إهداء
بت الجزار
العاشق
امرأة من كمبو كديس
حذاء ساخن
الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
صاحبة المنزل
محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها
ضلالات
أسنان لا تغني
الأخدود
إهداء
بت الجزار
العاشق
امرأة من كمبو كديس
حذاء ساخن
الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
صاحبة المنزل
محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها
ضلالات
أسنان لا تغني
الأخدود
امرأة من كمبو كديس
امرأة من كمبو كديس
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة، النظيفة، النقية، الشفيفة، مريم بت أبو جبرين، أمي.
عبده بركة
بت الجزار
بدأت أفكر في الموضوع بصورة قاسية بعد أن تحرك الباص مباشرة متجها نحو الخرطوم، الأفكار المظلمة تنتابني بين لحظة وأخرى لدرجة أنني تمنيت أن أجدها قد توفيت ولو في حادث سير. كنت لا أعرف كيف تلتقي أعيننا بعد أن حدث منها ما حدث، هل سينتابني ذلك الشعور الحلو الذي دائما ما يسيطر علي وأنا أراها وهي تكبر يوما بيوم وتزداد عقلا وخبرة في الحياة وجمالا، ويتجلى وجهها الأسود الحلو الناعم براءة؟
كنت حينها أحس كما لو أن كل خلية في جسدي تتجدد وأنني أكثر طمأنينة وأقرب للحياة مني إلى الموت، بالرغم من تقدم العمر وأمراضه الكثيرة، وأكثر ما يعذبني فكرة أنها خانتني، خانتني أنا بالذات، ولكني أيضا أفكر في الأمر من جانب آخر، من جانبي أنا؛ لأنني ما كنت أنظر لعلوية كامرأة أبدا، يبدو أنني أضعها في مكانة رجل ما فوق الأربعين كامل النضج ومستقيم السلوك، أما أن تذهب علوية مع رجل غريب إلى خلوة وأن يغويها أو يلمسها مجرد لمس، بكامل رضاها ودون أن تحس ولو بعقدة الذنب أو خيانة الثقة التي أعطيتها إياها ... وأن ... لا ... أمر لا أصدقه!
كيف يتسنى لعلوية ابنتي أنا، التي أنشأتها منشأ سليما وربيتها من مال حلال اكتسبته بعرق جبيني وأودعت من أجلها مالا في البنك تسحب منه لمصروفها كما شاءت، أن تتزوج زواجا عرفيا، أكون أنا آخر من يعلم، كل القرية تعرف ذلك، جميعهم، جميعهم إلا أنا! لماذا تجعلني صغيرا تافها أمام الناس وأنا ما يملأ عيني تراب الدنيا كلها؟ كيف تنظر إلي؟ ماذا تقول؟ هل تنكر ذلك؟ أتبكي؟ ربما.
هي نفسها ضحية لذئب لا يرحم، لقد قرأت كثيرا في الجرائد عن زواج الطالبات العرفي، ولكني أحلته إلى أسباب مادية، إطلاقا لم أفكر لحظة في علوية، أن تكون علوية واحدة من هؤلاء البنات المطلوقات - كما كنت أسميهن، وما زلت - البنات اللائي عجزت أسرهن في توفير مصروفهن أو تربيتهن تربية كريمة تكسبهن العفة أو ربطهن في البيوت.
لم أستشر أحدا في كيف أتصرف، لقد وضعت سنوات خبرتي الطويلة في العمل المدني والعسكري وتجاربي الحياتية ومخزوني المعرفي موضع التحدي، فإذا لم أتمكن من عبور هذه المحنة وحدي بكل هذه المكتسبات فلا فائدة من الحياة التي عشتها.
هذا التشجيع للنفس لم يمنع الضعف والانكسار الذي أحس به الآن والخوف، نعم الخوف الحقيقي من أنني أقوم بفعل قد يحسب ضدي؛ بل قد يسيء إلي وإلى أسرتي وآخرين غيري، في الحقيقة كنت مرتبكا عكس ما أبدو عليه في الظاهر، بحثت في جيوبي وجدت أنني أخذت ربطة من المال عشوائيا تحتوي على خمسمائة ألف جنيه سوداني، حسبتها مرتين، انقطعت دائرة البلاستيك التي تحيط بها، أدخلت المبلغ كله في الشنطة محتفظا برباط البلاستيك المقطوع.
اصطدمت أصابعي بشيء صلب بالداخل، إنها السكينة الكبيرة، دخلت الشنطة نتيجة للاستعجال أو الإحساس الداخلي بأنني قد أحتاج إليها، أو ربما دسها لي شخص فكر في الأمر بطريقة مختلفة، أخذت ألهي نفسي بلعبة قديمة كنا نلعبها في طفولتنا مستخدما رباط النقود المقطوع، كنت في حاجة لأي فعل يلهيني عن التفكير في علوية، عندما أجدها سأفكر في الحلول في ساعتها، لا أحب أن يملي علي أحد رأيه حتى ولو كان أخوها.
في المقعد المجاور امرأة أربعينية غير متزوجة، طوال الطريق تقرأ مجلة حواء، يفوح منها عطر قوي، تسرق النظرات إلى لعبتي من وقت لآخر، وكنت أهتم بها، ولكنني أخفي ذلك بصورة جيدة، كما أنني لا أحب التحدث والونسات أثناء السفر؛ لأن السفر فرصة جيدة لكي أخلو إلى نفسي دون أن يزعجني أحد، قد أنام، النوم أيضا لا يتوافر في حياة سريعة ملآنة بالكد والجري وراء الرزق، ولكن من أجل من؟ - بتكلم معاي. - منو؟ أنا آسف، رأسي ملآن بالمشاغل وظاهر علي قاعد أكلم نفسي، معليش، أزعجتك.
قالت وهي تلم ثوبا أنيقا إلى جسدها: ولا يهمك؛ الناس كلها مشغولة.
حاولت النوم حتى لا أتكلم مثل المجنون، وضعت رأسي على المقعد الأمامي، أغمضت عيني، أخذت أفكر: أين تكون علوية الآن، في أي وضع؟ في النوم نزلت علي ملائكة الأسئلة بجواب خطير. •••
نزلت عند الجامعة بعد أن أكد لي سائق التاكسي أنني سوف أجدها أو أجد صديقاتها في ذات المكان الذي أنزلني به، وفعلا وجدتها بسهولة ويسر، وربما هي التي وجدتني، حين رأتني من مسافة بعيدة وأنا أمر أمام الكافتيريا هرولت نحوي ومعها صديقتان، وجدت نفسي دون شعور مني أنظر أولا إلى بطنها، بصورة غير طبيعية، وربما لاحظن ذلك، علقت الصديقتان على أنني أبدو كما لو كنت أخا لعلوية وليس أبا، يشرن إلى مظهري الخارجي وما يتوهمنه من صغر السن، كن يتحدثن باستمرار، أسال نفسي أنا أيضا باستمرار: كم منهن متزوجة زواجا عرفيا، كم منهن يدعرن، كم منهن عفيفات؟ عندما خلوت بعلوية، فاجأتها دون مواربة أو مراوغة: أنتي متزوجة زواجا عرفيا مش كده؟!
قالت - وقد انهارت تماما من هول المفاجأة: عرفت! - نعم، عرفت.
وبحركة سريعة سقطت على رجلي، أخذت تبكي بصورة جعلتني أتعاطف معها، وربما أقف في صفها، إذا كنت أكثر صراحة أقول إنني لمت نفسي، بدت لي طفلة في عهدها الأول، تجمعت بعض الطالبات، سألن إذا كان قد توفي أحد أفراد الأسرة أو أن هناك خبرا أسوأ، ولكن لم نجب بشيء. طلبت منهن أن يتركننا سويا لبعض الوقت، لم تستطع أن تقول شيئا، كانت تنظر إلى الأرض وتبكي في صمت، قلت لها: انخدعت فيك يا علوية، انخدعت.
قالت بصوت مبحوح: كنا حنعلن زواجنا قريبا جدا، ولكن كل شيء بإرادة ربنا. - القرية كلها تعرف، ما عدا أنا فقط، الجميع يضحك علي.
سألتها: وين الزول ده؟ •••
قالوا لي إنه في الحصة الآن، بعد ربع ساعة يمكنني مقابلته، شربت الماء البارد جلس قربي خفير ثرثار، ما ترك شيئا لم يسألني عنه، لم ينجدني منه سوى الجرس الذي دق كمطرقة في رأسي، قال لي الخفير وهو يشير بفمه ويده وعينيه نحو أستاذ يمر أمامنا: ده هو أستاذ سالم.
فالتفت الأستاذ إلي ومضى ظانا أنني أب لأحد التلاميذ، ولكن الخفير صاح فيه مناديا: الزول ده من الصباح منتظرك، يا أستاذ.
طلب كرسيا، جلس قربي في البرنده سأل ماء من أجلي، كانت يده ملآنة بالطباشير ويبدو مشغولا جدا؛ حيث تتحرك عيناه هنا وهناك بحثا عن مفقود ما، كنت أحاول أن أجد ملمحا فيه يدل على فعلته، ولكنه كان شخصا عاديا مثله مثل كل الناس، قدرت عمره وأخلاقياته وجزره العرقي أيضا، قلت له معرفا بنفسي: أنا من قرية الدومات، هل تعرف زول من القرية دي؟
فكر قليلا، قال: لا. - علوية، علوية، هي من قرية الدومات. علوية! ما بتعرف علوية؟
قال باستغراب: علوية، منو؟ - علوية إبراهيم عثمان وردان. - آه، نعم علوية اللي بتدرس في كلية التربية، أيوه قاعدة تحضر عملي هنا عندنا في المدرسة، في شعبة الرياضيات، أنا رئيس الشعبة.
قلت له: بس!
قال: تقصد شنو؟ - أنت متزوجها زواجا عرفيا مش كده؟ «قلت معتمدا الصدمة والمفاجأة كطريقة لها فائدة كبيرة في الحصول على اعتراف المجرمين.»
قام من الكرسي ثم جلس، قال للخفير الذي أرخى أذنيه وأخذ يستمع للحوار بتلذذ تام: امش من هنا، امش شوف شغلك.
ثم قال موجها كلامه لي: ده كذب، علاقتي بعلوية زي علاقة كل المدرسة بها، لا زواج ولا غيره، أنا شخص محترم وأستاذ، وما عندي وقت للهضربا اللي بتهضربا دي، أنت ذاتك منو؟
قلت له ببرود: أنا إبراهيم وردان لواء شرطة بالمعاش، أعمل في سعاية الماشية، برضو بذبح، بذبح باستمرار، عندي جزارة صغيرة في البيت، في وقت الفراغ بشتغل معراقي، عارف معراقي يعني شنو؟ لحظة.
أدخلت يدي في جيبي، أخرجت ورقة بيضاء صغيرة مفتولة، في حجم رأس الأصبع الصغير، في شكل إنسان. - ده أنت سالم علي عباس اللي والدتك نفيسة جبرين العيش.
هززت الشيء أمامه وقمت بوضعه في الشمس، كان يحملق في الشيء بتركيز واهتمام بالغ، وبعد ثوان معدودات هرب الشيء من الشمس بتلقاء نفسه واستقر في الظل، كررت العملية ثلاث مرات. أخرجت خيطا طويلا من الشنطة - النوع الذي يستخدم في صيد الأسماك - بالسكينة الكبيرة قطعت منه ما يقارب ربع المتر، أعدت السكينة في الشنطة، أحطت بالخيط عنق الشيء في شكل أنشوطة، قلت له وهو ينظر في ذهول: ده أنت سالم ودي نفيسة.
وقمت بجذب طرفي الأنشوطة، فمسك عنقه وصرخ في جنون صرخة جمعت كل المدرسة، في دقائق أحاطوا بنا، قلت له: في خمس ثوان فقط حاتموت، أها عرفت معنى معراقي.
قال بصوت مبحوح بينما يتصبب عرقا: كنت حاتزوجها علنا في الإجازة.
انتبهت لكف تربت في كتفي وصوت وقور هادئ: أنا مدير المدرسة، تعال يا حاج إبراهيم، تعال معي إلى المكتب.
أخذ بيدي إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة الكتب وعبق الطباشير، أكد لي المدير أنه يعلم بزواج سالم من ابنتي عرفيا، وهو منذ البداية ضد الفكرة، لكنه أيضا أثنى على سالم وخلقه القويم وأنه رجل مسئول، قال: بإمكانه أن يلعب مع البنت، لكنه فضل الزواج العرفي، أكد لي أنه سيلزم أستاذ سالم على إعلان زواجه والآن، وأضاف بحماس: إنه بمثابة ابني. •••
قال المدير - وقد فرغنا من الاحتفال الصغير الذي أقيم في بيته احتفاء بإعلان زواج ابنتي علوية للأستاذ سالم: نحن الآن أصدقاء وأهل، وأنا عندي طلب واحد منك يا حاج إبراهيم، طلب بسيط جدا! - شنو، اطلب أي شيء بسيط أو غير بسيط. - عايز الموضوع بتاع العروق ده، والله أنا عندي مشكلة في الدنيا ما بيحلها إلا الشيء اللي عندك ده، اللي حل مشكلة بتك علوية، حايحل مشكلتي.
قلت له: أنا موافق، ولكن توعدني ما تحدث أي شخص كان لما يدور من حديث بينا الآن، وعد شرف.
قال : أوعدك وعد شرف.
قلت له: الموضوع بسيط، يحتاج إلى رباط بلاستيك النوع اللي بيستخدم في ربط القروش، وورقة صغيرة مقوية وخيط متين، وأستاذ رياضيات جبان، ومدير مدرسة عنده مشكلة معقدة لا أكثر.
يوليو 2004
العاشق
أستاذي العزيز جلال الجميل
أولا اسمح لي أن أبدأ خطابي هذا بقول تعلم أنه مأثور عندي: «قال سيدنا معاوية لابنه يزيد: يا بني من حاول خداعك فانخدعت له، فقد خدعته.» أستاذي، لقد انشغلت كثيرا عنك ولكن تعذرني دائما لعلمك بمشاغل الجندية وغلبتها الكثيرة، ولكني سأواصل ما بدأته في رسائلي السابقة واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. فأنت فوق كل ذلك أستاذي، ولكني أرفض بشدة؛ بل أقولها لك صراحة: إنني لا أتسامح في أن تنظر إلى تركي للمدرسة وانخراطي في صفوف الكلية الحربية كمرحلة جديدة في تطور شبق القتل عندي.
وكما عبرت عن ذلك في رسالتك الأخيرة بالقول: «حيث تتاح لك بشكل منظم قتل شخص آدمي بدمه وبلحمه، بدلا من قتل الكلاب والقطط والأشجار، والتي كنت تسلخها من قشرتها وتدعها تموت تدريجيا في ألم تستمتع به دائما.» هذا يا أستاذي يجانب الحقيقة، بل هو محض افتراء، فدخولي للكلية الحربية كان دافعه وطنيا من الدرجة الأولى فأنت تذكر - بل شرحت لنا ذلك عدة مرات في الفصل - حوادث ديسمبر 1959م، والذي أسمته الصحافة بديسمبر المشئوم - كما قلت لنا بفمك - حيث أحاط الأعداء بالبلاد، من أمريكيين وإسرائيليين من جانب وما يدعمان به المعارضة الليبية بقيادة الخائن معاوية الدكين، وكوبيين وسوفييت من جانب آخر. وهما كما يعرف الجميع يقفان بكل وقاحة مع الحزب البائد أو ما يسمى بحزب العمال بقيادة ذلك الكافر أبو روف سليمان.
ولا أحد ينسى ما تقدمه العراق وسوريا والقاهرة لليسار ماديا ومعنويا واستخباراتيا، وتذكر كيف انحاز الشارع كله - بما فيه أنت - في لحظة واحدة، لحظة صدق وطنية غالية إلى الحكومة الوطنية متمثلة في شخص الرئيس، مؤيدة له كحاكم أوحد للبلاد وقائد نهائي أبدي للجماهير. ولست وحدي من ترك المدرسة وانضم للجيش، آلاف مؤلفة من الشباب والعمال وكبار الموظفين وأساتذة الجامعات المنعمين تركوا مكاتبهم المكيفة والوجبات الساخنة واتجهوا إلى جبهات القتال في الشرق والغرب والجنوب والشمال، حيث كانت البلاد في حالة حرب مع الكثير من دول الجوار وكثير من المتمردين العملاء المحليين، إذا كان هذا هو الحال مع المواطنين - بالتأكيد كانت هناك قلة ضئيلة تمثل طابورا خامسا، فئة خائنة أتذكر - كيف تتهمني بشبق القتل لكوني وقفت مع الحق؟!
حسنا كما كتبت لك سابقا، الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وسأبرر لك كل الأشياء من وجهة نظري أنا أيضا وسوف لن تظلمني. أول شخص قتلته، ولو أن كلمة قتلته بما فيها من قسوة لا تعبر عما فعلت به بالضبط، إلا أن قاموسي اللغوي - عكسك تماما - ليس به كلمات أخرى أكثر تعبيرا، المهم أنا متأكد بعدما تقرأ خطابي هذا ستجد كلمة أبلغ وأدق؛ كان أسيرا هزيلا، في الواقع لم نهتم باسمه فليس للأسرى أسماء، قبض عليه عساكري بعد معركة حامية الوطيس، خرجنا منها منهزمين، وبينما كنا ننسحب فارين - وأنا أكتب بالصراحة التي علمتني إياها، أي: أكتب الأشياء كما هي - إذا بنا نعثر على هذا الأسير مختبئا في خندق صغير وقد فوجئ بنا، رفع يديه مستسلما مستأمنا على حياته، طبعا مقابل التخلي عن حريته.
فأمرت بتقييد يديه وحراسته وأخذه معنا أسيرا، ولكن كنا مرهقين ومنهكين من الجري فوق الصخور والأعشاب الشوكية، وصندوق الذخيرة الأخير والوحيد يهد أكتاف العساكر ويتعبهم، فكر رقيب عجوز - دائما ما أنسى اسمه - بأن نفك وثاق الأسير ونحمله صندوق الذخيرة ونتركه يمشي أمامنا، هكذا كان سلفه يفعلون بالأسرى في الحروب، وكان دائما يقول: الأسرى ديل ما ينفعوا لشيء غير استعمالهم كحمير.
كانت فكرة صائبة وموضوعية أثنى عليها الجميع، وأنا لست إلا واحدا من الكتيبة، فربطنا صندوق الذخيرة على ظهره بحبل يمر تحت إبطيه، ولو أن الأسير كان هزيلا إلا أن بعظمه قوة بغل، ربما وهبها الخوف له، الخوف من الموت؛ لأنه إذا فشل في حمل الصندوق يعلم تمام العلم أنه ميت لا محالة، فإذا لم يصلح لشيء فمن الأحسن (يتفسح).
في الحقيقة كان المشي على الأشواك وبقايا الشجيرات والأعشاب الكثيفة متعبا عندما أجبرنا عدة مرات على خوض برك الطين ومرة أخرى أجبرنا على طلوع جبل صغير، وكان من حقه أن يتعب ضعف؛ بل أضعاف تعبنا نحن، طلب أن نسمح له بأخذ بعض الراحة؛ لأن الحبل الذي أدمى كتفه وإبطيه أصبح لا يطاق وقال: الحبل قاعد يضبحني ضبح.
فانتهرته بلهجة عسكرية آمرة أن يجد في السير: وإلا.
كان يمشي كالسكران، يشوط الحجارة ببوته ويخوض الوحل يقع، يرفعه العساكر على قدميه، يقع، يرفعونه، نهدده، يقع ويقوم مثل السكران أخيرا تكوم تحت شجرة مانجو كبيرة وأخذ يشخر من التعب مثل الثور المذبوح، العرق يملأ ملابسه كلها أما وجهه كأنه جمام، ولكن الغريبة فمه جاف وأبيض، كان شكله مزريا وقبيحا وبدأ يؤثر على نفسيات العساكر، فقلت له: قوم ولا نملاك نار!
وشلته جندي في بطنه لحكمة كان يعرفها العساكر بأن الشلوت في البطن مفيد للرأس القوي.
ضربة عسكري همام آخر على وجهه لحكمة أخرى لا أعرفها أنا، وصرخ واحد في أذنيه لحكمة عادة لا يفصح عنها ضباط الصف، وعندما تكلم قال: الموت أحسن، أحسن الموت، أنتم بشر ولا حيوانات!
وهنا لا بد أن أستخدم سلطتي العسكرية وإلا تعطلنا عن الانسحاب، وربما يلحق بنا العدو، فأمرت بالعد من واحد إلى عشرة كفرصة أخيرة له في أن ينهض ويشيل صندوق الذخيرة وينسحب معنا إلى أقرب نقطة ارتكاز، وإلا أمطرته بالرصاص.
وأخذ واحد من الضباط المشهود لهم بالأمانة والصدق يباشر مسألة العد، بينما جلس البقية يستطلعون وهم يشاهدون الموقف عن كثب وأعرف أنهم خائفون، وكل واحد منهم في سره يحمد الله أنه لم يكن في محل الأسير، والذي أصبحت حياته الآن بين رقم ما وعشرة، أما هو فبدا وكأنه ذهب في غيبوبة عميقة ودائرة من النعاس يصعب الانفكاك عنه، مستهينا بالتهديد. - ثمانية، تسعة، عشرة.
