امپراتوری اسلامی
الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة
ژانرها
أنا ربكم الأعلى
فبعث الله موسى إلى بني إسرائيل يصرفهم عن عبادة فرعون إلى عبادة الله، وكان أهل فلسطين يذعنون لأرباب روما صاحبة السلطان فيهم، وكان اليهود منهم يتملقون الحاكم الذي ترسله روما ويقرون ظلمه ابتغاء لرضاه عنهم، وليمد لهم أسباب السلطان والمال، فقام المسيح فيهم يدعوهم إلى ملكوت السموات، وينذر الأغنياء عذاب ربهم الأعلى.
وكان العرب في شبه الجزيرة يعبدون الأصنام، فبعث الله محمدا إليهم يدعوهم لعبادة الله وحده ولنبذ الأصنام، وينذرهم عذاب يوم شديد إذا هم لم يبتغوا وجهه الأكرم، ملتمسين إليه الوسيلة بالبر والتقوى.
ليس عجبا - والصلة بين الأديان الثلاثة ما قدمت - أن تتفق الفكرة التي أدت إلى تشييد الأماكن المقدسة أو تكاد تتفق. وهذه الفكرة لا تقف عند تقديس المكان الذي نزل الدين فيه، فأمرها ليس كذلك في اليهودية بالنسبة لحائط المبكى ولا للصخرة المقدسة، وإنما جوهر هذه الفكرة تعيين المكان الذي يجتمع الناس فيه ليتوجهوا بقلوبهم إلى الله، والذي يقبل الله فيه توبة التائب من آثامه، فنحن وإن اتصلت روحنا ببارئ النسم جل شأنه، تغشانا بحكم حياتنا الدنيا أهواء وشهوات، تحجب ضياء الروح، فلا يهدينا صراط الله المستقيم.
وكثيرا ما تدفعنا هذه الشهوات وهذه الأهواء إلى ألوان من المعاصي والآثام، تباعد بيننا وبين رضا الله عنا، وحسن مثوبته جل شأنه إيانا.
حق أن الحسنات يذهبن السيئات، وإنما في عبادتنا حيث كنا نخفف من أوضار ذنوبنا، لكن من الذنوب ما يثقل الروح فهي أبدا قلقة تريد أن تخلص منه، ونحن نتوب إلى الله ونستغفره في كل صلاة وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار، وعفو ربي وسع كل شيء، لكن التوبة النصوح، التوبة التي يتقبلها الله ويمحو ذنوب صاحبها، هي التوبة التي نسعى إليها، ونتجشم المشاق في سبيلها، ثم نعلنها على ملأ العالم من بني ديننا. وهذه التوبة هي التي تتم في إعلان صريح في المكان المقدس الذي اختاره الله لنا، كي يكون بعضنا شهيدا على بعض، ولكي لا تلهينا العاجلة، فلا نكاد نعلن التوبة إلى الله حتى نتورط في حياة الإثم من جديد.
هذه هي الفكرة الجوهرية القائمة بنفس كل مسلم، وكل مسيحي، وكل يهودي، يعتزم الحج إلى المكان المقدس الذي اختاره الله لأهل دينه وملته، ففي سبيل طهر القلب، ونقاء الروح مما يعلق بالنفس من أوضار الإثم، نذر وراء ظهورنا تلك البيئة التي أغرتنا وغرتنا، ولعبت بأهوائنا، وعبثت بقلوبنا إلى بيئة طهور تتجلى فيها أرواحنا، وترتفع إلى غاية ما تستطيع أن تسمو إليه من عوالمها المضيئة، فتصهر بحرارة إيمانها، وبحرارة توبتها، ما علق بها أو تصبره على ملأ بني الدنيا لأن الدنيا مهد الخطيئة، فليس منا من يستطيع أن يدعي أنه لم يأثم، بل كلنا تصدق فينا كلمة السيد المسيح في مريم المجدلية: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.»
فكرة التوجه إلى الله بالتوبة وطلب المغفرة هي التي أبقت الأماكن المقدسة جديدة أمام كل جديد، وهي التي أنشأت تلك الأماكن أول أمرها، وهي الأساس لنشأة أقدم هذه الأماكن وأكثرها قدسية، فمنذ فجر الإسلام كان الطواف بالكعبة يجمع كل معاني التوجه لله، من شكر إلى رجاء إلى توبة واستغفار.
وكان الطواف بالكعبة يجمع هذه المعاني قبل الإسلام، فالعربي الجاهلي الذي كان يطوف بالكعبة قبل أن يخرج إلى عمل يرجو منه الخير ، والذي كان يضرب بالقداح عند هبل القائم في جوف الكعبة قبل أن يوفقه رب البيت إلى ما يبغي ونحن لا نزال إذ نطوف اليوم بالبيت العتيق يحدونا الرجاء أن يحط الله عنا أوزارنا، وأن يوفقنا في حياتنا إلى ما نحب ونرضى وإلى ما يحب ويرضى، ذلك شأننا جميعا حين نحج وإن اختلف كل حاج في تصور الحياة وتصور معاني الرجاء والشكر والتوبة.
الفكرة التي شادت الأماكن المقدسة وأبقتها جديدة أمام كل جيل جيد، هي إذن فكرة التوجه لله ابتغاء رضاه، والأمل في بلوغ الكمال الذي يقربنا من الله، ثم قصورنا دون هذا الكمال، وقربنا في كثير من الأحيان من نقيضه، ورجاؤنا في الله بعد ذلك أن يغفر لنا ما قصرنا وما أتممنا. وهذا الاضطراب بين الكمال ونقيضه يتعرض له الناس جميعا على اختلاف أقدارهم واختلاف علمهم.
صفحه نامشخص