الجزء الأول: الإمبراطورية الإسلامية
1 - أسباب قوة الإمبراطورية الإسلامية
2 - نظام الحكم في الإسلام
الجزء الثاني: الاشتراكية والديمقراطية في الإسلام
1 - الاشتراكية الإسلامية
2 - الإسلام والديمقراطية
الجزء الثالث: الإسلام والحريات الأربع
1 - الإسلام وحرية العقيدة
2 - الإسلام وحرية الرأي
3 - الإسلام والتحرر من العوز
4 - الإسلام والتحرر من الخوف
الجزء الرابع: الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط
1 - الأماكن الإسلامية المقدسة
2 - الأماكن المسيحية المقدسة
3 - مبكى اليهود
4 - الأماكن المقدسة لماذا لم تحتفظ ببساطتها
الجزء الأول: الإمبراطورية الإسلامية
1 - أسباب قوة الإمبراطورية الإسلامية
2 - نظام الحكم في الإسلام
الجزء الثاني: الاشتراكية والديمقراطية في الإسلام
1 - الاشتراكية الإسلامية
2 - الإسلام والديمقراطية
الجزء الثالث: الإسلام والحريات الأربع
1 - الإسلام وحرية العقيدة
2 - الإسلام وحرية الرأي
3 - الإسلام والتحرر من العوز
4 - الإسلام والتحرر من الخوف
الجزء الرابع: الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط
1 - الأماكن الإسلامية المقدسة
2 - الأماكن المسيحية المقدسة
3 - مبكى اليهود
4 - الأماكن المقدسة لماذا لم تحتفظ ببساطتها
الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة
الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة
تأليف
محمد حسين هيكل
الجزء
الإمبراطورية الإسلامية
الفصل الأول
أسباب قوة الإمبراطورية الإسلامية
(1) حادث فذ
قيام الإمبراطورية الإسلامية حادث فذ في تاريخ الإنسانية، فقد بدأ الغزو العربي للشام والعراق سنة خمس وثلاثين وستمائة لميلاد السيد المسيح. وبعد خمس عشرة سنة من هذا التاريخ كانت الإمبراطورية الإسلامية قد اشتملت على فارس ومصر وشمال أفريقيا، وامتدت إلى حدود الهند وتاخمت الصين. وقيام إمبراطورية بهذه السعة في هذا الزمن القصير معجزة لذاته، لكن من حوادث التاريخ ما يشبه هذه المعجزة.
وحسبنا أن نشير إلى حروب الإسكندر وإلى حروب المغول. امتدت حروب الإسكندر مشرقة من مقدونيا إلى الهند وتناولت مصر، وامتدت حروب المغول غربا من قلب الصين إلى أوروبا، لكن حروب الإسكندر وحروب المغول لما تكد تنتهي حتى تناثر عقد الإمبراطورية التي نشأت سلطاتها، وعادت الدول التي انتظمها الغزاة إلى نظامها الأول.
أما الإمبراطورية الإسلامية التي مدت لواءها في هذا الزمن القصير على هذا الجانب الكبير من العالم، فقد استقرت قرونا امتدت أثناءها إلى الأندلس، وانتشرت في الهند، وأظلت جانبا من الصين. وهي إلى ذلك قد أقامت حضارة سادت شئون العالم كل هذه القرون، فلما آن للإمبراطورية الإسلامية أن تنحل بقيت هذه الحضارة تناضل عن نفسها، وهي اليوم تبعث من جديد.
هذه هي المعجزة حقا، وقد حاول كثيرون تأويلها والتماس أسبابها، ولما يبلغوا من ذلك غاية يطمئن الباحث المنصف إليها كل الاطمئنان، فإذا صح أن كانت عبقرية الإسكندر الحربية سبب فتوحه العظيمة، وأن تنسب فتوح جنكيز خان ونابليون إلى مثل هذه العبقرية، فمن العسير أن ينسب قيام الإمبراطورية الإسلامية إلى عبقرية حربية من هذا القبيل.
النصر من عند الله
وإذا جاز لنا أن نقرن اسم قائد نابغة، كخالد بن الوليد، إلى أسماء الإسكندر وجنكيز خان ونابليون، فيجب ألا ننسى أن هؤلاء بلغت بهم عبقريتهم أن أصبحوا ملوكا وأن صار إليهم وحدهم الأمر كله، على حين بقي خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وغيرهما من قواد المسلمين تحت سلطان الخلفاء أمراء المؤمنين. بل لقد عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد، وكان من أسباب عزله إياه أنه خشي أن يظن الناس أن المسلمين لا ينتصرون إلا بخالد، وليس خالد في رأي عمر إلا رجلا من المسلمين شأنه شأن غيره من القواد، وإنما النصر من الله يؤتيه من يشاء.
لا بد إذن أن نلتمس لقيام الإمبراطورية الإسلامية ولاستقرارها سببا غير السبب الذي أقام إمبراطورية الإسكندر وغير الإسكندر من عباقرة الحرب، وأن نلتمس هذا السبب - أو هذه الأسباب إن شئت تعبيرا أدق - عن طريق التحليل الاجتماعي لحياة العصر الذي قامت الإمبراطورية الإسلامية فيه، والعوامل الظاهرة التي أدت إلى قيام هذه الإمبراطورية واستقرارها.
بعث النبي ودعوته
يذكر المؤرخون المسلمون أن بعث النبي العربي ودعوته هما اللذان أقاما هذه الإمبراطورية، وهذا تعليل صحيح لا ريب ... فقيام النبي العربي بالدعوة إلى الإسلام، وانضواء جزيرة العرب كلها إلى لوائه، ذلك هو الذي دفع العرب إلى ما وراء حدودهم، وجعلهم يغنمون العراق والشام ويغزون الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، لكن التاريخ يحدثنا بأن دعوة النبي العربي حوربت في آخر حياته، وبعد وفاته، بأشد مما حوربت أول بعثه وفي مستهل دعوته. كان قومه من قريش هم الذين خاصموه وقاوموه في السنوات الأولى من بعثه ودعوته، وقد تغلب عليهم بالصبر والثبات، فلما نفد صبره وخاف على الذين اتبعوه هاجر إلى يثرب، ثم حارب خصومه حتى دان شبه الجزيرة لدعوته.
فلما انتشر الإسلام في ربوع البلاد العربية كلها نشأت دعوة تقاومه، لم تلبث أن تمخضت عن حركة الردة التي استفحلت في عهد أبي بكر. ولقد تردد غير واحد من كبار الصحابة بادئ الرأي في مجاراة الصديق حين دعا لمحاربة المرتدين، فلو أن الدعوة إلى الإعفاء من الزكاة استفحلت لاستفحلت معها فكرة الردة، ولخيف على الدين الناشئ ألا يستقر في النفوس، فلا يكون الإيمان به قويا إلى الحد الذي يقيم إمبراطورية عظيمة.
فلما انتصر أبو بكر في حروب الردة، وجمع شبه الجزيرة تحت لواء واحد، وأقر وحدتها السياسية إلى جانب وحدتها الدينية، آن للعرب أن يندفعوا لغزو العراق وغزو الشام، وكان هذا أول التمهيد للفتح وللإمبراطورية.
ولم يكن هذا التمهيد مأمون العاقبة، فقد انقضت خلافة أبي بكر، وانقضت سنة أو نحوها من خلافة عمر بن الخطاب، والعرب مقيمون على تخوم العراق وعلى تخوم الشام، يتخطون هذه التخوم حينا، ويردون عنها أحيانا. ولو أن القوة التي وقفت أمامهم كان في مقدورها أن تصمد لهم لتغير وجه التاريخ.
ويذهب بعضهم إلى أن الأمر لو أسند إلى خليفة غير عمر، لتغير وجه التاريخ كذلك، لكن قوة الروم وقوة الفرس تضعضعت أمام سياسة عمر وبأس الغزاة، فاندفع هؤلاء يتخطون العراق إلى فارس، ويتخطون الشام إلى مصر، ولا يحاولون أن يكرهوا الناس من أهل هذه البلاد حتى يكونوا مسلمين.
ريح الثورة
وانقضت خلافة عمر، وانقضى الشطر الأول من خلافة عثمان، ثم بدأت ريح الثورة تهب في أرجاء الإمبراطورية الناشئة؛ في مصر، وفي العراق، وتنتهي إلى قتل الخليفة الشيخ عثمان بن عفان. فلما وقع هذا الحادث الأليم انطفأ لهب الثورة حينا، ليندلع بعد ذلك أشد ما يكون أوارا، فتكون الحرب الداخلية بين علي ومعاوية؛ أي بين بني هاشم وبني أمية، وتظل أجزاء الإمبراطورية في الشام والعراق ومصر، وفي شبه الجزيرة نفسها، في اضطراب أيما اضطراب.
أين كان الروم، وأين كان الفرس إذ ذاك، وكيف بقيت الإمبراطورية الإسلامية بعد ذلك ثابتة القواعد وطيدة الأركان، فلم يفكر قياصرة بيزنطة، ولا فكر وارثو الأكاسرة في مهاجمتها وتقويض أركانها؟!
لم يقف الأمر عند عجز الروم والفرس دون انتهاز هذه الحروب الداخلية التي شتتت العرب شيعا وأحزابا، بل انتهت هذه الحروب بفوز بني أمية بالملك، ثم قيامهم بعد ذلك بتنظيم الإمبراطورية من جديد، وكأن لم تقع حرب أهلية، وكأن مصر والشام والعراق وفارس قد أصبح أهلهم عربا متعاونين على تقوية هذه الإمبراطورية وتدعيم بنائها. ثم امتدت الإمبراطورية بعد ذلك، واشتملت على أمم وولايات لم تدخل حظيرتها في عهد عمر ولا في عهد عثمان.
وشبت الثورة بعد ذلك بين الأمويين والعباسيين، وانتهت بظفر الآخرين بالملك، ثم لم تجن الحروب الداخلية على الإمبراطورية، بل ازدادت هذه الإمبراطورية قوة حتى آن لعوامل الانحلال أن تتسرب إليها.
انقضت بين التمهيد للإمبراطورية وبدء انحلالها قرون عدة، نشر أبناء الإمبراطورية أثناءها حضارة جديدة، أظلت العالم ووجهت مصائره، ثم استجنت بعد انحلال الإمبراطورية منتظرة أن تبعث من جديد. (2) رسالة الحرية والمساواة
كيف استقرت الإمبراطورية كل هذه القرون؟ ... وما بالها لم تهب عليها ريح الفناء التي هبت على إمبراطورية الإسكندر وعلى إمبراطورية المغول؟ ليس تفصيل هذه الأسباب مستطاعا في مثل موقفي هذا، لكني أستطيع أن أجمل هذه الأسباب في سبب واحد؛ ذلك أن العرب لم يندفعوا إلى الغزو، تحركهم مطامع مادية صرفة، بل اندفعوا إليه مؤمنين بأن القدر ألقى عليهم رسالة وأوجب عليهم تبليغها للناس كافة لخير الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا الإيمان هو الذي أقام الإمبراطورية، وهو الذي أبقاها ما بقيت من القرون. فلما اضمحل هذا الإيمان بدأ الانحلال يدب في أرجاء الإمبراطورية، يمزقها وينتهي بها إلى مثل ما انتهت إليه الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية.
لم تكن هذه الرسالة، التي آمن العرب بأن القدر ألقى عليهم تبليغها للناس، شيئا آخر غير رسالة الحرية والإخاء والمساواة في أسمى صورة يدركها العقل لمعاني الحرية والإخاء والمساواة؛ فإله الناس إله واحد، والناس متساوون أمام هذا الإله الواحد، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، وهم إخوة في هذه المساواة، يشد بعضهم أزر بعض، وهم مع هذا الإخاء وهذه المساواة أحرار لا سلطان عليهم لغير الله. أما وهذه المبادئ مقدسة، فكل نظام يوضع للجماعة يجب أن يقوم على أساسها، فلا يكون لخليفة المسلمين وأمير المؤمنين امتياز على أحد من رعاياه، بل إن عليه لواجبا أن يخدم هذه المبادئ المقدسة أو يكون قد خالف ما أمر الله به.
المبادئ السامية سر القوة
انتشرت هذه المبادئ في شبه جزيرة العرب لعهد النبي العربي، فحطمت في النفس العربية تقاليدها البالية التي أورثتها إياها عبادة الأصنام، وردت إليها هذه الحرية الروحية العزيزة على نفس العربي، فاندفع إلى الشام وإلى العراق مؤمنا بها. وهناك - على ضفاف دجلة والفرات، وعلى ضفاف بردي، وبين جبال لبنان الرفيعة - لقي العرب نظاما اجتماعيا ونظاما سياسيا بلغا من الهرم والانحلال مبلغا صرف الناس عن التحمس لهما والدفاع عنهما؛ لذلك لم تحرك فرق الجند من الفرس ومن الروم فكرة تدافع عنها في قتالها العرب.
بل كانت هذه القوات تذهب طوعا لأمر السادة الحاكمين، وقل أن حفزت الطاعة للحاكم، وحدها، إلى تضحية وإن قلت! ما بالك والجندي يسير إلى ميدان القتال ليضحي بحياته، وليترك من بعده أهله وأبناءه بين أيم تندبه، ويتيم يتلفت يمنة ويسرة فلا يجد ما هو في أشد الحاجة إليه من حنان ورحمة!
فلما استقر المسلمون في البلاد التي فتحوها، أقروا هذه المبادئ السامية بين أهلها، وجعلوا التسامح الديني أساس حكمهم حيثما نزلوا، فلم يكرهوا أحدا من أهل البلاد المفتوحة على الإسلام، وأباحوا للناس من ألوان الحرية ما كان معروفا في ذلك العهد، والحرية العقلية، وحرية القول، في مقدمة ما أباحوا. واحترموا شعائر الجميع وعقائدهم، وجعلوا العدل بين المسلم وغير المسلم أساس الحكم.
فلما رأى الناس ذلك، ورأوا المسلمين أنفسهم يستمتعون من ألوان الحرية العقلية والحرية العامة بما لم يكن له وجود من قبل في بلاد الروم ولا بلاد العرب، كان ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الدين الجديد، والتمتع بما قرره من مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
وقد كان للحرية العقلية ولحرية الرأي من القدسية ما يشهد به اجتهاد المشترعين والفقهاء في القرون الأولى، وما يدل عليه ما نقل من كتب الفلسفة اليونانية وما أخذ به المفكرون والفلاسفة الإسلاميون من مبادئ هذه الفلسفة اليونانية وما أضافوه إليها من عندهم. (3) أسباب التدهور
ظلت الإمبراطورية الإسلامية قائمة قوية ما جعلت هذه الرسالة الإنسانية السامية غايتها. ولقد كانت موشكة أن تنشئ على أساس من هذه الرسالة، دولة عالمية تنتظم أمم ذلك العهد جميعا، لكن دورة الفلك دارت، فإذا الحرية انقلبت جمودا، وإذا الإخاء والمساواة يذبلان أمام سلطان الباطشين من الحكام المستبدين.
عند ذلك بدأ تدهور الإمبراطورية وانحلالها.
ولم يكن ذلك عجبا والحياة الإنسانية فكرة ورسالة، وليست أداة يوجهها من شاء إلى ما شاء. والحياة الإنسانية القائمة على الفكرة مثمرة دائما، موجهة أبناءها جميعا إلى ألوان من النشاط تزيدها قوة، وتدفع إليها كل يوم حيوية جديدة.
فإذا انطفأ نور الفكرة لم يبق للرسالة وجود، وآن لهذه الحياة الإنسانية أن يتوارى كل ما فيها من ضياء، فلا يبقى منها إلا المظهر المادي، أو المظهر الحيواني للوجود.
ولا قيام لإمبراطورية على أساس من المادة ولا من المظهر الحيواني؛ ولذلك انحلت الإمبراطورية الإسلامية، لأن الرسالة التي آمن بها المسلمون الأولون توارت وراء الحجب.
أفقدر لها أن تبعث من جديد؟ ذلك ما أعتقده، وعلمه عند ربي.
الفصل الثاني
نظام الحكم في الإسلام
(1) نظام الحكم
الكلام في نظام الحكم في أمة من الأمم لا يقف عند الفكرة العامة من الحكم، فردي هو أم نيابي، ملكي أم جمهوري، ديمقراطي أم ديكتاتوري، بل هو يتناول أمورا كثيرة تتصل بالفكرة العامة للحكم من قريب أو بعيد، يتناول النظام الاقتصادي، والنظام الخلقي، والنظام الاجتماعي، وألوانا أخرى من النظم خاصة بالسلم والحرب، بالدين والعلم، وبغير ذلك من تفاصيل لا يتم تصور نظام الحكم إلا بتصورها كاملة في حال حركتها، وفي حال استقرارها.
فإنجلترا ديمقراطية، وأمريكا ديمقراطية، لكن صورة الحكم في إنجلترا تختلف عنها في أمريكا؛ إنجلترا ملكية وأمريكا جمهورية، إنجلترا برلمانية النظم وأمريكا نيابية النظم، العلاقات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية في إنجلترا غير العلاقات بين الحكومة المركزية في أمريكا وحكومات الولايات، القيم الخلقية ليست واحدة في الدولتين، وهذا التباين طبيعي مرجعه إلى تاريخ الأمة، وإلى الأطوار التي مرت بها، والأحداث التي تعاقبت عليها.
وتستطيع أن تقول مثل ذلك عن الدولة الواحدة في أطوار حياتها المختلفة، فالفكرة العامة في النظام الإنجليزي اليوم هي بعينها الفكرة العامة في هذا النظام منذ قرون، لكن ما أكبر الفرق بين آثار النظام الإنجليزي اليوم وآثاره في العهد الفكتوري! وما أكبر الفرق بين آثاره في العهدين وآثاره في القرن الثامن عشر! ولا شبهة أن هذا النظام سيتطور بعد حين تطورا عظيما مع بقاء فكرته العامة قائمة، وسيكون التطور أكثر وضوحا في نواحيه الاقتصادية والاجتماعية.
أطوار شتى
وهذا الكلام عن تطور صورة الحكم يصدق كل الصدق على النظام الإسلامي، فالفكرة العامة في هذا النظام واحدة، لكن آثار هذه الفكرة تطورت على القرون أطوارا شتى، وبدت في صور اختلفت باختلاف البيئة التي حلت بها، والأحداث التي وقعت أثناءها، والثورات التي كانت الإمبراطورية الإسلامية في العصور المختلفة مسرحها، فإذا أردنا أن نصور نظام الحكم في الإسلام تصويرا يقربه من أذهان أهل هذا الجيل، وجب علينا أن نقف وقفات سريعة عند طائفة من هذه الأطوار، ولعل وقفاتنا هذه تجلو لنا صورة تتمشى فيها الوحدة المستمدة من الحياة الإسلامية، وإن غشيت هذه الوحدة في كثير من الأحيان مظاهر تجعل من المتعذر محاولة إثباتها بمقارنة الحكم الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد آل عثمان مثلا.
ويجب أن تكون وقفتنا الأولى عند عهد النبي - عليه السلام - وخلفائه الأولين. وأول ما يلاحظ أن العهد المكي من حياة رسول الله لم يتعرض للدولة، ولم يجعلها غرضا من أغراضه، فقد اقتصرت السور المكية على الدعوة إلى التوحيد وإلى الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وإلى السمو بالنفس الإنسانية عن الانخداع بالدنيا ومتاعها الغرور، لتكون بهذا السمو أقرب إلى الله وأدنى إلى رحمته. أما العهد المدني، فقد تقررت فيه القواعد الأساسية لحياة الأسرة وللميراث وللتجارة وللبيع، ولكثير مما فصله الفقهاء من بعد تطبيقا لهذه القواعد الأساسية، واستنباطا من حياة الجماعة التي كانوا يعيشون فيها.
على أن هذه القواعد الأساسية لشئون حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، لم تتناول أي تفصيل في الأساس الذي تقوم عليه الدولة، ولم تتعرض لنظام الحكم تعرضا مباشرا. والآيتان الكريمتان:
وشاورهم في الأمر ،
وأمرهم شورى بينهم
لم تنزلا في مناسبات تتصل بنظام الحكم، وهما بعد لا تصوران نظام الحكم تفصيليا.
فهل يؤثر الإسلام النظام الجمهوري على النظام الملكي؟ لقد بويع الخلفاء الراشدون في العهد الأول للإسلام على قاعدة من الشورى ليست هي الانتخاب المباشر، وليس بينها وبين النظام البرلماني أو النظام النيابي شبه واضح. وأنت تستطيع مع ذلك أن ترى في بيعة الخليفة بعد تشاور أهل الرأي ما يجعله أدنى إلى رئيس جمهورية منه إلى ملك. أما الدول الأموية والعباسية وما تلاهما، فقد قامت على أساس ملكي لا يمت للمعنى الجمهوري بصلة أو نسب. أفنقول مع ذلك بأن أحد النظامين إسلامي والآخر غير إسلامي؟ من العسير أن نقرر ذلك بعد أن انعقد إجماع المسلمين خلال القرون على خلافه.
هذا، ثم إن فكرة الحكم لم تكن مفصلة القواعد في عهد النبي بعد الهجرة إلى المدينة، وهو
صلى الله عليه وسلم
لم يغير شيئا من النظام العربي في الحكم على ما بينه في الأساس الذي كان يقوم عليه في قبائل البادية، وفي حضر الحجاز واليمن من تباين واضح، فقد ترك الرسول هذه الشئون يوجهها الناس في كل أمة كما اعتادوا أن يوجهوها، مكتفيا منهم بأن يقبلوا الدين الذي جاء به من عند الله.
وكان إذا سئل في شيء من ذلك أجاب: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلما استقر سلطان المسلمين بالمدينة، وآل الأمر فيها إلى النبي العربي، لم يغير صورة الحكم عما كانت عليه، وكل ما حدث أن ما كان ينزل به الوحي من قواعد تخالف ما ألف العرب في حياتهم، كان يوجه المسلمين وجهتهم الجديدة في الحياة، دون أن يغير المبدأ الأساسي للحكم العربي.
كان هذا الحكم العربي يختلف من البادية إلى الحضر، ومن حضر الشمال إلى حضر الجنوب. وكان اختلافه يرجع إلى اعتبارات إقليمية، وتاريخية، تأثرت بها كل بيئة تأثرا يختلف عما حدث في بيئة أخرى.
كانت مدن الحجاز تستقل كل واحدة منها بنفسها، ولا تعرف لغيرها سلطانا عليها، كذلك كان شأن مكة وشأن المدينة، وشأن الطائف. كان بكل واحدة من هذه المدن استقلالها ونظامها، وكان الحكم فيها متأثرا بالعوامل التاريخية التي تعاقبت عليها، فكانت السلطة في المدينة مثلا موضوع تنازع دائم بين الأوس والخزرج واليهود.
وظل الأمر على ذلك إلى أن استقرت كلمة الإسلام، وعاد الأمر إلى النبي العربي. أما مكة، فقد تقاسمت الأسر الكبيرة فيها شئونها العامة: كانت أمور الكعبة لبني هاشم، وكانت أمور الحرب لبني مخزوم، وكانت الديات والمغارم لبني تيم، وهلم جرا. ولم يتغير الأمر بمكة بعد فتح النبي إياها، بل ظلت الكلمة فيها لهذه الأسر الكبيرة.
وكان الخلاف في مبدأ الحكم بين شمال شبه الجزيرة وجنوبها أشد منه بين مدن الحجاز، كانت اليمن قد اندمجت في وحدة سياسية، قبل البعث بزمن غير قليل. وترجع وحدة اليمن السياسية إلى اعتبارات اقتصادية وأخرى تاريخية واضحة الأثر، فلم تكن بين مدن الحجاز روابط اقتصادية تقتضي خضوعها لنظام مشترك كنظام اليمن، أما في اليمن، فقد قضت المصالح الاقتصادية المشتركة - كقيام سد مأرب - بأن توضع قواعد عامة للحكم يحترمها أهل البيئة جميعا. هذا، ثم إن اليمن خضعت في عهود كثيرة لأطوار سياسية لم يعرفها الحجاز، عدت الحبشة، وعدت فارس، على استقلال اليمن، وأقامت فيها حاكما تخضع جميع أنحائها لسلطانه. كان طبيعيا إزاء هذه الاعتبارات أن يقوم الحكم في أنحاء اليمن كلها على قاعدة معترف بها من أهلها جميعا، ينفذها الحاكم بقوة القانون إن لم ينفذها الناس عن رضا واختيار.