فصرخت فيه منفعلا: يا وسخ، خذ.
طاخ، في منتصف رأسه تماما، إطلاق الرصاص في منتصف الرأس أصبح سمة مميزة لأسلوبي في الإعدام الشرعي. نعم، العبارة المناسبة أو البديلة القتل هي (الإعدام الشرعي)، وجدتها، لقد كنت دائما تثني على أسلوبي الأدبي في الإنشاء، ولكن الجندية لم تترك شيئا في الرأس، حسنا؛ لدهشتي ودهشة جميع العساكر وربما لدهشته هو نفسه أن نهض ومشى سبع خطوات عسكرية سريعة ومقنعة لحد بعيد، ثم وقف للحظة طويلة وممطوطة وقفة مرعبة وصامتة، صمت حقيقي، ثم بدا وكأنه بصدد أن يلقي تحية عسكرية للواء عظيم غير مرئي قبل أن يسقط فجأة، سقطة عسكرية بارعة على وجهه ويموت، منهيا بذلك عرضا جنائزيا جميلا.
انفجر الجميع بالضحك في لحظة واحدة، هي اللحظة ذاتها - اسمح لي أن أكتب كل شيء - التي تبلل فيها سروالي بسائل حار خرج في لذة مجنونة ورجفة لا توصف، أعترف أنه موت ممتع وبهيج أيقظ في نفسي لذة قديمة منسية، ولكنها ليست كشهية سلخ لحاء الأشجار ولا صب الماء الحار على النمل أو قتل القطط؛ حتى لا يلتبس عليك الأمر.
أستاذي العزيز جلال
في الواقع لم أحس ولو للحظة عابرة بالندم؛ حتى عندما عبثنا في جيوبه ووجدنا صورا لأفراد أسرته وصورة اتفق الجميع على أنها زوجته أو خطيبته أو حبيبته أو حتى داعرة ما، له علاقة حميمة بها، سيدة طويلة لها ضفائر مسدلة على كتفيها، ترتدي فستانا قصيرا يظهر ساقها وردفيها - ما أزال أحتفظ بالصورة، وعندما نلتقي اسألني أن أريك إياها - واتضح لنا أنه شخص مثلنا له من ينتظره ويحبه وربما هو عائل لأسرة كبيرة.
بالرغم من ذلك كنت أتمنى وبكل صدق أن يحيا مرة أخرى فأقتله، إذا كان باستطاعته القيام بذلك الاستعراض الممتع مرة أخرى، أن يجعل جنازته تمشي مشيتها العسكرية الفريدة، ما الذي يجعلني أندم على قتله! لقد استخدمت حقا مشروعا تجاهه، فقتل الأسير أمر مشروع وخيار جائز لا اختلاف عليه. وهو نفسه اختار الموت بقوله: «الموت أحسن.» ولقد أساءنا واصفا إيانا بالحيوانات، أيحق له أن يصف الإنسان الذي كرمه الله بالحيوان؟ وفوق ذلك كله أعطيناه فرصة كافية للتراجع عن إصراره على البقاء تحت شجرة المانجو، وذلك بالعد من واحد إلى عشرة. ذلك زمن كاف لشخص يواجه الموت لكي يتخذ قرارا في صالح بقائه حيا!
أستاذي العزيز
أنا حينما أصوغ هذه المبررات أريد أن أؤكد لك شيئا واحدا وهو أن قتلي لهذا الأسير ليس إشباعا لغريزة حيوانية دنيئة أجدك تتهمني بها من وقت لآخر، إن قتلي الشرعي له ليس إلا تمرين عادي وطبيعي وربما - بشيء من التحفظ - عاطفيا، أضيف أيضا أنه بعد موته ارتفعت الروح المعنوية للعساكر. وبالرغم مما كانوا يشعرون به من أرق وعطش وجوع، حملوا صندوق الذخيرة على أكتافهم، وكأنه علبة كبريت فارغة وأخذوا ينشدون أجمل المارشات العسكرية، وهم يقفزون على برك الطين، ويمشون على نتوءات الصخر الحادة وبقايا الأشجار الشوكية المتساقطة على الأرض مثلهم مثل الغزلان خفة ورشاقة وحيوية؛ خذ الأمر من وجهة نظر عسكرية وجند منسحبين ليس من وجهة نظر أستاذ متقاعد يقضي وقته في حياة آمنة داخل منزله، وقدر أيهما أفيد؟!
هل كان علينا أن نتركه عبئا يغرق أنفسنا في طين الإحباط واليأس - وربما وقعنا تحت الأسر - لكسله وعدم مبالاته؟!
ولو أنني بدأت أحس بالغثيان وربما نتيجة المضايقة التي سببها لي السائل - والذي أخذ يخر على ساقي - يغمرني شعور أنه سيلان من الدم، كنت أتحسسه بين الحين والآخر بأناملي آخذا عينة منه لأتفحصها بنظرة سريعة ثم أمسحها على بنطلون الكاكي - في الحقيقة ما كنت أرى ما بأصبعي - إلا أنه بعد تلك الحادثة نفذت إعداما شرعيا في سيدة وثلاثين رجلا، وكانوا يموتون بصورة لا تتعدى المضحكة العادية والمتعة الجنسية المعروفة، ما عدا رجل واحد اسمه «تومي كريستو».
في السابع من مايو 1985م رقيت إلى رتبة عميد وتسلمت قيادة جبهة الحرب الشرقية على مشارف مدينة تسني الإستراتيجية يحيط بنا جيش المتمردين من جهة الشمال والأحباش من الجنوب والإرتريون من جهة الشرق، يعني كنا في وضعية ما نسميه بالكماشة. وضع مثل هذا يحتاج إلى رجل حاسم وشجاع ليس لكي لا يسقط المعسكر؛ فإن المعسكر لن يسقط، نحن نعرف إستراتيجية حرب العصابات، إنهم يهدفون إلى تكبيدنا أكبر خسائر ممكنة في الأرواح والعتاد، فلو أخلينا المعسكر - وهو أكبر معسكر لنا بالشرق - فإنهم لن يستولوا عليه، يجب أن يبقى مصيدة، يجب أن تبقى به آليات ويبقى به عساكر ومؤن كموضوع لشغبهم.
ولكن على قائد الجبهة أن يتخذ إستراتيجية دفاعية هجومية، ذات أقل خسائر ممكنة، ويسميها العسكريون القدامى: «سهر الدجاج ولا نومه»، فإذا هاجمنا العدو ندافع عن أنفسنا، وإذا لم نهاجم رميناهم بالمدفعية الثقيلة والمقذوفات الصاروخية ونحن في موقعنا تحت دفاعاتنا، أما جواسيسنا ومصححو نيراننا فقريبون من مواقعهم، بالتالي جواسيسهم ومصححو نيرانهم يتسكعون بالقرب منا؛ لذا عندما قبضنا على «تومي كريستو» قرب همدهئييت لم يكن سهلا أن نصدق ادعاءه بأنه رجل مريض يبحث عن أعشاب السنمكة - كانت بالفعل لا تنبت إلا على منخفض صغير قرب المعسكر - وهذا الرجل أدخلني في تجربة غريبة وغامضة ومؤذية جدا، ما زلت أعاني من آثارها إلى اليوم، وما زالت تنط إلي وعلي كلما شرعت في القيام بتنفيذ عملية شرعية، ولو أنني لا أعتبرها سوى مؤامرة بذيئة قام بها الشيطان ضدي أنا بالذات - وأنت تعرف مكائده - أقل منها إشارة إلهية ليست في صالحي.
بالعكس أنا رجل تقي جدا وأعتبر نفسي داعية دينيا أفشي المعرفة الدينية بين من أقودهم، ضف إلى ذلك ميولي الإنسانية العميقة - ولقد أبديت أنت ذات مرة ملاحظة تشير إلى هذا الأمر - ويدل على ذلك تبرعي السخي المتواصل للمنظمة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويدل ذلك إحساسي بالغثيان إثر تنفيذ كل عملية شرعية، كما لو أنني ابتلعت ذبابة كبيرة.
ويدل على ذلك بحثي المستمر عن عقوبة أقل من الموت وبإمكانها إسكات الخصم أو تحييده للأبد، ويدل على ذلك اكتشافي لطريقة سهلة للعملية الشرعية؛ حيث لا يتألم المحكوم عليه كثيرا؛ لأنها تؤدي إلى الموت الفوري، وهي إطلاق النار في منتصف الرأس بالضبط، وأتمنى من منظمات حقوق الإنسان ومن المشرعين الأمريكيين أن يأخذوا بها كأسلوب أمثل وأكثر إنسانية من غيره في تنفيذ أحكام الإعدام في سجون العالم.
أستاذي جلال
أنا لا أحب أن أتحدث عن نفسي كثيرا؛ فأنا من أولئك القلة من الرجال الذين لا يجيدون ولا يحبون أن يعرفهم الناس بواسطة ألسنتهم، فلن أخوض في ذلك، دعني أكتب لك عن تلك المؤامرة الشيطانية الغامضة بقيادة من يدعى ب «تومي كريستو».
جاء حرس الدورية برجل فوق الخمسين بقليل، قالوا: إنهم وجدوه يتمشى بالقرب من معسكر همدهئييت، وادعى بأنه مريض ... إلخ، وقد تعلمنا من التجربة ألا نثق في كل ما يقوله المعتقلون ولا حتى في القليل المنطقي منه، قام عساكر الاستخبارات في التحقيق معه مستخدمين - من أجل التوصل للحقيقة، مع العلم بأنها قد تكون في صالحه - كل ما تعلموه في الدورات التدريبية وما استحدثوه هم بأنفسهم، ولكن ظل الرجل على ادعائه، فاعتبر جاسوسا جيد التدريب، فكثير من جواسيس المتمردين يأخذون جرعات عالية ومتقدمة في الخارج، واعتبر أيضا من ذوي الرتب العسكرية العالية. وجيء به إلي كدليل على اليأس وفقدان الأمل في التوصل إلى معلومة مفيدة منه بالرغم من أنهم خلعوا ثلاثة من أظافر رجله وثلاثة من أظافر يده اليسرى، وانتزعت كل رموش عينيه حتى بدا شكله مثيرا للإشفاق والضحك معا، سألته: أنت جاسوس؟
قال - وهو يرتجف من الإعياء: لا، أنا رجل مواطن عادي، كنت أفتش عن سنمكة عشان أتعالج بها، وناس الحلة كلهم عارفني، حلة ضبابين. - حلة ضبابين المحتلنها المتمردين؟ - أيوا، ولكن نحنا مواطنين ما عندنا أي علاقة بالمتمردين نحن همنا في عيشنا وأولادنا. - كويس، لو كنت مواطن ما عندك علاقة بالمتمردين ليه ما جيت وانضميت لجيش الحكومة عشان تحرر بلدك منهم؟!
قال - بعد أن بصق في الأرض شيئا لم أتبينه في حينه، ولكني عرفت فيما بعد أنها إحدى أسنانه: الحرب يقوم بيها العساكر ونحن المدنيين ما عندنا معرفة في الحرب، نحن للزراعة والحصاد.
انظر يا أستاذي جلال إلى الموضوعية التي اتبعتها في حواري معه، وانظر إلى الخبث الذي يجاوبني به، حقيقة يصعب التعامل مع الجاسوس جيد التدريب؛ لأن له مقدرة لا تحدها حدود على إثبات براءته. مما أغضبني، فشتمته بأبشع الألفاظ، وكثيرا ما أشتم الذين بصدد الإعدام حتى إذا ردوا شتائمي أغضبوني وجدت دافعا فوريا لقتلهم، وأكثر ما يؤلم - صراحة يا أستاذي - أن يظل المحكوم عليه باردا وطيبا ووديعا وطائعا إلى آخر لحظة إطلاق النار عليه، مثل هذا التومبي، أما إذا كان لئيما أحمق متمردا فإن قتله أريح للنفس وللضمير وأكثر رفعا للروح المعنوية.
فأخذته ومعي حرسي الخاص، والذين دائما قربي كظلي إلى حفريات خارج المدينة تستخدم كدفاعات دائمة، استخدمتها أنا للتنفيذ الشرعي، طلبت منه الاعتراف كطلب أخير، ولكنه قال بفم مرتجف مملوء بالبصاق الدامي: أنا مريض جيت أشيل سنمكة وبس.
فعمرت مسدسي كإنذار أخير يعرفه العسكر تماما ووضعت فوهة المسدس في منتصف رأسه، وعندما أضع فوهة مسدسي على هذا المكان يصعب علي عدم الضغط على زر إطلاق النار؛ لأنني حينها - وهذا سر أبوح إليك به لأول مرة - أحس كما لو كنت في الثانية الأخيرة قبل الإيراق، والعاشق يعرف كم هي حرجة تلك اللحظة وحاسمة يصعب الرجوع عنها أو تضييعها.
قال: إن لديه أطفالا صغارا وثلاث نساء، وإنه العائل الأساسي للأسرة؛ لأن ابنه الأكبر سيتزوج قريبا ويرحل عن الأسرة، وقال باستطاعته أن يفعل أي شيء أطلبه منه لإثبات براءت. قال كل ذلك - على ما أعتقد - في أقل من ثانية، قلت له ببرود أعصاب: اعترف بأنك جاسوس أو مصحح نيران، ولازم تديني دليل قوي على كلامك، وما عايز منك أكثر من ده.
عندما فقد الأمل قال: إذا لا تقتلني، أعمني، اقطع يدي أو رجلي، فالموت ما شيء ساهل، الموت ما لعب.
الآن وجدت الكلمة التي بإمكانها إشعال فتيلة الشجار بيني وبينه. - لعب يا وسخ تتجسسوا وتقول لعب.
وأخذت أركله بمقدمة البوت لكنه ظل باردا، فقط يحاول أن يعتذر وهو يحك مكان الشلوت، وافتعلت أيضا من هذه الأخيرة خصاما جديدا وانتهرته في غضب. - أيوه، تتلوى زي الكلب، يا جاسوس يا خائن، خذ.
وفي اللحظة التي تحركت فيها سبابتي للضغط على زرار إطلاق النار وجدت نفسي - وهذا ليس حلما ولا وهما ولا تخريفا - وجدت نفسي محمولا على أسنة رماح حادة توخزني في كل ذرة في جسدي، يحملني أقزام بيض لهم أعين لامعة كالمرآة كبيرة ومؤذية، كانوا يسيرون بي نحو بوابة ضخمة صفراء، وهي في الحقيقة ليست سوى جمرة كبيرة تستخدم كبوابة للجحيم، وكنت أعرف هذه المعلومات دون أن يقولها لي أحد، كانت مسجلة في ذاكرتي منذ أن ولدت.
وعرفت أيضا أنه سيرمى بي في الجحيم الآن بعد أن يقرأ ملاك - جاء للتو - كتابا ضخما مكتوبا عليه بحبر أسود - وهو كتاب أسود أيضا - كان يقرأ لي الأعمال الخيرة التي قمت بها قبل أن أحضر إلى هذا المكان على أسنة الرماح، وعندما فرغ كنت أتوقع قدوم ملاك آخر ليقرأ كتاب سيئاتي، ولكن يبدو أن ذلك لن يحدث، مما أوهمني بأنه لا سيئات لي، ولكن حينما أغلق كتاب الحسنات وخزني في مؤخرتي، ملاك أم شيطان؟ لست أدري، وخزة ما زلت أعاني منها إلى اليوم - وسأريك موضع الجرح عندما نلتقي - وهي دليل واضح على أنني لم أتوهم الأشياء، فصرخت بكل ما أوتيت من قوة مما أفزع رجلا وسيما آمنا محمولا على فراش أخضر بهي على غيمة صفراء وتحوم فوقه العصافير والفراشات ويتبعه رهط من الحوريات في ذات اللحظة، عدت حيثما كنت سابقا، أقف خلف الجاسوس، واضعا فوهة مسدسي في منتصف رأسه وإبهامي يتحرك نحو ضغط زرار إطلاق النار.
فابتسمت، ابتسامة على ما أظن كانت كبيرة جدا، وباردة فابتسمت وأنا أحس بوخز الرمح في مؤخرتي ثم ضغطت على زرار إطلاق النار.
قل يا أستاذي: هل كان علي أن أحرمه من الجنة وأحرم نفسي!
تلميذك الزين
ملحوظة:
هذا الخطاب مثل الوثيقة الوحيدة التي قدم بواستطها العميد الزين طه للمحكمة الدولية في لاهاي؛ لمحاكمته كمجرم حرب.
امرأة من كمبو كديس
في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنت أتسكع في شوارع المدينة - كعادتي منذ أن طردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين - سمعت صراخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير، وأصوات نسوة تندفع إلي مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة. كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك، هادئون كانوا دائما رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة، نعم قد يسمع نداء موسى السمح الجزار بين الفينة والأخرى، وقد تتشاجر بائعتان، وقد ... لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال! وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حسا تشكيكيا عميقا هتف في: إن هنالك شيئا ما في سوق النوبة.
وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البري تشممت طريقي إلى المكان.
عزيزة - ابنة كلتوم بائعة العرقي، كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها أخصائية العرقي - مرت أمام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل على كتفها أخاها الصغير منتصرا، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة، بلعابه اللزج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث. كان أعجف صغيرا، له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.
أعرفها جيدا وأعرف أيضا أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة نهارا بالسوق، فكان لزاما على عزيزة أن تحمل منتصرا الرضيع ثلاث مرات في اليوم إلى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشد الحرص على ألا تفوت على ابنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعيد، ويموت؛ لأن منتصرا كان نزقا شقيا وهباشا، فما كانت كلتومة ترغب في إبقائه معها في السوق.
صرخت فيها: يا بت، يا عزيزة.
التفتت إلي بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدت في سعيها إلى حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد ثلاث ثوان، رأيت بؤسا وألما مكثفا متقنطرا على وجهها الصغير الأملس، بؤسا لا يمكن إخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشردي العالم لما وسعوه. وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة أيضا غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخا: يا بنت.
أنا وأصدقائي من أبناء أعيان البلدة ومثقفيها نفضل أن نسكر من عرقي بلح كلتومة، وفي بيتها الصغير في كمبو كديس؛ فهي امرأة أمينة صديقة، حيث إنها لا تسرقنا - كما تفعل الحبشيات وكثيرات من بائعات العرقي - آخذة منا ثمن عرقي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء، أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة «إنني لا أطعم أبنائي الحرام».
كما أنها كانت دائما حافظة لأسرارنا وخبائث فضائحنا، «أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيوانا مثقفا لا أكثر، فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ على صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي - ضابط المجلس - وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه؛ بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين ... إلى آخر مآسي يومي وأسرتي»، فكانت كلثومة - والحق يقال - تسمع باهتمام ولكنها لا تقول شيئا، وكنا جميعا نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا، وبالتالي «عزيزة» كانت لنا أختا صغرى. - يا بنت ... قفي.
أمسكت بكمها القصير، ودون أن تنظر إلي قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات «منتصر» الحامضة المتدفقة تباعا: أمي. - أمي قبضوا عليها. - «...»
إذا فهمت كل شيء وشعرت بأن الدنيا أظلمت فجأة أمام عيني، وأن شعري تحول إلى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي، ولم أستطع أن أقول أو أفعل لها شيئا سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود، تاركا إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و«منتصر» مبللا صدرها بلعابه اللزج الملبن يصليها بصرخاته وندائه المتواصل - بلثغته الحلوة الممتعة رغم مأساة الموقف - لأمه «أتوما.»
كثيرا ما كنت أخجل من نفسي عندما أجدني عاجزا أمام موقف ما، فإذا حدث ذلك بالأمس لذهبت إلى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي: - صدر القرار منك؟ - كنت مجبرا ... فأنت تعرف، لا شيء بأيدينا تماما. - ولماذا كلتومة ... فهي تعول أطفالا وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات. - لم يكن الأمر بشأن كلتومة وحدها.
ولكن حظها، فلا بد - كما تعرف - أن يكون هنالك ضحايا، قالوا: إن الوالي في زيارة جاسوسية في كل مكان، ويجب أن يعرف أن الناس هنا تعمل، تحارب الفساد ... إلى آخر الأوهام. كما أن كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش؛ لقد أخبرها «أحمد صالح.» - ولكنهم وجدوا عندها جالونا من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح. - هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم، فهم غالبا لا يجدون شيئا عند هؤلاء النسوة. - وما العمل؟ - كالعادة نخفف الحكم ما أمكن وبدلا من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يقمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائما. - هذا ما كان يحدث إذا وقعت إحدى «زبوناتنا» في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم «جلال الجميل؟!» - فإن القاضي الجديد لا يشرب العرقي ولكن فقط الويسكي «والأنشا»، ويدعي مخافة الله والتقوى! وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل.
جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه لا تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص إلى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها «مشفقة أو شامتة»، إلا أنها كانت تحاول إخفاء وجهها ما أمكن بين ساعديها، وتحاول بقدر المستطاع وبجدية ألا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يخيل للشرطيين أو القضاة أو الجلاد أو جمهور المتفرجين أنه توجع من وقع سوط «العنج» الأسود المشرب بالقطران، والذي يصلي ظهرها مشقا مبرحا ممزقا لحميات عجفاء بائسة.
وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكانا أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظة: ثمانية وثلاثين إإيه، هوب. - تسعة وثلاثين إييه، هوب. - أربعون، إيييه، آآه، تماما مولانا ... أربعون جلدة.
قال القاضي - وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولا من خلالها أن يكون تقيا عادلا محبوبا وحاسما في نفس الوقت: هيا قومي، استغفري ربك الله وأعلني توبتك، توبة نصوحة أمام الجميع. - نظرت إليه كلتومة نظرة فاحصة عميقة - أحسست أنها معتصرة من خلايا كبدها - ثم بصقت على الأرض بصاقا داميا مرا. وأقسم أن جميع المتفرجين؛ الأعراب ذوو الجلابيب المسودة من الأوساخ، والتي تفوح منها رائحة وبر الجمال والحمير، وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم ، الشماسة، أبناء الشوارع المتشردين، أصحاب المتاجر؛ أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل أن يحضروا المحاكمة. الكلاب الضالة الحذرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضالة أيضا.
أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء ناعقة، «المثقفاتية» مثلي والذين ليس بإمكانهم فعل شيء غير التعليق الذكي الصائب المبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء؛ «الكسرة»، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات، أعضاء المحكمة «المتفلقصين» كمخصيي القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون «معها أو مع السلطة» الجميع، الجميع بدون فرز «أقسم أنهم جميعا أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوف في عمق حلوقهم مر كنقع الحنظل.»
ودون أن تحرك فوهتي عينيها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المجهد شطر بيتها - ساعية بخطى ثابتة سريعة - رغم ما بها من إرهاق، فكان عليها أن تسرع حتى لا تفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.
حذاء ساخن
عندما انتصف النهار في ساعة الملازم حديث التخرج المستبد، كانت الشاحنة المجروس عند التقاطع الرئيسي، وعلى السائق أن يتجه شرقا ويسلك الطريق الترابية المؤدية إلى الموقع العسكري الحدودي، الذي يبعد مائة ميل عن مدينة كسلا، لا عربة غير هذه المجروس العجوز على الطريق، لن تكون هناك عربة أخرى، فالمنطقة معلنة كمنطقة عمليات حربية، حولها تنتشر أودية من الألغام البشرية، أما القرى المحيطة بها فهي خالية تماما من السكان، تسكنها الوطاويط، الحيات، الكلاب، القطط المتوحشة والذئاب، حولها الجنود نصف أموات، نصف أحياء، نصف بشر، يعتصمون بجثث آلاتهم الثقيلة، مدافع الهاون، الراجمات وما لا يدري أحد من المميتات.
الشاحنة المجروس تنهق على الشارع الترابي الوعر وهي تقفز على الخيران التي تظهر فجأة أمام السائق، كأنما يدفع بها شيطان ماكر على الطريق، مختلطة سحابة الأغبرة الكثيفة بحر الشمس الصيفية المذاب في الهواء، كان الملازم حديث التخرج المستبد يركب يمين السائق، لئيما متكبرا، يرى بينه وبين نفسه، بين فينة وأخرى، أن الله ما خلق هذا الكون إلا ليصبح مسرحا لعنجهيته، في الحق كان لا يرى في الكون غير فرقته العسكرية ومعسكره الحدودي، إذا اتسعت مخيلته فالعالم هو السودان، أما بقية الدول فهي دول خائنة وعدوة وحتما سيعينه الله على فتحها، أنا حرسه الخاص، أستقل صندوق العربة الضخم المفتوح على السماء مباشرة، لا تحجبه عن الشمس غير الشمس ذاتها. كنت أشوى ببطء؛ فلست أكثر من مجند يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية كرها، وقد ألحقت بها بينما كنت في سفر إلى الخرطوم، بحثا عن وظيفة ما أسد بها رمق أفواه تخصني، صادفت إحدى الكشات، ولو أن كثيرا مما معي من المكشوشين هربوا، إلا أنني استسلمت للأمر الواقع: فلأي واقع بديل أهرب!
الشمس تشويني، أنا مغطى بغبار أحمر ناعم ملعون، أحمل على كتفي بندقية ج3 ثقيلة، محاولا بقدر الإمكان أن أكون في وضع الاستعداد، وأن أكون منتبها، متفحصا الخلاء حولنا، الصحراء قاحلة، ليست بها شجرة واحدة أو حيوان، دعك من إنسان، تبدو الحجارة الصغيرة عليها من بعيد في أحجام الجنادل، هذه الميزة مكنتني - وأيضا السائق والملازم حديث التخرج المستبد - أن نميز وجود رجل على بعد أميال كثيرة، ملابسه البيضاء تجعله كبقعة كبيرة من الضوء بعيدة، بعيدة تصغر كلما قربنا منها، ثم تبيناه: رجل شيخ يحمل إبريقا وجرابا صغيرا وعصا يتوكأ عليها، ولأن الضابط حديث التخرج المتغطرس لديه وهم أن كل من وجد وحيدا على مسافة من منطقة عسكرية هو جاسوس؛ أوقف الشاحنة المجروس الضخمة: انزل يا حارس، وكن في وضع الاستعداد؛ لأنني سأستجوب هذا الجاسوس، فإذا بدرت منه أية بادرة عدوان أطلق الرصاص في الرأس أو القلب.
وكنت صائدا ماهرا (قناصا)؛ لهذا السبب اخترت كحرس لهذا الملازم حديث التخرج المتغطرس. - حاضر سعاتو.
وكلمة سعاتو هذه تعمل في نفس الملازم حديث التخرج فعل السحر؛ فابتسم.
قال العجوز القوي والذي يحمل إبريقا ومخلاة من جلد الماعز صغيرة على ظهره، يرتدي سروالا وقميصا نظيفين، يمشي حافيا، وجهه نظيف، ولو أنه معروق ويبدو عليه الإرهاق: تشيلوني معاكم لقرية سماورا؟
القرية على بعد عشرين ميلا من حيث وجدناه ، تأكد الملازم حديث التخريج أن هذا الشيخ لم يزرع ألغاما، إلا أنه أفتاه قائلا: دي عربية جيش ولا نشيل شخصا مدنيا، واحمد الله على أننا لم نقتلك، تأكد لنا أنك لست سوى سابل جائع منبوذ لا معرفة لك بزراعة الألغام وأمور الحرب، مجرد ملكي ساكت.
كالعادة آخر من ركب هو أنا، تحركت الشاحنة المجروس تاركة الرجل للشمس: جحيم فوقه، جحيم تحته، وسرنا لمسافة مائة متر فقط، توقفت العربة وعندها قفزت على الأرض في وضع الحماية وسألت: توقفت العربة من تلقاء نفسها؟
أجاب السائق.
وقدر ما حاول السائق إشعال المحرك إلا أن محاولاته كلها فشلت، فنطاس الوقود ملآن، البطارية مشحونة، الأسلاك جيدة التوصيل ناقلات الوقود والحركة فاعلة، لا شيء، لا شيء على الإطلاق، وبينما السائق يحاول مرة أخرى إشعال المحرك إذا بالرجل الشيخ قريب منا قائلا: تشيلوني معاكم؟ - ابعد من هنا، وإلا أمرت العسكري يديك طلقة في صلعتك دي.
ذهب الرجل دون أن يقول شيئا وتحركت العربة لمسافة مائة متر أخرى ثم توقفت من تلقاء نفسها، وبينما يحاول السائق إشعال المحرك إذا بالشيخ: تشيلوني معاكم؟
فانتهره الملازم حديث التخرج المتغطرس، الذي يظن أنه ما خلق الله العالم إلا ليكون مسرحا لخيلائه. - امش يا زول!
ثم خاطبني الملازم حديث التخرج المتغطرس قائلا: إذا اقترب هذا الرجل منا مرة أخرى أطلق عليه النار.
فاقترحت على الملازم حديث التخرج المتغطرس اقتراحا دعمه السائق، قائلا: ليه ما نشيلو معانا ما ح يكلفنا حاجة. - أنا المسئول وأنا اليشاء! أنتو شنو غير عساكر حاجات لتنفيذ الأوامر.
لا أدري كيف أحسست بأن الشخص هو الذي بقوة خفية كان يوقف العربة ثم يطلقها، وأن له كلمة قوية على الأشياء وأنه يستطيع، وأنه يفعل وأنه يريد، لكن كيف أجعل الملازم حديث التخرج المستبد يفهم، ولو أن السائق قد فهم ويبدو ذلك من تقعر عينيه كلما توقفت العربة. سمعت كثيرا عن الأولياء والصالحين، قرأت طبقات ود ضيف الله، لكن كان ذلك لمجرد قراءة كتاب مهم لرجل جامعي مثلي، يجب أن يعرف الكثير عن السلطنة الزرقاء وبنيتها الروحية، كنت أفكر: لن أؤمن بهذه الخرافات إلا إذا رأيت معجزة ما بعيني.
ثم تطورت الفكرة في ذهني، لماذا لم أتمكن من معرفة حقيقة هذا الرجل؟ لماذا لم أقنع الملازم حديث التخرج المتغطرس، إنها فرصة وضاعت، إنه طريقي لكي اعتزل حياة المادة بكل ضغوطها ومآسيها وأعيش نقيا شفافا زاهدا، متجولا في الأرض أنشر المعجزات هنا وهناك. إنه يقودني إلى النقاء الإنساني الروحي، الذي هو حلم كل شخص، أن أمتلك المقدرة على التواجد أينما شئت! أصبح صاحب سلطة على كل شيء حتى على الآلة، ولكن في العودة قد نجده على الطريق، عندها لن أبرحه، إلا بعد أن أعرف كل كبيرة وصغيرة بعد أن أفض أسراره، ولو كلفني ذلك العمر كله.
بينما أنا في هذا إذا بنا نصل قرية سماورا، ذلك بعد مسيرة ساعة كاملة بالشاحنة المجروس، عبر الطريق الترابية الوعرة، قرية سماورا كغيرها من القرى الحدودية، خالية من السكان مسكونة بالذئاب والنسور والصبرات، كثير من الكلاب والقطط التي توحشت، هناك شخص واحد فقط يجلس تحت شجرة على جانب الطريق، عندما توقفت العربة قربه وجدناه هو ذاته الشيخ ذو الإبريق صاحب مخلاة الجلد، الحافي، ذو الوجه النظيف العرق، عندما شاهده الملازم حديث التخرج المتغطرس جحظت عيناه، جف ريقه، حاول أن يهبط إليه، ربما ليقبله في رجليه، ليرجوه أن يسامحه، دمعت عيناه، لكن فجأة أمسك به السائق في كتفه، همس في أذنه، فتصبب الملازم حديث التخرج المتغطرس عرقا غزيرا، أدار السائق المحرك بسرعة رهيبة.
كنت أرقب كل شيء بحذر ولكني لم أحاول أن أفسر ما حدث ولم تكن لدي الرغبة في ذلك وانطلقت المجروس - الشاحنة العسكرية العملاقة - مخلفة وراءها غابة من الغبار وأخذ الغبار يهبط على رأسي وأنا جالس على الأرض متخفيا خلف قطية صغيرة حتى لا يراني السائق أو الملازم حديث التخرج المتغطرس بالمرآة، وعندما تأكدت تماما من أنه ليس بالإمكان رؤيتي خرجت من خلف القطية وذهبت نحو الشجرة التي كان الشيخ يجلس تحتها، ولم أجد أي أثر يدل عليه ، نعم كانت هناك بقايا ماء على الأرض حيث يبدو أنه توضأ، ولكن هي لحظات فقط، ليست أكثر من دقيقة واحدة؛ بل ما يزال جعير المجروس مسموعا وغباره يغرق المكان. وأخذت أصرخ وأنادي بأعلى صوت: أيها الشيخ ... أيها الشيخ ... أيها الشيخ ... ولكن ليس من مجيب.
أخذت أبحث عنه داخل المنازل المهجورة فلم أجد سوى الكلاب والتي ذعرت لرؤيتي، حيث إنها لم تر إنسانا حيا منذ سنوات مضت، كانت الكلاب المتوحشة تنبح خلفي وتحاول عضي وإعاقتي، كانت القطط تخرج هاربة من القطاطي المهجورة فزعة، خرج ضبع كبير من إحدى الحجرات المهجورة وهرب، فهربت خلفه الكلاب حيث تركتني بحثا عن فريسة سوف تصبح أكثر إشباعا، كانت القرية خلاء، في الحق أصبت بهلع شديد وأنا رجل أعزل؛ حيث تركت البندقية على صندوق العربة حتى لا يجدوا في البحث عني من أجل البندقية هكذا تعلمنا: البندقية أهم من الجندي - اترك بندقيتنا عندنا واذهب إلى الجحيم وحدك.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة مساء وأنا ما أزال أنادي وأبحث عن الشيخ طالبا منه - بصراخ حاد - أن يأتي إلي؛ لأنني أؤمن به وأريد أن أصبح له تلميذا وخادما وحواريا، إنني سوف أنفق ما تبقى لي من عمر في خدمته، لقد وجدت الآن طريق الله ولن أتخلى عنها أبدا، جلست تحت الشجرة ذاتها حيث كان يجلس، كنت تعبا مرهقا وخائفا أيضا، الشمس الآن تذهب نحو المغيب وبالقرية لا شيء سوي الكلاب المتوحشة والذئاب وربما الأشباح أيضا، نعم أنا شخص مادي ولا أومن بهذه الأشباح، ولكن الآن آمنت، هناك أمور أعرفها بالباراسيكلوجي والميتافيزك، نعم، هل لبنية عقلي المادية الصرفة أن تؤمن بأن هناك نفرا من بيننا يمكنهم فعل أشياء خارقة للطبيعة؟
أناس يتواجدون حيثما شاءوا وكيفما أرادوا؟ أناس لديهم سلطان على العلم نفسه، العلم الصرف، يمنعون متحركا من الدوران؟ يمنعون بندقية من أن تطلق النار؟ يختصرون الأميال في خطوة، الآن لا شيء فوق مقدرة هذا الإنسان! أعرف أنه لا عربة سوف تأتي بهذا الطريق، وأنني لا محالة مأكول، إما أن تتعشى بي الكلاب أو الذئاب وربما القطط المتوحشة والتي رأيتها بأم عيني تأكل بعضها، قرب الشجرة قطية قديمة، درت حولها، لها باب قديم من الزنك، قمت بدفع الباب ببطء، داخل الحجرة عنقريب كبير يملأ معظم المكان، به هيكلان عظميان لطفلين، أغلقت الباب بسرعة وهربت، جريت بأسرع ما أستطيع على الشارع الترابي الوعر، كنت لا أعرف إلى أين أنا ذاهب، المهم كنت أحس بالطمأنينة كلما ابتعدت عن هذا المكان المرعب، والشمس تذهب بعيدا نحو الغروب: يا أيها الشيخ، أين أنت؟
كان فمه يرتجف وعيناه تزدادان اتساعا كلما بعدت الشمس عنه ولا أحد، كانت القرية تمضي بعيدا عني، بعيدا، بعيدا، إلى أن اختفت أخيرا، توقفت، قرأت المكان من حولي، الشمس كانت خلف ظهري، إذا أسير شرقا، فإذا واصلت السير ولم يعقني عائق ولم يتفجر تحت رجلي لغم فإنني سأدخل الحدود الإرترية بعد مسيرة عشر ساعات، ولكن لماذا لم أنتبه بأن هنالك ألغاما مزروعة بين هنا وهناك ولا أحد يعرف كيف يتجنبها، الآن أحسست بالرعب الحقيقي؛ لأنني إذا خرجت حيا من هذا الحقل سأعتبر نفسي وليا ورجلا صالحا يأتي معجزات ذلك الشيخ الغريب.
وهنا أخذ العرق يتصبب على وجهي وبين فخذي وتحت إبطي، وأخذت أمشي كالحرباء واضعا رجلا على الأرض في خفة وبعد تردد أسحبها، إنه سوء تصرف من جانبي، جعلني أترك الشاحنة المجروس تمضي بدوني، لماذا لم أتريث؟ نعم، إذا تركت هذا جانبا، لماذا عندما هربت من الهيكلين العظميين لم أتخذ طريق المجروس، وهي الطريق الوحيدة الخالية من الألغام، والغريب في الأمر أنني كنت حارسا للمهندسين العسكريين الذين قاموا بزراعة الألغام حول هذه القرية ألف لغم شخصي مغطاة بالبلاستيك حتى لا تتمكن أجهزة العدو النازعة للألغام اصطيادها، ولكن لا ذنب لي، فقد كنت مجرد منفذ للأوامر وأنا في داخلي وصميمي ضد هذه الحرب وقتل الإنسان؛ لأنه لا خصومة لي مع أحد ولا معرفة لي بالذي أحاربه، فكيف أقتله؟
كان يمشي كالحرباء، تماما كالحرباء ...
والشمس تجري لمستقر لها ، وحيد خائف ومتردد، قد ينقذه فجأة في الوقت المناسب، نعم، هكذا في القصص والأحاجي وكتاب الطبقات، فإن الأولياء يتدخلون لإنقاذ مريديهم في اللحظات الحاسمة، وأنا أثق في هذا الرجل، إنه رجل صالح ... إنه رجل صالح، إن لم يكن نبي الله الخضر ذاته! والذي يتجول في العالم منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ناشرا الحكمة والمعرفة بين الناس، من أدراك؟!
ليته عرف من جدته عنه الكثير، لكن وعلى حقيقة القرية المهجورة والقطاطي المسكونة بالهياكل العظمية والقطط التي تأكل بعضها، فكر في الشيخ نفسه، قد يكون شبحا من الأشباح من أدراك؟!
ما كان يؤمن بالبعاتي واعتبره ظاهرة ورثها المجتمع السوداني أو المخيلة السودانية من النوبة أجدادهم قبل ستمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث كانوا يؤمنون بأن لكل إنسان في هذا العالم كا وبا وهذا الباء هو صنو الإنسان، وعندما يموت الأخير يكون الصلة بينه وبين الآخرين في الحياة الدنيا وأنه نسخة عنه، والآن أنت محاصر، الموت تحت أقدامك، ألغام الموت حولك، ذئاب وكلاب وقطط متوحشة، الموت من حيث لا تدري أشباح، ورغم كل هذا كنت متفائلا بأنني لن أموت، قد تعود الشاحنة المجروس للبحث عني إذا افتقدني أحدهم، ولكن يا ترى بماذا همس السائق في أذن الملازم! لا، لا، إنه رجل طيب وصالح، أنا أثق به أنه ليس ب «كا» ولا ب «رجل صالح» وسينقذني! بل سيتخذني حواريا له.
أيها الشيخ، أيها الشيخ!
وكمن يؤذن في مالطا لا سميع ولا مجيب، وأخذ يمشي كما كان يمشي كالحرباء، وتمنيت أن يكون هذا الذي أنا فيه ليس سوى كابوس لا أكثر، سأستيقظ وأجد نفسي في أمان الله وحفظه على سرير في المعسكر وحولي جند يدخنون والحرس يصيح بين حين وآخر: ثابت!
الحياة مدرسة ولكن لا يدخلها إلا الحمقى، مثل هذا الدرس الذي أتعلمه أنا ولا أحد غيري، يستحقه الملازم حديث التخرج المتغطرس.
تذكرت في هذا الحين بالذات إدجار آلان بو، القلب الذي أخبر السر، القط الأسود، برميل خمر أمنتنلادو، قناع الموت الأحمر ، الحقيقة في قصة اغتيال فلادمير، سقوط بيت، ماذا ... جيفا في ديو مور جبو، كنت أمشي وإذا حدث وسلمت وقصصت لشخص ما حكايتي هذه سيظنها ضربا من الخيال، كنت أمشي كالحرباء وغابت الشمس، عجبت لماذا لم يصبني لغم حتى الآن، نعم، إنه لا مجال لذلك؛ لأنه لا توجد ألغام بالأرض طالما توجد الذئاب والحمر السائبة حول المكان.
وبمجرد أن خطرت هذه الفكرة في ذهنه انطلق جاريا، يجب علي أن لا أؤكل سهلا، يجب ألا أستسلم للموت، ومرت بذهنه معارك خاضها؛ جثث تموت بسهولة، يقف الشخص هناك ما أن تطلق عليه رصاصة تصيبه في صدره أو رأسه حتى يستسلم للموت ببرود، هكذا مات أصدقاؤه أيضا، مات جنود كانوا برفقته في الخندق، مات جنود أعداء، هكذا نساء سقطن وأطفال موتى أمام عينه عندما قذف صديق له جرانيت في مخبأ بين صخرتين اتخذته بعض الأسر ملجأ لها، ولكن لن يموت هكذا رخيصا وباردا، وهكذا الرجل التقي العنيد، لا يريد أن يستجيب لندائه ولترحيبه، رجل قاس، لا يلين له قلب، لا يرحم ولا يهزه رجاء، لا شفقة! ليتني! ولكن هل تنفع ليت؟!
