رقم ٢٤٣٦)، وابن حبان (١٦١٨- موارد)، والحاكم في «المستدرك» (٢/٨١)، وابن عدي في «الكامل» (٣/٩١٦)، والجصّاص في «أحكام القرآن» (٤/٣١٤)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (١/٢٣٣)، والبغوي في «شرح السنة» (١٢/٣٧٨)، والبيهقي في «الكبرى» (٩/٢٠)، وابن عساكر في «الأربعين في الحث على الجهاد» (ص ١٠٣) الحديث رقم (٣١)، والضياء في «المختارة» (١٩٠٢ و١٩٠٥) من طرقٍ عن أنس بن مالك.
وأخرجه النسائي (٦/٥١) بدون لفظ «المشركين» . وفي بعض روايات الحديث: «جاهدوا المشركين بأيديكم» . وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
1 / 9
فصلٌ: في معنى الجهاد وحدِّه لغة وشرعًا
قال الله -تعالى-: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: ٧٨]، وقال
-تعالى-: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ٦]، وقال -تعالى-: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣] .
فالجهاد في اللغة، أصله: الجَهْد (١)، وهو: المَشَقَّة، يقال: جهدتُ الرجلَ: بَلغْتُ مشقته، وكذلك الجهاد في الله -تعالى-؛ إنما هو بذل الجهدِ في إذلالِ النفس وتذليلها في سُبلِ الشرع، والحملِ عليها بمخالفة الهوى، ومن الركون إلى الدَّعة واللذات، واتباع الشهوات (٢) .
خرَّج الترمذي عن فضالة بن عُبيد: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المجاهد من جاهد نَفْسَه» (٣) .
_________
(١) الجِهاد -بكسر الجيم- مصدر: جاهدت العدوَّ مجاهدة، وجهادًا، وأصله: جيهاد، كقيتال، فخُفِّفَ بحذف الياء، وهو مشتق من الجَهْد -بفتح الجيم- وهو التّعب والمشقة، لما فيه من ارتكابها، أو من الجُهد -بالضّم- وهو الطاقة، لأنّ كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه، قاله القسطلاني في «إرشاد الساري» (٥/٣٠) .
(٢) انظر: «لسان العرب» (٣/١٣٤)، و«المحيط في اللغة» (٣/٣٦٩)، و«المصباح المنير» (ص ١٥٥) مادة (جهد) .
وانظر تعريفه الاصطلاحي في: «تحفة الفقهاء» (٣/٢٩٣)، «بدائع الصنائع» (٦/٥٧)، «اللباب في شرح الكتاب» (١١٤)، «شرح الزرقاني على الموطأ» (١/٤٢٤)، «فتاوى البرزلي» (٢/٨)، «بلغة السالك» للصاوي (١/٣٥٤)، «تهذيب الأسماء واللغات» (٣/٥٦)، «فتح الباري» (٦/٣)، «شرح منتهى الإرادات» (١/٦١٧) .
وانظر: «تفسير النيسابوري» (١١/١٢٦)، «المفردات» للراغب (١٠١)، «حاشية الجمل على الجلالين» (٣/٤٤١)، «دستور العلماء» (١/٢٩١)، «طلبة الطلبة» (١٦٥)، «القاموس الفقهي» (٧١)، «معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية» (١/٥٤٣-٥٤٤)، «أحكام المجاهد بالنفس» (١/٢٦-٢٧)، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (١/٣٨-٣٩) .
(٣) أخرجه الترمذي (رقم ١٦٢١)، وابن حبان (٦٤٢٤)، وأحمد (٦/٢٠)، والحاكم (٢/ ١٤٤) من حديث فضالة بن عبيد به. وهو قطعة من حديث أخرجه أحمد (٦/٢١) وابن المبارك في =
1 / 10
وخرَّج النسائي عن سبرة بن أبي فاكِهٍ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:..
فذكر حديثًا طويلًا في وسوسة الشيطان للمؤمن، وفيه: «ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد. فهو جهد النفس والمال ...» (١) الحديث.
والجهاد في الشرع يقع على ثلاثة أنْحاء: جهادٍ بالقلب، وجهادٍ باللسان، وجهادٍ باليد.