ونظام القبائل في البادية لم يكن يتفق ونظام الحضر في اليمن أو في الحجاز، بل كان الغزو والسلب تحت إمرة رئيس القبيلة أساس الحياة عند البدو. وكان رئيس القبيلة هو القاضي، وهو القائد الأعلى، وهو الذي يصرف شئون القبيلة ما جل منها وما دق. وطبيعي أن يستند مثل هذا النظام إلى شخصية رئيس القبيلة وأن يتأثر بمنطقه وحكمته. (2) المبادئ الأساسية في الحكم
لم يغير النبي العربي شيئا من هذه النظم المتباينة في الحجاز ولم يضع قواعد ثابتة لنظام الحكم الإسلامي، وكل الذي صنعه أنه كان يوفد من عنده إلى القبائل أو المدن التي تعتنق الإسلام من يفقه الناس في دينهم، ويعلمهم قواعده، ويحملهم بذلك على أن ينظموا سلوكهم على موجب هذه القواعد.
على أن القواعد الجديدة التي جاء بها الإسلام لتنظيم السلوك والمعاملات كانت مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره، وقد اطمأنت قواعده بالفعل شيئا فشيئا، متأثرة بالبيئة وأحداث التاريخ. وفي مقدمة القواعد التي تأثر بها النظام السياسي للإسلام الإيمان بالله لا إله إلا هو، وبأنه وحده تجب له العبادة. فقد أدى هذا الإيمان إلى تقرير قواعد المساواة والإخاء والحرية، فالمؤمنون جميعا سواسية أمام الله، تجري عليهم جميعا سننه بالقسط لا تفرق بين أحدهم وصاحبه، ولا فضل لعربي منهم على عجمي إلا بالتقوى. وهم لذلك إنما يجزون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والناس إخوان يجب أن تقوم المحبة بينهم مقام البأس، بل مقام القانون، فلا يكمل إيمان أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والناس أحرار في كل شيء، أحرار في العقيدة نفسها، فلا إكراه في الدين، ولا إيمان إلا بعد اقتناع بالحجة والموعظة الحسنة.
كانت هذه هي المبادئ الأساسية للحكم في العهد الإسلامي الأول، وكانت لذلك واضحة الأثر في تطور نظام الحكم في بلاد العرب تطورا، بدا للعيان على أثر حروب الردة. وقد أكملت القواعد الاقتصادية والاجتماعية هذه المبادئ، وأسرعت بالنظام الإسلامي إلى أن تتضح صورته، وأن يستقر، على أن تطوره ظل متصلا على العصور، لم يقتصر تأثره على العامل الإسلامي الذي نشير الآن إليه، بل تأثر أحيانا بالبيئة وأحداث التاريخ تأثرا بعيدا عن القواعد الإسلامية، بل مناقضا لهذه القواعد في بعض الأحيان مناقضة صريحة.
وقد بدأت هذه العوامل الأجنبية يتضح أثرها منذ العهد الأول للإسلام، وكانت أولى المظاهر التي بدت بهذه العوامل الأجنبية ما كان من قتل أبي لؤلؤة، غلام المغيرة، عمر بن الخطاب الخليفة الثاني، ثم ما كان من مؤامرة انتهت إلى قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وما حدث بعد ذلك من ثورة شبت نارها وتلظت الحرب بسببها بين علي ومعاوية، فأبو لؤلؤة فارسي، وكانت مصر ذات يد في المؤامرة على عثمان، وكانت الشام تؤيد عليا. هذه العوامل الخارجية الآتية من فارس ومصر والشام هي التي نقلت النظام الإسلامي من الخلافة وإمارة المؤمنين إلى الملك الذي توارثه بنو أمية، فبنو العباس، فمن جاء بعدهم من الملوك في أقطار العالم الإسلامي المختلفة.
وهذه العوامل الخارجية هي التي رسمت الإطار الخارجي لصورة الحكم الإسلامي منذ العهد الأول، فبعد أن كان هذا الإطار عربيا صرفا في عهد النبي، وفي عهد أبي بكر، وبعد أن كانت البساطة العربية تطبعه، حمل الفتح الإسلامي عمر بن الخطاب على إنشاء الديوان، ثم أدى امتداد الفتح إلى تنظيم الحكومة الإسلامية في حدود الدين الجديد، على مثال الحكومات القائمة في بلاد فارس وفي بلاد الروم.
وكان لهذا التطور الأول أثره في الحياة العامة، وإن لم يبعد بها عن الصورة العربية إلى مثل ما حدث من بعد في العهد العباسي والعهود التي تلته. وظل هذا التطور يتصل من بعد ذلك على الأجيال، وظل الفقهاء يستنبطون القواعد والأحكام من الكتاب والسنة والإجماع، فيعاونون التطور بعلمهم ليبلغ غاية مداه. (3) تطور نظام الحكم
لم يضع النبي العربي نظاما مفصلا للحكومة الإسلامية، على أن ما جاء به من عند الله تنظيما لقواعد السلوك والمعاملات كان مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره. وقد بدأ هذا التنظيم السياسي تطوره البطيء من عهد النبي، ثم كان تطوره أكثر وضوحا عقب حروب الردة. فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي بدأت العوامل الخارجية تحدث أثرها في هذا التطور. وكان أثر هذه العوامل بعيدا عن القواعد الإسلامية أحيانا، مناقضا لها كل المناقضة أحيانا أخرى.
وكانت النظم القائمة في الروم وفي فارس هي التي تأثر بها نظام الحكم الإسلامي منذ أنشأ عمر الديوان، ثم ازداد تأثرا بها في عهد عثمان. فلما قامت الدولة الأموية، واتخذت دمشق مقرا لها، كان طبيعيا أن تزداد هذه العوامل أثرا في تصوير الإطار الخارجي لنظام الحكم، على أن الروح العربية ظلت سائدة إلى حد كبير في عهد بني أمية؛ لأن الذين كانوا يضطلعون بأعباء الحكم ومناصب الدولة الكبرى كانوا من العرب. فلما انتقل الأمر إلى العباسيين، بدأ الأثر الخارجي يبدو أكثر وضوحا؛ لأن الفرس كانوا أصحاب نفوذ كبير في شئون الدولة.
هذا، ثم إن العهد العباسي امتاز بنقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية؛ لذا بدأت نظريات هذه الفلسفة تعمل عملها في تطوير الحياة العامة للدولة الإسلامية. صحيح أن الفقهاء والمحدثين، ومن إليهم، عنوا في ذلك العهد باستنباط القواعد والأحكام من الكتاب والسنة، أو مهدوا بذلك لوضع التشريع الإسلامي، لكن كثيرين من هؤلاء الفقهاء والمحدثين، وكثيرين من الكتاب والمفكرين، كانوا من غير العرب، فكان طبيعيا أن تؤثر وراثتهم العقلية في أحكامهم وفي منطقهم. ثم إن النظام الذي كان قائما في فارس، وفي بلاد الروم يجعل لولي الأمر سلطانا مطلقا، فكان من أثر ذلك أن تطورت الفكرة الأساسية في الحكم إلى النقيض لما كانت عليه في أول العهد الإسلامي. ثم كان من أثره أن شاعت فكرة هذا الحكم المطلق متنقلة من أمير المؤمنين إلى الحكام والولاة، وإلى من دونهم من سائر من يتولون منصبا من مناصب الدولة ذا أثر في توجيه حياة الناس ومنافعهم.
فكرتان
لما بويع أبو بكر بالخلافة خطب الناس فقال:
لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.
وهذا كلام صريح في أن الخليفة وكيل عن الأمة، وأن للأمة وهي الأصيل أن تراقبه وأن تقومه، وأن تطيعه في حدود توكيله. وكان عمر بن الخطاب يقول للناس: «من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه.» فيقول له أحد الناس: «والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا.»
أما في العهد العباسي، فكان أمير المؤمنين يخطب الناس بأنه ظل الله على الأرض، وبأن الله وضع في يده مفاتيح خزائنه فيها، فإن شاء أن يفتحها فتحها، وإن شاء أن يغلقها أغلقها. وكانت نظرية الحق الإلهي أو الحق المقدس للملوك نظرية معترفا بها منذ العهد العباسي، كما اعترف بها بعد ذلك في أمم أوروبا المسيحية. وأنت ترى من ذلك مبلغ التناقض بين الفكرتين: الفكرة العربية كما فهمها أبو بكر وعمر، وهي التي تتفق مع ما نزل في القرآن على محمد
إنما أنا بشر مثلكم
والفكرة التي أخذ بها ملوك بني العباس من أنهم يستمدون سلطانهم من الله لا من الناس، وأنهم محاسبون أمام الله، غير محاسبين أمام الناس.
ليس عسيرا تفسير هذا الفارق بين الفكرتين، فأبو بكر وعمر وعثمان كانوا أولياء على قومهم باختيار قومهم ومبايعتهم إياهم، أما الملوك الذين جلسوا على عرش المملكة الإسلامية فكانوا يرون أنهم تسنموا هذه العروش بحق الفتح، أولئك إذن ولاهم الشعب فهم وكلاؤه، وهؤلاء غلبوا الشعب على أمره، وتسلطوا بقوة البأس على رقابه، فهم سادته وحكامه. وأهل الرأي الذين بايعوا أولئك كانوا من العرب الذين نزل الدين على رجل منهم فهم سواسية، وأهل الرأي ممن حول هؤلاء كانوا حاشية وبطانة يقولون لصاحب السلطان سمعنا وأطعنا، فهم تبع. وطبيعي أن يكون الشعب بعدهم تبعا لهم، بذلك تطورت الفكرة العامة لنظام الحكم الإسلامي من تلك البيعة الحرة عن طواعية ورضا إلى هذا السلطان المطلق الذي أظل العالم الإسلامي خلال العصور منذ العهد الأموي.
أثر التطور في مبادئ الإسلام
هل أثر هذا التطور في الفكرة العامة للحكم على المبادئ التي جاء بها الإسلام لتكون أساس حضارة العالم؟ ذلك أمر لا ريب فيه؛ خذ الرق مثلا، كان الرق شائعا قبل الإسلام شيوعا فاحشا، فلما جاء الإسلام حد منه، وجعل الرقيق أسير الحرب الذي لا يفتدى، أو لا يقبل فيه فداء. ومع ذلك فتح باب العتق على مصراعيه، وجعل فك الرقبة مما يتقرب به المرء إلى الله، ثم جعل الرقيق في مقام كريم، على أن التطور الذي حدث في أمر الحكم رد شئون الرقيق إلى مثل ما كان عليه قبل الإسلام أو ما يقرب من ذلك، فأصبح الرقيق تجارة رائجة، ولم يقف الرق عند أسرى الحرب، بل تعدى ذلك إلى خطف الغلمان والفتيات، واعتبر هذا الخطف غزوا.
ليس الرقيق إلا مثلا نسوقه للدلالة على الأثر الذي أدى إليه تطور الفكرة العامة للحكم في أمر المبادئ السامية التي جاء بها الإسلام لتكون أساسا لحضارة العالم. ولو أننا أردنا أن نتقصى هذا الأثر في حياة الجماعة، لما وسعنا هذا المقام. لكنا نقرر أنه تناول الأسرة ونظامها، وتناول الحرية العامة في مختلف صورها، وتناول الوجود الإنساني كله. لم تتقرر للمرأة حقوق في حضارة العالم ما قرره لها الإسلام، جعل للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف، وجعل للرجال عليهن درجة مقابل ما ألقي على الرجال من أعباء أعفي النساء منها. المرأة المسلمة حرة حرية الرجل، حرة في ذاتها، حرة في معاملاتها، يجب لها من احترام الرجل مثل ما يجب للرجل من احترامها. لا يملك الرجل من أمرها إلا ما يوحيه هذا الاحترام وهذه الحرية، في حدود مصلحة الأسرة ومصلحة الجماعة.
ومع ذلك لم يلبث هذا التطور الذي أحدثته العوامل الخارجية في الحياة الإسلامية أن ردها إلى ما يقرب من مكانها عند الرومان وعند الفرس، ضرب عليها الحجاب، وحرمت أقدس حق لها؛ حرمت حريتها في المتاع الشريف بالحياة. بذلك انقلبت نظرة الرجل إليها فسقطت عنها كرامة الإنسان، وصارت متاعا للرجل يلهو به ويتحكم فيه تحكم السيد في الرقيق، وتحكم أمير المؤمنين في رعيته. صارت المودة والرحمة اللتان ورد ذكرهما في القرآن على أنهما أساس الصلة بين الرجل والمرأة، تفضلا من الرجل على أحد الضعيفين: المرأة والرقيق. ووجد الفقهاء فيما وضع من الأحاديث سندا يؤيدون به هذا التطور الذي جنى على الأسرة وعلى الأبناء وعلى سعادة الأمة الإسلامية وتقدمها.
الحكم المطلق
ثم ماذا؟! ... ثم نشأ عن هذا التطور ما كان أبعد أثرا في حياة العالم الإسلامي كله، هذا الحكم المطلق الذي جعل لأمير المؤمنين ما كان لإمبراطور الروم ولعاهل الفرس من سلطان غير محدود، أغرى كل حاكم في ولاية إسلامية بأن ينتقض على أمير المؤمنين كلما استطاع أن ينتقض عليه، ليكون له بذلك حقوق أمير المؤمنين في هذا السلطان المطلق.
فإذا استطاع أمير المؤمنين من بعد أن ينكل بمنافسه وأن يقضي عليه فبها، وإلا تنافس ذوو السلطان وأذاقوا الأمة ألوانا من التضحية لمجدهم الذاتي لا لمجد الأمة، ولا لمجد الإسلام. بذلك عم الانتقاض أنحاء العالم الإسلامي، وبدأ التدهور الذي انتهى إليه هذا التطور.
وكان من أثر هذا التدهور أن زالت فكرة الإمبراطورية الروحية التي تربط المسلمين جميعا بآصرة التقوى والإيمان بالله وحده، وإنكار الخضوع لغير الله، فصارت الإمبراطورية الإسلامية في طور الإمبراطوريات المتداعية الركن المهيضة الجناح. وكيف لأمة أو لإمبراطورية أن تقاوم التدهور والانحلال، إذا غاص ماء الحياة من مثلها الأعلى وأصبحت لا تعرف التضامن ولا تعرف الاعتصام بحبل الله، بل صارت إلى مثل مصير الحيوان، لا هم له إلا أن يلتمس كل فرد من أفرادها الرزق لنفسه، والقضاء على أخيه.
وأنت ترى هذه الظاهرات كلها واضحة، إذا تتبعت تاريخ الأمم الإسلامية منذ منتصف العهد العباسي، بل إنك لترى مقدماتها تستشري في كيان الأمة قبل ذلك ومنذ بداية العهد الأموي، بل منذ قتل أبو لؤلؤة عمر، ومنذ انتهت المؤامرة التي دبرت بقتل عثمان. صحيح أن هذه المقدمات لم يبد أثرها إلا بعد قرنين أو ثلاثة قرون من قيام الإسلام، لكنها مع ذلك هي المقدمات التي أنتجت ما نلمسه من أثر في حياة الأمم الإسلامية منذ منتصف العهد العباسي.
التنافس والتطاحن
وأنت تتلو في القرآن:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم
وتتلو:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ،
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
وتتلو في الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.» مع ذلك ترى في تاريخ الأمم الإسلامية منذ مئات السنين من أسباب التنافس - بل التطاحن - ما لا يتفق في شيء مع هذه المعاني السامية، كم من أمير أو ملك في أمة إسلامية تحالف مع الصليبين أو مع التتار ليكون وإياهم ألبا على غيره من ملوك المسلمين وأمرائهم!
وأنت ترى القرآن الكريم يفرض على الذين آتاهم الله من فضله أن يؤتوا الزكاة وأن يؤدوا الصدقات إلى أهلها، ويقرر في أموال ذوي المال حقا معلوما للسائل والمحروم، ويقيم بذلك مزاجا بين الفردية التي تحفز العامل للسعي وكسب الرزق، وبين الاشتراكية التي تكفل للجماعة الطمأنينة والاستقرار بسد عوز المعوز وحاجة المحتاج. ومع ذلك نرى عصور التدهور التي أشرنا إليها تشهد من آثار الأنانية ومظاهر الأثرة ما يناقض هذه المثل العليا كل المناقضة.
وأنت ترى في القرآن الكريم من معاني التعاون ما لا تشهد له أثرا في العهود المتأخرة إلا بقدر ما يستدر به الرجل عطف ذوي السلطان عليه، فإن رأى ذوو السلطان في تشييد المساجد ما يتقربون به إلى الله، تقرب الناس إليهم بتشييد المساجد، وإن رأى ذوو السلطان الانصراف إلى اللهو، تنافس الناس في محاكاتهم وتقليدهم، بذلك صغرت النفوس، وضعفت القلوب، وهانت الكرامة الإنسانية، وأصبح أمر الناس مظاهرة لا تنطوي على حقيقة، ولا مأرب لهم منها إلا إرضاءهم لأنانيتهم وإشباعهم لغرورهم.
أثر الحضارة الغربية
ظل الأمر كذلك حتى بدأت الحضارة الغربية تظل العالم بنفوذها، وتوقظ الراقدين من سباتهم، وكان ذلك منذ النصف الأخير للقرن الثامن عشر المسيحي. ومن يومئذ بدأت الأمم الإسلامية تفيق شيئا فشيئا، وينظر حكماؤها ومفكروها فيما آل إليه أمرها، أحق أنها هوت إلى المنحدر الذي هوت إليه بسبب عقائدها، أم بسبب نظام الحكم فيها؟ وهل يرجع هذا النظام إلى أصل من الدين، فلا سبيل إلى الخروج عليه إلا بالخروج على الدين؟ وهل هذه الحضارة الغربية بدعة منكرة في نظر الإسلام، أم أن ما فيها من خير يقره الإسلام ولا ينكره؟
هذه أمور تناولها أولئك الحكماء والمفكرون بالبحث والنظر، وفيما كانوا ينظرون كان غزو الحضارة الجديدة يسير بأسرع من تفكيرهم ومن نظرهم، وكانت نظم الحكم الغربية تنتقل مع هذا الغزو إلى الأمم الإسلامية المختلفة. وكان من المسلمين من يقول إن هذه النظم التي كفلت سبق الأمم إلى مضمار الحضارة هي وحدها التي تتفق مع روح الإسلام وتوائم تعاليمه.
على أن أحدا من فقهاء المسلمين في العصر الحديث لم يتجه نظره إلى تصوير الفكرة الإسلامية في الحكم تصويرا كاملا، وتطبيق هذا التصوير على الأمم الإسلامية في هذا الزمن الذي نعيش فيه، ولم يتجه أحدهم ليقيم مذهبا كاملا بين الحدود والتفاصيل، يضع كل شأن من شئون الجماعة في المكان الواجب له من نظام الحكم في الإطار الإسلامي الصحيح. قام جماعة من علماء الغرب بتصوير الاشتراكية المسيحية، ولست أعرف أحدا قام بتصوير الاشتراكية الإسلامية في مذهب كامل. هذا، والتفكير الإسلامي القديم غني بالمادة التي تكفي لإقامة هذا المذهب الكامل في هذا الموضوع كغناها بالمادة التي تكفي لإقامة مذهب كامل لنظام الحكم على الأساس الإسلامي في صفاء جوهره.
أفأستطيع أن أصور هذا النظام الإسلامي في الحكم بما يتفق وما عليه العالم في هذا العصر، ذلك ما سوف يكون بيانه في الصفحات التالية. (4) الإسلام ومبادئ الحضارة الإنسانية
سبق أن أشرنا إلى أن الإسلام لم يضع للحكم نظاما مفصلا، ولكنه وضع قواعد للسلوك في الحياة وللمعاملات بين الناس، كانت مقدمة لنظام للحكم تطور على الزمان، وتأثر أثناء تطوره بعوامل إسلامية وأخرى خارجية، تباينت ومبادئ الإسلام في بعض الأحيان أشد التباين. وهذا الوضع الشاذ هو الذي أدى إلى تدهور الأمم الإسلامية بعد قرون معدودة من انتشار الحضارة الإسلامية في ربوع كثيرة من العالم.
ولئن لم يضع الإسلام للحكم نظاما مفصلا، فقد وضع مبادئ أساسية لحضارة الإنسانية من شأنها أن تتطور على الزمان ما تطور علم الإنسان وفنه وتفكيره. والأساس الإسلامي للحضارة الإنسانية روحي ، يدعو إلى حسن إدراك الإنسان صلته بالوجود ومكانه منه، وإلى البلوغ بهذا الإدراك حد الإيمان، وعلى هذا الأساس الروحي، يجب أن ينظم الإنسان سلوكه في الحياة على مبادئ الأخوة والمحبة والبر والتقوى، وعلى أساس هذه المبادئ يجب أن ينظم الحياة الاقتصادية للجماعة الإنسانية.
عقيدة التوحيد
كيف نستخلص من هذه المبادئ التي وضعها الإسلام أساسا للحضارة، ما يمكن أن يكون نظاما للحكم صالحا لتحقيق أغراضها؟ نستخلص هذا النظام من تاريخ الإسلام نفسه، ونستخلصه كذلك من تاريخ الأمم المختلفة على تباين العصور، فقد ثبت أن اختلاف العقيدة الأساسية كان دائما موضع قلق في الأمة الواحدة، لهذا دعا الإسلام إلى وحدة العقيدة على أساس بسيط كل البساطة، يسيغه العقل الإنساني في مختلف الأمم وفي مختلف الأزمان. يقول تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
وأنت ترى التوحيد عقيدة يؤمن الناس بها في مختلف أقطار الأرض، وعلى اختلاف أديانهم ومذاهبهم، اليهود موحدون في أساس عقيدتهم، ومنهم موحدون جهرة. وفي كثير من الأديان المعروفة في آسيا تعلو فكرة التوحيد على كل فكرة أخرى، أنت تراها في البوذية، وفي غير البوذية من الأديان. ولا عجب أن يكون ذلك، وفكرة التوحيد من البساطة والوضوح بما يدعو إليها كل عقل وكل جنان.
ثبات سنة الكون
هذا هو المبدأ الأول للحضارة الإسلامية، والمبدأ الثاني هو ثبات سنة الكون وعدم تعرضها للتغير. وقد وردت في هذا المعنى آيات كثيرة، تنص على أنك لن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنته تحويلا. وقد انتهى العلم في عصرنا إلى تقرير هذا المبدأ في أمر الأحياء وغير الأحياء على السواء، وفي أمر الجماعات وأمر الأفراد كذلك. ومن خير ما وقعت عليه في هذا المعنى ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «هيبوليت تين» من أننا لو استطعنا أن نبلغ من طريق العلم معرفة شئون الأحياء بالدقة التي نعرف بها شئون غير الأحياء، لاستطعنا أن نعرف مصائر الأفراد والأمم بالدقة التي نعرف بها مواقيت كسوف الشمس وخسوف القمر، ولأتيح لنا يومئذ أن نقرر على نحو علمي ثابت مصير الإنسانية بعد قرون وقرون.
المساواة بين الناس
وحدانية الله وثبات سنته في الكون يقتضيان المساواة بين الناس أمام الله وخضوعهم على السواء لسنته جل شأنه، وهذه المساواة هي المبدأ الثالث من مبادئ الحضارة الإسلامية، وعلى أساسها أقام العرب صلاتهم بغيرهم من الأمم التي اتصل الغزو بينها وبينهم في العهد الأول، فالمؤمن أخ المؤمن، يتساوى معه في الحق والواجبات، لا فرق بين عربي وعجمي. ومع ذلك لم يفرض الإسلام على الناس بالسيف، بل بقيت حرية الاعتقاد وحرية الرأي مطلقة من كل قيد. بذلك طبقت الآيتان الكريمتان:
لا إكراه في الدين
و
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
تطبيقا صادقا.
وغاية ما فرض على الذين لم يعتنقوا الإسلام، أن يدفعوا الجزية ليكونوا في حماية المسلمين يتولون دون سواهم القيام بأعباء الحرب، والدفاع عن كيان الدولة وذمارها، على أن عمر بن الخطاب لم يأب على من اطمأن إلى ولائهم حين الحرب واشتراكهم فيها في صفوفه، أن يعفوا من الجزية وأن يتساووا مع المسلمين في الأعباء العامة.
عقيدة التوحيد، وثبات سنة الكون، والمساواة بين المؤمنين مساواة قائمة على الإخاء أكثر من قيامها على التنافس، مبادئ إسلامية مقررة، يشترك فيها الرجل والمرأة اشتراك مساواة تامة، فقد وجه القرآن الكريم الحديث للرجال والنساء في كل أمر من الأمور، وجعل على الجنسين واجبات متساوية. وهذه المساواة سبق بها الإسلام الشرائع الحديثة، وهي تعتبر بعض قواعد الحضارة الإنسانية كما صورها الإسلام، ويجب لذلك أن تكون من أسس النظام الإسلامي للحكم، يقررها التشريع وتجري على موجبها قواعد الخلق. وإذا كان الأمر فيها قد تغير بعد قليل من العهد الإسلامي الأول، فإنما مرجع ذلك إلى العوامل التي ناقضت القواعد الإسلامية، والتي أشرنا إليها من قبل.