وعرف الآن ما لم يهمس به السائق في أذنه وأنه تورط، والأسوأ إحساسه بأنه خدع، والإحساس بالخديعة كالاستحمام بماء آسن، قرأ في سره:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، ولأنه كفر به؛ عرفه أكثر وأوضح، عندما كفر به تفتحت بصيرة كان يعميها الإيمان الكامل المطلق: الكفر مفتاح الفرج.
عند الحادية عشرة ليلا بالضبط - هكذا كانت تشير ساعته - سمع حرس المعسكر يصرخ: ثابت!
وعندما ثبت قدمه على الأرض أحس بشيء يرفعها، لم يسمع دويا كالذي سمعه كل المعسكر واستيقظ عليه الجنود النائمون وانبطح الحرس على أثره على الأرض وأخذ يطلق النار بطريقة عشوائية هستيرية، لقد كان الحارس مرهق الأعصاب نتيجة للسهر المتواصل وعدم أخذ قسط كاف من الراحة، لم يسمع دويا ولكنه رأى ضوءا قويا كثيفا يعم المكان كله، ثم لم يعد يشعر بشيء سوى ظلام قاتم.
يناير 2000م
الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
قال له الملحق الثقافي ذو التغضينات الجميلة على وجهه الثري الناعم الملآن، قال له وهو يقلب شهاداته بكفه البيضاء ذات الأصابع النظيفة الشهية، قال وبشفته ابتسامة مراوغة، ظنها الأستاذ صابر في بادئ الأمر نوعا من مظاهر الثراء التي تعم المكان كله، ولكنه اكتشف بينه وبين نفسه فيما بعد أنها ليست سوى مسحة حزن كان لا بد منها لخلق جو ملائم لما سيقال، قال له: بصراحة يا أستاذ شهاداتك الجامعية كلها ممتازة ومدارسنا في حاجة ماسة لشخص مثلك يمتلك المؤهل.
ثم صمت قليلا قبل أن يضيف بصوت خفيض عميق وكأنه يحدث نفسه: ماجستير في التربية، ليسانس لغة عربية بدرجة الامتياز، دبلوم كمبيوتر مع خبرة في التدريس لمدة عشرين عاما؟ هذا نادر الحدوث.
ثم أضاف وبصوت عال ولهجة حادة بعض الشيء: ولكن لا رجعة فيما قلته لك! لقد انتهى التقديم! كم هو مؤسف.
ثم صمت ولم يكمل، وكأنه يريد من الأستاذ صابر أن يقاطعه، ولكن الأستاذ صابر والذي يعرف أن السكوت من ذهب، كان يحب أن يحتفظ بذهبه، في الحق ما كان لديه ما يود قوله؛ فقد قال كل شيء للملحق الثقافي والذي استجوبه فيما يقارب نصف الساعة، لم يترك شاردة أو واردة إلا أشبعها سؤالا؛ بدءا من عمره وانتهاء بصحة زوجته. لذا عندما لم يكمل الملحق الثقافي جملته نهض واستأذن أن ينصرف، ولكن الملحق ذا الأصابع البيضاء الشهية أشار إليه بالبقاء.
بعد أن أجرى عدة مكالمات، ابتسم وجهه السمين الثري مظهرا أسنانا منتظمة عليها صفرة فاقعة وقال: أنت رجل محظوظ، ورد للملحقية عقد قبل خمسة دقائق، أي: أثناء وجودك هنا، على هذا المقعد، وطلبت الموثق أن يحضر الآن ويحاورك في شأنه.
قبل أن يجد الأستاذ صابر وقتا لكي يبتسم، إذ بالموثق يدخل وفي يده حقيبة. - الموثق أبو يزيد الدينوري. - الأستاذ صابر الدقيس.
لأبي يزيد الدينوري أيضا أنامل بيضاء شهية، يجيد التحدث مستخدما أصابعه السمينة والتي كثيرا ما أسهمت فيما بعد في إقناع الأستاذ صابر الدقيس، قال أبو يزيد بعد أن جعل وجهه النظيف يبتسم: إنه ليس عقد تدريس كما كنت ترجو وكما مؤهل له، ولكنه أكثر فائدة ودخله ألف مرة ضعف دخل مدرس مؤهل مثلك أو يزيد، ولكن به إشكالية واحدة هي أنه مستعجل جدا وسري، ويجب تنفيذه خلال ساعتين فقط من وصوله القنصلية.
في الحق مل سريعا الأستاذ صابر حديث أبي يزيد الدينوري حول العقد دون النفاذ إلى نقطة إجرائية سريعة ومفيدة، ولكن بطبع الأستاذ صابر أنه لا يتعجل الأمور، ولا يحب مقاطعة المتحدث مهما أمله حديثه. وأخيرا قال أبو يزيد وهو يعتدل في جلسته السمينة الهادئة، والتي ما كانت في حاجة لأي استعدال: إنه عقد سجين.
صاح الأستاذ صابر الدقيس بصوت أحس فيما بعد أنه كان عاليا بعض الشيء ولا يناسب الجو الدبلوماسي الذي هو في قلبه: عقد سجين؟
قال أبو يزيد بثقة وعلى فمه ابتسامة ثقيلة باردة: نعم، عقد سجين.
ثم واصل بثقة مفرطة وآلية: ستبقى في السجن نيابة عن أمير، وسيدفع لك مقابل ذلك بسخاء منقطع النظير. - قال الأستاذ صابر - وقد بدا منفعلا قليلا: أنا حياتي كلها لم أدخل الحبس ولا مرة؛ بل لم أقف أمام قاض أو شرطي، فكيف لي أن أدخل السجن؟!
قال أبو يزيد وقد بدا طيبا ومتسامحا وخيرا في ذات اللحظة؛ بل مبشرا عن جنة غامضة، في برود معلوماتي كبرود الكمبيوتر: يا أخي، يا أخي هون على نفسك، السجن عندنا في بلدنا ليس كالسجن عندكم هنا في دولة فقيرة تعاني من عسر خدماتي عام مزمن، أضف إلى ذلك أنك ستسجن باسم أحد الأمراء المرموقين، أي: أنك ستكون في محل أمير، ممثلا له متمثلا فيه، أي: أنت الأمير ذاته في السجن، فتخيل كيف يكون سجنك!
أنت فيما يشبه جناحا بقصر أميري، حجرات متسعة مكيفة صيفا وشتاء وعندك أحدث ما أنتج العقل الياباني من تلفاز ذي شاشة سحرية به الصورة ذات أبعاد ثلاثية وألف قناة عالمية في اشتراك دائم بالقمر الصناعي العربي أراب سات رهن لمسك جهاز الرموت كنترول، جهاز فيديو وكمبيوتر متصلا بشبكة الإنترنت يقوم بتسليتك وتزويدك بما تشاء من معلومات وبإمكانك أن تستثمر سنوات سجنك الأربع، في التحضير للدكتوراه، فيما تشاء من جامعات العالم، وكل جامعات العالم رهن مكالمة تلفونية منك لأميرك، لا أكثر، لديك مطبخ مهيأ به كل ما سمعت من أدوات، وما لم تسمع به، وستدهش لرؤيته بأم عينيك بين يديك، ولن أسمي لك شيئا لكني سأترك لعنصر المفاجأة مجالا.
الطعام وما أدراك ما الطعام؟! قبل كل وجبة بساعة يأتيك طباخ السجن بقائمة تحتوي على مائة صنف من الأطعمة، ومائتين من المشروبات، وورقة فارغة لكي تكتب فيها ما تريد أكله، وهو لا يوجد ضمن المائة صنف. تفاحك من لبنان وحيفا، وعنبك من عرائس كروم قبرص، وإذا شئت أن تطعم مما تطبخ زوجك يوميا، لكان لك ذلك، يا أخي، بالسجن عالم من المفاجآت والدهشة، وكيف لا وأنت أمير؟
الرياضة! القراءة! الجري! تنس الطاولة، ما هي مواهبك؟ بل ما هي أحلامك؟ ماذا تريد في هذه الدنيا؟ ما هواياتك؟، شطرنج؟ هل تلعب الشطرنج بالكمبيوتر؟ لك طبيب خاص، ولك ممرضتان تجدهما قربك وقتما شئت، وبإمكانك اختيارهما من بين أجمل الفتيات المستوردات من شرق آسيا، وأخيرا أخذت السجون في بلادنا تستورد فتيات من روسيا بعد انهيار الشيوعيين هنالك، بالسجن يا أخي ... بالسجن يا أخي ...
كان يحكي في برود معلوماتي قاس، أما الأستاذ صابر الدقيس، فقد ذهب بفكره وقلبه بعيدا، بعيدا في مجاهل الحلم الواقع، الغد البائس، الأصدقاء.
وداعا أيها المعلمون، أيها البائسون، حشرات العدس والفول والشاي الماسخ، ديدان الطباشير المنقرضون، يا أحبائي المساكين.
هتفوا بصوت واحد أجوف: فور وصولك أرسل إلينا عقود مساجين، ألف عقد وعقد، اطلب منهم أن يفتحوا سجونا جديدة، وقل لهم هناك مساجين في انتظار السجن! فمدوا إليهم يد العون والمساعدة، يمد الله في أعماركم مدا.
السجن يا أخي في بلادنا، جنة، جنة، جنة على الأرض، يا أخي، وما نقدمه إليك مقابل ذلك مال سخي يدهشك، فحين توقيع العقد، نسلمك شيكا بمبلغ أربعة ملايين دولار، يمكنك إيداعه بالبنك باسم زوجتك أو أحد أطفالك، شهريا سيضاف لرصيدك بإشارة بنكية مبلغ ألف دولار، هذا فضلا عن نثرياتك ومصروفك الشخصي، أضف إلى ذلك المعاش الوراثي، لحياة آخر فرد من أسرتك، يا أخي، هذه هي فرصة العمر، والعمر فرصة واحدة لا غير، وإن أميرك هذا رجل كريم شهم، وما ألصقت به من تهمة إلا مؤامرة خبيثة دافعها الحسد والغيرة، والذين يعرفونه عن قرب، الملوك والأمراء، يشهدون أنه ليس باستطاعته إيذاء نملة، دعك من ارتكاب جريمة! وكان بإمكانه ألا يمثل أمام القضاء ولا يرضخ لحكمهم، ولكنه يريد للعدالة أن تأخذ مجراها، فنحن ومهما يقول الغرب عنا إلا أننا ديمقراطيون في عمق أخلاقنا وثقافتنا. - يا أبي، بابا صابر، قل لهم يوفرون لنا حجرتين ملآنتين باللعب والبسكويت. - وأنا أريد كوكاكولا أيضا. - قل لهم يا أبي إنهم لا يرفضون طلبك، وإلا بلغت الأمير ليقوم باللازم. - هل يسمح لي بزيارتك؟ أنا لا أستطيع البقاء من دونك، ولا أتحمل مسئولية التربية، فأنت تعرف أن الأطفال يفسدون دون رعاية والدهم؟!
ليس بإمكان أحد زيارتك وأنت في السجن؛ لأنك مخفي تحت اسم ولباس أمير ووجهك سيظل مغطى بحجاب دائم، مثلك مثل كل السجناء الذين ينحدرون من أصول عريقة وأسر لها مكانة اجتماعية أو سياسية كبيرة، فهم لا يحبون أن يميزهم أحد، وماذا تريد من زوجتك، هل ستحتاج إلى زوجتك؟ - هل قالوا لك أربع سنوات؟
ألا تشتاق للمشي في الشوارع المشمسة وأكل التسالي تحت أشجار المهوقني قرب المدرسة؟ ألا تشتاق للصلاة بالزاوية مع الأحباء؟ ألا تشتاق لقهوة الظهر، ونسة العشاء، ألا تشتاق لأطفالك وهم يتواثبون على حجرك، وبأيديهم بقايا حلوى وطبيخ، بصدورهم شيء من الريال، فيلوثون ثيابك ولا تستطيع أن تنهرهم إلا مبتسما، ألا تشتاق ...؟ - لا يهم، لا يهم، عندما تعود ستعوض كل ذلك وأكثر، ستعود لأطفالك بالمال الوفير، وحينها: سحقا للملاريا، سحقا لسوء التغذية، سحقا للرمد، سحقا ... - لا تكن عاطفيا أكثر من اللازم، السجن يا أخي بالنسبة لك طوق نجاة، وأعرف أنك ستفتقده يوم خروجك منه. - ومن يعلم، فقد يصدر عفو ملكي عام ويشمل أول ما يشمل أنت، وتكون قد أفدت من العقد كما لو أنك قضيت السنوات الأربع. - سافر، سافر، سافر، أنت الآن في سجن كبير، فما يهم أن تدخل حجرة منه، هي جنة حقه. - أمامك ساعتان للتفكير، اجلس في المكتب المجاور واستشر نفسك، ولا تشغل نفسك بإجراءات السفر، جوازك، الكشف الطبي، إيصال مصروف أبنائك، أو حضورهم لوداعك، فكر يا أخي؟ - أنت ترفض نعمة الله، سجن ... أهذا سجن! الذي أنت فيه الآن، ألست أنا مدير المدرسة، وإنني وريث لمال تعلم أنت قدره، إذا وجدت فرصتك هذه فإنني لن أتردد لحظة واحدة في الموافقة، هذا رزق ساقه الله إليك. - أقول بصراحة، أنا متشككة في هذا الموضوع؟ هل هناك أمير يسجن؟ إنهم ربما يودون سجنك بدلا عن تاجر مخدرات ثري، أو أي شخص، المهم الأمر برمته ليس مفهوما لدي. - دعيني أقول لك بصراحة أيضا: إنك امرأة أحادية النظرة دائما تنظرين إلى الأمور من زاوية الظل، الزاوية العمياء، تفاءلي لمرة واحدة في حياتك. - موافق، موافق، متى السفر، أريد أن أسافر الآن. - أقرأ العقد أولا.
في يوم الثلاثاء الموافق الأول من مايو 1997م، وعند العاشرة صباحا وبينما كانت زوجته، المعلمة بمرحلة الأساس، تستلم حوالة بنكية بمبلغ أربعة ملايين دولار، ولولا أنها كانت مشغولة البال بأسئلة ملحة في رأسها: لماذا لا يخبرني؟ هل كان يظنني سأقف دون سفره؟ هل سأحرمه وأحرم أبنائي كل هذه الثروات؟ لماذا يسافر هكذا فجأة ودون علم أحد؟ وأيضا، لولا أنها كانت مأخوذة ببريق الدولارات الخضراء، ذلك البريق الفسفوري الآخذ بالألباب، لسمعت صوت المذيع الرخيم يعلن إعدام الأمير حران بن البحر المجيعد بعد محاكمة سريعة وسرية إثر قتله لوالده الشيخ المجيعد، وقد تم إعدامه صبيحة الأمس بالكرسي الكهربائي، ووريت جثته الثرى، بصمت تام.
2000
صاحبة المنزل
1
هو شخص عادي، عادي مثلك، يعشق السلام ويحب أن يكون آمنا محبوبا، فهو مثلك يحب أن يكون محاطا بالنساء الجميلات ولكن المرأة الجميلة عنده هي ليست مارلين مونرو أو صوفيا لورين ولا حتى ملكة جمال ملكات جمال العالم.
المرأة الجميلة عنده هي المرأة التي تقبل أن تذهب معه إلى مسكنه، أو وجره كما يسميه، حجرته الطينية الغبشاء وتجلس على عنقريبه المتهالك العجوز ذي اللحاف المتسخ ببقايا الصاعوط وكاسات العرق الأخيرة، والتي قد يضطر إلى شرابها وقد بلغ السكر أشده فتندفق على اللحاف مذيبة بقايا الصاعوط فيشكل المزيج خرائط بائسة.
فهي إذا امرأة بالغة الجمال إذا شربت من جركانة الماء المملوءة منذ يومين، التي بنى الطحلب على جوانبها - أخضر لزجا وماسخا - مستعمراته، إذا هي أجمل من هيلين طروادة إذا تمطت على عنقريبه ثم ... نامت، هو شخص عادي وبسيط مثلك، فلماذا لا يهيم بالصبية الردفاء التي تبيع السمسمية عند الحنية الصغيرة قرب بيته، الصبية التي عرف أنها جميلة منذ أول جملة قالتها له عندما استدان منها ولأول مرة قطعة سمسمية كبيرة. - أأنت الذي يسكن ذلك المنزل؟
مشيرة بإبهامها الرقيق - رغم سمنته - نحو وجره.
2
صاحبة المنزل، صاحبة الحجرة الطينية الغبشاء، والتي يتخذها وجرا لنسائه الجميلات وقلعة تحميه إلحاح الدائنين ولجب عسكر الخدمة الإلزامية.
قد تبدو هذه المرأة بمقياسك للجمال، هي أجمل سيدة تقع عليها عين في مثل تلك الحارة ولن أصفها لك، ولكني أهمس في أذنك بأن تنظر إلى التليفزيون الآن وإذا بدت أمامك مذيعة لا يهم من تكون تمعن في وجهها فهي تشبه صاحبة المنزل كثيرا عندما تعمل فمها في اللغة؛ لأن المذيعات - كما تعرف - عندما يلوين شفاههن وهن يحاولن إخراج الكلمات من بين أحمر الشفاه والأسنان المطلية بماء الفضة، فهن يتشابهن كثيرا في تلك اللحظة، يشبهنها وهن يدللن اللغة فيخرجنها مخنثة أو دائخة من عطر الفم الكيميائي المخلوط بروح الأناناس أو الليمون.
ويمكن أن نضيف إلى هذا الجمال الواضح البين كرمها؛ فهي تهبه يوميا وجبه كاملة وحتى صبيحة الأمسية المشئومة، والتي ضبطته فيها يراقد الصبية الردفاء بائعة السمسمية والتي كانت في تلك الأمسية أجمل امرأة في العالم. حتى بعد هذا الحدث الرهيب لم تكف عنه يد العطاء ولم تسأله عن إيجار الأشهر الثمانية المنصرمة، بالرغم من أنها انهالت عليه ضربا مبرحا بعصا مصنوعة من أحطاب الكتر، ضربا لا رحمة فيه ولا مخافة من عذابات يوم الحساب، وعندما سقط مغشيا عليه أخذت تركله في بطنه وصدره ثم أهالت عليه التراب ثم صبت عليه ماء الجركانه المطحلب البارد، بصقت عليه مرارا، ولو لم يمنعها بعض الحياء النسائي والذي عادة ما يصطحب جمال المذيعات لتبولت عليه ثم تبولت عليه.
كانت قاسية وعنيفة بشكل مفاجئ ومباغت مباغتة شلته تماما عن التفكير؛ بل ذهبت بوعيه وشتتت فتاة المتعة الإنسانية العميقة، والتي كان يقتاتها بكل سلام وبراءة من بين ردفي أجمل امرأة في العالم، صبية السمسمية، تلك القسوة التي عجز عن وصفها لصديقيه بابكر المسكين ومايكل أكول عندما زاراه في وجره صبيحة الليلة المشئومة، فقط اكتفى بأن خلع ملابسه وأراهما ظهره، ثم أعطاهما رأسه الذي ما زال متروبا ومطيونا بماء الجركانة مطحلبا ... ثم أراهما أذنيه المعضوضتين ثم ساقيه المكلومتين ثم سألهما عن آمنة، عن عينيها الحلوتين البريئتين وعن ضرسها المسوس، وهل ما يزال يؤلمها؟ ثم أكد لهما أن اللكمات التي تلقاها من هذه المرأة كفيلة بقتل ديناصور وليس بني آدم مسالم وطيب مثله.
ولو أن الموقف كان في قمة المأساة إلا أنهما انفجرا بالضحك وضحك هو أيضا، بالرغم من الوخزات التي كان يحدثها الضحك في ظهره ورئتيه، وعندما سأله مايكل أكول عن مصير الردفاء، قال: لا أعرف عنها شيئا، لقد كنت في شبه غيبوبة، فقط أعرف أنها اختفت عارية؛ لأن ما تجلسان عليه الآن هي أثوابها.
سألهما عن آمنة وعن كشة، الخدمة الوطنية الإلزامية، قال له بابكر أن فوال المحطة الوسطى دايم السؤال عنه، كم طلبا من الفول أكلت منه بالدين؟ ثم أضاف وهو يحملق في جرح بساق صديقه المغضوب عليه: لقد أصابتك لعنات أم بخوت صاحبة الشاي، وصاروخ الكيف ولعنات كل فوالي العاصمة حتى بائعات التسالي وفارشي الكتب على الرصيف وبائعات عرق البلح والداعرات.
فرد مايكل أكول مبتسما: أيهما أهون عند الله الموت جوعا أم الأكل بالدين؟
قال بابكر وهو يبصق سفة صاعوط : ولكن السكر بالدين، والمزة بالدين ، وحتى النساء بالدين؟!
ألم يكن هذا ما يسميه خطباء الجمعة بالإثم المركب؟
ضحكا، فسي فسوتين متتاليتين، سأل عن آمنة أحس براحة نفسية عابرة، سأل عن الكشة ونتيجة المعاينة الأخيرة، سأل عن آمنة وما إذا كانت ما تزال تتردد على المركز الثقافي الفرنسي باحثة عن عمل أو تسهيلات لتأشيرة دخول لفرنسا، بعد أن خاب أملها في اصطياد ضربة حظ اللوتري الأمريكي، طلب سفه صاعوط.