والدليلُ على هذه القسمة، وتسمية كل واحدٍ منها جهادًا: ماخرَّجه مسلم (٢)، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله ﷺ قال: «مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحابٌ، يأخذون بسُنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخْلفُ من بعدهم خُلوفٌ، يقولون مالايفعلون، ويفعلون مالايؤمرون، فمن
_________
= «الزهد» (٨٢٦) -ومن طريقه ابن حبان (٤٨٦٢)، والبغوي في «شرح السنة» (١٤) -، وابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص ٢٧٧)، ويعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (١/٣٤١-٣٤٢)، والطبراني في «الكبير» (١٨/ رقم ٧٩٦)، والحاكم (١/١٠-١١)، والبيهقي في «الشعب» (١١١٢٣) .
وأخرجه مطولًا ومختصرًا: ابن ماجه (٣٩٣٤)، والبزار في «مسنده» (٣٧٥٢) وابن منده في «الإيمان» (٣١٥)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٣١) .
والحديث صحيح، انظر: «المشكاة» (٣٤- التحقيق الثاني لشيخنا الألباني ﵀)، و«التعليق الرغيب» (٢/١٥٠)، و«الصحيحة» (٥٤٩)، و«صحيح أبي داود» (١٢٥٨) .
(١) أخرجه النسائي في «المجتبى» (٦/٢١/ رقم ٣١٣٤)، وأحمد (٣/٤٨٣)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٤/١٨٧-١٨٨)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٥/٢٩٣)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (١٠٤٣ و٢٦٧٥)، وفي «الجهاد» (١٣)، وابن حبان (٤٥٩٣)، والطبراني في «الكبير» (٦٥٥٨)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤٢٤٦)، والمزي في «تهذيب الكمال» (١٠/ ٢٠٢)، من حديث سبرة بن أبي فاكه. وإسناده قوي.
وانظر: «صحيح سنن النسائي» (٤١٤٣٢) لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-.
وسبرة بن أبي فاكِه. قال ابن الأثير: هو سبرة بن الفاكِهِ. ويقال: ابن أبي الفاكِه. قيل: إنه مخزومي، وذكر ابن أبي عاصم أنه أسدي، من أسد بن خزيمة، يُعدُّ في الكوفيين.
(٢) في الهامش: «متآكل في الأصل» . والحديث في «صحيح مسلم» .
1 / 11
جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خَرْدل» (١) .
فالقول أولًا: في معنى جهاد القلب، وذلك راجعٌ إلى مغالبة الهوى، ومدافعة الشيطان، وكراهية ما خالف حدود الشرع، والعقدِ على إنكار ذلك، حيث لا يستطيع القيام في تغييره بقول ولا فعل، وهذا الضرب واجب على كل مسلم إجماعًا، وهو مما يتناوله قوله -تعالى-: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: ٧٨]، وقوله -سبحانه-: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ [العنكبوت: ٦]، وقال -سبحانه-: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ [النازعات: ٤٠]، وقوله ﷺ: «ومن جاهدهم
بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل» (٢) .
الثاني: جهادٌ باللسان، وذلك كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (٣)، وزجرِ
_________
(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) (٥٠) (٨٠)، وأحمد في «المسند» (١/٤٥٨ و٤٦١)، وأبو عوانة (١/٣٥، ٣٦)، وابن منده في «الإيمان» (١٨٣و ١٨٤)، والطبراني في «الكبير» (٩٧٨٤)، والبيهقي في «الكبرى» (١٠/٩٠)، من حديث أبي رافع، عن ابن مسعود، به.
قال السندي: قوله: «ما من نبيٍّ ...» إلخ: لا بُدَّ من تخصيص الكلام بمن آمن من أمته قوم، وإلاّ فقد جاء أنَّ بعضهم ما آمن به أحد، أو آمن به واحد.
وكلمة: خُلوف، كعُدُول: جمع خَلْف -بالسكون- كَعَدْل. والخَلْفُ: كل مايجيء بعد من مَضَى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، وجمع المتحرك أخلاف، والمعنى: يجيء بعد أولئك السَّلف الصالح أناسٌ لا خير فيهم، والله أعلم.