هذه المبادئ وما يتصل بها من قواعد الخلق تعتبر في نظر الإسلام واجبات وثيقة الاتصال بإيمان الإنسان بالله. وإذا كانت حضارة عصرنا الحاضر تعتبر الكثير منها حقوقا للإنسان، له حرية التمتع بها ما شاء، فإن الإسلام يراها فروضا واجبة لا يصح للإنسان أن ينزل عنها أو يتهاون فيها. هي حقوق له إزاء أمثاله، وواجبات عليه إزاء بارئه جل شأنه، هو خلقه ليستمتع بها، واستمتاعه الصحيح بها عبادة الله. فإذا هو نزل عنها أو قصر فيها كان مسئولا أمام الله في هذه الدنيا، وكان مسئولا أمامه في الآخرة.
وهذه المسئولية هي أساس الجزاء. والجزاء الأوفى عند الله هو الذي يجعل المسلم يسمو بالقيم الخلقية سموا كبيرا أنه لا يخاف جزاء الشارع عنها في هذه الحياة، لكنه مع ذلك غير ناج من جزاء الله المطلع على خافية الأنفس وما تخفي الصدور. من ثم كانت الأقدار الخلقية جليلة المقام في الحياة الإنسانية لدى الجماعة الإسلامية. ولذلك من غير ريب أثره البالغ في حياة الجماعة وفي نظامها وفي الحكم وآثاره.
والإسلام يقر التملك والأسرة والميراث ويقررها، ويرى بعضهم لذلك أنه يتفق في اتجاهه الاقتصادي مع المذهب الفردي، وهذا خطأ، فالإسلام حين يقرر التملك والأسرة والميراث، يجعل في مال ذي المال حقا معلوما للسائل والمحروم، ويجعل فرضا على الجماعة أن تكفل للفرد حياته. ومن الخطأ الظن بأنه لذلك يتفق في اتجاهه الاقتصادي مع المذهب الاشتراكي، إنما الإسلام مزاج من المذهبين، يزاوج بينهما في ظل قواعد الخلق المتصلة بالإيمان ذلك الاتصال الوثيق الذي أشرنا إليه.
نظرية الواجب
يجعل الإسلام فرضا على الجماعة أن تكفل للفرد حياته، وهذه الكفالة تبدأ من يوم ولد، وتظل إلى يوم يموت. وهي لا تقف في حدود القوت لمن لا يجد القوت، بل هي تتناول كل حاجات الفرد الإنسانية على اختلاف صورها، فمنذ عهد النبي كان تعلم الناس وتفقههم في دينهم بعض واجبات الجماعة للفرد. وظل الأمر كذلك في مختلف العهود حتى في عهود الانحلال والتدهور، فحيثما أقيم مسجد للعبادة أقيمت معه مدارس يتعلم فيها أبناء المسلمين فتية وفتيات، واعتبر ذلك واجبا لا محيد عنه، وأمر الصحة كأمر التعليم، كانت تقام المستشفيات إلى جوار المساجد، وعلى مقربة منها - وكان الناس جميعا يؤمونها - لأن الصحة العامة كانت بعض واجبات الدولة للأفراد، كما كانت بعض واجبات الأفراد على أنفسهم لله.
نظرية الواجب هذه أساسية في النظام الإسلامي، وهي مستمدة من مسئولية الإنسان أمام الله أولا وقبل كل شيء. الإنسان مسئول أمام الله عن كل أعماله، كبيرها وصغيرها، دقيقها وجليلها، مسئول عن نواياه مسئوليته عن أعماله، فالنوايا مظاهر نفسية يطلع الله عليها، كما أن الأعمال مظاهر مادية يطلع الله ويطلع الناس عليها. والجماعة الإنسانية مسئولة أمام الله كمسئولية الفرد سواء بسواء، عليها واجبات للفرد وواجبات لنفسها، إن قصرت في أدائها لقيت جزاءها من الله كما يلقى الفرد جزاءه من قضائه، والقائمون بأمر الجماعة هم الذين تقع هذه المسئولية على عاتقهم أولا وبالذات.
وتقرير نظرية الواجب على هذا النحو يجعل ما نسميه في التفكير الحديث حقوقا، بعض هذا الواجب علينا أفرادا وجماعات، ولهذا لا نملك النزول عنه، فالحرية العقلية واجب؛ لأننا إذا نزلنا عنها ضللنا طريق الهدى إلى الله وعجزنا عن معرفة سنته في الكون. والدفاع عن حرية الغير واجب؛ لأن الاعتداء عليها منكر، ورسول الله يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.» وحب الغير واجب؛ لأن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وفعل الخير واجب القادر عليه لأنه المظهر الأول لحب الغير، وتضامن الجماعة واجب لأنه الكفيل بحريتنا في أداء واجباتنا وإبراء ذمتنا منها أمام الله وأمام الناس، وهو الكفيل لذلك بسعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة. •••
حسبي ما قدمت من مبادئ جوهرية قررها الإسلام أساسا للحضارة الإنسانية، فليس يتسع المقام لسرد سائر المبادئ، وهو لا يتسع لتفصيل الفكرة في أي من المبادئ التي قدمت. وهذا الذي قدمت يرسم أمام النظر إطارا عاما للفكرة الإسلامية في الحياة ونظامها.
ونظام الحكم في الإسلام هو النظام الذي تتحقق في ظلاله الفكرة العامة، كما تتحقق المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية في تطورها الدائم نحو الكمال. (5) الحكومة الإسلامية والتشريع
وقد رأينا نظام الحكومة الإسلامية اختلفت صورته، فهو في عهد الخلفاء الراشدين غيره في عهد بني أمية، وهو في هذين العهدين غيره في عهد بني العباس. ومن غير الميسور أن نختار نظاما من هذه النظم فندعو للعودة إليه، فنظام الحكم لا يتأثر بالمبادئ وحدها، بل يتأثر كذلك بالبيئة التي يقوم فيها، وبالأحداث التي تمر بهذه البيئة، وبالتطور الفكري والعلمي الذي ينتهي الناس إليه.
وقد تأثر نظام الحكم في الممالك الإسلامية بهذه العوامل تأثرا بينا، ناقض بعض المبادئ التي أشرنا إليها في هذا الحديث مناقضة ظاهرة، فليس طبيعيا أن نسمي هذا النظام نظاما إسلاميا سليما، وليس طبيعيا كذلك أن نعود بنظام الحكم الإسلامي إلى الفكرة العربية الأولى.
فالتطور الذي مر به العالم خلال القرون الثلاثة عشر الأخيرة يجعل هذا العود غير مستطاع، لكن هذا ليس معناه أن نظام الحكم الإسلامي لا يستطاع تطبيقه في عصرنا الحاضر، وإنما معناه أننا يجب أن نجعل هذا النظام قائما في حدود تفكيرنا، محققا في نفس الوقت للفكرة العامة وللمبادئ التي وضعها الإسلام أساسا للحضارة الإنسانية لا يحيد عنها ولا يجري على نقيضها.
ولن يعترض أحد بأن مراعاة التطور الفكري والعلمي الذي انتهى الناس إليه والملاءمة بينه وبين النظام الإسلامي للحكم فيه ما يخالف المبادئ الإسلامية، ما دام النظام الذي يقوم تكون غايته تحقيق هذه المبادئ، وما دام النظام نفسه يقوم في حدود هذه المبادئ.
خذ مبدأ المساواة مثلا، أشرنا إلى أن مبادئ الإسلام الأساسية لقيام الحضارة الإنسانية تفرض تساوي الناس جميعا أمام الله، وانطباق سنته - جل شأنه - في الكون على الجميع على السواء. هذا المبدأ يجعل للناس جميعا حقا ثابتا في الاشتراك في الحكم عن طريق الشورى، ويجعل الحاكم والمحكوم متساويين أمام القانون وأمام ما أمر الله به وما نهى عنه. وذلك قول أبي بكر حين بويع بالخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.» فكل نظام تراعى فيه هذه المساواة، وتكون وسيلته الشورى نظام إسلامي، سواء أكان هذا النظام من نوع خلافة الراشدين، أم من نوع إمارة المؤمنين على عهد الأمويين، أم من نوع آخر تتحقق به هذه المساواة.
ومثل آخر نسوقه، وفيه من الدلالة على مراعاة التطور ما يشهد بأن النظام الإسلامي لا يقف في سبيل كل تطور تمليه مصلحة الجماعة، ما دام متفقا مع مبادئ الإسلام العامة، فالأسرة هي الحجر الأول في بناء الجماعة الإسلامية كما قدمنا، لكن الأسرة الإسلامية تقوم على أساس المودة والرحمة، ولا تقوم على أساس جامد من الإكراه الذي يشقى به الناس، فإذا خيف الشقاق بين الشريكين اللذين يكونانها - الزوج والزوجة - وجب العمل على إزالة هذا الشقاق، فإن أمكنت إزالته فذاك، وإلا افترق الزوجان على ما في ذلك من مضرة هي دون مضرة الحياة القائمة على أساس من الشقاق، ولهما أن يتراجعا ليعيدا للأسرة كيانها. وفرقة الزوجين هي الطلاق، والطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وذلك لتيسير المراجعة.
ومع ذلك، رأى عمر بن الخطاب أن الناس أسرفوا في الطلاق الثلاث دفعة واحدة، فأجازه واعتبره عقوبة لهم على تسرعهم وعلى خروجهم على أمر كان لهم فيه أناة، وظل الأمر في شأن الطلاق على رأي عمر قرونا كثيرة، وها نحن أولاء نعود إلى ما كان الأمر عليه في حياة رسول الله، وفي حياة أبي بكر، فلا يقع الطلاق ثلاثا إلا واحدة ليتراجع الزوجان وتستقر الأسرة.
والأمر في تعدد الزوجات كالأمر في الطلاق، تطور من التقييد الذي جاء في القرآن إلى الإطلاق من القيد في عهد التدهور والانحلال، وهو الآن يعود إلى ما يتفق والمبدأ الذي أقره الإسلام دون حاجة إلى تشريع خاص، وهو وحدة الزوجة إلا لحاجة ماسة.
وأود قبل أن أختم هذا الحديث، أن أذكر أن نظام الحكم لا يقصد به التفاصيل التي يراها بعضهم كل شيء، إنما يقصد بنظام الحكم في الإسلام تحقيق الفكرة السامية والمثل الأعلى والمبادئ العامة التي أرادها الإسلام أساسا للحضارة، فإذا حقق النظام هذا الغرض، وإن تجاوزته بعض التفاصيل، كان النظام الإسلامي القدير على التطور مع تقدم الإنسانية في تفكيرها وعلمها وفنها. وإن هو وقف عند التفاصيل دون تحقيق الغرض الأسمى، كان نظاما جامدا متداعيا كالنظم التي قامت في عهود الانحلال.
وبعد بذلك عن أن يكون نظام الحكم في الإسلام كما أراده صاحب الوحي للإسلام أن يكون.
والواقع أن نظام الحكم شيء، والتشريع والقانون شيء آخر، نظام الحكم هو الإطار العام الجدير بالثبات والاستقرار لتحقيق الأغراض الإنسانية السامية، فلا تعتريه الغير إلا إذا عجز عن تحقيق هذه الأغراض، أو كان إدخال التعديل عليه كفيلا بأن يجعله أدنى إلى تحقيقها. أما التشريع والقانون فيتطوران في حدود هذا النظام المستقر على أنهما أداة الحركة والنشاط. والنظام الإسلامي الذي أردنا في هذا الحديث أن نصوره هو النظام الذي تتحقق بقيامه المبادئ الإسلامية والمستمد من الإيمان الحق بالله، وبثبات سنته في الكون ثباتا ندركه بعقولنا الحرة وتفكيرنا المتصل، وأن نتعاون فيما بيننا على أن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يؤدي الفرد واجبه لله وللجماعة، وأن تؤدي الجماعة واجبها لله وللأفراد جميعا.
الجزء
الاشتراكية والديمقراطية في الإسلام
الفصل الأول
الاشتراكية الإسلامية
(1) وجهة الاشتراكية الإسلامية
لم يطبق النظام الاشتراكي في الحياة الاقتصادية لأمة بأسرها إلا في هذا العهد الحديث، وذلك منذ أصبحت الشيوعية النظام الأساسي لروسيا السوفيتية. والشيوعية صورة من صور الاشتراكية الكثيرة المتباينة، وهي أكثر هذه الصور تطرفا وأشدها إمعانا في إنكار الملكية الفردية. وهذه الشيوعية تناقض المبادئ الإسلامية كل المناقضة، فهي تنكر الملك والميراث والأسرة، والملك والميراث والأسرة نظم جوهرية في الحياة الإسلامية. هذا التباين، بل هذا التناقض الصريح بين الإسلام والشيوعية، يقتضينا ونحن نبحث في الاشتراكية الإسلامية أن ندع الشيوعية جانبا، وأن ننظر فيما عداها من صور الاشتراكية حتى نرى أوجه الاتفاق وأوجه الخلاف بين هذه الصور والاشتراكية الإسلامية.
ويجمل بنا قبل أن نواجه هذا البحث أن نذكر أن الفكرة الاشتراكية التي نشأت منذ ألوف من السنين، إنما نشأت صيحة ألم لما بين الناس من التفاوت في حظهم المادي من الحياة، وأنها كانت ترمي دائما إلى محو هذا التفاوت حتى تقضي على نتائجه الاجتماعية، وفي طليعتها التباغض والحسد والنضال المستتر حينا، الواضح حينا آخر، وحتى تزيل ما يشعر به المحرومون من ألم الحرمان.
ولقد طالما تحدث العلماء والكتاب الاشتراكيون عن هذا التفاوت في حظوظ الناس، ونسبوه إلى فساد النظم التي تقوم الجماعات الإنسانية عليها. وليس يحدثنا التاريخ الذي نعرفه عما كان قبل أفلاطون من صور الاشتراكية، ولذلك ألف كثيرون أن ينعتوا أفلاطون «أبا الاشتراكية» ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر لم يفتأ الاشتراكيون يتحدثون في هذا التفاوت في وسائل إزالته، ويقيمون من المذاهب ويقترحون من النظم ما يرونه كفيلا بتحقيق الغاية التي يرمون إليها.
والأكثرون من العلماء والكتاب ينظرون إلى المسألة من ناحيتها الاقتصادية البحتة. والأمر كذلك في عهدنا الحديث بنوع خاص. ولا ريب في ذلك، والنظام الاجتماعي في هذا العهد يقوم على أساس اقتصادي صرف، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقات الأمم بعضها ببعض، تخضع خضوعا تاما لما بينها من صلات اقتصادية، بل لا عجب في ذلك وقد أقام كثير من الفلاسفة قواعد الخلق على أساس اقتصادي، وقد نادى كثيرون بأن تاريخ الإنسانية لا تفسير له إلا في نظمها الاقتصادية، وأن حضارات العالم في الأزمان المختلفة إنما تكيفت بتطور نظم العالم الاقتصادية. لا مفر لمن يجعل هذه الناحية وجهة نظره للحياة، ثم يكون من دعاة الاشتراكية، أن يجعل غاية همه في الدعوة إلى إزالة ما بين الناس من التفاوت المادي، ليرتفع الظلم عن عاتق الأكثرين، ولتكون الكثرة من الناس أكثر بالحياة سعادة، وعنها رضا.
ولقد أثبت تعاقب القرون أن إزالة هذا التفاوت أمر غير مستطاع، وأن إقامة الاشتراكية على أساس من المساواة بين الناس في حظوظهم المادية، لا يزيل الظلم الذي يذكرونه، فمقدرة الناس على العمل في الحياة تتفاوت، ومتاعهم بنعم الحياة يتباين؛ ففيهم القوي والضعيف، وفيهم الصحيح والمريض، وفيهم المتهالك على لذائذ العيش ومن يرى الزهد فيها لذة تفوق كل لذة، ولا سبيل إلى التسوية بين هؤلاء جميعا، وعلى أساس يرضى الجميع عنه.
الديمقراطية الحقة
ثم إنك لا تستطيع أن تنكر على الفرد ذاتيته، ولا تطمع في أن تصل من الجماعة إلى العدل المطلق، لا بد إذن من مزاج يحقق خير الجماعة وحرية الفرد في ظل العدل الإنساني. وتحقيق هذا المزاج يجب أن تراعى فيه ذاتية الفرد وكيان الجماعة لا من الناحية المادية وحدها بل من النواحي الإنسانية المختلفة، ومن بينها الفطرة والعاطفة والهوية، ومن بينها الغرائز الاجتماعية التي تقيم الأسرة، وتقيم المدنية، وتقيم الجماعة الإنسانية بوجه عام.
وهذا المزاج هو ما قصد إليه الإسلام، فهو لم ينكر ذاتية الفرد، ولم ينكر حقه في التملك، ولم يغفل الغرائز المختلفة التي تحركه في الحياة، لكنه قدر إلى جانب ذلك أن الجماعة يجب ألا تبلغ من حماية الذاتية الفردية حدا يزيد القوي قوة والضعيف ضعفا، ويكون لذلك سببا في تداعي الجوانب السامية في نفس الإنسان، جوانب الإيثار والمحبة، وما إليها من عواطف أصيلة في النفس هي قوام الأسرة وهي قوام الجمعية كلها. وتحقيق هذا المزاج هو الأساس الأول للاشتراكية الإسلامية. وهذا الأساس يقوم على مبادئ تكفل رفع الظلم الذي يشكو الناس منه، والذي أدى منذ أقدم العصور إلى التفكير في الاشتراكية ومحاولة تنظيمها لتكون صالحة للحياة العملية في الجماعات.
ولم ينكر غير الشيوعيين مثل هذا المزاج، فكثير من المبادئ الاشتراكية لا تنكر الملكية الفردية إنكارا مطلقا، ولا تنكر الأسرة ولا التوارث. وبعض هذه المذاهب يقر الملكية الصغيرة في الزراعة والصناعة والتجارة، وإن أنكر الملكية الكبيرة فيها جميعا. ومنها من يدعو إلى الاشتراك المطلق في مواد الإنتاج، ويقر الفردية في التمتع بثمرات هذا الإنتاج. ومنها كذلك ما يجعل العمل أساس توزيع الثمرات، يتخذ العمل بديلا من رأس المال الذي يقوم النظام الفردي على أساسه.
هذا التعدد في صور الاشتراكية، هو الدليل على أن الإنسانية تحاول منذ القدم أن تهتدي إلى نظام يزيل الإجحاف الناشئ عما بين الناس من تفاوت في حظوظهم المادية. ولم تذهب هذه المحاولات عبثا، فلم يستقر النظام الفردي بصورة مطلقة في الحياة الاجتماعية إلا في فترات وجيزة. وأنت ترى اليوم صورا من الاشتراكية تجاور النظم الفردية في الحياة الاقتصادية للأمم كلها. وما تقرر من حقوق مشتركة للجميع، كالتعليم والصحة والتعاون وما إليها، ليست إلا بعض هذه الصور تقررها الجماعات للخير العام من ناحية، وإقرارا لمبادئ العدل بين الأفراد من الناحية الأخرى.
وهذا التجاور بين النظم الفردية والنظم الاشتراكية في الجمعية الواحدة أمر طبيعي، بل هو وحده الطبيعي، فالجماعة الإنسانية - على أي أساس أقمتها - لا يمكن أن تنهض إلى الكمال الواجب عليها، إلا إذا كفلت للفرد حريته في النشاط الذاتي، وحقه في المتاع العادل بثمرات هذا النشاط، ثم حالت في نفس الوقت بينه وبين الضغط على نشاط غيره، وبينه وبين ما لغيره من حق في ثمرات نشاطه والمتاع بها، بذلك يكفل تضامن الجهود في توجيهها لخير الجميع.
والمبادئ الإسلامية في التنظيم الاجتماعي تحقق هذا كله، فهي تقر الملك والأسرة والميراث كما قدمنا، وتعتبرها نظما أساسية في الحياة الاجتماعية. لكنها تقدر ما في قيام الملكية الكبيرة واستمرارها من خطر الطغيان من جانب الأغنياء، والشعور بالظلم الناشئ عن تفاوت الحظوظ المادية من جانب الفقراء؛ لذلك عملت للحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة على أساس غير المجهود الذاتي، ولبلوغ هذه الغاية حرم القرآن الكريم الربا، وجعل نظام الميراث وسيلة فعالة لتجزئة الملكية الكبيرة. وفي تجزئتها، وفي تسهيل انتقال أجزائها من فرد إلى فرد، ومن أسرة إلى أسرة، ما يزيل الخوف من ألم النفوس لتفاوت الأرزاق تفاوتا ظالما.
لم يكتف الإسلام بهذه القيود التي فرضها على الملكية وثمراتها وطريقة توزيعها، بل جعل على أصحابها حقوقا لبيت مال المسلمين يؤدونها زكاة عن أموالهم وصدقة تطهرهم، وجعل للفقراء الذين حرموا السعة في الرزق، وللمحتاجين الذين ثقلت عليهم الحياة حقوقا في بيت مال المسلمين مقررة بقوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم
والحديث المأثور عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم» يتفق تمام الاتفاق وأحكام الآية السابقة من القرآن، على أن الإسلام لا يريد أن يكون هذا الاشتراك في مال الأغنياء - مما جعله حقا للفقراء - أمرا تشريعيا ينزل المشرع حكمه طائعا أو كارها، بل أراده أمرا تعبديا يجب أن يتصل بالإيمان اتصال الصلاة والصوم وسائر الفروض. وذلك قوله تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
الاشتراكية الإسلامية يجب أن تقوم بالنفس على أنها من فرائض الإيمان، وهذا الإيمان نفسه له في قيام الاشتراكية أثر بالغ. (2) أسس الاشتراكية الإسلامية
الاشتراكية الإسلامية تناقض الشيوعية وتحاربها، فهي - على خلاف الشيوعية - تعتبر الملك والأسرة والميراث نظما أساسية في الحياة الاجتماعية، لكنها ترى الغنى الفاحش مصدر طغيان يخشى خطره؛ لذلك عملت للحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة على أساس غير المجهود الذاتي، فحرم القرآن الكريم الربا، وجعل الميراث وسيلة فعالة لتجزئة الملك، ثم فرض للفقراء حقوقا على الأغنياء، وجعل هذا كله من فرائض الإيمان، فكفل بذلك للاشتراكية الإسلامية القوة والبقاء.
وأبادر، بادئ ذي بدء، بتفسير ما أقوله من أن الإسلام جعل هذه الأمور من فرائض الإيمان، فإن كثيرين يسألون: لم فرض الإسلام على الناس أمورا تدخل في نظام حياتهم في هذا العالم، ولم يكتف بالعبادات وما بين المرء وخالقه مما يتصل بالعقيدة، ليترك ما بين الناس بعضهم وبعض، ينظمونه على مقتضى مصالحهم في العصور المختلفة، والأمم المختلفة؟
وأكرر ما سبق أن قلته غير مرة: إن القرآن الكريم لم يتناول تفصيل المسائل بل مبادئها العامة، ثم ترك التفاصيل ينظمها الناس بما يحقق مصالحهم، واجتهاد المسلمين في العصور المختلفة، واحترامهم جميعا للمذاهب المختلفة التي أقامها هذا الاجتهاد، أقوى حجة على هذا. وما جاء به القرآن الكريم من المبادئ العامة لنظام الحياة الدنيا جوهري في الإسلام لسلامة العقيدة، ولذلك كانت العقيدة السليمة والإيمان الصادق، قوام هذا الدين ، وكانت مصدر النظام الروحي الذي يجب أن يقوم الخلق الحسن على أساسه. وكل خروج في نظم الحياة الاجتماعية على قواعد الخلق، وعلى النظام الروحي الذي تقوم عليه، جدير بأن يترك أثره السيئ في الأخلاق وفي العقائد العامة، وفي الإيمان والعبادات المترتبة عليه.
يجب علي، لأزيد هذه الفكرة وضوحا، أن أذكر اتجاه الإسلام الواضح في تقرير سلطان الروح في سموها إلى المثل الأعلى على الغرائز الإنسانية الجمعية في حدود الحياة، وحاجاتها العاجلة. والناس جميعا - على اختلاف أديانهم ومذاهبهم - يؤمنون بهذا السلطان، وإن كانوا لا يرتبون عليه كما يرتب الإسلام كل نتائجه. وهل غرضنا جميعا من تربية أبنائنا وتهذيب نفوسنا إلا أن نهذب هذه الغرائز، وأن نبلغ بتهذيبها أسمى المبادئ الإنسانية؟ وأكثر الأمم رقيا، وأكثرها نجاحا في تربية أبنائها، هي التي تصل بهم إلى الإيمان بمبادئ الغيرية والإيثار على أنها واجب عليهم لأنفسهم، ولأبناء جنسهم. وهم لذلك يقررون ما توجبه هذه المبادئ بوحي ضمائرهم، وإن لم يفرضها عليهم قانون أو يلزمهم بها سلطان.