3
بصق سفة السعوط، قال: إنه لم يقابل آمنة منذ أكثر من أسبوع، فقد بقي بحجرته سجين الدائنين وعسكر الخدمة الإلزامية، الآن حبيس المرض، طلب سفة صعوط أخرى، فقدم إليه مايكل أكول سيجارة كان يحتفظ بها في جيبه بعد أن دخن نصفها مناصفة وبابكر المسكين في الطريق، سأل عن آمنة وهل وافق الطبيب على خلع ضرسها.
4
علي المنضدة الصغيرة المصنوعة من الفلنكة كان وعاء الطعام، أرسلته صاحبة المنزل في الصباح الباكر مع طفل صغير كالعادة، بالرغم مما حدث بالأمس ... وكأنه لم يحدث شيء؛ بل وكأن ما حدث لم يكن سوي مواجدة تزيد من التقارب الإنساني وتقوي العلائق الاجتماعية، فكان الإفطار دسما وشهيا جعل ثلاثتهم يتذكر الوجبة الملائكية - كما تسمونها - والتي تطفلوا عليها بقاعة الصداقة، وهي عبارة عن مأدبة عظيمة أقامتها أسرتان ثريتان احتفاء بنكاح وقع بينهما، فدخلوا كالمدعوين ثقة وادعاء للغنى - ولو كان ذلك على مستوى السلوك فحسب؛ لأن مظهرهما الخارجي كان يدل على البؤس والعطالة - فإذا رآهم أهل العروس ظنوهم من أصدقاء أهل العريس وإذا رآهم أهل العريس ظنوهم من أصدقاء أهل العروس، ولم يكتشف آخرهم إلا بعد أن شبعوا وأتخموا بالمحشيات والمشويات والمقليات والسلاطة، وحينما تذكروا آمنة وأنها الآن ربما تتلوى جوعا، فهل نبخل عليها بفرخة سمينة مطبوخة بالبهار والسمن البلدي محشوة بالزبيب والزيتون وما لا يعلمون؟!
وأمام دهشة مئات المدعوين الأثرياء، تلك الدهشة المنعمة السمينة المشحونة بالازدراء وعفن الدونية، حمل بابكر المسكين الفرخة عارية تقطر سمنا بلديا وتفوح منها رائحة البهار الهندي، وخرجوا من مطعم القاعة مسرورين يغنون بصوت واحد نغما شائعا رخيصا يناسب ثراء المكان وعقد المناكحة المحتفى به. سادتي: أنا وصديقاي نحيي فيكم روح الثراء، ونبارككم أبدا ما تناكحتم وشم بعضكم فيخ بعض.
5
سأل عن أمل، قالا له: إنها أنجبت ولدا واحدا فقط على الرغم من ضخامة فخذيها وسمن زوجها والذي في الغالب يزن أكولين ونصف بابكر، أي: ثلاثة أكول إلا ربع الأكول، قالا: إنها لا تزال غنية وكلما قصدا منزلها أنقدتهما مالا لا يستهان به يمكنهما من شراء الصاعوط وركوب المواصلات، وقد يتبقى لهما ما يساوي نصف زجاجة العرق ومزة رخيصة قد تتعدى الزيتون الأسود أو الفول المدمس.
قال إنه طوال هذه الأيام المقضية في حبسه كان يكتفي بوجبة واحدة صباحية يتيمة والتي تهبه إياها صاحبة المنزل مجانا ولله وحده، ويقضي يومه في قراءة وول سونكا استعدادا لدراسته أكاديميا في إطار إعداد بحث عن الصورة الشعرية في الأدب الإفريقي الحديث.
وأحيانا وفي بعض المساءات تشاء سيدة ما تكون أجمل امرأة في العالم، وغالبا تقوم بهذا الدور الصبية الردفاء بائعة السمسمية، فتتسلل إلى حجرته حاملة معها بعض السمسمية وتحكي - بينما يلتهم هو السمسمية التهاما - عن صديقتها الوحيدة والتي تبيع التسالي وحلاوة فوفل عند بوابة السينما الوطنية، التي بإمكانها حفظ أي أغنية هندية بسماعها مرتين فقط، وهي أيضا تشبه الهنود في طباعها وأيضا ملامح وجهها، فلها وجه مدور كالقمر ذو بشرة ناعمة شفافة يمكن من خلالها رؤية شرايين دمها، شريانا شريانا، وبين حاجبيها لها شامة ربانية.
والذي جعلها هندية أكثر وأكثر هو أنها تستخدم كريم ديانا مخلوطا بملعقة من اللوكسيدار وملعقتين من الكلى وقليل من الكبريت الأصفر، مما جعل وجهها أبيض كالقمر المكتمل وأظهر شامتها الربانية السوداء بين حاجبيها الكثيفين، آه، يا ليتك رأيتها، حمدا لله؛ لأنك إذا رأيتها ما كنت تهتم بواحدة مثلي لا تستخدم سوى صابون سبتو، لا، لا تظن أنني أستخدم سبتو لأنني فقيرة، لا، ولكن؛ لأن الديانا واللوكسيدار، والكلى وحتى الكليرتون والأمبي تسبب لي حساسية.
ألا ترى هذه البقع السوداء بوجهي، إنها ليست خلقة ربانية ! ولكنها رغم جمال صديقاتها وتهندها ، إلا أنها تعيب عليها قلة أدبها؛ فقلبها فندق، وحبها وغرامها البوليس والجيش وأظنها تحاكي بذلك سيتا حبيبة كومار أبشلخة الخائن، فأنا عكسها تماما لا أذهب إطلاقا لبيوت العزابة ولا ميس الضباط، وأكره ما أكره العسكر والبوليس، وأفضل عليهم بمليون مرة: الطلاب، وكانت تحكي له بينما يلتهم هو السمسمية التهاما، وعندما يفرغ من التهام السمسمية يلتهمها هي، يلتهمها بحرفية وأستاذية تثير إعجاب صديقتها خدوج الهندية به، وحسدها عندما تقص عليها إثر كل مغامرة تفاصيل شبقه وحبه لها.
أخرج بابكر كيس تمباكه، ضغط على الكيس في عدة اتجاهات مختلفة بأنامله مكونا كرة صغيرة من الساعوط، أخرجها بميكانيكية، رفع شفته العليا فبدا كحمار يتشمم بول أنثاه، ثم وضع كرة الصعوط بكل أناة ودقة ما بين شفته العليا ولثته، ثم بصق على الأرض حبيبات صغيرة من التمباك وكح، سأل عن آمنة، عن الإمساك المزمن والذي تعاني منه منذ شهرين؟! كان سيسأل عن آمنة أيضا وعن خديها اللذين يصيران شديدي الاحمرار عندما تجوع أو تقابل - صدفة - أحد دائنيها، أو عندما تقرأ نتيجة المعاينة والتي دخلتها مؤخرا ولم تجد اسمها بين من تم اختيارهم للخدمة، والذين تتفوق عليهم أكاديميا، كان سيسأل لولا أن صوتا نسائيا أخذ يصيح في الخارج مناديا باسمه، صوت سيدة يعرفه تماما ويخافه، فبغير ما شعور منه صاح مرعوبا: هي، هي، هي!
قالها كما لو أن جنديا ينبه رفيقه على ألا يطأ اللغم والذي على بعد نصف خطوة من رجله، هذا الأسلوب هو الذي أرعب بابكر المسكين ومايكل أكول وشل تفكيرهما فوقفا على رجليهما في لحظة واحدة هي اللحظة ذاتها التي ولجت فيها هي الحجرة، لم يبد عليها أنها قد فوجئت بوجود مايكل وبابكر معه بالحجرة، ولكنها تفحصت مايكل أكول بعين نافذة.
كانت سيدة جميلة بغير مقياسه بمقياسك أنت، صغيرة، تلبس في احتشام تام وعلى رأسها خمار، ثم فوق الخمار يلتف ثوبها المتواضع بأنامل كفتيها، تلتف خواتم من الذهب عليها فواريز بألوان شتى، كما أنه لم يكن بمقدور احتشامها إخفاء فتنة جسدية جامحة تخصها، كان صوتها رقيقا وناعما الشيء الذي جعله يعيد النظر في حقيقة أن هذا الملاك الماثل أمامه هو شيطان الأمس ذو القبضة الحديدية والعصي الكتر، والذي كاد يقتله ضربا.
صافحتنا واحدا واحدا واضعة أناملها الرقيقة في أكفنا العجفاء، ولكنه استطاع استشعار قوة رهيبة تكمن وراء تلك الأنامل الناعمة كالزيت، قالت - برقة متناهية كأنها تخاطب عصفورا أثيريا: إنني آسفة لقد كنت متوترة بالأمس. وقالت إنها إذا أثيرت: إذا استغضبت تتملكني روح شيطان ولا أستطيع أن أتمالك نفسي، وبإمكاني تحطيم كل ما يقع عليه بصري حتى ولو كان من الحديد الصلب، وأكدت - وبعينيها دميعات رقيقات صافيات كالبلور ود بابكر المسكين في غرارة شبق روحه لو أتيح له لحسها - إن الله وحده هو الذي نجاه من موت محقق، ثم أجهشت بالبكاء وهي تجلس على منضدة صغيرة من الفلنكة، وهي الأثاث الوحيد بالحجرة بالإضافة إلى العنقريب العجوز القصير ذي الحبال المزيفة. ببكائها أحس ثلاثتهم بطمأنينة بالغة وهم يراقبون إسحاح الدميعات الصافيات كأنها قطرات ندى على بتيلات غاردنيا.
أخذ هو الآخر يعتذر عما بدر منه من سلوك أدى إلى استغضابك أيتها الجميلة، هذه الردفاء التي لا أحبها وأكره سمسميتها ووجهها السبتوي، وتحدث بابكر المسكين عن القيم والأخلاق السامية والتي لا تمس، وهو منتعظ المفعال، في ذات اللحظة متخيلا وجهها الصغير المدمع في عطش كوني لا رواء له.
فتململ مايكل أكول في مجلسه وهو يسمع كلمات الخوف تخرج من بين فكي بابكر المسكين المرتجفين وتحت عينيه الزائغتين، غير أن هذا لم يمنعه من الإدلاء بدلوه متحدثا عن بنيات الزمن الشريرات، مشيرا بوضوح خبيث للصبية الردفاء وبطريقة ميتافيزيقية كان يشير إليها هي في ذاتها.
بصق بابكر المسكين سفة الصعوط في الخارج قرب باب الحجرة ونهض خلفه مايكل أكول استأذنا للانصراف، ولكن سيدة المنزل والتي أجلستهما قبل دقائق على العنقريب قربه أصرت على أن يحضرا الغداء معهما، وهو الآن معد وسأحضره حالا فابقيا، خوفا من استثارة غضبها ولأننا - نعلم - لن نجد غداء في أي مكان آخر في الدنيا : أيتها السيدة المعطاءة ملكة بطوننا يا ربة البيت ذات الأدمع البلورية، نحن نحبك ونخاف منك. •••
رقد ثلاثتهم على العنقريب العجوز، وأخرج مايكل أكول من حقيبته مختارات من شعر هنري ميشو، وعندما هم بقراءة قصيدة ريشة تحدث عن الشاعر مارول مارول، ثم طلب من بابكر المسكين قراءة قصيدة
The Foe
بصوته الحلو، ولكن بابكر تحدث عن انتحالات أدونيس أو ما سماه سرقاته من الأصمعي والنفري، ثم أخذ ثلاثتهم يغنون لمريم ماكبا، ثم تعاطوا التمباك، مرة أخرى سأل عن آمنة وعن الكشة والمعاينات للخدمة العامة في جملة واحدة، قال إنه لا يرغب في شيء في هذه الدنيا غير أن يقبل آمنة قبلة واحدة في شفتيها، ثم يقول لها باللغة الفرنسية: أحبك! ولكنه لا يعرف اللغة الفرنسية، وهو أيضا لا يستطيع أن يقبلها.
إذا ما جدوى أن نغني يا آمنة ما جدوى هذا الخريف، بينما هم يحكون عن آمنة وسارة وماريانا إذا بصوت سيدة يأتي من خارج الحجرة الطينية الغبشاء فهتف مذعورا. - إنها، إنها، إنها.
الردفاء بنت السمسمية، إنها دائما تختار الزمن الخطأ.
قال مايكل أكول وكان بصوته رجفة خفيفة حاول إخفائها عن صاحبيه، فخرج صوتا مخنوقا بائسا مشحونا بالجبن وأكثر ارتجافا: ما العمل؟
ولكنها لم تدع لنا وقتا للتفكير؛ بل اندفعت داخله الحجرة فوقف ثلاثتهم دفعة في استقبالها مصافحين إياها واحدا واحدا، كانت أردافها الكبيرة كبيرة، جلست على المنضدة المصنوعة من الفلنكة، المنضدة الصغيرة والتي لم تسع ردفيها؛ مما جعلهما يبرزان على جانبي المنضدة متدليين كقربتين كبيرتين مملوءتين بالزيت، أحس بابكر المسكين إحساسا مزدوجا في ذات نفسه، إحساسا عميقا بالامتلاء وأحس في ذات الآن إحساسا عميقا بالجوع، كانت أردافها الكبيرة كبيرة، وهي تعتذر لائمة نفسها على أنها تسببت في ضربه، فما كان عليها أن تزوره في مثل هذا المكان وهي تعلم أن صاحبة المنزل هي أشرس امرأة في الدنيا؛ لأن بها روح شيطان تتلبسها عندما تغضب، وقالت: إنها قلقة لحاله ولم تنم ليلة البارحة ولم تهتم أبدا بمأساتها هي الشخصية؛ حيث إنها هربت عارية كما ولدتها أمها جارية عبر الأزقة الضيقة المظلمة إلى بيت أسرتها، ولولا أن ستر الله لرآني والدي لولا أنه كان بالجامع في صلاة العشاء.
وقالت: إنها تعرف أن صاحبة المنزل الآن توجد بالسوق الكبير؛ حيث لديها مكان للشواء مشهور ولا تعود إلا بعد المغرب، وكان بإمكانه أن يسر بهذه المعلومة الدافئة وأن يفرح بها أيضا صديقاه إلا أن علمهم بأن السيدة توجد الآن بالمنزل وأنها ستأتي بعد قليل وستجد الردفاء، وستغضب!
قال لها هامسا - في الحق كانت تخنقه عبرة مرة وهو يقول للردفاء: إنها بالمنزل الآن، وكانت هنا قبل قليل وستعود الآن بالغداء!
فنهضت الصبية الردفاء مذعورة وأرادت الانصراف في ذات اللحظة التي سمع فيها الجميع وقع أقدام سيدة المنزل، وهي تترنم بأغنية شائعة في سعادة بالغة ومتعة دافقة، كنا نبحلق في جنون نحو باب الحجرة، نحو بعضنا البعض، نحو الصبية الردفاء والتي لولا الخطر الحادق والرعب الذي نتوقع مواجهته بعد لحظات لضحكنا عليها، لضحكنا حتى الموت، ولكن لا بأس سيضحكون كثيرا إذا خرجوا من هذه المعركة سالمين، وسيحكون لأمل وزوجها السمين، والذي سيضحك إلى أن تنفجر كرشه الكبيرة مصدرة دويا مرعبا، وسيحكون لآمنه وستضحك هي الأخرى إلى أن يحمر خدها، وسيحكون لعبد الله ومحمد وتأبان وكوة تيه، فقط لو خرجوا أحياء من هذا المأزق، سيستأنسون بذكراه وهم يعانقون الجوع والعطالة والهرب على شاطئ النيل أو عند أم بخوت بائعة الشاي.
كانت الصبية الردفاء تحاول الاختباء تحت العنقريب العجوز الصغير، ولكن ردفيها ... فحاولت القفز عبر النافذة الصغيرة المواجهة للحائط الخلفي؛ حيث يصبح بالإمكان الهرب بسلام، ولكن ردفيها ... وعندما عجزت عن أي فعل منقذ غطت وجهها بكفتيها وأغمضت عينيها بشدة وأخذت ترتجف كما لو أنها صعقت بتيار كهربائي منتظرة مصيرها المحتوم، وذلك المصير المشئوم، والذي استطاعت الهرب منه ليلة البارحة بأعجوبة الأعاجيب، كانت الأغنية الجميلة توافي مسامعنا مرعبة كأنها عواء الذئاب، وكلما اقتربت من باب الحجرة وأصبحت أكثر وضوحا كلما كانت أكثر رعبا، فصاحت: بأن يأتي من يساعدها على حمل الطعام ، أين أنت؟
ولكن لم يحرك أحد ساكنا لقد شل تفكيرهم جميعا فدخلت الحجرة ووضعت حملها على المنضدة ودون أن تنتبه إلى الردفاء قالت وبصوتها نغمة ملائكية حلوة: فليذهب أحدكم لإحضار الماء البارد من ...
فجأة توقفت عن الحديث وهي تبحلق في وجه الردفاء المغطى بكفيها، قالت بهدوء مشحون بالتوتر والشيطانية الباردة: أهلا، أهلا تفضلي، أنت دائما هنا، البيت بيتكم، ارقدي على العنقريب واخلعي ملابسك، لا تخافي مني، فأنا ذاهبة سأتركك مع الثلاثة جميعهم أيتها الداعرة الإبليسية بنت الشوارع، لماذا تنظرون إلي هكذا؟ لن أفعل لها شيئا، سأكون معها هادئة، اذهبوا أنتم لإحضار الماء واتركونا أنا وهي وحدنا بهذه الحجرة، لن أهشم عظامها، لن أحطم رأسها ولن أمزق أردافها الكبيرة التي تشبه الأخراج، اخرجوا، وأنت ... أنت ... هل تحبها أيها الفأر الأكول؟ إذا اتركوه لي، اخرجوا جميعا حتى أنت أيتها السمينة اخرجوا، اتركوه لي وحدي فأنا هادئة، وسأظل هادئة، لم تنظرون؟ هل أنا مجنونة؟ إن صمتكم هذا يثير أعصابي.
ثم أخذت ترتجف بصورة مثيرة للشفقة حينما خرجنا وتركناه بالداخل، أما الردفاء فمنذ أن سمحت لها صاحبة المنزل بالخروج انطلقت كالسهم وتلاشت في خبايا الأمكنة. بقي مايكل أكول وبابكر المسكين خارج الحجرة قرب الباب بعيدين عن ناظر صاحبة المنزل، والتي يبدو أنها في طريقها لكي تستغضب، أو أنها استغضبت بالفعل، كانا على أهبة لإنقاذ صديقهما ولو بمناداة الجيران أو الشرطة، كانا قلقين كفأرين على كف قط: سيدتي الجميلة المرعبة، أي نسمة شيطانية ستعصف بنا؟ أي إعصار لذيذ؟!
ولكن بعد لحظات قلائل من وقوفهما خارج الحجرة سمعا ... نعم، سمعا صوتا نسائيا ناعما رقيقا يبكي، يبكي في بؤس مثير للشفقة.
فقال مايكل أكول لبابكر المسكين والذي جحظت عيناه دهشة وانفعالا وأسئلة عصية: إذن فلنعد لداخل الحجرة، فلنلتهم الغداء قبل أن يبرد، فأنا لا أحب الطعام البارد! فرد بابكر المسكين وبين فكيه ابتسامة خبيثة: حسنا، وأنا كذلك! فأنت تعرف عني ذلك جيدا!
محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها
سألت الطفلة أمها قائلة: هل سيطلقون الرصاص مرة أخرى؟
قالت الأم: لا ... - ولكنك قلت لي إنهم سكارى يا أمي.
قالت الأم: إن الخمرة ذاتها التي جعلتهم يطلقون الرصاص هي نفسها التي ستنيمهم فيكفون عن إطلاق الرصاص.
ولو أن الطفلة لم تقنع برد والدتها إلا أنها نامت، وظلت الأم مستيقظة، تتوقع بين الحين والآخر أن يطلق أحد الجنود السكارى النار عشوائيا فتصيب طفلتها النائمة أو تصيبها هي.
لا أحد يستطيع أن يمنع الجنود السكارى من إطلاق النار طالما لا أحد يستطيع أن يمنعهم تناول الخمر، حتى السلطات نفسها لا تفعل شيئا.
يؤكد زوجها: إذا غضب الجندي المسلح وهو سكران قتل نديمه أو صاحبة المنزل، وكلاهما خارجان عن القانون، وقد يصيبك أنت وانتصار، وموتكما أو إصابتكما بأذى لا تؤثر على أحد له سلطة أو تخل بالأمن القومي. وكالعادة كان يسخر من نفسه ومن زوجته وابنته الوحيدة، كان بعيدا جدا في هذه الليلة في مأمورية للعاصمة؛ حيث يعمل سائقا بإحدى الشركات الخاصة. سوف يطلقون النار مرة أخرى، هي متأكدة من ذلك، في الغد سأرحل عن هذا المكان إلى حيث يقيم والدي، وعندما يأتي صابر من مأموريته سأقول له بالحرف الواحد: يا أنا ... يا هذا المكان اللعين.
وكرر الطارق الطرق، بحركة لا إرادية أطفأت النور الرئيسي أبقت على سراج صغير، ضمت ابنتها إلى صدرها، أغمضت عينيها ولكن أذنها كانت تتصيد الأصوات في الخارج، زوجها لا يطرق الباب؛ لديه مفتاحه الخاص ولا تعرف هي أحدا يزورهم ليلا، يصر الطارق على الطرق، تغمض عينيها أكثر، أكثر، أكثر، غدا سترحل عن هذا المكان اللعين، يزداد الطرق على باب الشارع، تستيقظ الطفلة.