(٢) سبق تخريجه قريبًا.
(٣) ذكر المصنف في كتابه: «تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام» (٣٢٠-٣٢٣)، أن مراتب تغيير المنكر على خمسة أقسام:
١) التعريف والبيّنة. ... ... ٢) الوعظ والتخويف. ... ... ٣) الزجر والتقريع باللسان.
٤) التغيير بمباشرة اليد. ... ٥) التغيير بالضرب وإيقاع التنكيل والعقوبة بالفاعل، وذلك في حقِّ من تلبَّس ولم يقدر على دفعه عنه إلا بذلك. وفصّل في هذه الأقسام الخمسة.
1 / 12
أهل الباطل، والإغلاظ عليهم، وما أشبه ذلك، مما يجب إبراء القول فيه.
وهذا الضرب واجب على المكلَّف بشروط:
منها: أن يكون عالمًا بطرق الإنكار، ووجه القيام في ذلك، من التَرَفُّقِ تارة، والغلظة أخرى، بحسب المُنكر في نفسه، والأحوال التي تَعترض، فإنْ لم يكن كذلك لم يجب، بل قد يحرم عليه القيام؛ لأنه ربما وقع في أَشدّ مما أنكر (١)،
قال
_________
(١) قرر ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في كتابه المستطاب: «إعلام الموقعين» (٤/٣٣٩-٣٤٠- بتحقيقي) أنّ إنكار المنكر أربع درجات، هي:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يُزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شرٌّ منه.
قال: «فالدرجتان الأولتان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة» .
قال: «فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشّطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى الله ورسوله كرمي النّشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاءٍ وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ماهم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها وخِفتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسّحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه ونوّر ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التّتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنّما حرّم الله الخمر لأنها تصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم» وانظر في هذا: «الاستقامة» (٢/١٦٥-١٦٨)، و«مجموع الفتاوى» (٢٠/٥٧-٦١)، و«الأمر بالمعروف» (ص ١٧-١٨) كلها لابن تيمية.
وفصّل المصنف في ذلك في كتابه المفيد «تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام» (ص ٣٢٠) فقال:
«فأمّا إن خيف مع الرّفق فوات عين المنكر، أو اتّصال الاستطالة على مثله لاستخفاف المقوّم عليه وقلّة التفاته ومبالاته، وعلم أن الرّفق لا ينفع في مثل ذلك، وأمن أن يثير الإغلاظ منكرًا أشدّ من الحاضر، فينبغي المعالجة بما يقاومه ويصلح به ذلك الأمر من الشدّة والعنف، وبحسب عظم المنكر=
1 / 13
الله -تعالى-: ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: ١٣٥]، وقال -سبحانه-: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] .
ومنها: أن تكون له قوة في نفسه، وحالة يأمن معها أن يُسْطَاع ذلك، فإن لم يكن كذلك لم يجب عليه، لكنه إن فعل صابرًا محتسبًا قيامه في ذلك عند الله ﷿: صحَّ، وكان مأجورًا. قال الله ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٠٧]، وقال -تعالى-: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧] .
وخرَّج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر» (١)، قال فيه: حسن غريب.
_________
= وما يليق في مثله، ويؤدّي إلى إزالة فعله، قال الله -تعالى- في صفة القوم يحبهم ويحبونه ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم: ﴿ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾» .
ثم نقل ﵀ عن شيخه المشتهر بابن أبي درقة ﵀ قال: «كنت مرَّةً في غرَّة الشباب، ومبادي الطلب، فتشاغلت عن إحدى صلاتي العشاء إلى أن شارفت الفوات، فأتيت عَجِلًا إلى بعض المساجد، واعتمدت بعض زواياه، فصلّيتها مبادرًا متجوّزًا في بعض أركانها، وإذا بعض الشّيوخ يسارقني النَّظر، بحيث لم أشعر به، فلمّا أتممت صلاتي، وهممت بالانصراف استدعاني، فأتيته، فسألني قليلًا، ثم قال: يا بنيّ، رجلٌ تسلّف دراهم إلى وقتٍ، فلمّا حلّ الأجل، والغريم موسر قادرٌ على الأداء، تهاون بذلك واستخفّ، ولم يزل يتراخى به إلى أن استحق ذمّ التأخير، ثم أتاه بها بعد ذلك ناقصةً، زيُوفًا، فجميعٌ بين جنسي الإساءة في القضاء، فهل يكون لهذا حظٌّ في القبول؟ فما أتم كلامه حتى فهمت مقصده وتعريضه بما فعلت في صلاتي، فخجلت، ثم قلت له: فهمت يا عمّ، فما زاد على أن قال: قم يا بنيّ بارك الله فيك، فعدت لإتمام صلاتي، وأثّر ذلك عندي خير تأثير» .
ثم قال: «فهذا النوع من الرِّفق والتلطّف في التّعليم بحسب فهم صاحب النّازلة وما يليق به، أوقع في النفوس وأقرب إلى الإجابة من كثير من العنف والشِّدَّة» .
(١) أخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم ٢١٧٤)، وأبو دواد في «سننه» (رقم ٤٣٤٤)، وابن ماجه في «سننه» (رقم ٤٠١١)، والخطيب في «التاريخ» (٧/٢٣٨)، والمزي في «تهذيب الكمال» (١٧/٤٠٥) من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، به.
وفيه زيادة عند أبي داود، والخطيب: «أو أمير جائر» . وقال الترمذي: «حسن غريب من هذا =
1 / 14
ومنها: أن يرجو في قيامه كَفَّ ذلك المنكر وإزالته، فإن أَيِسَ من ذلك، فقد قيل: لا يجب عليه -أيضًا- إلا تبرُّعًا.
والأظهر عندي في هذا الوجه: أنه يجب عليه القول، وإن كان يائسًا من
كفّ ذلك المنكر؛ لأن الإنكار أخصُّ فريضةً، لا يسقطه عدم تأثر المنكر عليه، ألا ترى أنّ إنكار القلب حيث لا يستطاع الإنكار بالقول واجبٌ باتفاق، وهو لا أثَرَ له في دفع ذلك المنكر! فكذلك يجب القول إذا أمكنه، وإن لم يؤثر، وأيضًا ففي إعلان الإنكار تقريرُ معالم الشرع، فلو وقع التَّمالؤ في مثل هذا على التَّرْكِ حيث لا [يغني الكف] (١) والإقلاع، لأوشك دروسها. قال الله ﷿: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، فالقول إذا قدر عليه واجب، أثّر أو لَم يؤثر (٢) .
_________
= الوجه» .
وعطية: هو ابن سعد بن جنادة: صدوق يخطئ كثيرًا ويدلس، وكان شيعيًا مدلسًا. كما قال الحافظ في «التقريب» (٤٦١٦) .
فإسناده ضعيف؛ لضعف عطية هذا. ولكن تحسين الترمذي له؛ لأحاديث الباب؛ ففي الباب عن أبي أمامة صدي بن عجلان ﵁.
انظر: «صحيح الترمذي» (٢١٧٤)، و«صحيح أبي داود» (٤٣٤٤) كلاهما لشيخنا الألباني
﵀.
(١) كتب أبو خبزة في هامش نسخته: «كلمة غير ظاهرة»، ولعلها كما أثبتنا.
(٢) اختلف العلماء فيما إذا كان القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متأكدًا من عدم التأثير؛ أو إنَّ أمره ونهيه لا يفيد، ولا يعود بطائل، على قولين:
الأول: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة، وهو قول أبي حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين» (٢/٢٨٠)، إذ قال -رحمه الله تعالى-: «... أنْ يعلم أنه لا يفيد إنكاره، ولكنه لا يخاف، فلا تجب عليه الحسبة، لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين»، وهو اختيار عزالدين عبد اللطيف بن عبد العزيز المعروف بابن ملك (ت ٧٩٧هـ) في «مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار» (١/٥٠) حيث قال: «وأما النهي عن المنكر فلوجوبه شرائط منها: أنْ يغلب على ظنه أنَّ نهيه مؤثر لاعبث»، وإليه مال التفتازاني في «شرح المقاصد» =
1 / 15
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= (٢/٢٨١)، بقوله وهو يتحدث عن شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «منها تجويز التأثير، بأن لا يعلم عدم التأثير قطعًا، لئلا يكون عبثًا واشتغالًا بما لا يعني، فإن قيل: يجب، وإن لم يؤثر، إعزازًا للدين، قلنا: ربما يكون إذلالًا» .