والتربية والتهذيب غرضهما الأساسي تقوية سلطان العقل والروح على الغرائز الأولية التي يحركها الحرص على الاحتفاظ بالحياة، وكلما زاد سلطان العقل والروح على الغرائز السليقية، ازددنا إيمانا بفكرة الواجب وإذعانا لندائه المنبعث من ضمائرنا، فإذا بلغ اقتناعنا بهذه الفكرة مبلغ الإيمان، وأيقنا بأن هذا الواجب يفرضه علينا بارئ الوجود، وزاد بنا اليقين فعلمنا أن هذه الحياة ليست كل شيء، وأن النتائج العاجلة التي نجنيها من إطاعة غرائزنا الأولية كثيرا ما تضرنا في حاضرنا وفي مستقبلنا، كنا أشد بالواجب إيمانا، ثم رتبنا على مقتضى هذا الواجب معاملتنا للناس وصلتنا بهم.
وضرورة الإيمان بالواجب، وتقديمه على حاجات الحياة المادية مقررة في النفوس جميعا منذ بدأ الإنسان يفكر، والجندي الذي يبذل حياته فداء لوطنه، مثل حي لهذا الإيمان في كل العصور. وحينما فكر بعضهم في إقامة نظم دينية بأوروبا تساير حضارتها في القرون الأخيرة، كان دين الواجب بعض ما فكر فيه «أوجست كنت»، ذلك لأن الغرائز الفردية الحبيسة في حدود الحياة وحاجاتها العاجلة، تقتصر عن أن تسمو بالإنسان إلى حيث أعده القدر؛ ولذا وجب أن يكون سلطان العقل والروح على هذه الغرائز الفردية قويا إلى الحد الذي يكفل حياة الجماعة الإنسانية وطمأنينتها وسعادتها، وقواعد الخلق هي الكفيلة بتحقيق هذه الأغراض، والإيمان بأن هذه القواعد جوهرية لبلوغ الكمال في أداء الواجب هو القوة الروحية السامية التي تطمئن إليها قواعد الخلق، وتدعو الناس إلى القيام بالواجب حرصا على رضا الضمير، ورضا الله.
على هذا الأساس كانت الزكاة ركنا من أركان الإسلام، وكانت الصدقة فريضة من فرائضه. والزكاة لها قواعدها، والوالي ينظمها حسب مقتضيات الوقت كما تنظم الحكومات الضرائب، ويقتضيها الناس بقوة الشرع وسلطانه، فإذا نكل الناس عن أدائها أكرهوا عليها. وامتناع العرب عن أداء الزكاة هو الذي أدى إلى حروب الردة في عهد أبي بكر. أما الصدقة ففريضة تعبدية أوجبها الإسلام على كل قادر عليها لخير من هو في حاجة إليها، وجعل جزاءها عند الله كجزاء الإيمان بالله، وذلك قوله تعالى:
خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين
وقوله جل شأنه:
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وكون الصدقة فريضة صريح في قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم
وفي قوله جل شأنه:
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم .
والأحاديث الواردة في الصدقة متفقة مع ما جاء في كتاب الله، مستفيضة قوية غاية القوة في الحض عليها.
تحديد الثروة
أما نزعة الإسلام إلى تحديد الثروة ورغبته عن الثروات الضخمة، فواضح في القرآن الكريم كل الوضوح، من ذلك قوله تعالى:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
ومنه قوله:
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .
هذه كلها ميول اشتراكية واضحة، على أن أشد ميول الاشتراكية الإسلامية اتفاقا مع ما تنادي به بعض المذاهب الاشتراكية المعتدلة في عصرنا الحديث، فذلك جعله العمل الأساس الأول لتوزيع الثروة واعتباره رأس المال وسيلة للعمل، وليس عنصرا قائما بذاته تترتب لصاحبه ثمرات كالتي تترتب للعامل، أو لمالك الأرض وغير الأرض من أدوات الإنتاج.
وهذا الاعتبار هو في رأيي السبب الجوهري لتحريم الربا، فإقراض المال وفرض فائدة معينة له، بقطع النظر عن الثمرة التي يجنيها من يثمر هذا المال، وعما قد ينشأ عن هذا التثمير من الخسارة، معناه اشتراك رجل لا يعمل في ثمرات العمل الذي يقوم به غيره. فإذا اعتبرنا رأس المال ثمرة عمل سابق اشترك به صاحبه مع من يثمر المال المقترض كانت النتيجة العادلة أن يكون المقرض والمقترض شريكين لكل من الربح، وعليه من الخسارة حظ معلوم. أما أن يكون لأحد الطرفين ربح ثابت سيان ربح الآخر أو خسر، وأن يسمى هذا الربح فائدة المال، فذلك ما لا يقره الإسلام بحال.
ليس معنى هذا بالطبيعة أن الإسلام لا يقر قيام الشركات، فكل شركة تتألف للقيام بعمل من الأعمال، ويكون للشركاء فيها حظ من الربح وعليهم حظ من الخسارة، بمقدار نجاح الشركة أو مصادفتها العقبات، يتفق وما قدمنا تمام الاتفاق. ولقد ظل التجار يقومون من مكة بعد الإسلام، كما كانوا يقومون قبله، فيجمعون الأموال من أهلها ويتجرون فيها ثم يقسمون الأرباح بين الشركاء. وقد تطورت نظم الشركات بتطور الأحوال التي مرت بها الدول الإسلامية، فنظم الفقهاء أحكامها بما هداهم إليه اجتهادهم.
العمل أساس الجزاء
وكما قصد من تحريم الربا إلى أن يكون عمل العامل هو الركن الأساسي لتوزيع الثروة، قصد من قواعد التوريث الإسلامي إلى الحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة واستمرارها أجيالا في يد واحدة. وقد لاحظ الذين تتبعوا انتقال الثروة في الأمم الإسلامية خلال العصور، سرعة تنقلها وعدم استقرارها في يد واحدة استقرارا يغري بالطغيان. وكانت هذه الملاحظة موضع تفكير من جانب الذين يظنون أن تقدم الأمم رهن باستقرار الأسر العريقة وتقاليدها الصالحة، لكن هذا التفكير لا يتفق وميول الإسلام الاجتماعية، ولا يتفق مع ما ينطوي عليه هذا الدين من حرص على قيام المزاج الضروري من الفردية والاشتراكية لخير المجموع، ثم هو لا يتفق أخيرا مع الأساس الجوهري الذي وضعه الإسلام أساسا لهذه الحياة الدنيا وللحياة الآخرة، والذي تلخصه الآية الكريمة:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
وهذا الأساس الجوهري هو ما جعلني أقرر من غير تردد أن الإسلام يشترك مع المبادئ الاشتراكية المعقولة في هذا العصر الحديث، إذ يقرر أن العمل أساس الجزاء، ويجب لهذه الغاية أن يكون أساس توزيع الثروة. ولا أراني بحاجة إلى ذكر نصوص القرآن الكريم التي تقرر هذا المبدأ في وضوح وصراحة، فالآيات التي في معنى قوله تعالى:
هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
متواترة في القرآن الكريم تواتر الآيات التي تحض على الزكاة، وعلى الصدقة، وعلى الإيمان بالله.
الاشتراكية الإسلامية لا تنكر إذن ذاتية الفرد، ولذلك لا تنكر الملك ولا الأسرة ولا التوارث. وهي مع ذلك تنكر التفاوت الذي يخلق الطبقات، ويقيم بينها النضال، وما ينشأ عن النضال من عداوة وبغضاء. ومن ثم، جعلت العمل أساس الجزاء وتوزيع الثروة، وحرمت كل وسيلة للغنى تجيز الاستيلاء على مجهود الغير. (3) تطبيق الاشتراكية
في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
النظام الاقتصادي في الإسلام مزاج من الفردية والاشتراكية، فهو يقرر الملك والأسرة والميراث، وهو يقيم طائفة من القيود والحدود تخفف من التفاوت بين الناس في حظهم المادي، وهو يجعل قواعد الخلق القائمة على أركان الإيمان الإسلامي أساس هذا النظام، ليكفل له القوة والبقاء.
كيف طبقت الاشتراكية الإسلامية القائمة على هذا الأساس في الصدر الأول للإسلام؟
أما في عهد رسول الله، فقد بلغ تطبيقها غاية السمو، وكان الرسول الكريم الأسوة الحسنة فيها، ثم كان أصحابه مثال الإيثار على أنفسهم. وأنت إذ ترجع إلى ما قبل الهجرة إلى المدينة ترى من أمثلة ذلك الشيء الكثير، فكثيرا ما افتدى أبو بكر الأرقاء الذين أسلموا فعذبهم سادتهم، ثم أعتقهم بعد افتدائهم. وكذلك فعل غير أبي بكر، بل لقد كاد المسلمون يعتبرون أموالهم جميعا ملكا مشتركا بينهم جميعا، ولذلك أفنى أكثرهم ماله، فلم يبق له إلا القليل حين الهجرة إلى المدينة.
كانت أموال خديجة أم المؤمنين طائلة، وكان رسول الله يتصرف فيها كما يشاء. ولقد أنفقها جميعا على المسلمين، فلم يكن له منها حين الهجرة شيء. وكان أبو بكر قد جمع من التجارة أربعين ألف درهم قبل إسلامه، ومع أنه ظل يتجر بعد أن أسلم، فيجني من التجارة وافر الربح، فقد كان كل ماله يوم هاجر إلى المدينة خمسة آلاف درهم. وأنفق عثمان بن عفان لخير المسلمين صدقات يخطئها العد.
ولما قاطعت قريش رسول الله وأصحابه، وأكرهتهم على أن يقيموا بشعاب الجبل ثلاث سنوات متعاقبة لا يتصلون بسائر أهل مكة في تجارة، كان الفقراء يأكلون من مال ذوي اليسار، لا يحاسبهم أحد، وذوو اليسار هؤلاء مطمئنون إلى أن الله سيجزيهم عن بذلهم لإخوانهم أوفى الجزاء.
فلما هاجر المسلمون إلى المدينة، وبدأ رسول الله يعلن إلى أهلها تعاليم الإسلام، كان الإخاء الإسلامي حجر الأساس في دعوته إلى الدين الجديد والحضارة الجديدة. وكان هذا هو الدليل على أن تعاليم مكة لم يدع إليها اضطهاد المشركين للذين أسلموا، ولذلك لم يكن الاضطهاد سبب ما رأيت من إخاء وبذل واشتراكية، فلقد ظلت تعاليم محمد بمكة قائمة على الأساس الذي نادى به منذ اليوم الأول، أساس الإخاء الصادق، فلا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يصل به هذا الإخاء إلى غاية البر والرحمة من غير ضعف ولا استكانة.
سأل رجل من أهل المدينة محمدا: «أي الإسلام خير؟» فأجابه: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.» وكان رسول الله يرى الفقر فخره، ويرى في ادخار المال ما لا يتفق ومقامه من الرسالة.
كان عنده أول ما اشتد به المرض الذي أعقبته وفاته سبعة دنانير، خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، لكن اشتغالهم بمرضه أنساهم تنفيذ أمره، وسأل عنها قبيل وفاته، فلما ذكرت عائشة أنها ما تزال عندهم، طلب إليها أن تحضرها ووضعها في كفه، وقال: «ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه.» ثم تصدق بها على فقراء المسلمين.
ولما تمت هجرة المسلمين من أهل مكة إلى المدينة، فانصرف تفكير الرسول إلى تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، كان أول ما صنعه أن دعا المهاجرين والأنصار جميعا ليتآخوا في الله أخوين أخوين، ثم جعل لهذا الإخاء حكم إخاء الدم والنسب. ولقد أبدى الأنصار في هذا الموقف من حسن الإيمان ما جعلهم يعرضون على المهاجرين أن يشاركوهم أموالهم، لكن المهاجرين أبوا أن يعيشوا كلا على إخوانهم، ثم كانوا يجدون في الجهد للعيش من الطمأنينة لأنفسهم ولعقيدتهم ما لم يكونوا يجدونه بمكة.
فأما الذين لم يجدوا عملا، أو لم يكونوا يستطيعونه، فأولئك أفرد لهم الرسول مكانا مسقوفا بالمسجد هو صفته يبيتون به ويأوون إليه، ولذلك سموا أهل الصفة، وجعل لهم رزقا من مال المسلمين الذين آتاهم الله رزقا حسنا. وهذا بعض الاشتراكية الإسلامية، وهو يتفق مع ما يقع اليوم حين حدوث بطالة بين العمال في الأمم المتمدينة.
وقبل أن أنتقل إلى تطبيق الاشتراكية الإسلامية في عهد أبي بكر أذكر ما حدث حين قسمة النبي في «حنين»، فقد كان الخمس من الفيء والغنائم يرد إلى رسول الله بحكم القرآن. على أن رسول الله رأى في أعقاب حنين أن يتألف خصومه من أهل الطائف وغيرهم بأن يرد إليهم ما غنمه المسلمون منهم.
وأخذ هؤلاء المؤلفة قلوبهم من الفيء شيئا غير قليل، فخشي المسلمون أن تنقص قسمتهم من الفيء إن أفشى محمد هذه الأعطيات، لذلك ألحوا في أن يأخذ كل فيئه وتهامسوا بذلك. فلما بلغ التهامس النبي، وقف إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه، فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.» وهذه العبارة الأخيرة: «الخمس مردود عليكم» تنطوي على معنى من معاني الاشتراكية لا يفوت أحدا.
تطبيق الاشتراكية في عهد أبي بكر
ولما اختار الله رسوله، وخلفه أبو بكر على المسلمين، سار سيرته في المساواة بين الناس وفي تنفيذ فكرة الاشتراكية الإسلامية تنفيذا دقيقا، كانت الزكاة تجمع إلى بيت مال المسلمين، فينفق منها ومن الصدقات والمغانم على شئون الدولة فيما يصلح الجيوش وغيرها، فإذا بقي بعد ذلك شيء قسم بين المسلمين بالسوية، لا يميز منهم حر على عبد، ولا يميز عربي على أعجمي.
وقد اكتشف منجم للذهب على مقربة للمدينة في أراضي بني سليم، فسار أبو بكر في تقسيم الذهب المستخرج منه مسيرته في تقسيم ما بقي من الزكاة وأخماس الفيء والغنائم، فكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام وبين الحر والعبد والذكر والأنثى. وقيل له: «ألا تقدم أهل السبق على قدر منازلهم؟» فكان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.»
هذه النزعة الجديدة إلى الاشتراكية لم تكن مألوفة عند العرب، ولذلك كانوا يعترضون على أبي بكر في مساواته هذه في التوزيع بين المسلمين. وكان أبو بكر يحتج بسنة رسول الله، ويجعل الإخاء والمساواة أساسين جوهريين لنظام هذه الحياة الدنيا كما أنهما ركنان من أركان الإيمان بالله، ومن الأسس التي تقوم عليها عبادته جل شأنه.
الاشتراكية في عهد عمر
ومثل هذه المبادئ الناشئة في جمعية من الجمعيات الإنسانية تتأثر في أحيان كثيرة بميول الجمعية؛ ولهذا عدل عمر بن الخطاب عن سنة أبي بكر في توزيع الصدقات، وفي توزيع الخمس الذي لبيت المال في الغنائم والفيء، فقارب العرب في ميولهم لأنه كان متفقا معهم فيها. من ذلك أنه فضل السابقين إلى الإسلام في توزيع ما للمسلمين من حق في بيت المال على غيرهم، كما فضل نساء النبي أمهات المؤمنين ، ثم فضل أهل بيت النبي وذوي قرابته.
ولم يبدأ عمر بهذا التفضيل لأول ما تولى إمارة المسلمين، فقد اتبع رأي أبي بكر في التسوية بين الناس حتى تم له فتح العراق، عند ذلك شاور الناس في التفضيل ورأى أنه الرأي. وكان يقول: «لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه.» لذلك فرض لكل من السابقين الذين شهدوا بدرا من المهاجرين والأنصار خمسة آلاف، وفرض لمن لم يشهد بدرا من هؤلاء أربعة آلاف، وفرض لكل واحدة من نساء النبي اثني عشر ألفا، وفرض للعباس عم رسول الله اثني عشر ألفا، وفرض لكل من الحسن والحسين خمسة آلاف، وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار ألفين، وفرض لمن دون هؤلاء فروضا تختلف وتنزل إلى ستمائة درهم وأربعمائة درهم ومائتي درهم.
على أن عمر قد أقام على رأي أبي بكر في أمر الأرض، فلم ير قسمتها بين المسلمين على أنها غنيمة غنموها، ولقد كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين فتح العراق يقول، بعد أن أمره أن يقسم المال بين من حضر من المسلمين: «واترك الأراضي والأنهار لعمالها، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء.» وإنما قصد بذلك أن تبقى الأرض وما عليها من الرجال للدولة، يأخذ الرجال مقابل عملهم، وتأخذ الدولة سائر غلتها لتضمه إلى بيت المال، فتتصرف فيه تصرفها في بيت المال.
تطورات جديدة
ظل التطور بعد عهد عمر والخلفاء الراشدين يطرد متأثرا بالفتوح وبالنظم القائمة في البلاد التي فتحها الله للمسلمين، وكان اطراد هذا التطور يقتضي تغير الأوضاع الفقهية للملك والخراج والزكاة والصدقة؛ فأنت ترى في بعض الأحيان ما يساير الأفكار التي يقول بها أصحاب مذهب اشتراكية الدولة من أنصار اشتراكية العهد الحديث، وترى في أحيان أخرى نظما تكاد تتفق وما كان في عهود الإسلام الأولى، على أن المسلمين في كل العهود قد اعتبروا طائفة من الحقوق التي تقررها المذاهب الاشتراكية فوق الجدل، فكما كانوا يبنون المساجد للعبادة ويرونها حقا مشتركا للجميع لا ينازع فيه منازع، كانوا يبنون المدارس للجميع يتعلمون فيها بلا مقابل، ويرون التعليم حقا مشتركا للجميع لا ينازع فيه منازع، وكانوا يقيمون موارد للماء يشرب منها كل ظامئ، وكانوا يعتبرون هذا كله وما إليه حقا مسلما به لذوي الحق في الصدقة ممن ورد النص عليهم في آيات القرآن الكريم، كما كانت الصدقة فريضة تعبدية يؤديها ذوو اليسار شكرا لله على ما رزقهم هذا اليسار، والتماسا منه جل شأنه أن يحفظه عليهم وأن يزيدهم منه.
واعتبار الصدقة فريضة تعبدية، وجعل ما في بيت مال المسلمين منها حقا مقررا لمن فرضه الإسلام لهم، هو الذي يؤكد معنى الاشتراكية على ما فهمها في العصر الأول، وعلى ما طبقوها في عهود الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم. (4) الأمم الإسلامية في العصر الحديث
مرت الأمم الإسلامية في العصور المختلفة بأطوار متفاوتة في قربها من النظام العربي الذي نشأ مع الإسلام، واستمد أصوله من البيئة العربية، وفي بعدها عن هذا النظام وقربها من النظم التي كانت تحيط بالعاصمة الإسلامية حين كان للمسلمين عاصمة معترف بها منهم جميعا، وبأقوى العواصم الإسلامية حين تعددت هذه العواصم وتنافست، واستقلت بعضها بالخلافة على المسلمين وخرجت بعضها عن سلطان الخليفة وحكمه.
كان ذلك شأن هذه الأمم في نظامها السياسي، وفي نظامها الاجتماعي، وفي نظامها الاقتصادي، ولئن ظلت كلها خاضعة لأحكام القرآن الكريم في إيمانها وعباداتها. لقد كان لاجتهاد الفقهاء وكبار العلماء أثره البالغ في التطور من نواحيه المتصلة بنظم الحياة الاجتماعية، ولن يزال ذلك شأنها اليوم وفي المستقبل كما كان شأنها في الماضي، فما جاء بالقرآن من نظم هذه الحياة الاجتماعية لم يتعد المبادئ العامة كما قدمنا، وتفصيل هذه المبادئ وتوجيهها كان ولا يزال مصدر تطورها واتصالها بسائر أمم العالم وبالحضارة القائمة فيه.
ولقد عم الحكم المطلق الأمم الإسلامية، حين ساد هذا النظام أمم العالم كله، أما اليوم فالأمم الإسلامية تؤمن كلها بالمبادئ الديمقراطية، وتراها وحدها المتفقة مع مبادئ الإسلام الأساسية، ومع ما قررته هذه المبادئ من قواعد الإخاء والحرية والمساواة.
على أن تغير النظم التي أظلت العالم الإسلامي في مختلف العصور لم يغير المبدأ العام للحياة الاقتصادية، ولا الأساس الذي تقوم هذه الحياة عليه، فقد ظلت هذه الحياة دائما مزاجا من الفردية والاشتراكية.
لذلك ظل الملك والأسرة والميراث أسسا جوهرية لحياة هذه الأمم، وظلت لليتامى والفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم ممن نص الكتاب الكريم عليهم حقوق مقررة في بيت المال تقتضى من الزكاة ومن الصدقة، كما ظل في مال كل مؤمن حق معلوم للسائل والمحروم.
الاشتراكية في العبادات
وما كان لهذه القواعد أن تتغير أو تتبدل وهي متصلة بالإيمان بالله كما قدمنا، وما كان للاشتراكية الإسلامية أن تزول أو تضعف ولها في سائر مظاهر الإيمان والعبادات المترتبة عليه نصيب واضح. ولقد أشرنا إلى أن الزكاة والصدقة واتصال هذه الاشتراكية واضح في صلاة الجماعة، وفي الصوم، كما أن فريضة الحج تنطوي على معاني الاشتراكية الإسلامية، حتى لا يبالغ من يقول إنها أوضح مظهر لهذه المعاني جميعا.
فالتفاوت بين الناس يسقط أثناء هذه الفريضة، فلا يبقى له أثر في لباسهم، ولا في زينتهم، ولا في أي من مظاهر حياتهم. هم أثناء طوافهم بالكعبة وسعيهم بين الصفا والمروة وقيامهم على عرفات وإقامتهم بمنى، صورة قوية الدلالة على زوال التفاوت، وعلى سعادة الإنسانية بهذا الزوال. ودلالة هذه الصورة أقوى وأكثر صراحة في أن التفاوت النفساني أعظم من التفاوت المادي.
هذا كله جعل الاشتراكية الإسلامية تبقى قوية عميقة القواعد في نفس كل مسلم. ولقد كانت واضحة الأثر منذ نصف قرن في الأمم الإسلامية، وتطورت صورها في هذا القرن العشرين حتى كادت تخفى عن الأعين، وسبب هذا التطور شدة اتصال الأمم الإسلامية بالغرب وأخذها بمبادئه وبحضارته. والاشتراكية الإسلامية مع ذلك باقية، وأنا واثق بأن التطور في حياة الأمم الإسلامية سيعيدها على أساس من القواعد التي عرفها أهل الصدر الأول وأهل العصور الأولى للإسلام.
ولقد يعجب بعضهم لقولي إن الاشتراكية الإسلامية كانت واضحة الأثر إلى خمسين سنة مضت، لكن الواقع هو ما أقول. والذين عاشوا خلال الحقبة الأخيرة من القرن الماضي - وهم لحسن الحظ كثيرون - يذكرون أن السجايا الإسلامية التي كانت متداولة بين المسلمين الأولين من أهل شبه جزيرة العرب كانت متداولة في مصر، فكان الذين آتاهم الله رزقا حسنا يشعرون بما عليهم للفقير واليتيم والمسكين وابن السبيل من حق واجب الأداء لرضا الله، وكان مظهر ذلك باديا في نواحي الحياة بوجه عام.
ولقد كان أكثر وضوحا في شهر الصوم من كل سنة، حتى لقد كان أهل القرى لا يتناول أحدهم طعامه داخل داره، بل أمام الدار، ويرى حقا لكل من يمر به - عرفه أو لم يعرفه - أن يجلس معه وأن ينال من هذا الطعام كفايته. هذا إلى أن من آتاهم الله رزقا حسنا هم الذين كانوا يتكفلون بالمرافق العامة للقرية، فكان الأذكياء من أبناء الفقراء يتعلمون على نفقتهم، وكان المرضى موضع عنايتهم ورعايتهم، وكان في مالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وكانوا يرون أداء هذا الحق واجبا يحاسبهم الله ويجزيهم عليه.
