لو قال لها إنه سيخرج بعد خمس سنوات أو عشر أو عشرين ربما خفت المأساة. ربما استطاعت أن تحتمل. فالانتظار محتمل طالما أنه موقوت، ندرك نهايته ونعرفها، ونستطيع أن نحددها بسن القلم. ولكن أن نعيش في قبضة خطين متوازيين لا يلتقيان، أن نصبح داخل فكين لا ندري متى ينقبضان، فهذه هي مأساتنا، وسر الحزن العميق في أفراحنا، وسر المرح اللامبالي في أحزاننا، نعرف أننا نخدع أنفسنا، وأننا في قبضة إرادة أخرى غير إرادتنا، وأنها ستفتك بنا لا شك في لحظة قادمة لا نعرف متى.
أحست والعربة منطلقة بأقصى سرعتها أنها في قبضة القدر، وأن انحرافة واحدة من السيارة تجعلها جثة مهشمة في قاع النيل. والتفتت ناحيته. وأدركت أنها ليست في قبضة القدر، وإنما في قبضة هاتين اليدين الكبيرتين اللتين تقبضان على عجلة القيادة. إن حركة واحدة من هاتين اليدين كافية لأن تسحقها العربة.
اجتاحها إحساس غريب باللامبالاة، وانحرفت السيارة فجأة وكادت تصطدم بعربة أخرى فلم تهتز. اللامبالاة الحقيقية حين يدرك الإنسان عبث حياته اللإرادية، وعبث موته غير الموقوت، وعبث ربطه بالسلاسل إلى أجل غير محدد. اللامبالاة الحقيقية حين يتأكد الإنسان من موته في أي لحظة فلماذا لا تكون هذه اللحظة وليست غيرها؟
وسمعت صوت الدكتور علوي يقول: أود أن أتناول غدائي معك اليوم، فهل توافقين؟
قالها بأدب شديد وتردد شديد فدهشت. لو قال لها في تلك اللحظة: «أود أن ألقي بك في قاع النيل فهل توافقين؟» لقالت له أوافق. لكنه يدعوها للغداء فحسب. وبدت لها الدعوة للغداء إلى جوار الدعوة للموت تافهة، فقالت بصوت فاتر: أوافق.
انطلق بالسيارة في طريق طويل تظلله الأشجار. لم تكن تعرف من القاهرة إلا أجزاء قليلة، وأحست أنها في مكان لم تره من قبل، لكنها لم تسأل. وظلت صامتة، تاركة نفسها لذلك الشعور المريح من اللامبالاة، وسمعته يقول: لماذا تركت الكلية؟
ردت بصوت ساخر: زوجوني.
ضحك ومد يده وأمسك يدها: أهي نكتة؟
قالت: ليست نكتة، إنها الحقيقة.
اتسعت عيناه في دهشة مصطنعة: وماذا فعلت به؟
صفحه نامشخص