الثاني: ويرى بعض العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب في هذه الحالة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وصححه أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وعزاه ابن رجب إلى أكثر العلماء، كما في «لوامع الأنوار البهية» (٢/٤٣٥)، وهو اختيار المصنّف.
يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في «شرح صحيح مسلم» (٢/٢٣): «قال العلماء: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله ﷿: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾ [المائدة: ٩٩]» .
والذي أراه راجحًا في هذه المسالة القول الثاني؛ لما يلي:
أولًا: إذا جرى الحديث عن تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدم تأثيره، أريد به ظهور المعروف حينما أمر به، وانتفاء المنكر حينما نهى عنه، وبالعكس، ولكن لننظر في الأمر من وجهة نظر أخرى، وهي أن المسلم -ولو لم يؤثر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأثيرًا عاجلًا- لا بدَّ أن يتأثر في شعوره إلى حدٍّ ما، ومن الممكن أن يصير هذا التأثير، سببًا لفعله المعروف، وتركه المنكر فيما بعد، ومن هذه الناحية درس الإمام محمد بن الحسن الشيباني في «شرح السير الكبير» (٣/٢٣٩-٢٤٠)، نفسيَّة الأمة المسلمة، مراعاة كاملة، فقال: «وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام، وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه، وأنَّه لا يتفرق جمعهم بسببه؛ لأنَّ القوم هناك مسلمون، معتقدون لما يأمرهم به، فلا بد من أنَّ فعله ينكئ في قلوبهم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك» .
ثانيًا: إذا أهمل السعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة عدم جدواه، تقطعت أسباب الرجاء عن الإصلاح، وهلك المجتمع كله.
ثالثًا: لا يصح بناء الحكم الفقهي على (التأثير) و(عدمه) فنقول: يجب الأمر بالمعروف عند حصول التأثير والإفادة، والعكس بالعكس؛ لأن التأثير وعدمه أمر غير ظاهر وغير منضبط، فكم من مأمور بالمعروف يُرجى فيه الخير ومنهيٍّ عن المنكر لا يرجى فيه ذلك، ولا يستجيب الأول ويستجيب الثاني.
رابعًا: إن صح القول الأول فيحمل على أنَّ العامة عليهم أن يحافظوا على دينهم وإيمانهم، ولا يصح أن يلقى عليهم أعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الخاصة منهم -أيضًا- إن لم يتقدموا إلى ذلك ظلموا أنفسهم وقدراتهم وإمكاناتهم.
وانظر بسطًا للمسألة في: «أحكام القرآن» (٢/٧٩٧)، و«مختصر الفتاوى المصرية» (٥٨)، و«اقتضاء الصراط المستقيم» (١/١٤٨، ١٤٩)، و«طبقات الحنابلة» (٢/٢٨٠)، و«الآداب الشرعية» =
1 / 16
خرَّج مسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيِّرُه بيده، فإن لَمْ يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يستطع فبِقلْبِه، وذلك أضعف الإيمان» (١) .
وعلى هذا الضَّرب حَمَلَ جماعةٌ من العلماء ما أمر الله -تعالى- به نبيه ﷺ من جهاد المنافقين في قوله -تعالى-: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [التوبة: ٧٣]، فهذا إنما يكون في المنافقين بالقول من الزجر والوعيد والتهديد، وما أشبه ذلك؛ لأنه ﷺ لم يؤمر بقتلهم؛ لِمَا كانوا يظهرونه من الإسلام، قال ابن عباس (٢)،
_________
= (١/١٧٨)، و«نصاب الاحتساب» (٣١٣)، و«أضواء البيان» (١/١٧٥)، و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص: ١٥٧ ومابعدها) لجلال العمري، و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواقع المسلمين اليوم» (ص: ١٠٣ ومابعدها) لصالح الدرويش، و«الأمر بالمعروف» لعبد الرحمن المقيط (ص ٥٠)، و«الأمر بالمعروف» (ص ٣٨٦) لخالد السبت، و«الجواب الأبهر لمن سأل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص ٥٧-٦١)، و«أصول الدعوة» (١٩٠، ٣١٢) لعبد الكريم زيدان.