ولقد قلنا من قبل إن الإسلام حرم الربا على أساس اشتراكي مقبول، ذلك ألا يستغل من لا يعمل ثمرات العمل الذي يقوم به غيره. وكلنا لا نزال نذكر أن الربا كان إلى عهد قريب بغيضا إلى النفس الإسلامية أشد البغض، وأن المسلمين جميعا كانوا لا يفتئون يذكرون قوله تعالى:
يمحق الله الربا ويربي الصدقات
وقوله جل شأنه:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس .
وكان العمل بهذه المبادئ متبعا في الأمم الإسلامية في هذا الزمن القريب الذي أشير إليه، وكان القرض الحسن وإنظار ذي العسرة إلى ميسرة، بعض ما يراه صاحب المال واجبا عليه لمن كان في حاجة إلى هذا المال.
تطورت هذه الأخلاق في مصر، وتطورت في غير مصر من الأمم الإسلامية، وكان من أثر هذا التطور أن كانت هذه الاشتراكية تخفى عن الأعين، فلم يبق لها مظهر إلا في الجمعيات الخيرية التي تألفت لتسد الأغراض التي جنى عليها هذا التطور، على أن ما نراه في مصر وفي غير مصر يدل على أن هذه الأمم الإسلامية تلتمس في نظمها الجديدة وسيلة يتحقق بها هذا المزاج بين الفردية والاشتراكية على النحو الذي قرره الإسلام منذ عهوده الأولى.
وآية هذا الاتجاه ما هو واضح من حرص المسئولين في الشئون العامة على العناية بشئون الطبقات الفقيرة عناية تقوم الدولة بأعبائها. ولم يعارض أحد هذه النزعة التي تحقق المزج بين الفردية والاشتراكية، وهذا الإجماع صريح في الدلالة على أن الفكرة أصيلة في النفس الإسلامية، متصلة فيها بالعقيدة وبالمبادئ الإنسانية العامة التي تدعو هذه العقيدة إليها.
هذا واقع بالفعل لا ينكره أحد، وبإجماع لا يخرج عليه أحد، على أن ثمت أمرا يتصل به يستوقف النظر، وهو في رأيي جدير بالإعجاب والتقدير. ذلك أن الذين يدعون هذه الدعوة ويتحمسون لها في الأمم الإسلامية ينادون بها على أساس مدني بحت، ويعتبرونها تنظيما للحياة الاجتماعية والاقتصادية متصلا بشئون الحياة الدنيا، ينطبق عليه الحديث النبوي: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.» وأنت تراهم لذلك لا يتقيدون فيه إلا بما يحقق المصلحة العامة على النحو الذي يهديهم إليه تفكيرهم، مستمدين من شئون الحياة في تطوراتها الحاضرة بحكم الحضارة القائمة ما يتفق والمبادئ الإنسانية السامية القائمة على أساس من قواعد الخلق السليم المتصل في نفوسهم بحكم ضمائرهم.
وهذا الاتجاه المدني متفق مع المنطق الإسلامي الذي يجعل العقل حكما في كل شيء، حكما في الإيمان نفسه، وذلك قول المغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: «إن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن ربي على التسليم بغير عقل، والعمل - ولو صالحا - بغير فقه، فهو غير مؤمن، فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.»
التنظيم الاقتصادي
وتفكير المفكرين من أهل الأمم الإسلامية في التنظيم الاقتصادي على أساس مدني تعينه المصلحة العامة، قد كان سائدا بين المسلمين منذ العصور الأولى، لا تقيده إلا المبادئ العامة المقررة في كتاب الله. ومن هذه المبادئ الأساسية قيام الملك الخاص والأسرة والميراث، أما المرافق العامة فيجب أن تكون ملكا عاما مشاع النفع بين الناس جميعا. وتحديد المرافق العامة متروك أمره للدولة، وهو لذلك مدني بحت.
وقد وقع الخلاف على هذا التحديد منذ العصور الأولى للإسلام، فكان من أصحاب النبي من يجعل الأرض وما تحتويه مرفقا عاما كالماء والهواء، وإنما يقع التملك على ثمراتها ينال منها كل على قدر سعيه ومجهوده، وهذا رأي آحاد كما يقول المحدثون، أما الرأي الذي ساد دائما فيقول بتملك الأرض واعتبارها من العروض التي يقع عليها التبادل.
ولو أننا التمسنا في تفكير المسلمين الأولين قاعدة منطقية عامة يمكن الاهتداء بها الآن في تقدير الاشتراكية الإسلامية واتجاهها، لوجدنا هذه القاعدة: يجب على كل إنسان أن يبذل للجماعة كل كفاياته، ويجب على الجماعة أن تبذل لكل فرد منها ما يسد حاجاته مما تقصر عنه ثمرات عمله، فلكل مسلم حق في أن ينال من بيت مال المسلمين ما يكفل حاجاته وحاجات من يعول ما دام لا يجد عملا يرتزق منه، أو ما دام العمل الذي يزاوله غير كاف لرزقه ورزق عياله.
وهذه القاعدة العامة الثابتة في نفوس المسلمين، هي التي تدعو مفكريهم اليوم إلى تنظيم المزاج بين الفردية والاشتراكية تنظيما مدنيا متفقا مع تطورات الحياة في هذا العصر، بحكم الحضارة القائمة في العالم. وهم لذلك يطلقون أنفسهم من كل قيد حين هذا التفكير، وإن لم يفكر أحدهم في تخطي المبادئ العامة التي وضعها القرآن الكريم، والتي يؤمن كل مسلم بأنها أساسية للحياة متفقة مع الفطرة الإنسانية وطبائع الجماعات.
والتفكير على هذا النحو في العصر الحاضر يعتبر تفكيرا حديثا في العالم الإسلامي. وهو كما قدمت لا يرجع إلى أكثر من أوائل هذا القرن العشرين، لذلك لا يمكن التكهن بمداه ولا بنتائجه، فلندعه يسير في طريقه مطمئنين إلى أنه لن يعدو في يوم من الأيام هذا المزاج الصالح بين الفردية والاشتراكية، وأنه سيكون وسيلة سريعة الأثر في تقدم الأمم الإسلامية ورقيها.
الفصل الثاني
الإسلام والديمقراطية
(1) المبادئ العامة
يختلف نظام الحكم في الأمم الديمقراطية، ويرجع اختلافه إلى تاريخ هذه الأمم حينا، وإلى طباع أهلها أو نظامها الاقتصادي حينا آخر، فنظام الحكم في إنجلترا برلماني وفي أمريكا نيابي، والتقاليد البرلمانية في إنجلترا تختلف عن مثلها في فرنسا، ومع ذلك تتفق هذه الأمم في المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم فيها، والتي يؤمن أبناؤها بضرورتها لسعادة أممهم ورقيها.
وفي مقدمة هذه المبادئ حكم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة والتسليم برأي الأغلبية، على أن هذه المظاهر التي تمثل مجتمعة نظام الديمقراطية في الحكم تقوم على أساس من مبادئ سبقتها، هي التي تعارف الناس على تسميتها حقوق الإنسان، والتي جمعها الفرنسيون في شعارهم: الحرية والإخاء والمساواة.
إذا أردنا أن نعرف نظام الحكم في الإسلام وجب علينا أن نرجع إلى المبادئ الأساسية التي قررها وجعلها أساس الحياة الإنسانية. ومتى عرفنا هذه المبادئ واستقرت في أذهاننا، لم يبق لدينا ريب في أن الإسلام والديمقراطية يلتقيان في الأمور الجوهرية جميعا، وأن نظام الحكم في الإسلام يجب أن يكون في صورة أو أخرى من صور الحكم في الأمم الديمقراطية في عصرنا الحاضر، وأن كل نظام لا يقوم على أساس من حرية الفرد وتضامن الجماعة وحق الشعب في حكم نفسه عن طريق المناقشة الحرة والانتهاء إلى رأي الأغلبية، كل نظام لا يقوم على أساس من هذه المبادئ التي تدعو الديمقراطية إليها، لا يتفق والقواعد الأساسية التي قررها الإسلام ودعا إليها، ولا يتفق وواجب المسلم في التمسك بقواعد دينه والدفاع عنه.
وقد ألف كثير من الذين يتعرضون لهذا الموضوع، ويؤيدون الرأي الذي نقول الآن به، أن يستندوا إلى بعض آيات القرآن الكريم كقوله تعالى:
وشاورهم في الأمر
وقوله:
وأمرهم شورى بينهم
ثم يكتفون بها في التدليل على رأيهم. وهذا الدليل لا ريب قائم وله قوته، وبخاصة أنه نص من كتاب الله، على أن جماعة من المسلمين في عصور مختلفة قد لجئوا لأغراض خاصة إلى تفسير هذه الآيات بما يلائم أغراضهم، فلا بد لذلك من أن نرجع إلى المبادئ العامة للإسلام، لنرى كيف تتوج هذه الآيات تلك المبادئ، ولنتبين أن نظام الحكم القائم على الشورى الإسلامية يجب أن يتحقق به للناس حظ من الحرية والإخاء والمساواة يعادل أو يزيد على ما تحققه لهم النظم الديمقراطية كما نفهمها في عصرنا الحاضر.
مبدأ الإخاء
ولنبدأ بمبدأ الإخاء. لقد ذهب الإسلام في تقرير هذا المبدأ إلى أبعد مدى؛ فهو لم يضع له حدا من الحدود، ولم يقم في سبيله عقبة من العقبات، لم يجعل الجنس ولا اللغة ولا اللون سببا في التباعد بين الناس، ولم يفضل العربي على العجمي كما يفضل بعضهم الآري على السامي، ولم يفضل الأسمر أو الأبيض على الأسود.
والقرآن الكريم صريح في تقرير مبدأ الإخاء إذ يقول:
إنما المؤمنون إخوة ، وإذ يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
والحديث عن النبي - عليه السلام -: «إنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.» فالناس في إسلامهم إخوة لا يتفاضلون إلا بالأعمال الصالحة، ولا يميز بعضهم عن بعض غيرها، وإن اختلفوا لونا ولغة وجنسا ومذهبا.
والإخاء في الإسلام ليس حديثا يجري به اللسان، أو مظهرا من مظاهر المجاملة وكفى، بل هو مبدأ أساسي وعقيدة يجب أن تقوم بالنفس، وأن تكون لها آثارها في أعمال الإنسان أو يكون ضعيف الإيمان.
ولا أحسب تصويرا لهذا المعنى بلغ في قوته قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» وأول المحبة الاحترام، ومظهرها الأسمى الإيثار على النفس. فإذا لم أحترم أخي لأنه من جنس غير جنسي، أو لأنه يتكلم لغة غير لغتي، فأنا ضعيف ناقص الإسلام.
وإذا أنا لم أوثر أخي على نفسي فيما هو بحاجة إليه، فأنا ضعيف الإيمان ناقص الإسلام، وإذا أنا قامت الكراهية بنفسي للناس فحقدت عليهم فأنا ضعيف الإيمان ناقص الإسلام. فأما الذي يحب أخاه ويرجو له ما يرجوه لنفسه، فذلك بين المسلمين رجل كمل إيمانه وتمت عليه نعمة الله.
ولا أخال مذهبا من المذاهب بلغ في تصوير الإخاء ما بلغه المسلمون. ولست أدلل على ذلك بأقوال المتأخرين الذين لعلهم تأثروا بالفلسفة اليونانية أو بغيرها من المذاهب التي نقلت إلى العربية في العصور الزاهرة للأمم الإسلامية، وإنما أدلل عليه بأعمال النبي العربي وبأعمال أبي بكر وعمر.
فلم يرض النبي - على إكبار المسلمين له وتقديسهم إياه - أن يظهر في مظهر السلطان أو الملك أو الرياسة الزمنية حين تم له السلطان في شبه جزيرة العرب كلها، بل كان يجلس من أصحابه حيث ينتهي به المجلس، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة.
وكان أبو بكر في خلافته أخا لكل الناس صغيرهم وكبيرهم، وكذلك كان عمر، بل لقد كان النبي وصاحباه يرون الضعفاء أحق بإخائهم من الأقوياء، فكانوا لا يضنون به على أحد، ويرونه الأساس الأول للتضامن الاجتماعي.
والحق أني لا أستطيع أن أفهم التضامن الإنساني الذي ننشده جميعا، وندعو إليه بكل قوتنا، حتى يتحقق هذا الإخاء بين الناس، ويتحقق إخاء مثله بين الأمم، وحتى يشعر كل فرد وتشعر كل أمة شعورا صادقا قويا، بأن واجب الإخاء يقتضي أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه.
المساواة في الإسلام
أما المساواة في الإسلام، فهي المثل الأعلى في تصور المساواة، ليست هي المساواة أمام القانون وكفى، بل هي تتناول ذلك وتسمو عليه، هي المساواة أمام الله. وهذه المساواة لا يجني عليها التفاوت في الرزق، ولا التفاوت في العلم، ولا التفاوت في عرض من أعراض الدنيا.
ولم أر في حياتي مظهرا للمساواة أعمق أثرا في النفس من عشرات الألوف من المصلين مجتمعين حول الكعبة في المسجد الحرام، يتوجهون كلهم إلى الله، ويعلمون كلهم أن ما بينهم من تفاوت في المال أو الجاه أو السلطان يتضاءل ويذوي ويصبح لا شيء في هذا الموقف الرهيب الجليل الذي يشعر فيه كثيرون ممن تزدهيهم الحياة، بأن غيرهم ممن هم دونهم مالا وجاها وسلطانا أقرب إلى الله منهم بطهارة نفوسهم وصالح أعمالهم.
إذا كان الإيمان بفكرة المساواة أمام القانون بعض أركان الديمقراطية، فما عسى يكون جلال الإيمان بفكرة المساواة أمام القوة العليا مصدر القانون ومصدر كل شيء، قوة بارئ الكون ومدبره.
الحرية أعز مبادئ الإسلام
أخرت الكلام عن الحرية في الإسلام لأختتم بها هذا الحديث، ولأن هذه الحرية أعز مبادئ الإسلام منذ نشأته.
والحرية تعرف اليوم بما لك من حق في أن تصنع ما تشاء، ما دمت لا تؤذي غيرك ولا تعتدي على حريته. ولست أرى فرقا بين هذا التعريف وبين قول المسلمين: المسلم من سلم الناس من لسانه ويده. والواقع أن الإسلام يقرر الحرية للناس كاملة إلا فيما يوجب الشرع عليه الجزاء، شأنه في ذلك شأن غيره من الشرائع في كل الأزمان، وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه.
على أن أهم صورة للحرية المقصودة في شعار الثورة الفرنسية، إنما هي حرية التفكير وحرية الرأي والتعبير عنه. وليس يبالغ من يقول إن هذه الحرية مقررة في الإسلام بأوسع صورها ومعانيها، ولا أدل على ذلك من قيام المذاهب الأربعة بين أهل السنة من المسلمين، واحترامهم إياها جميعا، على ما بينها من اختلاف في التفكير والرأي. وهذه المذاهب قررها الأئمة الذين يعترف المسلمون جميعا بفضلهم، وحسن إيمانهم، وعلو مكانتهم.
ولا تنس أن المذاهب الأربعة تتناول أحكام الشريعة على ما قررته قواعد أصول الدين. فإذا جاز الاختلاف في هذه الأحكام وصح الاجتهاد في أمرها، فما بالك بما سواها مما لا يتصل بها من الآراء والمذاهب، إن حرية الرأي والتعبير عنه مطلقة فيه إطلاقا لا حد له إلا العقل والعلم.
وإذا كان قيام المذاهب الأربعة دليلا على حرية الرأي، حتى في المسائل الشرعية، فإن ما تركه فلاسفة الإسلام من أمثال ابن رشد والغزالي وابن سينا والفارابي وغيرهم، يسقط كل حجة يمكن أن يتذرع بها من يرى غير رأينا.
أحسبني بما تقدم قد أقمت الدليل على أن شعار الديمقراطية متحقق في الإسلام على أتم وجه وأكمله، كما أقمت الدليل على أن هذه المبادئ أساسية في الإسلام مثلها في الديمقراطية سواء. أما والنتيجة اللازمة لهذه المبادئ في نظام الحكم أن يقوم في صورة من صور الحكم الديمقراطي المختلفة، فالشورى الإسلامية واحدة من هذه الصور لا ريب، والدفاع عنها دفاع عن مبدأ إسلامي سليم.
على أن التقاء الإسلام والديمقراطية في الأمور الجوهرية لا يقف عند هذه المبادئ العامة بل يتناول غيرها مما يتصل بها أو يترتب عليها. (2) التشريع والقضاء
الحرية، والإخاء، والمساواة، شعار الديمقراطية الحديثة، وهي كذلك من المبادئ الأساسية في الإسلام، ذلك ما أقمنا عليه الدليل. وهذه المبادئ المترتبة على الحقوق الطبيعية للإنسان في الديمقراطية وفي الإسلام جوهرية للجماعة بمقدار ما هي جوهرية للفرد. وهي بهذه المثابة أساس التضامن الاجتماعي، وأساس النظام الذي يقوم عليه الحكم سواء في الديمقراطية أو في الإسلام.
وقد أشرنا إلى أن هذه المبادئ تقتضي حتما حكم الشعب نفسه، عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة والتسليم برأي الأغلبية، وأول مظهر لهذا الحكم إنما يتجلى في التشريع وفي القضاء. فليس من حق فرد بالغة ما بلغت مكانته من السمو، أن يشرع للمجموع على كره منه أو أن يلزم الشعب قوانين تأباها إرادته الحرة.
وليس من حق فرد، بالغة ما بلغت مكانته، أن يجعل إرادته المطلقة فيصلا في القضاء بين الناس، بل لا بد للقضاء من قواعد يجري عليها، تتفق وإرادة الشعب وتكفل حقوقه الطبيعية. ولا بد للقضاة من استقلال يجعلهم إذ يحكمون لا يرعون في قضائهم إلا القانون وقواعد العدل وما ترضاه ضمائرهم النزيهة الطاهرة. وهذه القواعد التي تقررها الديمقراطية الحديثة هي بعينها القواعد التي يقررها الإسلام.
ولعلك إذا رجعت إلى قواعد القضاء والتشريع في الأمم الإسلامية رأيتها أقرب ما تكون في صورتها لقواعد القضاء والتشريع في إنجلترا في عهدها البرلماني الذي يمثل مبادئ الديمقراطية أصح تمثيل، فقد ألف الناس في إنجلترا إلى عهد قريب جدا ألا يقوم العدل على قواعد من التشريع البرلماني ويلجأ إلى تغييرها من حين إلى حين حسب ما تقضي به الظروف.
وإنجلترا لم تألف هذا التقليد الفرنسي في التشريع إلا من عهد قريب، وهي لم تألفه إلا في المسائل الاجتماعية المتصلة بالسلطة العامة أكثر من اتصالها بمعاملات الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض. أما فيما خلا ذلك، فمرجع التشريع الإنجليزي إلى أحكام القضاء التي تثبت قواعدها على الزمن فيرضاها الناس ويتخذونها شرعا لهم في معاملاتهم، ثم تصبح في إنجلترا كلها قانونا يطبق على الجميع ويسترشد به القضاة للفصل فيما يعرض عليهم من المنازعات.
وأنت إذا أردت أن ترجع إلى كتاب من كتب القانون في إنجلترا، لأمر يتعلق بالمعاملات المدنية أو التجارية أو بالعقوبات أو الشئون الدولية الخاصة والعامة، فأكثر ما تقع عليه من الكتب التي تكشف لك عما تبحث عنه كتب القضاء وأحكامه، وما تنطوي عليه هذه الأحكام من مبادئ، تطبق في القضايا المماثلة في أنحاء الدولة جميعا.
هذا النظام بعينه كان ولا يزال الأساس للقضاء وللفقه عند المسلمين، فكتب الفتاوى هي المرجع الأول للأحكام. وأنت إذا أردت أن تبحث موضوعا فقهيا أو قضائيا، فأكثر ما ترجع إليه كتاب ابن عابدين والفتاوى الحامدية والفتاوى الهندية وما إليها إذا كنت تريد أحكام الفقه الحنفي.
ومثل هذه الكتب تماما هي ما نرجع إليه لمعرفة أحكام المذاهب الأخرى. وهذه الكتب كلها من طراز الكتب الإنجليزية التي أشرنا إليها، فكلها تذكر قضايا فصل فيها القضاة برأي أصبح مبدأ تشريعيا مسلما به، وأصبح لذلك مرجعا للقضاة ولجميع المشتغلين بالقانون والفقه من بعد.
والقاضي العادل في البلاد الإسلامية، كان ولا يزال يتمتع بالمكانة والاستقلال اللذين يتمتع بهما القاضي العادل في الدول الديمقراطية جميعا، ليس لأحد على هذا القاضي سلطان، وسلطانه نافذ في الناس جميعا، وما دام الناس مطمئنين إلى عدله فله أن يجتهد في قضائه ما وجد إلى الاجتهاد سبيلا.
فإذا رأى يوما أن يعدل عن رأي رآه سلفه من القضاة الذين شهد لهم الناس في عصرهم بالنزاهة والعدل، بل إذا رأى يوما أن يعدل عن رأي رآه هو من قبل، اقتناعا منه بأن رأيا غيره أدنى إلى الحق وإلى تحقيق المنفعة العامة، كان بعمله هذا يؤدي واجبا ذا قيمة في الحياة الفقهية، ما دام هذا الرأي قائما على القواعد السليمة المقررة للعدل بين المسلمين. والواجب الذي يؤديه القاضي في هذه الناحية هو أداة التطور الفقهي، وهو الذي يجعل الفقه كفيلا دائما بأن يحقق الرخاء والأمن والسلام في حدود الحق والعدل.
وفرنسا التي درجت، منذ قرن ونصف قرن على الأقل، على سنة التشريع المقنن، تعتبر الفتاوى وأحكام القضاء مناهل أساسية لحياة العدالة. ومجموعات دالوز وسيري، وكتب جارسون وأمثاله، تقيد الأحكام والفتاوى على النحو الذي قيد به المسلمون من قبل أحكام قضاتهم وفتاوى مفتيهم، وتتخذ منها مرشدا لقواعد العدل ولتطور التشريع.
الإسلام وتطور التشريع
يحاول بعضهم أن يصور الإسلام تصويرا لا يتفق مع ما قدمنا، ويذكر سندا لرأيه أن التشريع والقضاء في الإسلام مقيدان بالقرآن الكريم تقييدا يحول دون التطور الذي يقضي به النظام الديمقراطي. وهذا الرأي خاطئ، إن كان صادرا عن حسن نية، فالفقه الإسلامي يعتمد على القرآن الكريم اعتمادا أساسيا، هذا صحيح، لكن ما ورد في القرآن من التشريع لا يتخطى القواعد العامة التي تقرها قواعد العدالة مصورة في مثلها الأعلى، والقواعد العامة الواردة في القرآن قليلة، لم تتناول من التفاصيل إلا أمورا بذاتها محصورة العدد جدا. ولهذا رأى المسلمون منذ العصر الأول أن يجعلوا مصادر الفقه والتشريع أربعة: الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، وأن يكلوا إلى القاضي تطبيق هذه القواعد مع مراعاة أدق صور العدالة.
والسنة في الفقه الإسلامي هي ما تواتر من الأحكام عن رسول الله، وليس يتسع المقام للحديث عما ثبت بالتواتر من هذه الأحكام. وحسبنا أن نذكر ما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني.»
وقد قال ابن خلدون، وهو يتكلم عن الحديث: «لو انتقدت الروايات - يقصد روايات الحديث - من جهة فحوى متنها، كما تنقد من جهة سندها، لقضت المتون على كثير من الأحاديث بالنقض. وقد قالوا إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.»
أما الأصل الثالث من أصول الفقه - وهو القياس - فمرجعه العقل ومنطقه، وإلى العلم بالكتاب والسنة.
بقي الأصل الأخير وهو الإجماع، وهذا الأصل هو الظاهرة الديمقراطية الواضحة التي تدل على أن حق الشعب في الحكم، وفي التشريع، مقرر في الإسلام على وجه لا يحتمل مناقشة أو جدلا. ولو أنك رجعت إلى كتب الأصول والفقه لتبينت أن القواعد التي تسير عليها ديمقراطية هذا العصر في التشريع والتي ترمي دائما إلى الملاءمة بين المنطق العقلي والعدل وبين حاجات الناس ومنافعهم، هي بعينها القواعد التي قررتها هذه الكتب الإسلامية.
يجب علي أن أعترف مع هذا الذي قدمت، بأن القواعد التي وردت في القرآن - وإن تكن قواعد عامة - هي قيد للمشرع، وذلك هو ما دعا بعضهم إلى الظن بأنها لا تدع للإرادة العامة الحرية في التشريع والحكم، لكن التاريخ أثبت أن هذه القواعد ضرورية لحياة الديمقراطية، فلا يمكن الخروج عليها.