لماذا لم تنامي إلى الآن يا أمي، هل سيطلقون الرصاص مرة أخرى؟
يسمون أنفسهم «البوم» لأن الناس يتشاءمون بصوتهم، ولأن المواطنين يعتقدون أن من دخل البوم بيته لا بد أن يخرج من البيت أحدهم ميتا، ومن رأى البوم نهارا لا بد أن يفقد نظره، ومن رآه ليلا لا بد أن يفقد ذكورته، وإذا كانت امرأة لا بد أنها ستعقر، ويسميهم أبي : «شياطين الليل»، وأمي تسميهم الجماعة ، أما السلطة تسميهم: «الجنود الأشاوس الذين يحاربون قوى البغي والكفر والعدوان»، كانت البنت الصغيرة تموت من النعاس، فهي تسميهم: «ناس الحرب.»
يزداد الطرق أكثر، أكثر، تغمض الطفلة عينيها الكبيرتين، تغمض الأم عينيها الكبيرتين. - قد يكون أبي؟ - أبوك عنده مفتاح. - قد يكون خالي آتيا من السفر؟ - خالك لا يأتي هذه الأيام. - إذا دعيني يا أمي أهاجمهم، إنهم الأعداء. - نامي يابنتي، الباب مغلق جيدا ولا أحد يستطيع الدخول، ولسنا في حاجة لمهاجمة أحد، وضعت البنت الصغيرة يدها المبتورة على فمها، انتصار تحب اللعب مع ابن الجيران مصطفي، مصطفي يحب أن يلعب جيش جيش، هي تلعب جيش جيش، واشتركا معا في الهجوم الكبير ضد ثوار الخور، هي المعركة ذاتها التي فقدت فيها يدها اليمني وأودت بحياة صالح وصديق، وفقدت فيها البطلة أسماء عينها، كان ذلك قبل عام بالتمام والكمال.
لست سكران، لست لصا، قالت الطفلة: هل هو عدو يا أمي؟ - نامي، نامي. - هل تطفئين السراج يا أمي؟ - دعيها، لا تشغلي نفسك بشيء، نامي فعليك أن تستيقظي غدا مبكرة للذهاب إلى المدرسة. - هل يحملون قنابل أيضا، مثل التي وجدناها في الخور الكبير؟ - إنهم سكارى، ولا يحملون شيئا سوى بعض الأسلحة الخفيفة! - إذا كان مصطفي صاحيا فإنه لن يتركهم يفعلون ما يفعلونه الآن، ابتسمت أمها في غيظ، ذكرى بتر اليد ذكرى مؤلمة، لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا من أجل الأطفال، الأسلحة في كل مكان؛ في النهر، الخور، المزارع المجاورة، في الغابة، تحت جدران المنازل: قنابل، ألغام، قرنوف، ذخائر ...
يبدو أن بعض الجيران قد تجمعوا حول الطارق وبدءوا يستجوبونه، كثير من الجيران، ثم أخذ الجيران أنفسهم يطرقون الباب، باستطاعتها أن تسمع صوت الخالة نفيسة تقول: ما حدث لآمنة وابنتها؟ - إنه صوت الخالة نفيسة، هل انضمت إلى الأعداء كذلك؟ - لن ينفتح الباب لأي كان.
وعندما عاودوا إطلاق الرصاص، بكثافة هذه المرة، ربما استخدم سلاح ثقيل أيضا، صمت الطارقون، ربما انبطحوا على الأرض محتمين بسواتر طبيعية في تلك الليلة المقمرة، إلا أنه لا أحد بإمكانه رؤيتهم، كانوا يشربون الخمر في مكان ما قريب جدا، إنهم لا يبالون بشيء ولا يحترمون أحدا ولا يخافون من أحد، يسمون أنفسهم «البوم.»
أعرف أن أمي خائفة من الموت؛ لأنها لم تدخل معارك بعد، لم تشترك في الهجوم الكبير على ثوار الخور، لم تتدرب على يد مصطفي، تكتفي بأن تغمض عينيها، أطلقوا الرصاص مرة أخرى؛ طلقات متباعدة، ذهبت ابنتي إلى المرحاض، وهو عبارة عن بناية صغيرة غير مسقوفة تقع في الجهة الخلفية للمنزل، جهة آمنة تلاصق حائط الجيران، ذهبت خلفها؛ لأنها عندما تفرغ من قضاء حاجتها تحتاج إلي لكي أساعدها في تنظيف نفسها؛ حيث إن يدها واحدة، لكنها لم تخرج من المرحاض، تأخرت كثيرا، في اللحظة التي ناديتها سمعت صوتها يأتيني من باب الشارع صارخة. - يجب ألا يتحرك أحد، وإلا أطلقت الرصاص.
خشم القربة
1 / 4 / 2000م
ضلالات
(1) فراش
تقلبت قليلا في فراشها الرطب قبل أن تنهض وتضع ثوبها على أطفالها الثلاثة، فالبطانية العسكرية القديمة المزيقة فقدت دفئها على مر الأعوام، بطانية الصوف الخضراء، ابنتها الوحيدة آمنة ستبلغ السابعة عشرة بعد شهور قليلة، ولكنها تعاني من التبول الليلي على الفراش، على الأقل مرة في الأسبوع والذي أصيبت به منذ اليوم الذي تلقت فيه خبر مقتل والدها في كبويتا الصيف الماضي على يد الثوار. (2) مشهد
آمنة «ترقد على عنقريب مفروش ببرش أحمر، تحت العنقريب توجد جوالات خيش فارغة مفترشة على الأرض لتمتص ما قد يتساقط من بول عبر البرش»، زهرة تربت على قدم ابنتها المتغطية بملاءة «مالك؟!» ترفع الغطاء يظهر وجهها المحكوك بكيمياء الكريمات الرخيصة شاحبا.
زهرة :
يا بت ما ماشة المدرسة ولا شنو؟ (تنهض آمنة في تثاقل ترمي بالملاءة بعيدا عن جسدها، أتشمم المكان علها بالت عليه أم لا، عندما لا تجد أثرا للتبول تنهض واقفة، تستعدل قميص نومها، ترتدي سفنجتها، تجمع جوالات وتخرج بها من القطية، تذهب نحو الحمام تجرجر جسدها الثقيل وأردافها الكبيرة.) (أبو ذر ومعاوية يصطفون خلف القطية يتبولون في نعاس ولذة.) (3) مشهد (خارج القطية يجلس الأطفال الثلاثة على عنقريب قديم يحتسون الشاي، آمنة تسرح شعرها وهي تترنم بأغنية غير واضحة الكلمات واللحن، وفي وجهها طلاء أبيض، زهرة تأتي من راكوبة المطبخ، تقف أمام أطفالها، تصرخ.)
زهرة : ... من بكرة الفطور في البيت.
آمنة (تلوي شفتيها في امتعاض) : ... كل يوم فلم جديد.
أبو ذر :
أنا ما عايز فطور في البيت ... عايز أفطر في المدرسة.
معاوية :
نيجي من المدرسة لحدي البيت في الحي الجنوبي، وتاني نرجع المدرسة حنلقى الجرس دقا والأستاذ حيدقنا ... ولكن ما في مشكلة ... أنا حاجي أفطر في البيت يا أمي بأي شيء.
زهرة :
إخوانك ديل ما عارفين حاجة ... ببكوا وما عارفين الميت منو ... (بصوت عال)
القروش كملت ... آخر ألفين حأعمل ليكم بيهم الغداء الليلة ... بكرة وبعد بكرة وبعده حتاكلوا لقمة بزيت لمن تكملوا شوال الدقيق وشوية الزيت الجابوهم الجماعة ديل، وبعد داك حتموتوا من الجوع أو تاكلوني أنا ذاتي ... (تأخذ وعاء قربها وترميه على الأرض بشدة في حركة غير متوقعة) .
آمنة (متجاهلة انفعال أمها) :
أنا ذاتي المدرسة ما نافعة معاي (تنتهي من تمشيط ضفيرة بحركة قلقة سريعة) ... أنا عايزة أبيع شاي في السوق الكبير أو الموقف أو كبري ستة أو حتى في سوق النوبة ... زي البنات ... آها ... كلمتك يا أمي، على الأقل أساعدك في رسوم المدرسة وأشتري ريحة كزيسة وكريمات وأشوف الدنيا دي فيها شنو ... أنا كرهت الفقر والجوع.
معاوية :
أنا عايز أشتغل في كارو ... ألم قروش الفطور والرسوم، بعد داك أرجع المدرسة أجمد سنة وأقرا سنة لحد ما أكمل المدرسة وأتخرج.
أبو ذر :
أنا عايز أشتغل عسكري في الجيش بس ...
زهرة (مغتاظة) :
عشان تموت زي أبوك وتريحنا.
أبو ذر :
عشان أجيب قرنيت وأقتل بيهو آمنة (ال ...) دي. (يأخذ من وراء ظهره قرنيت يفك التيلة ويقذفه باتجاه آمنة بحركة عسكرية رشيقة.)
آمنة (تنهض وتهرب بعيدا، يسقط القرانيت قرب رجلها وينفجر مبعثرا قطع الطين والزبالة والحصى التي يتكون منها في الساحات شاسعة) :
يا وسخ ... دا شنو؟
أبو ذر :
عشان تاني ما تباري الرجال ... حاكتلك.
آمنة :
أنا ؟
أبو ذر :
أيوا، إنتي، الأولاد كلهم قاعدين يقولوا كدا.
آمنة :
أنا ... يا وسخ ... أنا قاعدة أباري الرجال؟ (يصمت الجميع، يرتدون ملابسهم، يخرجون إلى المدرسة تبقى الأم وحدها.) (4) ضلالات مشهد
تعرف الأم كل شيء عن البنت، ضلالاتها الصغيرة والكبيرة، مراقدها ومقاماتها كل عشاقها الكثيرين، ويعرف الأطفال، وتعرف هي أنهم يعرفون، والأم تعزي انحراف ابنتها إلى سببين: غياب إسماعيل والفقر، كان سيكمل عامه السادس بالجنوب، وبذلك تتاح له العودة إلى خشم القربة، في الحقيقة لم تكن علاقتها بزوجها بتلك القوة التي دائما ما يقتضيها الزواج، ولكن كانت ظروف معايشة وتربية أطفال لا أكثر، ولو أن إسماعيل ما كان عنيفا غليظ القلب فظا مثل كثير من أزواج صديقاتها، ولكن كان الشهيد كسولا غير مبال وبخيلا، لا يخرج الألف من كفه إلا بعد لأي ومجاهدة، ولكنه فوق ذلك كان يحب أطفاله ويشتري لهم رءوس النيفة في كل نهاية ومنتصف الشهر طوال فترة تواجده بخشم القربة.
نعم، إنه يشرب البغو والعرقي، مثله مثل أزواج صديقاتها ليبدو رجلا فحلا ومتكاملا، لكنه لا يضربها مثلهم ولسانه عفيف، لكن أكثر ما تعيبه في الشهيد - رحمة الله عليه - مغامراته النسائية، ولا تزال أصداء فضيحته مع ابنة مبشر كاجيلا جمعة تملأ الحلة طنينا، رغم ذلك حزنت لموته حزنا حقيقيا، وربما كان باطنه الخوف على مستقبل الأطفال. زهرة لا تفهم كثيرا في الدين، هي مسلمة حقيقية، تصلي وتصوم رمضان، ولو أنها لا تحفظ من القرآن سوى سورة
الحمد لله رب العالمين
وسورة
قل هو الله أحد * الله الصمد
ودعاء «الزكيات الصالحات»، حفظتهم من أطفالها عندما كانوا يستذكرون دروسهم بصوت عال.
ظاهرها الديني هذا يضعها في الحي الذي تسكن فيه ضمن النساء المتدينات، إلا أنها ترفض فكرة أن يزف إسماعيل كوكو مرفعين إلى حورية في الجنة تاركا لها أولاده وبنته الملعونة لتربيتهم وحدها، وهو لم يترك لها قرشا واحدا.
ها هو الاحتفال يجري الآن أمامها، وفي حوش بيتها تحجب سحابات غباره الرؤية، ويكح لها الصغار والحملان والكتاكيت، وينطط فيه العسكريون وكبار الضباط وبعض اللحى المدنية وغيرهم من الغرباء يعرضون ويبشرون لها، مشهد لن تنساه ويتكرر يوميا في صحوها ومنامها، عندما ذهبوا، ذهبوا إجمالي ما تركوه كان كما يلي:
50 كيلو دقيق أسترالي، جوال بلح باعته في حينه للنساء اللائي يصنعن العرقي في الجوار.
1 جركانة زيت سمسم، سعة خمسين رطلا.
10 أرطال من البن الحبشي، وكرتونة لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين، وكثير من الأغبرة وأثر العربات وبعض أطفال الحي بملابسهم الممزقة وسراويلهم المتسخة يفتشون في الأرض العملات المعدنية، التي قد تسقط من جيوب جلابيب الراقصين الكبيرة، وتركوا صدى إيقاع وصوت فنان خليع يتلاشى تدريجيا في أزقة وقطاطي ورواكيب كمبو كديس، ثم يموت للأبد بين أشواك المسكيت، ولكن يظل الأطفال يرددون أغنياته لأعوام طويلة.
لما تأكد سكان كمبو كديس من ذهاب الغرباء وتلاشت أغبرة عرباتهم الكثيرة، وصمتت مكروفوناتهم وخرس مغنيهم، جاءوا أفرادا وجماعات يعزون في وفاة صديقهم الوفي ابن كمبو كديس البار إسماعيل كوكو مرفعين، وفي ذهن كل واحدة وواحد منهم آخر ذكريات تخصه مع إسماعيل كوكو مرفعين، وكل واحدة وواحد منهم كان يتحدث لمن يصادفه عن آخر مرة رأى فيها المرحوم ... آخر ونسة ... آخر كأس، آخر سوق، آخر حفلة وآخر كرنق، حليمة بنت الكرنقو سوف لا تغفر لنفسها أن خذلته مرتين، لكن مبشر جمعة وحده الذي يعرف أن إسماعيل كوكو مرفعين لم يقتل عرضا، ولكن قتل عمدا وهو الذي قتله، لقد ربطه بحبل بندا عند معراقي من الامبرورو يوم الجمعة الماضي، وها هي جمعته الثانية والتي ما كان عليه أن يحيا بعدها بأية حال من الأحوال ... إسماعيل خاين ... كسر بتي كاجيلا ونكر وأبى يدفع كسر الباب ... وحذرته ... حذرته ... حذرته ... وجبت ليهو الجودية فوق الجودية ... وهو عارف أنا ما حاخليهو ساكت ... حاقتلو.
كان مبشر جمعة أكثر الناس بكاء وأسفا على وفاة إسماعيل، كاجيلا تحمل إسماعيل الخطأ في كل شيء هو كسرني مرتين ... أنا سامحته في المرة الأولى وداني الداية عدلتني ... وقلت ليه إسماعيل أختاني عليك الله ... ولكنه تاني كسرني قمت كلمت أبوي.
سمع كل سكان الأحياء المجاورة لكمبو كديس صراخ النساء صديقات أسرة إسماعيل كوكو؛ بل سمع الصراخ بوضوح تام في قشلاق الحجر وكمبو كريجة والإدارة المركزية والمستشفي.
زهرة كانت صامتة تعقد يديها خلف ظهرها وتمشي بين المعزين، تنظر إليهم في استغراب، الحاصل شنو؟ قبل شوية مش كنتو بترقصوا وتعرضوا وتغنوا هنا ... ليه هسع بتبكوا وتصرخوا، الحاصل شنو؟! وفاقت زهرة عندما صفعها أبكر جني الملايكة البلالاوي على خدها الأيمن ثم بكفه الأخرى على خدها الأيسر، وعندما فهمت من رقص ومن ... ومن مات. (5) مشهد
أبو ذر (يرمي شنطة المدرسة المصنوعة من كاكي الجيش على بنبر خارج القطية في طريقه إلى داخل القطية، يرفس القطة التي تتسول بقايا طعام على الأرض، يدخل القطية، ينظر إلى أمه الراقدة على العنقريب يسأل) :
الغداء الليلة شنو؟ أنا جعان ... (بينما لا أحد يجيبه يسمع صوت معاوية يدندن بأغنية، يقترب من القطية، يرمي شنطته على البنبر ويدخل القطية، يسمع صوت آمنة من بعيد تغني أغنية هابطة، تقترب من البنبر، ترقص في انتشاء، تهز كتفيها طربا، تلقي بشنطتها على البنبر، تدخل القطية، ترمي بجسدها الصغير على العنقريب.)
آمنة :
هييه ازيكم؟
زهرة (ممتعضة وهي تنظر إليها من ركن قصي من عينها) :
أهلا.
آمنة (ترمي بطرحتها على العنقريب الذي يخصها، تخلع قميص المدرسة دفعة واحدة وترمي به هو أيضا على العنقريب، ترفع ذراعها اليسرى إلى أعلي تتشمم رائحة إبطها) :
هه هه.
زهرة (تلوي شفتيها، وتعرف أن رائحة جسد ابنتها أصبحت ومنذ فترة رائحة امرأة، وتعرف أن رائحة المرأة ربنا خلقها لكي تجذب الرجال ورائحة بنتها غير عادية، إنها أكثر كثافة وقوة من رائحة كل النساء اللائي عرفتهن ... وتعرف أن زهرة تعرف، وتريد أن تبقى رائحة جسدها كما هي؛ لذا رفضت العطر الرخيص الذي اشترته لها أمها من السوق بما اقتطعته من خبز البيت) :
مش أحسن تستعملي الريحة بدل من ريحة إبطك العفنة دي ... الريحة ليها شهر قاعدة في الدولاب.
آمنة (ترقد على العنقريب بقميص النوم محاولة وضع رأسها ما بين البرش والمخدة) :
دي ريحة ميتين يا أمي ... أنا ما بستعملها.
أبو ذر :
مش أحسن من ريحة البول والصناج!
آمنة (تنهض من رقدتها وتجلس على العنقريب فجأة في وضع هجومي) :
لو ما ولدك الوسخ ده ... أما حاكون ليكي ... أخير يختاني ... أنت عايز مني شنو؟ عامل قدومك الطويل ده.
أبو ذر (يضحك، يخرج من القطية يمشي نحو المطبخ، يعبث بالأواني وطبق الكسرة، فجأة ينادي بأعلى صوته) :
تعالوا شوفوا في شنو في المطبخ ... اجروا تعالوا شوفوا البرميل في النار.
معاوية (معاوية وآمنة يجريان نحو المطبخ، يعود معاوية بسرعة إلى أمه يسألها في حزن) :
ده شنو يا أمي؟
زهرة (تبقى في مكانها تحملق نحو باب القطية) : ... كعكة ... كعكة كبيرة سويتها للملايكة.
آمنة :
سجمي ... أمي جنت
تجري نحو أمها والتي لا تبرح مكانها مبتسمة في بلاهة، تحتضنها وتبكي بحرقة .
أبو ذر (يجري خارج المنزل وهو يصرخ في هستيريا) :
أمي ... أمي ... أمي. (6) الملائكة
الجيران والباعة بسوق النوبة وزبائنهم الكثيرون، الأطفال العائدون من المدارس، المتسكعون بالشوارع، جزارو سوق النوبة، أصحاب الكواري، كمال زكريا، السكارى الذين كانوا بالكنابي المجاورة، وكمبو كديس، الصادق حسين باباكر في صحبته عشرون من عمال الكمائن، علي رمرم، غادة الجميلة، كلبان، الأطفال والشباب الذين يلعبون الكرة في الخور الكبيرة، امتلأ الحوش الصغير بهم، أولا أطفئوا النار من تحت البرميل الكبير، تولى جبرين الجزار وحمدو العسكري وزكريا وحاج عثمان إلقاء البرميل على الأرض ودفق محتوياته.
ثم هم المحسنون بتحرير الأشياء من العجينة الضخمة: أحذية الأطفال، البطانية القديمة العجوز، الملاءات الآنية الصيني والتي اشترتها بعرق دمها من سنوات مضت، حبال جوال السكر البلاستيكية، الملابس الداخلية، الكبابي، شظايا زجاج دولاب العفش القديم والذي كانت دائما ما تفتخر به، كراسات المدارس القديمة، ما تبقى من معاش إسماعيل ألفان من الجنيهات وجدا معا وسط الكعكة العظيمة، جرادل المياه، آنية رمضان ومسبحتها، صابون الغسيل، عطر آمنة الذي رفضته، توب الجيران، قفة الكجور، وطواطم الأسبار.
كانت كعكة، لم ير أحد أكبر منها في حياته، تعوم في زيت السمسم ويفوح منها عطر السيد علي بطعم السكر وما تبقي من ملح وكول ولبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين.
بينما كان الناس مشغولين بتفكيك الكعكة ... طفلاها وابنتها يصرخون، كانت هي ساكنة وعلى شفتيها ابتسامة رضا عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة احتفاء بعرس الشهيدة: التي كانت هي نفسها.