(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان) (رقم ٤٩) .
(٢) أخرجه ابن جرير في «التفسير» (١٠/١٨٣) عن ابن جريج عن ابن عباس قال: الكفار بالقتال، والمنافقين: أن تغلظ عليهم بالكلام.
وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٦/١٨٤١/ رقم ١٠٣٠١)، وابن جرير في الموطن السابق، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩/١١) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
-تعالى-: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ قال: فأمره الله أن يجاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم.
وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (٤/٢٣٩) إلى ابن المنذر، وابن مردويه.
ولكن علي بن أبي طلحة: قال دُحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس. وقال الفسوي: روى عن ابن عباس الناسخ والمنسوخ، ولم يره. وقال أبو حاتم: علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مرسل، إنما يروي عن مجاهد والقاسم بن محمد.
انظر: «جامع التحصيل» (ص ٢٤٠ رقم٥٤٢)، و«تحفة التحصيل» (ص ٢٣٤) .
ولكن ابن أبي طلحة يروي من صحيفة عن ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر في «العجاب» (١/٢٠٧): «وعليٌّ صدوق، لم يَلْق ابن عباس، لكنه إنَّما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري =
1 / 17
وغيره (١): معناه: «جاهد الكفار بالسَّيف، والمنافقين باللسان» .
وبسْط الكلام في ذلك، وفي الكفّ عن قتل المنافقين على عهد رسول الله ﷺ يقتضي مأخذًا واسعًا غير ما قُصد له في هذا الباب.
الثالث: جهاد باليد، وهو أنواع:
منه ما يرجع إلى إقامة الحدود، ونحوها من التعزيرات، وذلك إنما يجب على الولاة والحُكَّام، ومنه: مايدخل في باب تغيير المناكر، وذلك يجب حيث لا يُغني التغيير بالقول، وعلى الشروط التي قدَّمنا في حق القائم في ذلك، والقيام فيه بحسب الأحوال، وتدريج الانتقال.
ومنه: قتال الكفار، والغزو. ويقتضي أنَّ لفظ الجهاد إذا أُطلق، إنما يُحمل على هذا النوع بخاصَّة، وهو الذي نُصِبَ له هذا المجموع، فَلنأْخُذ في ذلك على حسب ما يرزقنا الله فيه من الإمداد بالمعونة والتوفيق، لا ربَّ غيره.
_________
= وابن أبي حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة» .
فالأثر صحيح عن ابن عباس ﵁. انظر: تفسير ابن عباس المسمى «صحيفة علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس» (ص ٢٦٨/ رقم ٥٨٢)، «فتح الباري» (٨/٤٣٨-٤٣٩) .
وابن جريج: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل كما في «التقريب» (٤١٩٣) .
وقال العلائي في «جامع التحصيل» (٢٢٩/ رقم ٤٧٢): ذكر ابن المديني أنه لم يَلقَ أحدًا من الصحابة.
(١) كقتادة والضحاك والحسن البصري. أخرجه عنهم: ابن جرير في «التفسير» (٦/١٨٣-١٨٤)، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (٦/٢٤٠) إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة.
وأخرج ابن جرير (١٠/١٨٣) وابن أبي حاتم (٦/١٨٤/رقم ١٠٣٠٠) في «تفسيريهما»، وابن المبارك في «الزهد» (١٣٧٧)، والطبراني -كما في «مجمع الزوائد» (٧/٢٧٦) -، وابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (رقم ١٠٩)، وعبد الغني المقدسي في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (١٨)، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه في «تفاسيرهم» -كما في «الدر المنثور» (٦/ ٢٣٩) - بأسانيد ضعيفة نحوه عن ابن مسعود ﵁. وانظر: «الكشف والبيان» (٥/٦٩) .