خذ مثلا لذلك المبادئ الاقتصادية المقررة في كتاب الله، هذه المبادئ لا ترضى عن الفردية المطلقة القائمة على أساس من الأنانية الذاتية التي لا حد لها، بل هي تدعو إلى نوع من الاشتراكية جدير بأن يطلق عليه اسم الاشتراكية الإسلامية، لكن هذه الاشتراكية الإسلامية لا تتعدى ما يقتضيه تضامن الجماعة، وتدعو إليه مبادئ الرحمة الإنسانية التي تعتبر في الإسلام قاعدة مقررة لا كمالا نفسيا وكفى.
ثم إن هذه المبادئ الاقتصادية المقررة في القرآن تأبى إباء صريحا أن تزيد الاشتراكية على هذا القدر، وترفض رفضا باتا هدم الملكية الخاصة، وهي لذلك تقف في وجه المبادئ الشيوعية التي قررها كارل ماركس بكل قوة وشدة.
ومثل آخر من المبادئ التي قررها القرآن، يتصل بالأسرة ويدخل لذلك في نطاق الحياة الاجتماعية. فالزواج والأبناء والتوارث من الأمور التي لا يصح للمسلمين الخلاف على مبدئها ولا على ما ورد في القرآن عنها، فإذا اعتبرت هذه المبادئ وأمثالها قيدا لإرادة الشعب في التشريع، فهو قيد تقتضيه الحياة الديمقراطية.
وها نحن أولاء نرى أن ما يخالف هذه المبادئ قد استحال قيامه في إنجلترا وفرنسا وأمريكا والديمقراطيات كلها، وإنه حيث قام ألغيت المبادئ العامة للديمقراطية - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة - وقامت مقامها مبادئ الطغيان والحكم المطلق.
ولو أن الطغيان رفع عن كواهل الأمم التي قامت فيها المبادئ التي تخالف ما أسلفنا مما قرر القرآن الكريم لرأيت الناس يعودون إلى هذه المبادئ شيئا فشيئا، لأنها من فطرة الإنسان، كما أن الحياة الديمقراطية من فطرته.
لا عجب بعد الذي قدمنا أن تنزع الشعوب الإسلامية كلها في العصر الحاضر إلى ناحية الديمقراطية، وأن تجعل تشريعها على النظام الديمقراطي وسيلتها للحياة وللرقي والتقدم، وهي إذ تنزع هذا المنزع عن إيمان بالديمقراطية يؤدي بها إلى الدفاع عنها بكل قوتها، إنما تؤيد حكم الإجماع في حدود القواعد التي نص عليها القرآن الكريم. وهي فيما تصنع من ذلك لا تخالف تاريخها ولا تخرج عليه، وإنما تسير في طريق التطور الطبيعي للحياة الإنسانية. فقد كان حكم الشعب نفسه أساسا للحكم الإسلامي منذ العهد الأول، وإنما اختلفت الصور التي صور فيها نظام هذا الحكم باختلاف العصور، كما جاءت عصور مظلمة أساءت وجنت عليه. (3) صور الحكم الديمقراطي
تختلف صور الحكم الديمقراطي في العصر الحاضر بين النظام النيابي والنظام البرلماني، كما تختلف بين الملوكية والجمهورية، على أن هذه الصور ليست قديمة العهد، وإنما ترجع إلى ثلاثة قرون أو نحوها في إنجلترا، وترجع إلى عهد الثورة الفرنسية في فرنسا، وإلى عهد الاستقلال في أمريكا.
أما إذا نحن رجعنا إلى صور الحكم الديمقراطي في العصور القديمة، وبخاصة في اليونان، فقلما نجد هذا الحكم ممتدا في أمة يبلغ عددها الملايين، وإنما نجده على الأغلب في مدن أو مقاطعات محصورة العدد على نحو ما نعهده اليوم في سويسرا، لكنه كان محتفظا دائما بالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الديمقراطية، مبدأ حكم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة وإقرار رأي الأغلبية.
ونحن إذا رجعنا إلى الحكم الإسلامي في عهوده الأولى - أي منذ ألف وثلاثمائة سنة وأكثر - وجدنا المبدأ الأساسي للديمقراطية مبدأه، ورأينا الصور التي تصور فيه تختلف بعض الاختلاف عما نعهده اليوم في نظم عصرنا الحاضر، ولكنها تتفق وإياها في الغاية وفي المبدأ.
ولا غرابة في ذلك، فقد نشأ الإسلام في بلاد العرب، وكان كتابه عربيا، وكان رسول الله به عربيا. وقد كانت بلاد العرب في ذلك العصر تعيش في نظام ديمقراطي بحت، أدنى إلى نظام سويسرا اليوم وإلى نظام المدن اليونانية القديمة. ولقد كانت الحرية التامة أعز شيء على العربي، بدويا كان أم حضريا.
وكان أهل القبيلة أو أهل المدينة يجتمعون للنظر في شئونهم العامة، وللقضاء فيما يقوم بينهم من المنازعات. وكانت دار الندوة بمكة، مكان هذا الاجتماع بالنسبة للمدينة الإسلامية المقدسة من عهد إبراهيم، فكان طبيعيا أن ينعقد نظام الحكم في الإسلام على هذا الأساس العربي الصريح، وأن يكون ديمقراطيا بالمعنى الذي يفهمه العربي من الألفاظ التي ترادف هذه الكلمة في لغة ذلك العصر.
وأنت إذا رجعت إلى بيعة أبي بكر، وبيعة عمر، وبيعة عثمان، وجدت هذا المعنى واضحا فيها تمام الوضوح، فقد كان الناس يجتمعون ويختارون خليفتهم ثم يبايعونه. ولم يكن هؤلاء الخلفاء يتولون السلطة التشريعية؛ لأن هذه السلطة كانت متروكة إلى القضاة - كما ذكرنا من قبل - وكان القضاة يستمدون قضاءهم من القرآن الكريم، ومن السنة، ومن القياس، ومن الإجماع، ثم كانت أحكامهم، كما كانت فتاوى العلماء، هي الأساس الذي يقوم عليه الفقه، وتجري على مقتضاه المعاملات بين الناس.
كان الخلفاء إذن إنما يتولون السلطة التنفيذية، على حد تعبيرنا في النظام الديمقراطي، فهل كانوا يتولونها مستبدين لا يحاسبهم أحد، أم أنهم كانوا يحاسبون وكانت عليهم رقابة سواء من نوع الرقابة البرلمانية في أوروبا، أو من نوع الرقابة النيابية في أمريكا؟ إذا كانت عليهم رقابة - أيا كان نوعها - لم يبق ريب في أن نظام الحكم الإسلامي نظام ديمقراطي، إن اختلف في الصورة عما نألف اليوم، فهو متفق معه في المبدأ والأساس تمام الاتفاق.
لما تمت البيعة لأبي بكر خطب الناس ، فقال: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.» وقال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.»
وهذا صريح في أن أبا بكر يقر بحق الرأي العام في مراقبته وإرشاده، ويذهب في ذلك إلى حد الإقرار لهذا الرأي العام بعصيانه إذا هو عصى الله ورسوله.
ونحن إذا أردنا أن نرتب على هذا الكلام نتيجته المنطقية لم نكن مخطئين في القول بأن الذين بايعوا أبا بكر كان لهم حق محاسبته وتقويمه، فإن عصى كان لهم حق العصيان، وبعبارة أخرى كان لهم حق عزله. ولا نحسب معنى أبلغ في تقرير مبادئ الديمقراطية من هذا المعنى.
وكان عمر بن الخطاب بعد أن أصبح أمير المؤمنين يخطب الناس يوما بمثل المعنى الذي تحدث فيه أبو بكر، ويذكر للناس أن لهم أن يقوموه إن رأوا في تصرفاته عوجا، ولقد أجابه أحد الحاضرين بهذا الجواب الذي يحفظه كل مسلم عن ظهر قلبه: «والله يا عمر، لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا.»
هذا الجواب يشهد لعمر بأنه كان رجل عدل وصدق ونزاهة، لكنه يشهد كذلك بأن العرب كانوا يعرفون ما لهم من حق في محاسبة صاحب السلطان عليهم ومراقبته، شأنهم في ذلك كشأن أهل إسبرطة وأثينا في اليونان القديمة، وشأنهم كشأن الأمم الديمقراطية اليوم.
والنظام النيابي القائم في أمريكا، لا يعرف المسئولية الوزارية على الصور المقررة في النظم البرلمانية، فإذا كان العرب لم يعرفوا المسئولية البرلمانية هم الآخرون، فقد كان الحاكم مسئولا أمام الرأي العام كمسئولية رئيس الولايات المتحدة. ونتيجة هذه المسئولية أن لا يجدد الرأي العام انتخاب هذا الرئيس متى تمت مدته، أو يضطره للتخلي عن منصبه بإظهار عدم الرضا عن تصرفاته أو بعصيان سياسته، على حد تعبير أبي بكر.
مدة الحاكم الإسلامي
لماذا لم تحدد مدة الحاكم الإسلامي في الصدر الأول، كما تحدد مدة الرئاسة لرؤساء الجمهوريات في عصرنا الحاضر؟ وهلا ينهض ذلك حجة على أن الفكرة الديمقراطية كانت ناقصة عند العرب، وبقيت ناقصة حين نفذها المسلمون؟
الواقع أن التفكير في هذا الأمر لم يدر بخاطر المسلمين الأولين لاعتبارات جوهرية؛ أولها: أن أبا بكر لم تطل خلافته أكثر من سنتين وأشهر، وأن عهده وعهد عمر كانا جميعا عهد فتح متصل انفسحت به أطراف الإمبراطورية الإسلامية شرقا وغربا، فلم يكن العرب ليقيموا أثناء ذلك في شبه الجزيرة، بل كانوا مشتغلين خارجها بالغزو ومغانمه والنصر وأعياده.
وقد ألفت الأمم في كل العصور ألا تفكر في انتخابات أو ما يشبهها في أوقات الحروب، حين يكون الاستقرار الداخلي جوهريا لحياة الدولة، ثم إن أبا بكر وعمر كانا حاكمين من طراز لم يعرف التاريخ له نظيرا، لم تغير الخلافة ولا غيرت الإمارة على المسلمين من حياة أي منهما، ولم تنتقل به من داره إلى دار أخرى، بل لقد كانت نظريتهما في تولي أمور الدولة قائمة على أساس من إنكار الذات، بلغ حدا يحسبه أهل جيلنا ممعنا في المبالغة.
نسي كل واحد منهما، منذ تولى أمور المسلمين، نفسه، ونسي أهله وأبناءه، وتجرد لله تجردا مطلقا، وأوجب على نفسه أن يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج تحقيقا لمعنى الإخاء في أسمى صوره، وإيذانا بأنه ليس له في الحياة هوى، وأنه لذلك يقدر على أن يقيم بين الناس عدلا منزها لا يعرف محاباة، ولا يعرف إلا حق الله في أن يعيش الناس جميعا في ظل عدله - جل شأنه - آمنين مطمئنين.
فلما انقضى عهد أبي بكر وعمر كانت رقعة الإمبراطورية الإسلامية قد انفسحت، ومع ذلك بقي الحكم عربي الأساس، ديمقراطي المبدأ، حتى قامت الثورات والفتن بين علي ومعاوية.
وقد تأثر الحكم الأموي بهذه الثورات لا ريب، لكنه بقي مع ذلك قريبا من المبدأ العربي الذي يقدس الحرية، ويتفق وما نفهمه اليوم من الديمقراطية.
وقد لبث الحكم كذلك طيلة عهد الملوك الأولين من الأمويين، فلما استعرت الثورات ثانية بين الأمويين والعباسيين، ولما دخل الفرس ثم دخل الروم في البلاط الإسلامي، بدأت هذه المبادئ العربية التي تتفق والروح الإسلامي الصحيح تتأثر بالبيئة الجديدة، ثم طغت هذه البيئة عليها، ثم آمن ملوك المسلمين بحقهم المقدس في الملك، كما كان يؤمن به ملوك أوروبا، ثم كان من أثر ذلك أن تدهورت الإمبراطورية الإسلامية، وأن بدأ عصر الانحلال الذي استمر أجيالا وقرونا.
ليس من الإنصاف أن يحاسب الإسلام عما استحدث في هذه الأجيال مما يخالف مبادئه ولا يتفق وتعاليمه، وقد بينا بوضوح ما تنطوي عليه هذه التعاليم، وما تقرره هذه المبادئ، على ما صورت في أول عهد الناس بهذا الدين.
وليس ثمة شبهة في أن هذه المبادئ تتفق ومبادئ الديمقراطية، ولا شبهة كذلك في أن المسلمين يجب عليهم أن يقيموا أنظمة الحكم في بلادهم على أساس من هذه المبادئ ليصوروا هذه النظم كما يشاءون، ليجعلوها برلمانية أو نيابية، ليقيموها على أساس المسئولية الوزارية أو المسئولية العامة أمام الرأي العام، مسئولية من نوع ما هو حاصل اليوم في أمريكا، وما كان حاصلا في عهد الخلفاء الراشدين، ليختاروا من ذلك أو مما يشبهه ما يشاءون.
لكن الأساس يجب أن يكون دائما حكم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح، والمناقشة الحرة، والانتهاء إلى رأي الأغلبية، ويجب على المسلمين أن يدفعوا عن المبادئ التي قررها دينهم بكل قوتهم، ففي ذلك تثبيت لما يدينون به، وما تتحقق به آراؤهم الإسلامية السليمة.
فأما الذين يحاولون التدليل على أن الإسلام يقر حكما غير الحكم الديمقراطي، ويلتمسون الحجة على ذلك بما كان في عصور مختلفة من حياة الأمم الإسلامية، فأولئك يخالفون المبادئ الجوهرية للإسلام على ما خرج في صفائه من شبه الجزيرة.
وحسبي دمغا لحجة هؤلاء أن المسلمين لم يصبهم ما أصابهم فأحزنهم إلا بفضل هذا الحكم المطلق، وما كان لنظام جنى على المسلمين هذه الجناية أن يكون نظاما إسلاميا يقره المسلمون ويحترمونه! فأما الديمقراطية الإسلامية، على ما خرجت من شبه الجزيرة، فهي التي جعلت للإسلام ما أراده الله له، وما حفظ حتى اليوم كيانه.
ولم تقف المبادئ الديمقراطية في الإسلام عند نظام الحكم في أمة بذاتها، بل لقد تعدت ذلك إلى العلاقات الدولية وتنظيمها، فاحترام المعاهدات، ومقاتلة الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، واحترام المحايدين والسكان الآمنين، كل ذلك وما إليه مما تفرضه المبادئ الديمقراطية قد فرضه الإسلام وقرره القرآن الكريم. (4) الحياة الدولية
الإسلام دين حرية، وإخاء، ومساواة، والتشريع والقضاء ونظام الحكم فيه صورة من صور الديمقراطية، كما فهمها اليونان الأقدمون، وكما نفهمها في العصر الحاضر، أفكان ذلك شأنه في الحياة الدولية كذلك؟ وهل قرر في علاقات الدول بعضها مع بعض من المبادئ ما يقارن بما تقرر في عصرنا الحاضر؟ وإن يكن من ذلك شيء، فهل تتفق هذه المبادئ وما تدين به الأمم الديمقراطية؟
وطبيعي ألا يغفل الإسلام العلاقات الدولية، وقد كانت معروفة أول ظهوره، وكانت معروفة قبله بمئات السنين بل بألوفها، لكن الذي قد يعجب له بعضهم أن يكون الإسلام قد نادى بالفكرة الدولية التي حققتها الأمم الديمقراطية سنة 1919 في أعقاب الحرب الكبرى الماضية، أقصد فكرة عصبة الأمم.
والواقع أن هذه الفكرة ليست إلا تحقيقا لمعنى الديمقراطية في الحياة الدولية على الوجه الذي تتحقق به في الحياة القومية، والأساس الذي تقوم عليه هو بعينه أساس الحرية والإخاء والمساواة، المساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة، وحريتها في إبداء رأيها في كل مسألة تعرض على العصبة، وسعي الدول المشتركة فيها جميعا لتحقيق معنى التعاون والإخاء توطيدا للسلم ودفعا للحرب.
وذلك ما تجده في الفكرة الإسلامية، فأنت إن رجعت إلى عهدة هذه العصبة وجدتها كلها تتلخص في قوله تعالى:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ، هذه الآيات تتناول مواد العهدة كلها تقريبا.
ولست أشك في أن قيام العصبة على أساس من هذه المبادئ الواردة في القرآن الكريم، والتي أقرتها الأمم الديمقراطية العريقة في الحضارة في عصرنا الحديث، هو وحده الوسيلة الأكيدة لاستقرار السلام في العالم. على أن الإسلام والمسلمين كانوا يقدرون أن قيام عصبة للأمم على هذا الأساس الديمقراطي ليس من الأمور اليسيرة، وأن رضا الأمم جميعا بهذا النظام - عن طواعية واختيار - لا يتحقق إلا بعد عصور طويلة؛ لذلك قرروا مبادئ اتبعوها في الأزمان المختلفة، ثم خولفت في أزمان أخرى، تبعا لتطور الأحوال مما أشرنا إليه في الفصول السابقة.
ومن أهم المبادئ التي قررها الإسلام احترام العهود وعدم الإخلال بالمعاهدات، وهذا المبدأ أساسي في الحياة الدولية الإسلامية، حتى لقد ضحى المسلمون الأولون من أجله أكبر التضحية.
لما فتح رسول الله مكة كان العرب من مختلف الأديان يحجون إلى الكعبة، ويعتبرون ذلك من عباداتهم لآلهتهم، وإذ فرض الإسلام الحج إلى مكة، فقد أوحي إلى رسول الله ما اقتضاه أن بعث علي بن أبي طالب في موسم الحج يعلن إلى الناس بمكة أن البيت الحرام أصبح للمسلمين دون غيرهم، وأنه لا يصح لمشرك أن يحج بعد ذلك العام. مع هذا، ومع أن الأمر الذي نزل به من عند الله كان صريحا فيه، فقد اشتمل هذا الأمر على استثناء صريح للذين عاهدوا رسول الله من المشركين؛ لذلك قال علي حين أعلن للناس أنه لا يحج بعد ذلك العام مشرك، إنه من كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته. وهو في ذلك إنما نفذ قوله تعالى في سورة براءة بعد إنذار المشركين ومنعهم من الحج:
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .
ومن قبل ذلك عقد رسول الله عهد الحديبية مع أهل مكة، وكان من شروط هذا العهد أن من جاء محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا من رجال محمد لم يردوه عليه. وما كاد هذا العهد يوقع حتى أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يريد أن يذهب معهم إلى المدينة بغير إذن أبيه، ومنعه أبوه، وجعل يجره ليرده إلى قريش، فنادى: «يا معشر المسلمين، الرد إلى المشركين يفتنونني في ديني.» وكان جواب رسول الله : «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.»
وبعد زمن من ذلك، خرج أبو بصير من مكة إلى المدينة بغير إذن مولاه، فكتب أهل مكة إلى النبي يطلبون رده، فأمره أن يعود إلى قومه، وقال له: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا في ديننا الغدر، فانطلق إلى قومك.»
ولما تولى أبو بكر خلافة رسول الله فارتدت العرب، فانتصر خالد بن الوليد على مسيلمة بن حبيب المتنبئ باليمامة، عقد خالد صلحا مع أهلها من بني حنيفة، ثم إنه جاءه أمر من أبي بكر يخالف نصوص هذا الصلح. ومع أن خالدا إنما كان يعمل بإذن أبي بكر، فإنه احترم المعاهدة التي عقدها مع أهل اليمامة، وأجاز أبو بكر تصرفه في ذلك، ورأى فيه ما يتفق ومبادئ الإسلام الأساسية. والأمثال على الوفاء بالعهد واحترام المعاهدات الدولية مستفيضة في تاريخ المسلمين.
أما في الحرب، فقد كان المسلمون متأثرين بالقواعد المقررة في عهدهم في مختلف البلاد، ومن بينها الإمبراطوريتان البيزنطية والفارسية. وأنت لا تستطيع في الحرب إلا أن تقابل عمل عدوك بمثله، أو على الأقل بما يزيل أثره.
على أن المسلمين قد وضعوا قواعد إنسانية سامية نفذتها جيوشهم في كل حالة، لم يضطرهم العدو فيها إلى الخروج عليها، من هذه القواعد ما ذكره أبو بكر في وصيته لجيش أسامة بن زيد، إذ قال: «لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا إلا لمأكله.»
وكتب أبو بكر في خاتمة كتاب بعث به إلى قائده المهاجر بن أبي أمية المخزومي، حين بلغه أنه مثل ببعض أعداء الإسلام: «إياك والمثلة في الناس، فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.»
ولم تكن هذه القواعد التي جرى عليها المسلمون تقتصر على ما بين الأمم الإسلامية بعضها وبعض، فما ذكرناه عن النبي حدث مع المشركين، ولم يكن الخلاف في الدين سببا قط في نقض العهود، كان أهل نجران نصارى يقيمون باليمن، وقد أقاموا على دينهم، وتعاهدوا مع رسول الله على الجزية، فلما تولى أبو بكر الخلافة، أقام أهل نجران على عهدهم، فاحترمه أبو بكر، بل جدده معهم باحترام «ملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وغائبهم وشاهدهم وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير».
هذه بعض القواعد التي أقرها الإسلام في أمر العلاقات الدولية، وهي تتفق مع أحدث القواعد الديمقراطية في عصرنا الحاضر.
نقف الآن هنيهة لنسأل: كيف التقى الإسلام والديمقراطية في الأمور الجوهرية جميعا؟ فقد ثبت لنا في البحوث الأربعة التي قمنا بها أنهما يلتقيان في المبادئ العامة، وفي أسس التشريع والقضاء، وفي نظام الحكم، وفي تنظيم العلاقات الدولية.
والإجابة على هذا السؤال يسيرة، فالإسلام والديمقراطية يتجهان جميعا وجهة مشتركة ويرميان إلى غاية واحدة: سعادة الإنسانية وأمنها وسلامها، وغرضهما في هذا إنساني مطلق لا تحده حدود القومية، ولا الجنسية ولا اللغة ولا غيرها من الحدود، وهما يعتمدان في اتجاههما وفي تحقيق غايتهما على توجيه الفطرة الإنسانية توجيها يسمو بها على حكم الهوى ويجنبها نزغ الشهوات.
ويتجاوز الإسلام الديمقراطية في غايته، فهي تحد غايتها بهذه الحياة، أما الإسلام فيتعدى هذا الحد، شأنه في ذلك شأن الأديان السماوية الأخرى.
وإنما يعتمد الإسلام وتعتمد الديمقراطية على الفطرة الإنسانية؛ لأن كل ما يخالف هذه الفطرة لا بقاء له على الحياة. من ثم تعرضت المذاهب الاقتصادية القائمة على منطق العقل المطلق لفشل كل تجربة قصد بها إلى إقامة نظام على أساس هذه المذاهب.
لماذا؟ لأن فطرة الإنسان مركبة، وليست بسيطة، فهي تتصل بالعقل، وبالعاطفة، وبالهوى، وبالشهوة، وتنزع إلى السمو إذا وجدت التوجيه الصالح، لذلك كان العقل وحده، بمنطقه المجرد، غير كاف لإقامة النظام الاجتماعي، وكذلك كانت العاطفة وحدها، والهوى وحده، وكل عنصر منفرد مما تتكون منه فطرة الإنسان، غير كاف لإقامة هذا النظام الاجتماعي.
وهذه العناصر التي تتركب منها الفطرة الإنسانية تتفاوت بين الأفراد، لكن تفاوتها هذا لا يحول دون توازنها في نظام الجماعة. والجماعة الإنسانية كائن حي متصل على الأجيال، فكل تنظيم لحياتنا يهمل عنصرا من عناصر الفطرة الإنسانية لا يمكن أن يكون له بقاء أو دوام.
لا عجب واتجاه الإسلام والديمقراطية واحد، وغايتهما واحدة، وطريقتهما في الاعتماد على الفطرة الإنسانية وتوجهها إلى الكمال متحدة، لا عجب أن يلتقيا في الأمور الجوهرية جميعا، مما يتصل بشئون الحياة. ثم لا عجب بعد ذلك أن تقصد الأمم الإسلامية في عصرنا الحديث إلى النظام الديمقراطي، تتخذه أداتها للسعادة الإنسانية وللأمن والسلام، ولا عجب في أن تدافع عنه بكل قوتها، لا تدخر في هذا الدفاع وسعا، ولا ترضى عن النظام الديمقراطي بديلا.