أسنان لا تغني
تعادلنا ثلاث مرات على طاولة التنس، هي سريعة الحركة، لها طاقة لا تحد، ماهرة كالشيطان، ذات حرفية مدهشة في تحويل كل كرات الرد إلى كرات زوايا بعيدة، يصعب التعامل معها، وعندما انتهت اللعبة، مسحت العرق عن وجهها ببطن كفها، أطلقت شعرها الأشقر على ظهرها وكتفيها، ثم استدارت استدارة سريعة لتقف قربي، مادة إلي كفا بيضاء معروقة، تبدو الدماء الساخنة القرمزية منفعلة تحت بشرتها الناعمة الندية بفعل العرق.
استطاعت أن تتعادل معي!
قلت لها وأنا أقبض على كفها البيضاء الناعمة، بكف سوداء قوية بها جفاف متوارث من جدود عديدين: طالما كنت ألعب مع الشيطان، فكيف أكسب؟!
ضحكت إلى أن احمر وجهها الشاحب، ثم هزت رأسها مثل مهرة تحتفي بجموح يخصها استشعرته فجأة، قالت: دعنا نتمشى قليلا على الجسر.
عندما خرجت من حجرة الملابس رأيتها تقف على الجانب الآخر من الطريق، تلبس كالعادة بنطلون الجينز المحزق اللاصق على فخذيها وكأنه جزء منها، قالت إنها تستمتع برياضة المشي وخاصة عبر الجسر، ثم سردت لي تاريخ بناة الجسر، بينما كنا نهرول عبره. ثم فجأة سألتني: يقولون إنك من السودان! - نعم. - يعني ذلك أنك عربي. - في الحقيقة أنا سوداني، ومسألة عربي وغير عربي عندنا في السودان مسألة شائكة وتحتاج إلى تنظير لا أطيقه. قالت - في إلحاح: لا ينتمي السودان للجامعة العربية؟!
قلت متضايقا: نعم. - وهو أيضا ضمن الدول الإسلامية.
أنا عادة لا أحب الخوض في مثل هذا الحوار مع غير السودانيين؛ لأن ثقافاتهم ضحلة فيما يخص السودان ومرجعياتهم - إن وجدت - غير دقيقة، ولكن يبدو أن المرأة تعرف شيئا. قلت: السودان دولة عربية إسلامية كما هو معلن، ولم يستشر أحد في ذلك، المهم، المواطنون، فيهم العربي وفيهم المسلم، وفيهم غير العربي وغير المسلم. - ماذا عن نفسك أنت؟ - أنا، لست عربيا ، ولكنني لست شيئا آخر غير عربي، ولست مسلما، ولكنني لست شيئا آخر غير مسلم، والأمر برمته لا يعني لدي الكثير، فدائما ما أكتفي بأنني سوداني وحسب.
ضحكت، ربتت على كتفي، أشارت نحو الأفق، أبراج وطائرات، قطارات، سيارات، دخان عوادم، ضباب، نجوم، بشر، ألعاب نارية، وطاويط، كباري طائرة، قالت: نحن هنا أيضا أمريكيون فقط.
سكتت قليلا، قالت: انظر ... هنالك ... نحو برج
Leadsman
العملاق، هنالك يوجد ناد ليلي ... غنيت فيه قرابة العامين. - هل أنت مغنية؟ - الآن لا، ولكنني كنت مغنية، كنت أشهر مغنية في هذا النادي؛ بل كنت معروفة في أمريكا كلها، وغنيت خارج أمريكا أيضا. - لماذا تركت الغناء؟
بدت متأثرة وهي تقول: حدث لي حادث وبعده أصبح من المستحيل أن أغني.
حملقت في وجهها، في هيئتها، علني أجد أثرا لهذا الحادث، لكن بدت كاملة متكاملة، لم تبد على وجهها أية آثار لعملية جراحية، المهم، بيني وبين نفسي عرفت أن الحادث كان عاطفيا، نفسيا أو جنائيا، من الأحسن ألا أثير مثل هذه الشجون، وقررت تجنب الخوض في الموضوع، كما أن اهتمامي بالغناء وخاصة غير السوداني ضعيف، قالت: أنا أجيد صنع القهوة.
فوافقت، ولو أنني ما كنت أظن أن المشوار سينتهي بشقتها، لكن لا بأس، هؤلاء الناس لا يزعجون أنفسهم في محاولة التفرقة ما بين حياتهم الخاصة والعامة، اتصلت بإحدى شركات التاكسي، في سبع دقائق كنا نمر بسرعة مائتي ميل في الساعة عبر شوارع نيويورك، بعد عشرين دقيقة أخرى كنا في فيلتها الرائعة، يا إلهي! المكان لا يوصف، لاحظت أنني مندهش، قالت: بيت الأمريكي هو جنته. - أنت دائما تتحدثين معي كأمريكية. - أنا لا أقصد شيئا سوى العموميات، فأنا أحب أمريكا، لكنني لا أفضلها على كل بلدان العالم، الرجاء أن تفهم ذلك. - ماذا تقصدين بكلمة عموميات؟ - إنها لا تعني شيئا غير عموميات فحسب، ثم ابتسمت.
كانت داني جميلة ولبقة ومباشرة، لها عينان عميقتان تشعان رغبة وغموضا وغنجا، جلست على كنبة مريحة، أشعل كل واحد منا سيجارة، من جهاز الكمبيوتر الشخصي انطلقت موسيقى جاز كلاسيكية صاخبة ، قالت: إنه لويس آرمسترونغ. تركتني في محاولة التكيف مع المكان وآرمسترونغ وعطر
My Home ، أحضرت لنا القهوة، جلست قربي، قالت: هل تسمح؟
وقبل أن أقول شيئا، أخذت تمشط شعري بأظافرها الشاحبة غير المطلية، شعر رأسي الخشن المنكمش على نفسه في دوائر شبيهة بمنظومة من السلك، كنت في حاجة ماسة لمن يداعب أسلاكي تلك والعبث بها، تماما كما تفعل داني الآن. - شعرك مدهش، ثم أضافت بسرعة: هل أنت متزوج؟ - نعم. - أين زوجتك؟ - في السودان. - هل لديك أطفال؟ - طفلة واحدة اسمها سارة. - كم عمرها الآن؟
في الحقيقة ما كنت أعرف كم عمرها الآن، عندما جئت إلى أمريكا تركتها تمشي خطواتها الأولى، لا؛ بل كانت تجري وتلعب؛ لأنني أذكر أنها جرت خلفي إلى الباب، نعم، كانت تتكلم، سارة الآن قد تقارب الثامنة عشر، أهذا صحيح؟ أين هما الآن؛ بل أين هم: أمي، سارة، أمل، لقد قفلت هذه النافذة منذ زمن بعيد، ربما تزوجت أمل، ربما لا تزال في عصمتي، الأمر برمته لا يعني لدي الكثير، فعندما غادرت السودان غادرت كل شيء، ويجب أن أعي حقيقة ذلك، قلت لها: داني؟ - نعم. - أنا لا أحب فتح هذه السيرة. - حسنا، كل إنسان في هذه الحياة لديه غرفة مظلمة مخيفة ممتلئة بالثعابين، لا يحب الولوج إليها ولا يرغب أن يدخلها أحد، أو يطرق بابها، مجرد طارق.
كنت دائما ما أستطيع تمييز أصول الأمريكيات، الإسبانية، الإنجليزية، الآسيوية، الفرنسية، الإيطالية، العربية، الكاريبية أو الزنجية، باللون أو الاسم أو اللكنة أو حتى مجرد مكان الإقامة، داني من أصل أيرلندي، وهي جميلة وبدينة بعض الشيء، كانت تتجلى في حجرة نومها كربة صغيرة من البلور، مدللة، عندما عدت من دورة المياه وجدتها هنالك، جلست قربها، قبلتها، قالت لي وهي تدلك فروة رأسي: أريد أن أستريح. - وماذا يمنع؟
قالت وهي لا تزال تدلك فروة رأسي، ويبدو أنها أثيرت بصورة أو بأخرى: حرك تلك المنضدة قريبا من هنا.
جذبت المنضدة ذات العجلات قريبا، كانت الإضاءة خافته ولكن الرؤية واضحة وجيدة ، على المنضدة قفازان ناعمان ارتدتهما، عملت أناملها في عينيها، فأخرجت عدستين لاصقتين وضعتهما على صحن صغير أعد لذلك، عملت أناملها في فمها، فانتزعت صفين من أسنانها البيضاء الجميلة والتي كانت تشع مستجيبة لغزل الضوء الخافت، طالما أعجبت بهما في صمت، وضعتهما في صحن أعد لذلك، قالت بفم خال من الأسنان وقد بدا غريبا: أترى؟ إن أسناني مستعارة.
وابتسمت ابتسامة في شكل فراغ كبير مظلم، ولكنها لم تثر اشمئزازي، فالمرأة - كما يقولون: في الظلام جسد ودفء. وأنا بالفعل استجبت لأناملها في فروة رأسي، أكثر من أي شيء آخر.
قالت وهي تميل بكامل جسدها نحوي، حيث ملأ عطرها أنفي تماما: ساعدني في إخراج البنطلون، أرجوك.
وكنت أظن أنني سأقوم بسحبه بالقوة، وقد بدأت في ذلك، إلا أنها أوقفتني قائلة: فقط حرر زرارين في الخلف.
ثم بسهولة سقط البنطلون على فخذيها، ثم جذبته بأناملها الرقيقة الشاحبة وتحررت منه تماما، ولدهشتي عندما وضعت البنطلون جانبا، كان ثقيلا، وعندما انتبهت وجدت داني بغير ساقيها، قالت في برود ورباطة جأش: أترى؟ إن ساقي، هه.
وقبل أن أسأل أو أكمل دهشتي، تحدثت داني: هي حكاية عادية، كنت أغني للجنود الأمريكان شمال العراق جنوب السليمانية في عاصفة الصحراء، طبعا لرفع الروح المعنوية للجنود حتى يتمكنوا من تحرير الكويت وهي بلدة عربية احتلها صدام، كنا وسط أصدقائنا من الأكراد والأتراك وبعض فعاليات المعارضة العراقية، ورغم ذلك كنا حذرين من المفاجآت، ولكن لسوء تقديرنا أن جنديا من المعارضة العراقية، هو الذي نصب لنا لغما أودى بحياة ثلاثة جنود، وفعل بي ما فعل ... هي الحرب! أنا لست غاضبة من أحد، النار لا تفرق بين جندي أو مغنية بوب.
انتزعت قميصها بنفسها، وكنت أنتظر مفاجأة أخرى، ولكن صدرها كان فتيا ونهداها معبآن جيدا، ولا توجد تشوهات في صدرها وبطنها وظهرها، بأناملها المحمومة أخذت تفك زرار ملابسي، وأنا لا أدري فيم أفكر، ولكني كنت أرغب بشدة في الانفكاك من هذا المكان ومن هذه المرأة الصلدة، التي رغم كل ما رأيت من مآسيها تتعامل وكأنها تضع العالم كله في جيبها ، قلت لها: أريد أن أذهب.
قالت بثقة: سوف لا تذهب، ستبقى معي للغد.
ابتسمت، بدا فمها هوة عميقة غامضة، ثم أخذت تدلك فروة رأسي بأناملها في صمت، وعن طريق نهايات أظافرها الحادة، كانت تمشط شعري الخشن، أستطيع أن أسمع خشيش احتكاك الأظافر بمنابت شعري، عاليا مثل طرق صفيح فارغ.
أكتوبر 2000
الأخدود
سألني السائق سؤالا أخيرا: عندك جد في العرديباب؟
قلت له مؤكدا وبشكل حاسم: نعم، عندي جد واسمه الحاج عندلة.
ثم سألني - وكأنه يريد أن يؤكد شيئا: هل هو موجود حاليا ... في الأيام دي بالذات؟
لا أدري لماذا يتدخل السائقون الثرثارون فيما لا يعنيهم، أنا ذاهب إلى العرديباب، وعليه أن يكبح فرامل عربته في العرديباب، وينزلني وينطلق في شأنه نحو أعالي النهر عند الحدود الإثيوبية، ما يهمك أنه موجود حاليا أم غير موجود؟ ما شأنك؟ أنا لا أحب التحشر في شيء ولا الآخرين، وبالتالي على كل شخص أن يلزم حدوده. - ما عارف.
قلتها جافة وعدائية وحاسمة كبصقة في وجهه، وبعدما قفزت العربة على خورين معشوشبين مشجورين شجرا كثيفا توقفت قاصدا طريقا للمشاة تعبر الغابة نحو الغرب، قال لي: انزل الشارع ده يوصلك للعرديبات، والله يكون في عونك.
ولو أن «والله يكون في عونك» أغاظتني للغموض الذي يكتنف مدلول ما يريد قوله، إلا أنها كانت ستصبح مفتاح كل شيء إذا كنت قد صبرت عليها بعض الشيء وسألته: تقصد شنو؟
ولكن كبرياء أولاد المدينة ولابسي «مناطلين الجينز» والتي شيرتات ذات الألوان الباهية يسيطر علي، وحقيبتي على كتفي توهمني بأن بها كل ما أريد ولا أحتاج لأحد؛ حتى إذا لم أجد جدي، أنا أعرف كيف أتصرف، نعم أنا لا أعرف جغرافيا المكان بالقدر المطلوب، ولكنني لست في سيبيريا أو غابات الأمازون، أنا في السودان وفي الشرق نحو الجنوب قليلا، حقيقة أن بهذه المنطقة دارت حروب طاحنة لفترة طويلة من الزمان، إلا أنها مفتوحة ومعروفة لدى الجميع، ولا يوجد شيء غامض في هذا البلد، ولا أراض لم تطأها قدم إنسان ولا ثعابين تطير ولا ... ولا. لكن يقصد شنو ب «الله يكون في عونك؟»
سلكت طريق المشاة عبر غابة النبق والدوم، وكنت أصادف بين حين وآخر بعض نباتات القنا العملاقة، رأيت قردا صغيرا، رأيت قردين، رأيت أرنبا كبيرا رأيت قطين متوحشين، ورأيت ثعبانا صغيرا، رأيت طائر هدهد كبيرا يحفر الأرض بمنقاره ويصطاد الدود، رأيت قردا كبيرا على شجرة دوم، رأيت فأرين. فهي مشاهدات عادية في مثل هذه الأمكنة، وأنا أيضا مشاهد عادي بالنسبة لها؛ فلم تخف مني الأشياء ولم أخف منها، ولو أنني فزعت عندما رأيت القرد الكبير أمامي فجأة على شجرة الدوم، ثم عندما ابتعدت عنه، عدة خطوات ورماني بدومة، ثم رماني بدومتين ثم استطاع أن يصيب رأسي بدومة تؤام كبيرة الحجم هرولت قليلا، وبعد عدة متعرجات شوكية أصعدني الطريق ربوة عالية، عن طريقها استطعت أن أرى قطاطي القرية والتي تبعد ما لا يقل عن خمسة كيلو مترات.
صعدت على هيكل دبابة قديمة محطمة وأخذت أنظر إلى اتجاهات الدنيا الكثيرة، بدا واضحا لدي أن هذا المكان هو الذي شهد المعركة الحاسمة بين الجيش والمليشيات، وهي المعركة الوحيدة في التاريخ التي انتهت بهزيمة الجيشين في آن واحد، أسماها الجيش: «معركة الفتح المبين» وأسمتها المليشيات: «نصر الله» فالمليشيات كانت تريد أن تسيطر على الكبري الذي يعبر النهر، أو إذا لم تستطع الاحتفاظ به في إدارتها العسكرية عليها تدميره؛ لكي لا يستخدمه الجيش في أغراض عسكرية، والجيش أيضا كان له نفس الهدف: تدمير الكبري أو السيطرة عليه، أما الكبري نفسه فقد بناه سكان القرية الذين يعملون في الصيد غير الشرعي للحيوانات البرية من الغابة المقفولة، والتي تقع في الجزء الشرقي من النهر، بنوه مستخدمين سيقان المهوقنى والتك العملاقة.
وهو كبري عائم يرتفع مع ارتفاع النهر وينخفض مع انخفاض منسوب النهر، مربوطا من نهايات أركانه الأربع بنوع من الحبل الذي لا يمكن أن ينقطع نتيجة لأي قوة شد، وهو مصنوع من جلد فرس البحر المعالج بالقطران وألياف الرافيا والسعف ولحاء بعض الأشجار الأخرى، مشدود على شجيرات عرديب، ثلاث بالشاطئ الشرقي وأربع بالشاطئ الغربي للنهر، يستطيع هذا الكبري أن يمرر دبابة ضخمة من طراز 55 الروسية ذات البرج العالي المجنزرة والتي تزن خمسين طنا من الحديد الصلب والذخائر والجنود المدججين بالموت والذكريات، أما ناقلات الجنود الأمريكية الرشيقة والتي تخص المليشيات فإنها تنزلق على الكبرى مثل لعب الأطفال.
دعنا من الجيش والحروب، قلت لنفسي، ولو أن ذكرى الجيوش والمعارك تثيرها مشاهدات المقذوفات الفارغة وخوذات العسكر والآليات المحترقة التي ترمى هنا وهناك بين المقابر الجماعية، على أفرع الأشجار، أو مدفونة في الأرض.
بعد مغيب الشمس بقليل كنت عند مطلع القرية، وبدا صوتها واضحا؛ نباح الكلاب، نهيق الحمير، نداء الأمهات لأطفالهن، بين وقت وآخر يعلو صوت رجل راطنا أو مغنيا أو لاعنا أو مجيبا لنداء، تذكرت أن أحد الذين قابلوني في الطريق قال لي: منزل جدك هذا قرب النهر، لكي أذهب إلى النهر لا بد من عبور الحلة كلها، وحل الظلام الآن، تراكمت بعض السحب الداكنة سريعا في شرق السماء، عندما ناديت أهل أول بيت من خلف زريبة شوكهم: يا ناس البيت سلام.
رد علي صوت امرأة شابة: أهلا وسهلا، اتفضل، منو؟
كان الظلام دامسا، لا أرى ولا أرى ولكن الصوت الحنين الدافئ القادم من الداخل، بلهجته الصعيدية الحميمة، أصابني بالطمأنينة، وربما لما يحمله من أنوثة ملحوظة، وأنا شخص طالما وصفني أصحابي بأنني أميز هذه الأشياء، وقطع سلسال تفكيري صوتها سائلا: منو؟ - أنا ضيف.
وانضم للصوت الأول حمحمة امرأة عجوز ويبدو أنها الأم: اتفضل قدام.
وجاءتا ببطارية لترشداني إلى المدخل، والذي يقع على الجانب المقابل لموقفي، فمشيت نصف الدائرة شمالا إلى أن وجدتهما واقفتين، أجلست على راكوبة صغيرة تفوح من جوانبها رائحة الروب والسمن والشرموط، أيضا السمك المجفف، يبدو أن خلف الراكوبة يوجد حمار أو حماران، فصوت زفير منخر ضخم كان يصلني من هنالك، وشخير عميق يأتي لسمعي من عمق ظلام القطية، قدمتا لي ماء من زير قريب بارد، سألتني الأم والتي ما زلت لا أستطيع أن أتبين ملامح وجهها: من وين جيت ؟ - من القضارف. - أنت ود منو؟ - أنا ود الحاج عندلة.
وهنا فجأة سمعت صوتا يأتي من داخل ظلامات القطية قويا وحادا. - ده منو الضيف القال هو ولد الحاج عندلة ده؟ تعال لي جوا هنا، تعال جوا هنا.
وتبع ذلك جلبة شيء يصطدم بشيء، وشيء يقع على شيء، شيئان يسقطان على الأرض يصدران رنينا يطول، ثم حشرجة حنجرة يابسة قديمة صدئة ثم شحذ سكين على خشب جاف، وأصوات أخرى. - تعال جوا هنا.
وفي ذات اللحظة التي نهضت فيها للذهاب إلى الداخل، أمسكت الفتاة بيدي وجذبتني إلى خارج الراكوبة، قالت جملة واحدة قوية: اهرب ... اقطع البحر، ولو ما قطعت البحر: حتموت.
ولا أدري كيف قفزت على الشوك الذي ما كنت أراه، ودرت دورتين حول نفسي، كنت خلالهما أبحث عن الاتجاه الذي يجب علي أن أجري نحوه، تجاه النهر، ولكن حينما صاح الصوت مصدرا عواء وكأنه ذئب جائع منذ ألف عام، جريت دون أن أفكر، ثم سمعت عواء مشابها من جهات أخرى، ثم عواء مشابها ثم عواء آخر؛ خمس أصوات ذئبية تنطلق من خمس بقع في الظلام، ثم نبحت كلاب الحلة مذعورة، ثم أخذ ضوء البطاريات ينطلق من هنا وهنالك شارخا الظلام، صراخ نسوة، صياح أطفال صحوا مذعورين على العواء المرعب، صوت أقدام مهرولة؛ بل دوي طلق ناري شاقا الفضاء، مما شل ما تبقى لدي من تفكير، وجدت نفسي الآن على حافة النهر، ويقترب العواء مني أكثر، حيث تجمع - على ما أظن - الخمسة وأصبحوا مجموعة واحدة منطلقة خلفي، لم أفهم شيئا إلى تلك اللحظة، لا أعرف غير أنه يجب علي أن أهرب وأعبر النهر حتى لا أموت، سقطت على مياه النهر مباشرة، وكنت ممسكا بحقيبتي بشكل جيد وتام، وعندما انتبهت لخطأ المغامرة، خرجت من الماء، نزعت نعلي وأودعتهما حقيبتي، كذلك منطلون الجينز والقميص، وأصبحت عاريا إلا من لباس داخلي قصير، ثم وضعت حقيبتي الصغيرة على ظهري، وحمالتاها تدوران حول إبطي وسبحت، كان ماء النهر باردا وثقيلا، وعندما كنت على الشط الآخر، وصلوا الشط الأول ، أضاءوا نحوي بطارياتهم، ثم صاح واحد منهم بصوت أجش حامض، وكأنه نهيق حمار: هناك حتاكلك كلاب السمع، أخير تعال هنا نأكلك نحنا.