1 / 18
فصلٌ: في ابتداء الأمر بالقتال والتدريج فيه
قال الله ﷿: ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:
١٥٨]، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: ٢٨]، وقال رسول الله ﷺ: «أُعطيتُ خَمْسًا لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كلّ نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى كل أحمر وأسود» الحديث. خرَّجه مسلم (١) .
فَثَبتَ بالبراهين القاطعة والآيات البيِّنة ومن الكتاب والسنَّة والإجماع القاطع المتواتر: أنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف رسول الله ﷺ إلى الخلق أجمعين؛ إنْسِهم وجِنِّهم، أحمرهم وأسودهم، عَربهم وعجمهم، من كان منهم في عصره، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة، قال الله -تعالى-: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] .
فذكر أهل العلم والنقل، أن رسول الله ﷺ لما بعثه الله ﷿ -وهو على رأس أربعين سنة-، أقام بمكة يدعو إلى الله -تعالى-، ويُبيِّن عن ربه ﷿ ما أرسله به من الهدى، ويتلو عليهم القرآن، وينهاهم عن الشِّركِ وعبادة
_________
(١) في «صحيحه» في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (رقم ٥٢١) من حديث جابر بن عبد الله ﵁، وتتمة الحديث: «... وأُحلّت لي الغنائم، ولم تحل لأحدٍ قبلي، وجُعلت لي الأرض طيبة؛ طهورًا ومسجدًا، فأيما رجلٍ أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يديَّ مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة» .
وأخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب التيمم (الطهارة) (باب التيمم) (رقم ٣٣٥)، وفي كتاب الصلاة (باب قول النبي ﷺ: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا») (رقم ٤٣٨)، وفي كتاب فرض الخمس (باب قول النبي ﷺ: «أُحلت لي الغنائم») (رقم ٣١٢٢) مختصرًا ومقتصرًا على العبارة المذكورة في الباب.
1 / 19
الأوثانِ، والفواحش -التي حرّم الله تعالى- مدّة طويلةً، لم يُؤمر في شيءٍ من تلك المدّة بقتال؛ بل كان يؤمر بالإعراض عنهم، وبالصَّفح الجميل، والصَّبرِ على أذاهم؛ إمهالًا من الله -تعالى-، وإبلاغًا في الحجَّة، وإعذارًا في المُدَّة.
قال الله -تعالى-: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤]، وقال -تعالى-: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: ١٠٩]، وقال -سبحانه-: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥] .
ولم يزل رسول الله ﷺ مُعلنًا بالرسالة والنَّذارة، صابرًا على ما يناله في ذلك من الأَذى، ناصِحًا لهم، مُحتسبًا ما أصابه فيهم، إلى أن آمن بالله وبما جاء به رسول الله ﷺ مَنْ أراد الله -تعالى- به خيرًا، وجعل له نورًا، وعاندَ من شاء الله
-تعالى-، وأقام رسول الله ﷺ على ذلك بمكة عشر سنين، وقيل: ثلاث عشر سنة، وفي ذلك يقول أبو قيس صِرمة بن أبي أنس بن صِرمة؛ من بني النَّجار (١):
_________
(١) قال ابن هشام في «السيرة النبوية» (ص ٥١٠) في نَسَبِه: أبو قيس، صِرمة بن أبي أنس بن صِرمة بن مالك بن عَديِّ بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. وقال ابن إسحاق: وكان رجلًا قد ترهَّب في الجاهلية، ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهّر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية، ثم أمسك عنها، ودخل بيتًا له، فاتخذه مسجدًا، لا تدخل عليه طامث ولا جنب، وقال: أعبد ربَّ إبراهيم، حين فارق الأوثان وكرهها، حتَّى قدم رسول الله ﷺ المدينة، فأسلم وحَسُنَ إسلامه، وهو شيخٌ كبير، وكان قوَّالًا بالحق، معظمًا لله ﷿ في جاهليته، يقول أشعارًا في ذلك حِسانًا.