الجزء
الإسلام والحريات الأربع
الفصل الأول
الإسلام وحرية العقيدة
(1) حرية العقيدة ومقررات الإسلام
كانت نزعة السيادة التحكمية هي بعض ما أدى إلى الحرب العالمية الأخيرة وأثار لهيبها، فكان طبيعيا أن ينص في مواثيق التنظيم الدولي الحديث على حرية الرأي والتعبير عنه، وحرية العقيدة وإقامة شعائرها.
فهل يتفق هذان المبدآن مع مقررات الإسلام أو يخالفانها؟
ليس من غرضي أن أبحث الأمر على طريقة الجدل الفقهي، لأقرر قاعدة حاسمة أعتبرها حكما قاطعا، فالذين يذهبون هذا المذهب في بحث المبادئ يتعرضون في أغلب الأحيان للخطأ؛ ذلك بأن المبادئ تكونت على الزمان بتأثيرات شتى عناصرها، وهي لذلك تختلف في واقع الحياة اختلافا يتعذر معه الفصل بينها؛ ولذا أبحث هذا الأمر على ضوء الواقع من شئون الحياة لأرى هل يتفق المبدآن مع مقررات الإسلام الذي أدين به ويدين به مئات الملايين من الناس، بقدر ما يتفقان مع مقررات المسيحية التي يدين بها مئات الملايين من الناس.
وفي هذا الشأن أتردد في القول بأن المبدأين يتفقان مع مقررات الإسلام أيما اتفاق. وبيانا لذلك، أبدأ بالكلام عن حرية التدين:
صحيح أن الإسلام يجزي المرتد عنه بالقتل، لكن المسيحية هي الأخرى تهدر دم المرتد عنها، وكذلك تفعل الأديان الأخرى غير الإسلام والمسيحية. وأما فيما وراء ذلك فإن الإسلام صريح في أنه لا إكراه في الدين، كما يقرر أن الصالحين من أهل الكتاب لهم جميعا ثوابهم عند ربهم جزاء بما عملوا، وقد طبق التعبير بأهل الكتاب في عهد عمر بن الخطاب على قوم من أبناء فارس لم يكونوا من اليهود ولا من النصارى، وهذا يدل أبلغ الدلالة على تسامح المسلمين الأولين الذين لم يفرضوا دينهم في الأمم التي فتحوها، ولم يكرهوا الناس حتى يكونوا مؤمنين.
ولأن القرآن الكريم ينص على أنه لا إكراه في الدين فقد ترك المسلمون النصارى واليهود والمجوس في بلاد الشام والعراق ومصر على دينهم، ولم يفرضوا الإسلام على أحد منهم. وقد بقيت في هذه البلاد إلى يومنا الحاضر طوائف لم تدخل دين العرب، بل تمسكت بدين آبائها، ثم تمتعت بالحماية التي تتمتع بها الأقليات اليوم في أكثر الأمم حضارة بل بأكثر منها.
وأنت تتلو معاهدات الصلح التي عقدت في عهد الفتح الإسلامي، فتراها جميعا صريحة في النص على احترام عقائد الأهلين في البلاد المفتوحة واحترام شعائرهم وبيعهم وكنائسهم وأحبارهم ورهبانهم. وقد شعر أهل مصر بعد الفتح العربي بأنهم أكثر حرية في تدينهم بمذهبهم المسيحي مما كانوا عليه حين كانوا خاضعين لسلطان الروم، إذ كان هرقل يحاول إكراههم على تغيير مذهبهم واعتناق المذهب الرسمي الذي فرضه، وتطبيقه في بلاد الإمبراطورية البيزنطية. (2) الحرية والاختلاف المذهبي
لقد حدث بعد ذلك العهد الأول، أن كانت حرية التدين مقيدة في بعض الأزمان، وأن القتال كان ينشب بين أهل المذاهب المختلفة في الدين الإسلامي بسبب هذا الاختلاف المذهبي، لكن هذا الأمر كان يقع في البلاد المسيحية كما كان يقع في البلاد الإسلامية؛ لأن السلطات الدينية في ذلك الوقت هي بعينها السلطات الزمنية، وكانت لذلك تعتبر مذهبها الديني من نظام الدولة، بل أساس هذا النظام، إلا أن هذه الحروب المذهبية كانت تنتهي حينا بظفر مذهب بعينه، وحينا آخر بانهزام هذا المذهب نفسه، هي التي أقنعت الناس بأن العقائد لا تفرضها القوة إنما يؤدي إليها الاقتناع.
وليس للاقتناع سبيل غير حرية الرأي وحرية الدعوة إليه، فإذا اقتنع الناس بما تنطوي عليه هذه الدعوة، اطمأنوا إلى الرأي فاعتقدوه وآمنوا به.
وهذا التطور هو الذي انتهى بإقرار الدساتير الحرة لحرية التدين، كما أنه هو الذي دعا إلى إيضاح هذا المبدأ في ميثاق الأطلنطي ليكون من الأسس التي يقوم عليها عالم ما بعد الحرب. وإقرار هذا المبدأ يؤدي إلى أن ينظر الناس بعضهم إلى بعض - على اختلاف أديانهم - نظرة احترام متبادل، وأن يلتمسوا في مقررات أديانهم المختلفة وسائل التقريب بينهم بدون أن يلتمسوا في هذا المقررات أسباب التنازع والشحناء، فالأديان كلها تدعو إلى مبادئ سامية غاية السمو وتناجي الوجدان بأرفع المعاني، وتدعو الناس ليتوجهوا إلى الله بقلب سليم يربط بينهم بروابط الأخوة والمحبة والسلام.
ونحن المسلمين ننظر إلى الأديان الكتابية نظرة تقديس لأننا نؤمن بما أوتي عيسى وموسى وإسحاق ويعقوب والنبيون من قبلهم، ونؤمن بأن الله الواحد هو الذي هداهم ويهدي من يشاء طريق الخير وسواء السبيل. (3) حرية العقيدة والتقدم
وقواعد الخلق المقررة في الأديان كلها أساسها الحق والخير والإيثار النفسي والعفو عند المقدرة وما إلى ذلك من فضائل تعارف الناس في كل الأمم وفي كل العصور على أنها قوام السعادة للإنسان.
وليس بين الأديان دين يدعو إلى البغضاء أو الانتقام أو إلى نقيصة من النقائص، وهي فيما تدعو إليه من الفضائل تسمو بالنفس الإنسانية إلى المجد الأرفع، وتناجي خير عناصرها لتزداد سموا ورفعة.
لذلك كان المتدين الحق، الصادق الإيمان المطمئن العقيدة، أدنى الناس إلى الكمال أيا كانت العقيدة التي يؤمن بها؛ لأن العقائد على اختلافها تدعو إلى السمو الإنساني وتحقق غاية الحياة.
إذا أدت حرية العقيدة إلى أن يتبادل الناس الاحترام، وأن يلتمسوا في الأديان المختلفة أسباب الكمال عن طريق التسامح والأخوة والمحبة، كان ذلك من أكثر العوامل الدافعة للتقدم، المؤدية إلى استقرار السلام في العالم، فإنما نشبت الحروب وقامت الثورات الكبرى لأن كثيرين كانوا يشجعون على تجسيم ما بين الناس من أسباب الخلاف ، فتتسع هوة هذا الخلاف بينهم ويصبح سببا للبغض وللعدوان التي تنتهي إلى التنازع وإلى الحرب. وقد اتخذوا الأديان ذريعة لإثارة أسباب العداوة في بعض العصور، وإثارة هذه الأسباب هي التي أدت إلى الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى، وإلى ما كان بين البروتستانت والكاثوليك من اضطهاد ومجازر.
ولو أن حرية العقيدة كانت مبدأ مقررا في سالف العصور لعرف الناس التسامح ولما امتحنت الإنسانية بما امتحنت به، ولما أصابها يومئذ من الويلات ما أصابها.
ولا أدل على ذلك من اطمئنان الناس إلى حرية العقيدة في العصور الأخيرة، فقد كانت هذه الحرية كاملة وكنت ترى مظاهرها واضحة في إنجلترا وأمريكا وفرنسا وفي الأمم الديمقراطية جميعا. ولم تثر مع ذلك من جرائها أية ثائرة، بل بقي للأديان جميعا من الحرمة في نفس الناس ما لا يجني عليه التعصب ولا يذهب به التفريق. فإذا اتجه الناس من بعد إلى اعتبار الأديان وسيلة تقارب ومودة بما تدعو إليه من رفعة وسمو، ولم يسمعوا إلى الذين يدعونهم إلى التنافس والتنازع بسببها، تحققت أسباب الوئام والمحبة والسلام.
أما ومقررات الإسلام لا تأبى حرية العقيدة، ومقررات المسيحية لا تأباها، فسيكون لهذه الحرية، التي يؤمن الناس بها صادقين، أثر خير الأثر في علاقة ما بين الأمم الإسلامية وغيرها من الأمم نصيرة الحرية.
الفصل الثاني
الإسلام وحرية الرأي
(1) أساس من أسس الدين
ذكرت أن العالم يضطرب اليوم بمبادئ وآراء تستوقف النظر وتدعو إلى التفكير، ليرى الإنسان ما بين هذه الآراء والمبادئ من ناحية، ومقررات الدين الإسلامي من ناحية أخرى، من نسب يقربهما أو يباعد بينهما، وما عسى أن يكون لهذا التقريب أو لهذه المباعدة من أثر في علاقات الأمم الإسلامية بغيرها من الأمم التي تدين بغير الإسلام.
وتحدثت عما نص عليه ميثاق الأطلنطي من حرية الرأي والتعبير عنه، وحرية العقيدة وإقامة شعائرها، وبينت فيما يتعلق بحرية العقيدة أن الإسلام يقر هذه الحرية، بقدر ما تقرها المسيحية وغيرها من الأديان.
فالقرآن يقرر أن لا إكراه في الدين، وتاريخ المسلمين يشهد بأنهم لم يفرضوا الإسلام على أحد في البلاد التي فتحوها، وأن من أقام على دينه من أهل هذه البلاد ولم يعتنق الإسلام، تمتع بحماية لا تتمتع الأقليات اليوم في أكثر الأمم حضارة بأكثر منها.
وخلصت من ذلك إلى أن في مقدور الناس أن يلتمسوا في مقررات الأديان على اختلافها وسائل التقريب بينهم، فالأديان كلها تدعوهم ليتوجهوا إلى الله بقلب سليم، ليربط بينهم بروابط الأخوة والمحبة والسلام.
ولا حاجة بي إلى القول بأن الإسلام قامت دعوته على أساس من حرية الرأي والتعبير عنه، فهو حين دعا الناس إلى الإيمان بالله جعل النظر في الكون والتأمل في سنة الله فيه أساس هذا الإيمان، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.
وقد كان الاجتهاد بالرأي أصلا من أصول الشرع منذ العصر الإسلامي الأول، وكان هذا الاجتهاد بالرأي يتناول أصول الفقه في الدين، فطبيعي أن تكون حرية الرأي مطلقة فيما وراء ذلك من شئون الحياة، وهذا هو الذي جعل المسلمين الأولين في مقدمة من نقلوا العلوم اليونانية والفلسفة اليونانية، وأقاموا على أساس من تفكير اليونان مذاهب نقلها الأوروبيون عنهم من بعد.
هذا إجمال لصورة تاريخية تتولى ألوف المجلدات تفصيلها، وهي صورة صحيحة كل الصحة مع إجمالها في سطور.
وحسبك أن تذكر ما كان يقع بين النبي العربي وخصوم الدعوة الجديدة من جدل، تبلغ فيه المعارك الكلامية ذروتها لتقتنع بأن حرية الرأي كانت أساس هذه الدعوة، وأن تذكر ما تكرر في القرآن من التثريب على الذين يتمسكون بما وجدوا عليه آباءهم دون النظر فيه وتمحيصه، لنفي ما فيه من زيف باطل، لتعلم أن تحرير الفكر من رق الجمود كان أساسا من أسس الدين الحنيف.
أما الاجتهاد بالرأي فكان يقع في عهد رسول الله، وكان عمر بن الخطاب إماما فيه، حتى لقد صارت آراؤه من بعد مراجع يأخذ بها أئمة الفقه.
وقد أدى نقل الفلسفة اليونانية للعربية إلى نشاط عقلي، تبدو آثاره واضحة في كتب الفلسفة الإسلامية، سواء منها ما ظهر في الشرق حين كانت دمشق وبغداد والقاهرة عواصم الإمبراطورية الإسلامية، وما ظهر منها في الغرب أيام مقام المسلمين بالأندلس واطمئنان دولتهم في ربوعها. (2) في عهد الانحلال
وإنما قضي على هذه الحرية، وأقفل باب الاجتهاد، حين بدأ عهد الانحلال. في هذا العهد انقسمت الإمبراطورية على نفسها، واستبد الملوك بأممها المختلفة، وأصبح شأن العلماء في تلك العهود المهلهلة أن يجدوا ما يؤيد سلطان هؤلاء الملوك.
فإذا خرج أحدهم على هذا اللون من التفكير، أو أراد محاربة المظالم التي تقع في ظل هذا السلطان، اتهم بالكفر والزندقة وحلت به نقمة الحاكم. من ذلك العهد بدأ الجمود يقيد الأذهان، وبدأت الحرية العقلية تزول من العالم الإسلامي، وارتد الناس إلى جاهلية لا تقرها مبادئ الإسلام السليمة.
واستنادا إلى ما حدث في ذلك العهد ظن بعض المستشرقين، وبعض الجامدين من المسلمين، أن الدين الحنيف لا يقر حرية الرأي وحرية التعبير عنه، ولو أن هؤلاء رجعوا إلى الأدب الإسلامي شعره ونثره في عصر الأمويين وفي عصر العباسيين، وإلى الفنون التي ازدهرت على أيدي المسلمين الذين عاشوا أثناء تلك العهود، في بغداد وفارس وفي دمشق والقاهرة، وإلى ما كان منها في الأندلس، لرأوا نهضة في التفكير وفي التصور وفي تصوير الآراء والمذاهب والفنون، تدل على حرية لا تزيد عنها حريتنا اليوم في إبداء الرأي والتعبير عنه.
وفي عهد الانحلال الذي طرأ على الإمبراطورية الإسلامية كانت أوروبا المسيحية لا تعرف حرية الرأي، فلم تكن هذه الحرية تمر لأحد منها بخاطر، وفي هذا العهد لما تكن أمريكا قد اكتشفت.
وإنما بدأ الناس في أوروبا يثورون بالجمود الديني في القرن السادس عشر، ومع ذلك لم تعترف دولها بحرية الرأي قبل القرن الثامن عشر، وفي ذلك العصر الذي مهد له «فولتير» و«روسو» وأضرابهما في فرنسا، كان صاحب الرأي يحارب لرأيه، وكان يحبس أو ينفى من الأرض، وكان يضيق عليه في رزقه، ولم يتقرر هذا المبدأ على نحو صالح إلا بعد الثورة الفرنسية.
مع ذلك ظلت حرية الرأي تحارب الحين بعد الحين، حتى إذا قامت الفاشية والنازية في هذا القرن العشرين، قضت عليها في إيطاليا وفي ألمانيا قضاء مبرما. ولهذا رأى روزفلت وتشرشل ضرورة النص عليها في ميثاق الأطلنطي، واعتبراها الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الحياة الإنسانية، فالإنسانية المحرومة من حرية الرأي محرومة من أول عناصر الحياة الإنسانية الصحيحة، ومن أقوى عنصر يدفع إلى التقدم في سبيل الكمال. (3) حرية الرأي والتعاون
أما والإسلام يقر حرية الرأي والتعبير عنه، فتعاون الدول الإسلامية مع الدول التي تدين بغير الإسلام على أساس من هذه الحرية ليس ممكنا وكفى، بل هو واجب لخير الناس جميعا على اختلاف أديانهم وأوطانهم.
والواقع أن التعاون غير مستطاع بين الأمم في عالم حر، إذا لم تكن حرية الرأي أساس هذا التعاون، فصلة الأمة بالأمة كصلة الرجل بالرجل، لا تقوم إلا على أحد الأساسين: التفاهم أو الإكراه.
والإكراه إذلال للروح، وتدمير لخير مقوماتها وفضائلها، فهو كذلك في أمر الفرد وفي أمر الجماعة، وفي أمر الأمم وعلاقات بعضها ببعض. وهو هو الذي يثير الحروب وما تجر إليه من آلام ودموع وخراب ودمار.
أما التفاهم فهو وحده الجدير بالإنسان، وليس للتفاهم سبيل إلا حرية الرأي، هذا إلى ما تؤدي إليه هذه الحرية من خير يعم الإنسانية كلها في مختلف العصور والأمم.
ولا حاجة بي إلى القول بأنا ننعم اليوم في كثير من معاركنا ومن مقومات حياتنا بثمرات هذه الحرية بعدما دفع أصحابها حياتهم ثمنا لها، لأنهم رأوها أعز من الحياة، ورأوها وحدها التي تصل بنا إلى الحقيقة، والحقيقة الإنسانية - وإن تكن نسبية - هي التي أبلغتنا في هذا العالم ما بلغناه من رقي وحضارة. (4) أثر الحرية في الأفراد والجماعات
ويسير عليك أن ترى ما لهذه الحرية من أثر في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات، فالعلاقات القائمة بين الأفراد على أساس من التفاهم الحر هي التي تبقى؛ لأن هؤلاء الأفراد أقاموها مختارين لا يتحكم أحدهم في صاحبه، ولا يكرهه على شيء لا يريده.
والأمر كذلك بخاصة إذا كان هذا التفاهم حرا غير مشوب بشائبة تجعل أحد الطرفين يسعى للتخلص من نتائجه إذا واتته فرصة لهذا التخلص. وعلاقات الأمم القائمة على التفاهم الحر شأنها كشأن علاقات الأفراد سواء، فإذا ارتقى الأمر من مستوى التفاهم على المنافع الخاصة أو العامة إلى حرية كل فرد في إعلان رأيه، والتعبير عنه صادق القصد حسن النية، كانت هذه الحرية أقدس شيء في الحياة وأعزه، ثم كانت إلى ذلك غذاء الحياة الاجتماعية في الأمة، حافز الإنسانية كلها إلى التقدم خطوات فسيحة نحو الحضارة المثلى.
وتاريخ الإنسانية يشهد بهذه الحقيقة، فقد تنقلت المدنيات في حقب التاريخ المختلفة من الشرق إلى الغرب، ومن حوض البحر الأبيض إلى حوض الأطلنطي وإلى حوض الباسفيكي، فلم تكن مدينة تزدهر ازدهارا حقيقيا في غير ظلال الحرية العقلية الصحيحة.
فإذا أظلت الحرية الناس، كانت الفلسفة وكان العلم والأدب والفن، ترتقي كلها وتنتظم الجماعة في كل طبقاتها، وتدفع الجميع إلى الأمام، يتنافسون متضامنين في سبيل الرقي، فإذا الصناعة تعظم، وإذا الزراعة تينع، وإذا التجارة تتضاعف ثمراتها، وإذا النشاط الإنساني في شتى صوره يتضاعف تضاعفا هندسيا مضطردا
ثم لا يكون هذا كله رهنا بإرادة رجل يوجهه، فإذا مات الرجل تضاءل النشاط وذوت مظاهره، بل كان ذلك قائما بذاته، حيا بحياة الجماعة المستظلة بعلم الحرية العقلية، باقيا ما بقيت هذه الحرية تغذيه وتجري بواعث الحياة فيه.
والعالم بأسره يتمخض اليوم عن حضارة عالمية عامة، تشمل العالم كله في كل أرجائه وأقطاره، ولا سبيل لهذه الحضارة أن تقوم وتزدهر إلا أن تظل الحرية العقلية العالم بأسره، وأن يتعاون الناس من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في ظلال هذه الحرية لإقامة هذه الحضارة وتثبيت أركانها. وما كان دين من الأديان، ولا كانت عقيدة من العقائد، لتحول دون هذا التعاون؛ فالأديان كلها أساسها الحق والخير، وكل حضارة تقوم ويرجى لها البقاء لا يمكن أن تقوم أو تبقى إلا على أساس من الحق والخير.
الفصل الثالث
الإسلام والتحرر من العوز
(1) الإسلام والحرية الاقتصادية
أبنت أن مقررات الإسلام لا تنفي حرية الاعتقاد، وتؤيد حرية الرأي. وحرية الاعتقاد وحرية الرأي مبدآن من مبادئ الحرية الأربعة التي نص عليها ميثاق الأطلنطي، أما المبدآن الآخران فهما تحرير الناس من العوز، وتحريرهم من الخوف.
فهل تؤيد مقررات الإسلام هذين المبدأين كذلك؟ وإن كانت هذه المقررات تؤيدهما، فهل هذا التأييد مطلق أم محدود؟
وقبل أن أجيب على هذين السؤالين، أود أن أوضح المفهوم من عبارة «التحرر من العوز» و«التحرر من الخوف» وهذا التوضيح يقتضي بعض الرجعة إلى الماضي، والتذكير لما كان فيه.
وأبدأ بالكلام عن التحرر من العوز:
فقد كان مبدأ الحرية الاقتصادية سائدا في القرن التاسع عشر على نحو يكاد يكون مطلقا، وكان مذهب الفردية يعبر عن هذه الحرية الاقتصادية تعبيرا حل من نفوس الناس - مدى قرن كامل - محل الإيمان.
والمذهب الفردي يقوم على أساس من حرية الفرد المطلقة فيما يصنع وما يدع، فلا شأن للدولة بالفرد، ولا سلطان لها عليه، إلا إذا أخل بالأمن أو احتاجت الدولة إليه للدفاع عن كيانها ضد معتد أجنبي.
من ثم، كانت الدولة حارسا للأمن في الداخل والخارج، وكانت وظيفتها محصورة في حدود هذه الحراسة لا تتخطاها.
وقد أيد كثيرون من فلاسفة القرن التاسع عشر هذه الحرية واعتبروها من سنن الطبيعة، ورأوها القوام الأساسي لحياة الجماعة، فإذا نجم عنها ظلم أو بؤس أو شقي بسببها كثيرون، فتلك أعراض طبيعية لا مناص من الإذعان لها، كإذعاننا لثورة البركان إذا ثار، ولهياج البحر إذا هاج، ولتدمير العواصف أو الصواعق ما تحصد وما تدمر.
وكان هؤلاء الفلاسفة ينظرون إلى ما تعانيه بعض الطوائف بسبب هذه الحرية على أنه أمر طبيعي يعللونه تعليلا منطقيا، كما يعللون كسوف الشمس أو خسوف القمر أو جاذبية الأرض من ظواهر الطبيعة، فإذا تحدثوا عن الأجور تحدثوا عن قانون الأجور الحديدي كما يتحدثون عن جاذبية الأرض، وقالوا إن انخفاض الأجور وارتفاعها رهن بقانون العرض والطلب، فحيثما ازدادت الأيدي العاملة نقص الأجر، وحيثما قلت زاد.
والأجر ميال في نظرهم دائما إلى الانخفاض؛ لأن ازدياده في صناعة من الصناعات أو حرفة من الحرف يدعو العمال إلى الإقبال على تعلم هذه الصناعة أو الحرفة، فيزداد العرض على الطلب، وتنزل الأجور إلى مستوى الكفاف الذي يقيم به العامل أوده، فإذا بلغت هذا المستوى، انصرف الناس عن هذه الصناعة أو الحرفة إلى غيرها.
لم تلبث الحرية الفردية التي تؤدي إلى هذه النتيجة إلا قليلا حتى طفرت بأفراد إلى ذروة الثروة، بينما بقي المجموع العامل مضغوطا في حدود الكفاف. ونشأ عن ذلك أن بدأت جماعات العمال تتكون في صور مختلفة تطالب في شدة بما تعتبره حقوقها.
عند ذلك لم يكن للدولة بد من أن تتدخل باسم الأمن والنظام بادئ الأمر، وباسم العدل العام بعد ذلك، لتخفف من ضغط هذه الحركات الاجتماعية الناشئة. وترتب على ذلك أن قررت بلاد مختلفة مجانية التعليم للجميع، وأقامت النظام الصحي المجاني للجميع، ثم أصدرت تشريعات العمل تنص فيها على حقوق العمال في التعويض عن حوادث العمل ومعاشهم للتقاعد.
ولقد كانت المذاهب الاشتراكية تجد في هذا التطور الاقتصادي والاجتماعي غذاء يزيدها قوة وتغلغلا بين مجاميع العمال. ولما كانت الحرب العالمية الأولى قد اشترك فيها ملايين من هؤلاء العمال من مختلف الأمم، فقد أسرع اشتراكهم هذا في نمو المذاهب الاشتراكية في الأمم المستعدة لها، فكانت الاشتراكية الديمقراطية في فرنسا، والاشتراكية القومية في ألمانيا، والشيوعية في روسيا.