ثم علا ضحكهم ثم رطنوا، ثم ضحكوا مرة أخرى، ثم قال لي آخر مناديا، بينما كنت أنا أهرب مختفيا في الغابة الكثيفة: بكرة نعرف خبرك، دخلت الغابة الملعونة براك برجليك، ضحكوا، عووا، صاحوا في رعب، ضحكوا، ثم أكدوا بصوت واحد، أنني لن أنجو من كلاب السمع، واختفوا تماما وتلاشت أصواتهم تدريجيا.
لم أتوغل في الغابة؛ لأنهم قالوا إنها الغابة الملعونة، وورد ذكر كلاب السمع الشرسة، والتي أعرفها وأخاف منها بشكل جيد، وهي لا تستغرق عندها وليمة من ثور الجاموس غير خمس دقائق، يختفي عن الوجود، ولن تبقى من دمائه ولا قطرة واحدة، فقط هيكله العظمى كشاهد على الوليمة، صعدت شجرة وجلست على فرع منها، لا يبتعد عن الأرض كثيرا، سوف لا أنام وعندما تشرق الشمس غدا ... ربنا كريم. يبدو أنني نعست؛ لأنني أخذت أسمع صوتها يناديني، عميقا دافئا قرويا حنينا ولا مبال، وسمعت خطوات تتعثر ولكنها تقترب في ثبات. - ولد الحاج عندلة، ولد الحاج عندلة، ولد الحا ...
نعم هي ذاتها، والغريب في الأمر أنني لم أخف منها؛ بل صحت مباشرة بأنني هنا على فرع الشجرة، واقتربت، لم أستطع أن أتبين ملامح وجهها ولكنها بلا شك كانت جميلة، إن الصوت دائما كما يقول صديقي - أبو ذر - دالة في الوجه، كانت تحمل بخسة من لبن البقر مخلوطا بالسمن، وأنا أحب اللبن وأحب السمن أيضا وأحب البنات طبعا أكثر: أن أنجو.
طلبت مني أولا أن نغادر هذه الغابة الملعونة، والتي هي أخطر من الرجال الذئاب، فهي مسكونة بالشياطين وكلاب السمع، ولا يجرؤ أحد من القرية دخولها ليلا، وأنها لولاي لما فعلت، فحملت حاجياتي، عبرنا النهر، عبر بقايا الكبرى المتهالك ومشينا قليلا على ضفة النهر الغربية، ثم أشارت إلى طريق أضاءت جزءا منها بالبطارية، وقالت لي: إنها تقودني إلى قرية آمنة.
جلسنا تحت شجرة، أخذت من بين كفيها قرعة اللبن الدافئ المسمن ، وفي شفطتين طويلتين أتيت على كل محتويات الماعون، وأخذت أتنفس بصورة متسارعة وألحس شاربي بلساني، متصيدا بقايا اللبن عليه، مستفيدا من أنها لا تستطيع أن ترى ذلك في الظلام، كنت جائعا جدا، ثم أخذت أرتجف بصورة مرعبة، لا أدري لماذا أرتجف؛ خوفا، شبعا، أم باللبن شيء ما سوف يفقدني الوعي وأصبح فريسة ساهلة لهؤلاء المتوحشين؟ لا، لا ... أنا أثق في المرأة؛ لأنني أحب النساء وكنت أعرف بيني وبين نفسي أنه يستحيل أن تلحق امرأة بي ضررا ولو يسيرا؛ لأن لدى النساء مسبار سري مسحور يعرفن به من هو عدوهن ومن هو العاشق، كما أنني استبعدت فكرة أن تتآمر هذه البنت علي؛ لأنها هي التي أنقذتني، قلت لها بصوت مرتجف: أنا أشعر بالبرد ... أشعر بالبرد والحمى.
فتحسست معصمي، ثم وضعت كفا على خدي، كما لو أنها تقيس درجة حرارته، ثم قالت: أنت بردان؛ لأنك عمت في البحر، أنت ما عارف الكبري الجينا بيهو قبل شوية؟ - والله ما كنت عارفو، فقط سمعت به مجرد سمع.
قالت ببساطة وبكل براءة: تعال!
ثم نزعت ثوبا كانت تلتف به، نزعت جلبابها وأخذتني إلى صدرها: حسي حتحس بالدفو.
وعندما ضمتني إليها بشدة، تأكد لي صحة جملتها الأخيرة، كانت طويلة أطول مني، ذات جسد ممتلئ كالتيتل، ضمتني إليها مسقطة صدري بين نهديها الكبيرين، كانت تفوح منهما رائحة الكسرة الساخنة، كنت مندهشا جدا لدرجة أنني ما كنت أفكر في شيء، ولا الحمى ذاتها، كانت مثل أم أسطورية نزلت من الجنة الآن وهنا، ومن أجلي بالذات. قلت في ذاتي: سبحان الله! اللي يجيب قتالك يجيب حجازك، وعندما ضمتني إليها بشدة، أحسست بأن رجلي ما عادتا تحملاني؛ بل لا وجود لهما، وكل ما كنت أحس به من أعضائي صدري، الذي في وسط بطنها الدافئ ورأسي التي بين طرقتي كسرة شهيتين، وكنت قد طوقت بذراعي وسطها في محاولة مني المشاركة في هذا الاحتفاء الإنساني البديع ... هذا المهرجان الجسدي الحار ... قلت لها: فلنرقد على الأرض، فأنا لا أستطيع الوقوف. - أحسن، قالت: أحسن ، نرقد في الواطا ... هل اتحسنت ولا لسع خايف؟
وكنت سأجيبها إذا كنت أعرف اتحسنت أم لا، ولكنني كنت بالتأكيد أحسن حالا، فلقد أصبحت متماسكا واختفت ما تشبه الحمى من جسدي، ولكن أصبت بحالة من ما لا يسعفني قاموسي اللغوي البسيط على تسميته، بالتأكيد إن لحالتي اسما، وكنت ببساطة ... دعوني أقول لكم: أرقدتني على صدرها وطوقت خاصرتي بذراعيها الطويلين كأذرع الغوريلا، كانت شفتاي في نهاية حلمتي ثدييها اللذين من شعور غامض عرفت أنهما لا بد أن تكونا كبيرتين، ودون أن أفكر حركت رأسي قليلا ناحية هرم ثديها، حيث واجهت شفتاي الحلمة الكبيرة الدافئة، أغرتني رائحة الكسرة الساخنة، ودونما تفكير أخذت أرضع كالطفل، تحركت قليلا، وأظنها كانت تبتسم مشفقة وهي تقول لي في حنان دافق: أنت جيعان لسع ... مسكين لو عارفة كنت جبت معاي لبن أكتر.
ثم أضافت في براءة: ما حتلقي لبن فيهم؛ لأنني لم ألد، زوجي توفي منذ أعوام كثيرة وأنا عروس، ما حتلقى فيهم أي شيء.
قلت لها: أنا ما عايز لبن. - عايز شنو، شيء؟
قلت وأنا دائما جريء مع النساء ولا أخشى ردود أفعالهن؛ لأنني أعتبر نفسي صديقا لكل بنات الدنيا وأنهن يوقعن فعلي وقولي الموقع الحسن: عايز أرضع وبس.
قالت وهي تضحك حقيقة في هذه المرة؛ لأنني سمعت ضحكتها بأذني. - ارضع.
ودفعت بصدرها نحوي بغنج أنثوي دافئ.
وهي تسحب القطعة الوحيدة التي كنت أحتفظ بها من ملابسي، وبحركة رياضية بارعة أسقطت جزئي الأسفل ما بين نهريها، وفجأة وجدت نفسي منبلعا كلي في المرأة كما لو كانت شقا على الأرض انفتح فجأة ابتلعني ثم انسدت مرة أخرى، أنا دائما ما أقول: إن المرأة هي أصل كل شيء، وكل شيء يعود إلى المرأة، وأتفه العائدين إليها وأولهم هو الرجل، وهي أيضا الحقيقة الوحيدة، وهي الدفء الوحيد في العالم بعد أن تغيب الشمس، وهي الأم التي باستطاعتها أن تلدنا في كل لحظة، ولم يقطع حبل امتداحي للمرأة سوى صرختها عندما بلغت قمة نشوتها: يا يوووووما ...
خرجت الصرخة من عمق سحيق وكأنها آتية من خلف قرن من الزمان، جلسنا نحكي لبعضنا عن بعضنا والأشياء، وقلت لها: عندما قالت لي اهرب، كنت أظن أن جدي الحاج عندلة قتل شخصا ما أو أنه مطلوب في ثأر، وأنني إذا لم أهرب لثأروا مني، سخرت مني ضاحكة في غنج جميل قائلة، وكنت أرى قربتي لبنها تهتزان في الظلام: نحنا هنا ما عندنا تار.
ثم حكت لي كيف توحش نفر من رجال القرية، وأصبحوا من أكلة البشر، بالرغم من أنهم كانوا من خيرة سكان القرية: جاءت مفرزة من جيش الحكومة واختارتهم للتدريب، واختفوا لما يقارب الثلاثة أعوام، وعندما عادوا، جاءوا وهم كلما جن الليل عووا، إلا أنهم حتى الآن لم يأكلوا أحدا في القرية، ولو أنهم قتلوا رجلا غريبا قبل شهر إلا أن ناس القرية حالو بينهم وبين أكله؛ حيث حفرت له مقبرة ودفن فيها، ولم نستطع أن نبلغ الحكومة، فنحن أسرة واحدة، وهم من كل بيت، وإذا عرفت الحكومة ستقوم بإعدامهم، والناس يسعون لعلاجهم، فالآن بالخلوة يجلس عشرة من رجال القرآن والفقهاء وهم يصلون الليل بالنهار، إن شاء الله سيشفون عما قريب، هنا الناس لا يثقون في الحكومة ويظنون أنها لا تعرف كيف تتعامل مع المشاكل، وأنهم سيعالجون إشكالاتهم بأنفسهم وطرقهم الخاصة.
شيء غريب، يكون حصل ليهم شنو يا ربي!
الناس قاعدين يقولوا إنهم انقطعوا في منطقة مستنقعات، سنة كاملة، لا زول جاهم ولا أرسلوا ليهم أكل ولا جاهم جيش لينقذهم، كانت المليشيات محاصراهم من كل الجهات حتى السماء ذاتو، يسوا شنو.
حدثتني بأنهم، أكلوا القش والطين، أكلوا ثعابين الماء، الجرذان، أكلوا الصراصير والعنكبوت، أكلوا الذباب والباعوض، أكلوا الهواء والدود الأسود اللزج، ثم أكلوا بعضهم البعض، قالت: الأقوياء أكلوا الضعفاء، واحنا ناسنا؛ لأنهم من بلد واحدة اتحالفوا مع بعضهم وأكلوا البقية ... المهم كلها قوالات وما في زول يعرف الحصل ليهم شنو، والغريب في الموضوع أنهم اكتشفوا بعد سنة كاملة من الخوف والجوع وأكل لحوم الزملاء إنو المحاصرنهم ما كانوا المليشيات لأ، كان جيشهم نفسه، زملاؤهم ذاتهم؛ لأنهم قايلنهم مليشيات، شوف كل زول خايف من التاني وقايلو العدو، سنة كاملة اتخيل، سنة كاملة، الحرب دي بلوة من الله وابتلانا بها، وبدون شعور قلت: ما تبلغوا الحكومة.
قالت منفعلة: حكومة شنو وهي ذاتها الحكومة وين؟
وأكدت لي أنهم لا يرون الحكومة إلا في الطيارات التي تعبر في السماء فوقهم، أو عندما جاءوا وأخذوا فتيان القرية للحرب أو عندما جاءوا هم وجاءت المليشيات وتحاربوا هناك عند الربوة العالية وغابة النبق، أسبوعا كاملا، فتطاعنوا، هشموا عظام بعضهم البعض، دفقوا دماءهم وصنعوا منها أنهارا، أنهارا حمراء، ثقبوا صدور بعضهم البعض بالرصاص الحار، هشموا رءوسا، قطعوا آذانا، مثلوا، عقروا، سملوا، بالوا، عذبوا، قبضوا أرواح بعضهم البعض وأرسلوها إلى الله، ولم يبق سوى جندي واحد هزيل جريح بعين واحدة من الجيش، ولم يبق سوى جندي واحد هزيل جريح برجل واحدة من المليشيات.
فدق أهل القرية النقارة، رقصوا على التل، على جثث الجند، وآلاتهم الحربية، ضحكوا على الجميع، أشعلوا النار على الأجساد المتقيحة المتحللة العفنة البائسة، ثم أتوا بالجريحين، أرقدوهما على الأرض جنبا إلى جنب، ثم جاءوا بالعصي الكبيرة المصنوعة من القنا وانهالوا عليهما ضربا حتى الموت، ثم قاموا بدفنهما في قبر واحد ضيق، وهم ينشدون إنشادا مرتجلا ألف في وقته في ذات موقع التل، شربوا ما بقي من مريسة، وعادوا إلى منازلهم، لقد انتهت الحرب، ولم نر منذ ذلك اليوم أحدا من المليشيات أو الجيش، نحن هنا عايشين على الصيد والزراعة، ونحل مشاكلنا بطريقتنا الخاصة ولسنا في حاجة للحكومة، ثم سألتني ببراءة: أنت من الحكومة؟!
قلت نافيا بشدة: إنني لست من الحكومة وإنني جئت أبحث عن أخ تاه في هذه الأماكن منذ شهور مضت، كان يعمل بتهريب جلود الحيوانات البرية بعد أن يشتريها من الصيادين، وقلت لها بصراحة أيضا: ويهرب البنقو.
فقالت لي وكأنها لم تسمع ما قلت: أنت تاجر بنقو مش كدا؟ - قلت لك أخي، أخي يتاجر في جلود الحيوانات البرية النادرة والبنقو.
قالت دون مقدمة: عايزة أشوف وشك.
ودون أن تنتظر إجابتي أضاءت البطارية في وجهي مباشرة، تجولت بالضوء حول أذني وشعري وعنقي وأيضا صدري، مسحت بكفها على حواجبي قالت لي: افتح خشمك.
قذفت بحزمة ضوء في فمي، كانت أسناني بيضاء ومنتظمة وجميلة وستشع نورا نتيجة لسقوط الضوء عليها وستعجبها أكثر من أنفي القبيح، والذي أعرف أنه قبيح جدا، ولو أن أذني جميلتان، قالت لي بصوت حالم: أنت حلو.
أخذت منها البطارية وأضأتها في وجهها، فصعقني الوجه برغبة واحدة جامحة، قلت لها: عايزك تاني، حس.
قالت لي بشكل نهائي وحازم، وكأنها كانت تعد لإجابتها من زمان بعيد: لا، عشان تجي تاني. - وين؟ - حلتنا. - حلتكم دي؟ - لا، إنهم لليوم داك حيتعالجوا لا تخف، كل الناس تعرف أنهم حيكونوا كويسين زيهم ذي كل زول، أنا متأكدة، هو مرض وسيزول. - خلي داك للظروف أنا عايزك حس. - لا، عشان تيجي، ما تحاول؛ لأني ما حأقدر، وأنا ما عملت معاك اللي عملتو إلا عشان أنت كنت بردان وبس.
وشبقت بها فعلا ... شبقت بها بشدة، بحرارة، بجنون، شبقت بها بصورة لا تغتفر، شبقت بها بالسماء كلها والأرض وأمي وأبي وأخي وأخواتي الثلاث، شبقت بها بالليل والانتعاظ ورقصة الجسد الأبدية، بكثرة، ب «يا يما» بيا العالم كله وأصدقائي البائسين، شبقت بها بحنق، بعنف، بخوف، ببطء، بصبر، بسرعة رهيبة، بالأرض كلها تدور، ماء، بالموت والميلاد والبعث والضياء، باللبن، بثدييها المشهيين الشهيين، بحق الماء الذي أودعته فخذيها، بحق اللذة التي وهبتها إياها، بحق الصرخة البائسة، شبقت بها بحق اللبن المسمون الذي شربت، بحق أن أنقذتني، بحق أكلة البشر، بحق كل شيء عزيز وكل شيء تافه، شبقت بها، والليل والطين والنهر والنساء والصديقات الجميلات الرائعات النائمات الآن الحالمات، الميتات، شبقت بها ورغبت فيها بشكل نهائي وسأموت في الحال إذا لم أنم معها أو سأندم حياتي كلها أو سأكسر عنقي أو سأقتلها، شبقت، رغبت، كنت منتعظا بألم خرافي، أنا أريدها والآن.
ففي المرة الأولى حدثت الأشياء دون رغبة مني ودون حتى توقع؛ بل أتستطيع أن أقول دون لذة فعلية من جانبي ، ولو أنها أمتعتني بصرختها تلك، إلا أنني لم أر حتى وجهها، ومعروف أن الوجه نصف اللذة، إذا كنت مدفوعا، أما الآن أحتاجها بإرادتي أنا وبرغبتي أنا وبشهوتي أنا وبشبقي الكوني اللانهائي ... أنا، أنا أريدها امرأة، أريدها بلا مساومة الآن وسأنام معها.
كانت تمانع بإصرار تام واقتناع لا حدود له، وهي تمسك بيدي بعيدا عن جسدها وكأنها ما صرخت شبقا من فعلي قبل ساعة لا أكثر، وكأنها لا تعرفني من قبل؛ بل وكأنها ملاك وأنا إبليس بعينه، كأنها ليست امرأة ولست رجلا، وكأنها ... - لا عشان تيجي تاني، لو عايزني. - مش حا أجي تاني إطلاقا.
ومشيت؛ بل هرولت قاصدا الطريق التي وصفتها لي، والتي كما قالت ستقودني إلى قرية صغيرة آمنة، ويمكنني أن أبيت في بيت من بيوتها، وعندما تشرق أستطيع أن أتصيد اللواري الذاهبة للقضارف، فهي تسلك طريقا من القرية على بعد ميل أو ميل ونصف الميل.
كنت غاضبا غضبا حقيقيا، وشبقا شبقا حقيقيا، وفوق كل ذلك لا مباليا بشيء، وعندما بعدت منها مسيرة دقيقتين أو ثلاث سمعت صوتها تصرخ قائلة: ما تزعل مني سامع، ما تزعل مني، أنا برضو عايزاك، ولكن ...
قلت بصوت عال وقح شاتما إياها: يا لبوة يا قذرة، تفو.
لم ترد، ولكني وأنا أسمع نباح أول كلب من القرية، سمعت صوتها يأتي من بعيد ... من عمق سحيق من الظلام مناديا في وهن، أنا برضو عايزاك ولكن عشان نتلاقى تاني.
وقفت أنظر نحوها ... لم أر شيئا، كان الظلام دامسا، حملقت في الظلام، فجأة برق ضوء بطارية واهن من بعيد ... بعيد جدا، إنها هي بالتأكيد، كانت تضيء وتطفئ، هي تريد أن تقول شيئا أو تريدني أن أعود إليها، لقد تفهمت وجهة نظري، أو ربما أنها تودعني، لكني لم أفكر في الرجوع إليها على الأقل الآن، لقد كانت كريمة معي، كانت وقحة وعنيفة، إنها بنت قوية أقوى منى، لأول مرة تهزمني امرأة، أول مرة في حياتي أرغب امرأة بهذه القوة وهي معي، ولا أستطيع أن أنال منها ... مستحيل ... مستحيل، ربما قد تعجلت الانسحاب، كان علي أن أحاورها أكثر علي أن أرجوها، علي أن أداعبها فالمداعبة تلين النساء، وتفقدهن السيطرة على أنفسهن، علي أن أكون طويل النفس، كنت أحمق وقصير النفس ومغرورا وأنانيا، ولم أتح لنفسي تفهم وجهة نظرها، فكرت في نفسي وفي حاجتي الآنية، ولا أدري هل هي بريئة أم أنها مغرورة أيضا، ولكنها كانت كريمة معي، كانت أما فعلية، لا، رحما عميقا دافئا، كنت سأمتدحها أكثر لولا أن هرتني كلاب شرسة وحاصرتني حصارا تاما وكشفتني وجهرت عيني بطاريات كثيرة، وصياح: منو، منو، وكدت أقول: ضيف، وكدت أقول: ابن الحاج عندلة، ولكني آثرت الصمت، الصمت التام.
ديسمبر 2001
صفحه نامشخص