أخرج الحاكم في «المستدرك» (٢/٦٨٣/ رقم ٤٢٥٥- ط دار الكتب العلمية) -وعنه البيهقي في «دلائل النبوة» (٢/٥١٣) - عن إبراهيم بن ديزيل، عن إبراهيم بن المنذر، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار؛ قال: قلت لعروة بن الزبير: كم لبث النبي ﷺ؟ قال: عشر سنين. قلت: فإن ابن عباس يقول: لبث بضع عشرة حجة. قال: إنما أخذه من قول الشاعر. قال سفيان بن عيينة: ثنا يحيى بن سعيد؛ قال: سمعتُ عجوزًا من الأنصار تقول: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يتعلم منه هذه الأبيات ...» وساق سبعة أبيات، أولها البيت المذكور.
قلت: وهذا إسناد ضعيف من أجل المبهم الذي فيه. =
1 / 20
ثَوَى في قريشٍ بِضْعَ عشرةَ حِجَّةً ... يذكِّر لو يَلْقى صديقًا مُواتيا (١)
ثم لما أراد الله -تعالى- إنفاذَ الوعيد فيمن أهلكه من كفار قريش، وعظماء أهل الشرك بمكة: أذِن الله تعالى لرسوله ﷺ في الهجرة منها إلى المدينة، فخرج، ولمَّا يؤمر حينئذٍ بقتال، ثم أذن له في القتال بَعْدُ.
خرّج النسائي (٢) عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي ﷺ من مكة؛ قال أبو
بكر:
_________
= وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» .
قلت: خرَّجه مسلم في «صحيحه» (٤/١٨٢٥-١٨٢٦) مختصرًا هكذا: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو؛ قال: «قلتُ لعروة: كم لبث النبي ﷺ بمكة؟ قال: عشرًا. قلت: فإنَّ ابن عباس يقول: بضع عشرة. قال: فغفَّره. وقال: إنما أخذه من قول الشاعر» .
وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (٢/٥١٣) عن عبد الله بن الزبير الحميدي، والشجري في «أماليه» (١/٧٤) عن أبي مطرف محمد بن أبي الوزير؛ والدينوري في «المجالسة» (رقم ٧٧٩- بتحقيقي) من طريق إبراهيم بن المنذر، كلهم عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، به.
وقال ابن إسحاق -وهو في «سيرة ابن هشام» (٢/١٥٨) - ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (٢/٥١٥) -: «وقال صرمة بن قيس ...»، وذكر البيت ضمن أبياتٍ يذكر فيها ما أكرمهم الله ﵎ به من الإسلام، وما خصَّهم الله به من نزول رسول الله ﷺ.
والخبر في: «المعارف» (ص ٦١، ١٥١)، و«التعازي والمراثي» (١٢٦) للمبرد، و«أسد الغابة» (٣/١٨)، و«الإصابة» (٢/١٨٣)، و«سيرة ابن كثير» (٢/٢٨٣)، و«منح المدح» (١٢٩-١٣٠) .
(١) ثَوى: أي: أقام. ومواتيًا: موافقًا.
(٢) في «المجتبى» في كتاب الجهاد (باب وجوب الجهاد) (٦/٢/رقم ٣٠٨٥)، وفي «الكبرى»: كتاب «التفسير»، تفسير سورة الحج (١٤٤/٣٦٣) .
وأخرجه أحمد (١/٢١٦)، والترمذي (٣١٧١) -وقال: هذا حديث حسن-، وابن جرير في «التفسير» (١٧/١٧٢)، وابن حبان (٤٧١٠)، والحاكم (٢/٦٦، ٢٤٦، ٣٩٠ و٣/٧-٨)، والطبراني (١٢٣٣٦)، والبزار في «البحر الزخار» (١/٦٩/ رقم ١٦)، من طرق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.
ولم يرد عندهم قول ابن عباس: هي أول آية نزلت في القتال.
وقال الحاكم: على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. وهو كما قالا.
وأخرجه الترمذي (٣١٧٢)، والطبري (١٧/١٧٢) عن سعيد بن جبير مرسلًا. =
1 / 21