على أن رأس المال ونظامه بقي له من السلطان حظ متقارب بين الدول التي أظلته. وتقرير ميثاق الأطلنطي - إبان الحرب العالمية الأخيرة - حق تحرير الناس من العوز كمبدأ للسلام تطور جديد في تصوير ما يجب أن يكون بين رأس المال والعمل من علاقة.
فهل تقر مبادئ الإسلام هذا التحرير من العوز على أنه مبدأ من المبادئ التي يقوم عليها المجتمع الإنساني؟ وهل تستطيع الأمم الإسلامية لذلك أن تشترك في تقرير التفاصيل التي ينفذ بها هذا المبدأ مع الأمم التي تدين بغير الإسلام؟ (2) مقررات الإسلام والتحرر من العوز
لا أتردد لحظة في القول بأن مقررات الإسلام تقر هذا التحرير من العوز وتدفع إليه، فقد فرض الإسلام الزكاة، وقرر الصدقة وجعلها للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ممن عضهم الفقر بنابه، كما جعل لها مصارف أخرى هي مرافق الدولة العامة.
وقد جعل القرآن في أموال الأغنياء حقا معلوما للسائل والمحروم. ولما بدأت الأموال ترد من البلاد المفتوحة إلى مقر الخلافة في عهد عمر فرضت للناس أعطيات لم تقتصر على المحاربين وعلى علية القوم، بل كان منها لكل فقير حق مدون في دفاتر العطاء، اعتبره الخليفة واعتبره أولو الرأي الحد الأدنى لمستوى المعيشة العربية.
إن الإسلام يقر الاشتراكية ويقر الملكية الخاصة ويقر الميراث، وما دام الأمر كذلك فالمقادير التي ترضاها الجماعات في نظامها من هذه المذاهب والنظم متروك تقديرها لساستها ولأولي الأمر فيها، فكما أن لهم أن يجبوا من الضرائب ما يكفل التعليم العام والصحة العامة ومرافق الدولة جميعا، على النحو الذي يتصوره أهل عصرهم، فلهم كذلك أن يضعوا للأجور حدا أدنى، وأن يحرروا الناس من العوز على الوجه الذي يتفق مع المصلحة العامة، وأن يعينوا الحد لهذا التحرير.
فلن يقال إن عمر بن الخطاب رضي كذا حدا أدنى لعطائه، ليكون هذا التعيين ملزما اليوم، فلكل زمن تقديره وتصويره، والتشريع يجاري تصور الناس في زمن بذاته، ما دام هذا التصوير لا يتنافى مع المقررات الأساسية للإسلام.
وكيف يرتبط المسلمون اليوم بحد تقرر من قبل لأدنى مستوى العيش، وقد تغيرت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للحياة خلال القرون التي انقضت من صدر الإسلام إلى عصرنا الحاضر، تغيرا جعلها شيئا آخر غير ما كانت.
وحسبك أن تذكر الانقلاب الذي طرأ على العالم بقيام الصناعة الكبرى فيه، وأن تذكر كيف أثار هذا الانقلاب الإنتاج والتوزيع وكيف اهتز بسببه ما كان مستقرا في العالم ألوف السنين من علاقة بين رأس المال والعمل، لترى ما بين العهدين من فرق هائل.
والانقلاب الصناعي وليد القرن الماضي، ما بالك بما حدث من انقلابات اقتصادية قبله، وما بالك بما سبقه وما عاصره من انقلابات اجتماعية! أما والأمر ما ترى، فالتقيد بما تقرر في الماضي لا يمكن أن يتفق مع أوضاع الحاضر ونظمه.
هذا، ثم إن الناس كانوا يشكون في الماضي من القحط يصيب أمة من الأمم، أو طائفة من الأمم، أما اليوم فأكثر ما يشكو الاقتصاديون منه زيادة الإنتاج على حاجات الناس زيادة تؤدي إلى العطلة، وتؤدي إلى الاضطراب الاقتصادي، وإذا قلت الناس، قصدت بني الإنسان في مختلف أقطار الأرض؛ فقد يسرت وسائل النقل تداول الحاصلات والمنتجات الزراعية والصناعية، ولم يبق الخوف من القحط يساور أحدا في أيام السلم.
أما وزيادة الإنتاج خطر يهدد العالم الحين بعد الحين، فرفع مستوى العيش وتعيين حد أدنى لحاجات الإنسان أدخل في باب العلاج الاقتصادي، وهو في نفس الوقت علاج للأحوال الاجتماعية التي تثير الطوائف بعضها ببعض، كما أنه يتفق مع ما يجب للإنسان من كرامة ترتبط بوجوده كقوة عاملة، ينتج عملها الخير الوفير للجماعة الإنسانية كلها. (3) الطمأنينة وزيادة الإنتاج
والوقع أن ما في العالم من خيرات تتزايد كل يوم بفضل العلم، وما يمكن للإنسان من التحكم في قوى الطبيعة تحكما يكفل للناس أن يعيشوا جميعا عيشا إنسانيا معقولا، فإذا كان أكثرهم لا يزالون في عوز فمرجع ذلك إلى سوء التوزيع.
وقد عالج الاشتراكيون مشكلة سوء التوزيع بين رأس المال والعمل واقترحوا لها شتى ألوان العلاج، وغير الاشتراكيين يرون في المقترحات الاشتراكية، أو المتطرف منها بخاصة، ما لا يتفق وما في الطبيعة الإنسانية من عوامل هي التي تدفعها لزيادة الإنتاج كما ونوعا، فإذا كان تحرير الناس من العوز يعالج مشكلة التوزيع، ويزيد الجماعات الإنسانية تمتعا بالخيرات الكثيرة الموجودة في العالم، فواجب على الأمم الإسلامية أن تشترك في تنظيم هذا التحرير، وقد أصبح جوهريا لحياة العالم وطمأنينته والنتائج التي يصل إليها الساسة وأولو الرأي فيه، تمس كل واحدة من هذه الأمم كما تمس سلام العالم مساسا مباشرا.
فإذا استطاع الساسة وأولو الرأي أن يبلغوا من هذا التحرير غاية محمودة، أدى ذلك إلى تقدم العالم خطوة جديدة في سبيل الكمال، فمن شأن الطمأنينة إلى العيش أن تزيد مستوى الإنتاج، وليس قصدي من الإنتاج ما تثمره الزراعة والصناعة وكفى، بل أقصد كذلك إلى ثمرات العلم والفن، فكم قتل العوز من ملكات، وكم قضى على مواهب كانت - لولاه - متحفزة لأن تنتج للإنسان في حياته العقلية وفي حياته المعنوية وافر الخير!
وإذا صحت شكوى الاقتصاديين من وفرة الإنتاج المادي، فلا يزال العالم يشكو الفقر المعنوي، ولا يزال يطمح للرقي بالنفس الإنسانية إلى مستوى تعرف فيه معنى الرضا، وتطمئن إلى قيم خلقية يتواضع الناس في الحياة الخاصة وفي الحياة العامة عليها، وتكون مرجعهم في حسم كل نزاع يقع بينهم في الحياة القومية أو في الحياة الدولية.
وهذا الطموح فأل خير لا ريب، فاليوم الذي يتفق الناس فيه على هذه القيم هو اليوم الذي يتحررون فيه من الخوف من غير حاجة إلى قوة قاهرة تكفل لهم هذا التحرير، وإلى أن يجيء اليوم الذي يصبح فيه الإيمان العالمي بالقيم الخلقية كفيلا وحده بتحرير الناس من الخوف يجب أن نرد هذه الكفالة إلى أسباب وقوى أساسها التعاون الدولي على هذا التحرير.
الفصل الرابع
الإسلام والتحرر من الخوف
(1) عصبة الأمم ومخاوف الناس
لما أعلنت أمريكا الحرب على دول الوسط في الحرب العالمية الأولى، كان الرئيس ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة إذ ذاك، وكان رجل مبادئ يؤمن بها ويقررها عن عقيدة واقتناع، وكان من عباراته المأثورة عن تلك الحرب أنها أثيرت لإنهاء الحروب كلها، وأن الغرض منها أن يكون العالم آمنا لاستقرار الديمقراطية فيه.
وكانت فكرة عصبة الأمم مما أريد به إنهاء المنازعات بين الدول بالتحكيم، فلما وضعت تلك الحرب أوزارها وانعقد مؤتمر السلام وألحق عهدة العصبة بمعاهدة فرساي، رأت أمريكا في هذه العهدة خروجا بها على مبدأ منرو، وجرا إياها إلى المعترك الدولي، بمقدار لا مصلحة لها فيه، فرفضت العهدة ولم تنضم إلى العصبة.
مع ذلك تألف عصبة الأمم، وعلق الناس على تأليفها كبير الرجاء في أن تحل المنازعات الدولية بالتحكيم، وأن تفرض العقوبات على من يخالفها، بذلك اطمأنت مخاوفهم من وقوع حرب جديدة.
وزادهم اطمئنانا أن الدول الكبرى أخذت تعمل على تحديد التسليح، تريد الوصول إلى الحد الأدنى منه، فانعقدت المؤتمرات المتعاقبة، واتخذت فيها قرارات زادت الناس أمنا من الخوف، ومع أن موسوليني قام في إيطاليا منذ سنة 1933، فألغى النظام الديمقراطي وأقام النظام الفاشستي على أنقاضه، لم يدر بخاطر أحد يومئذ أن تهدد إيطاليا سلام العالم أو تخرج على ما تقرره عصبة الأمم.
فلما تولى هتلر أمر ألمانيا، وجعل يقوي فيها روح القومية الجرمانية، بدأت مخاوف بعض الساسة تثور، بينما بقي أكثرهم يرى فيه وفي عمله لرقي ألمانيا عنصرا من عناصر السلام. ولم تمض سنوات حتى بدأت ألمانيا تعلن عن حاجتها لمجال أوسع من حدودها التي رسمت في معاهدة فرساي، ثم بدأت تفكر في ضم الجنس الألماني في أوروبا تحت كنفها؛ فضمت إليها النمسا، ثم ضمت السوديت، ثم طالبت بدانزج وبالممر البولوني.
عند ذلك رأت إنجلترا أن الأمر لم يبق مقصورا على طلب ألمانيا لمجال حيوي يظهر فيه نشاطها، وأنها تريد التحكم في أوروبا للتحكم بعد ذلك في العالم، فكانت الحرب العالمية الثانية نتيجة لتطور الحوادث في أوروبا بين سنة 1935 وسنة 1939. (2) التفكير في منع الحرب
ومنذ بدأت الحرب الثانية عاد الناس يفكرون في الوسيلة لاتقاء الحرب، ولذلك كان التحرر من الخوف رابع المبادئ التي وقعها الرئيسان روزفلت وتشرشل في ميثاق الأطلنطي. والتفكير في اتقاء الحرب في المستقبل يشغل بال الناس جميعا إلى اليوم، ولذلك كثرت المؤلفات التي وضعت تصويرا لهذا التفكير كثرة تزيد على أضعاف مثلها في الحرب العالمية الأولى، وللناس عن التفكير في هذا الأمر أكبر العذر، فما تدمره الحرب من أموال وأرواح مزعج مروع، ولا يقاس الدمار الذي تم في حروب نابليون كلها بما وقع من الدمار في أي عام واحد من أعوام الحرب الأخيرة.
والعلم يكشف كل يوم عن جديد، هو في السلم نعمة وأداة رفه وخير، وهو في الحرب نقمة وأداة دمار وموت. فإذا اطرد تقدم العلم ووقعت حرب كبرى ثالثة فلن يقف تدميرها عند حد، ولن تودي بالحضارة الأوروبية أو بالحضارة الغربية وكفى، بل ستودي بكل ما في العالم من مظاهر التقدم وآثار الإنسانية، لا عجب وذلك هو الشأن أن يعظم التفكير في اتقاء الحرب في المستقبل.
وليس من غرضي أن أشير إلى ما أبدي من الآراء لضمان السلام في المستقبل، فالإشارة إلى هذه الآراء لا يكفيها مثل هذه الدراسة ولا تكفيها عدة دراسات. فهل تتفق مقررات الإسلام ومبدأ التحرر من الخوف اتفاقا يطوع للأمم الإسلامية أن تشترك في المجهودات التي تبذل في سبيل هذا الغرض من جانب الأمم التي تدين بغير الإسلام؟
وليس يكفي في الإجابة عن هذا السؤال أن أقول إن مقررات الإسلام لن تتنافى مع هذا المبدأ ولا تحول بين الدول الإسلامية والاشتراك في المجهود الذي يبذل لتحقيق هذا الغرض الإنساني العظيم، بل أقول في صراحة وقوة إن مقررات الدين الإسلامي تفرض على الدول الإسلامية الحريصة على حريتها وحرية الشعوب جميعا أن تشترك في كل مجهود يبذل في تحقيق هذه الغاية حماية لشعوب الأرض كلها من أن تكتوي بنار الحرب وأن تنزل بها ويلاتها كرة أخرى. (3) الإسلام دين سلام
فالإسلام دين سلام ودعوة للسلام، والقرآن صريح في إنكار حرب الاعتداء صراحته في الدعوة إلى الجهاد لدفع الاعتداء.
فإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فالإسلام صريح في وجوب دعوتهما إلى السلم، فإن فاءتا فبها، وإلا وجب مقاتلة الطائفة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت وجب الإصلاح والصلح خير. فإذا أمكن اتقاء الاعتداء قبل وقوعه، وأمكن تنظيم هذا الاتقاء، كان واجبا أن تشارك الأمم الإسلامية فيه، وألا تتردد لحظة في النهوض بنصيبها العدل من أعبائه.
ولا يعترض على هذا بأن خطاب القرآن وجه فيه للمؤمنين، فللمسلمين صلات بسائر الأمم يجب أن تنظم، وقد عقدت معاهدات صلح كثيرة في العصور المختلفة بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول، وفي بعض هذه المعاهدات أقرت بعض الدول الإسلامية امتيازات للأجانب الذين يعيشون في أرضها، مبالغة منها في إظهار محبتها للسلم وحرصها عليه.
والواقع أن هذه الحرية الرابعة والتي يراد بها تحرير الناس من الخوف، هي وحدها التي تكفل طمأنينة الناس في أرجاء العالم كله إلى تلافي الحرب من الثلاث الأخرى السابقة التي تحدثنا عن اتفاقها مع مقررات الإسلام.
فالاعتداء والتأهب له والخوف منه هو وحده الذي يحتج به من يشاء للحد من حرية العقيدة ومن حرية الرأي، وهو الذريعة التي يطالب الناس باسمها أن ينزلوا عن الحد الأدنى لمستوى المعيشة الإنساني، وإنما ازدهرت الحرية العقلية والحرية الروحية في القرن التاسع عشر لأن الناس اطمأنوا إلى ما تؤدي إليه سياسة توازن القوى من منع الحرب.
وقد تبين أن سياسة التوازن هذه إنما تؤجل الحرب ولا تمنعها، ولذلك أدت إلى الحربين العالميتين اللتين أقضتا مضجع الإنسانية في هذا القرن العشرين.
ومن يوم نشبت الحرب العالمية الأولى، بدأت الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، فلم يستقر لحرية في العالم قرار، ولهذا اتجه الناس في مختلف الأمم يلتمسون الوسيلة لمنع الحرب وإقرار السلام.
مع ذلك نشبت الحرب الأخيرة، فجرت على العالم ما جرت من ويلات ودمار وموت، وجعلت الناس يعيشون في جو مكهرب لا قرار فيه لشيء، ولا يعرف أحد فيه ما كتب له في غده. وليس مما يسيغ العقل أن يخرج الناس من نكبة ليقعوا في نكبة شر منها، إلا أن يكون صوابهم قد طاش وهواهم قد ضل، ولهذا كان التفكير من جديد في منع الحرب أعظم ما يشغل بال الناس جميعا في كل الأمم. فإذا لم يكن منع الحرب بتاتا أمرا تطيقه الطبيعة البشرية، فلا أقل من تأجيلها أجيالا متعاقبة تتقدم أثناءها الإنسانية وينضج خلالها ضميرها، حتى يكون أحفادنا أسعد حالا منا. (4) دعوة الإسلام إلى حياة أفضل
وهذه الغاية هي بذاتها غاية الإسلام وغاية المصلحين الذين قاموا خلال العصور في مختلف الأمم، يدعون الناس إلى حياة خير من حياتهم وإلى فضائل خير من فضائلهم. وقد كان الجهد الذي بذل في هذا السبيل مقصورا في الماضي على أمة أو طائفة من الأمم؛ لأن أسباب الاتصال العالمي لم تكن ميسورة، ولأن أجزاء غير قليلة من أرضنا كانت مجهولة لآبائنا وأجدادنا.
أما اليوم، وقد جمعت أسباب الاتصال أجزاء العالم، ويسرت سبل التفاهم، فمن حقنا أن يعظم أملنا في أن يكون الناس أسعد غدا مما كانوا بالأمس، وأن يكونوا أشد حرصا على استدامة هذه السعادة فلا يسمحون لرجل أو لأمة أن تهددها أو تهدرها بحرب جديدة.
وكيف لا يحرص الناس على استدامة سعادة قوامها حرية الرأي والتعبير عنه، وحرية العقيدة وإقامة شعائرها والتحرر من العوز، والتحرر من الخوف؟!
لقد جاهد العالم منذ مئات السنين وألوفها ليحقق لبنيه شيئا فشيئا هذه الحريات، وقد بذل من الجهد والدماء في هذا الجهاد العنيف الطويل ما يسجله تاريخ الإنسانية من مبتداه إلى وقتنا الحاضر.
وقد ثبت في صحف هذا التاريخ أن كل نكسة كانت تصيب العالم فيما كسب من جهاده، كانت تؤدي إلى أعظم الويل، وكان الناس يدفعون ثمنها غاليا، ثم إن هذه النكسات كانت تحدث لأن بعض الشعوب كانت تتمتع بهذه الحريات وكان بعضها لا يجد الوسيلة إليها.
أما وقد أقر الناس جميعا في كل الأمم بما لكل إنسان من حق في أن يتعلم وأن يقدر ما له وما عليه، فإن هذه الحريات الأربع ستسرع إلى الانتشار، وسيؤمن بها كل إنسان أينما وجد من أرجاء الأرض، وسيرى واجبا عليه أن يدافع عنها إذا حدثت معتديا نفسه أن يعتدي عليها.
فإذا استقر هذا الشعور في النفوس، وبلغ منها مبلغ الإيمان، قضى هذا الإيمان وحده على فكرة الاعتداء، وقرب بين بني الإنسان في أرجاء العالم كله، فعاش الناس بفضل من الله إخوانا.
ألمح في خاطري هذا اليوم السعيد يبزغ فجره، ويعم نوره، ويستمتع أبناؤنا وحفدتنا بنعمته، فتمتلئ نفسي ابتهاجا وغبطة. ولعل هؤلاء الأبناء والحفدة يحدث بعضهم يومئذ بعضا فيقول أحدهم لأصحابه: «ما أكثر ما في العالم من خير يكفي أبناءه جميعا ليعيشوا في أمن ورغد، سعداء بعلمهم وبثمرات هذا العمل، فما بال آبائنا كانوا يتناحرون ويقتتلون، فيقتل بعضهم بعضا؟»
ولعل منهم يومئذ من يقسو في الحكم علينا ويتهمنا في منطقنا وفي رأينا، ولو أنصفونا لذكروا أن ما ينعمون به من سعادة إنما هو ثمرة هذا التناحر وهذا القتال، وما ابتلينا به خلال القرون من ألوان الشقاء والبؤس، ولقال حكيمهم: «ما أشبه ما ناء به آباؤنا من ألم بمخاض الأم حين تضع وليدها، فإذا أثمر هذا المخاض وليدا جميلا نما وترعرع، وسعدت الأم به وبآلامها في سبيل وضعه! ويقدر هذا الحكيم من حفدتنا سعادة أرواحنا يومئذ في ظل الله.»
فليثمر ما تنوء به الإنسانية، وما ناءت به خلال الأجيال من آلام، هذا العالم السعيد يقول فيه أبناؤنا: «ربنا أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام».
الجزء
الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط
الفصل الأول
الأماكن الإسلامية المقدسة
(1) فكرة الأماكن المقدسة
ألف الناس أن يعتبروا كل بناء أتى عليه القدم أثرا من الآثار، وأن يزوروه بدافع من الطلعة، استزادة من المعرفة، وحرصا على أن يروا بأعينهم ما صنع الأسلاف الذين طواهم الدهر في صحائف القبور منذ مئات السنين أو ألوفها، فالذين يزورون معابد الفراعنة في مصر يزورونها توقا إلى العلم بحضارة سلفنا، وبالقواعد التي كانت هذه الحضارة تقوم عليها، وبالمنشآت التي شادها أهلها، وذلك شأن الذين يزورون الأطلال والآثار القديمة في كل بلد من البلاد. فأما المسلمون الذين يحجون بيت الله الحرام بمكة ويزورون قبر النبي - عليه السلام - بالمدينة، فليس حب الاستطلاع هو الذي يدفعهم لزيارة آثار قديمة توالت عليها القرون، وإنما يدفعهم شعور عميق بأنهم يؤدون فرضا فرضه الله عليهم. وهم يرون الكعبة، ويرون القبر النبوي ببصرهم وبصيرتهم، على أنهما متطلعان بحياتهم الروحية، كاتصال منازلهم بحياتهم المادية وبحياتهم الاجتماعية.
وذلك شأن المسيحيين إذ يحجون بيت المقدس، إنهم يشعرون حين يدخلون كنيسة القيامة، وحين يزورون كنيسة المهد ببيت لحم، بأن فلذة من حياتهم الروحية قائمة في هذه الأماكن المقدسة، وبأنهم إذا بعدوا بأجسامهم عنها فإن أرواحهم تظل تهفو إليها.
واليهود الذين يزورون المبكى ببيت المقدس، يخالط قلوبهم شعور كشعور المسيحيين، وكشعور المسلمين في زيارتهم الأماكن المقدسة عندهم.
لست أعدو الحق إذن حين أقول إن هذه الأماكن تبقى على القرون جديدة أمام كل جديد؛ لأنها تعتبر في نظر الذين يحجونها موئلا لأرواحهم، وملاذا لقلوبهم المتعطشة إلى التطهر ترجوه حيثما تكون من بقاع الأرض، ثم لا تطمئن إلى أنها بلغت حظها منه حتى تتم حجها.
هذا الالتجاء الروحي إلى مكان مقدس أمر جوهري في طبيعة الأديان جميعا، وهو كذلك بنوع خاص في طبيعة الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت بالشرق الأوسط: اليهودية والمسيحية والإسلام. صحيح أن نشأة الأماكن المقدسة في الأديان الثلاثة تختلف وتتباين تباينا كبيرا، لكن الفكرة التي شادت هذه الأماكن واحدة في الأديان الثلاثة أو تكاد تكون واحدة، وليس عجبا أن يكون ذلك شأنها. وبين هذه الأديان الثلاثة صلة أوثق الصلة، فقد قام المسيح بين قومه من يهود، يذكر لهم دينهم في صفاء جوهره وينذرهم عذاب الله بأنهم حرفوا كلامه إلى موسى عن مواضعه منقادين وراء أهوائهم ومطامعهم، مبتغين من عرض الحياة الدنيا ما يباعد بينهم وبين رحمة الله، مندفعين بحكم هذه الأهواء والمطامع إلى حياة الظلم والإثم، كما ينذرهم بأن أغنياءهم الذين يظلمون الفقراء لن يتقبل الله منهم، فدخول الجمل سم الخياط أيسر من دخول الغني الباغي ملكوت الله.
والقرآن الذي أنزله الله على محمد - عليه السلام - يجادل النصارى ويجادل اليهود بأن الله بعث لهم رسله بكلمة الحق، فزاغت عنها أبصارهم وبصائرهم، وبأنهم حرفوا كلام الله في التوراة والإنجيل عن مواضعه، وأن النبي العربي إنما بعثه الله ليرد الحق إلى نصابه، وليحق الحق ولو كره الكافرون، وقد بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
من هذه الصورة السريعة البسيطة لما بين الأديان الثلاثة من صلة يتضح أنها ترجع إلى أصل واحد، وتستمد وجودها في صفائه من ينبوع واحد، وهذا الأصل الأزلي الخالد هو الحق جل شأنه، تجلى على موسى فكلمه تكليما، ونفخ في مريم من روحه فكان عيسى كلمته إلى الناس، وأوحى إلى محمد آياته وكلمته هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
والينبوع الذي تستمد منه هذه الأديان وجودها في صفائه هو السمو بالروح عن كل عبودية لغير الله، فالروح من أمر الله، وملكوت الروح في السماء لا في الأرض ، وإله الروح واحد هو الله جل شأنه وتعالت أسماؤه. وقيام هذه الأديان الثلاثة تحيط به ظروف متشابهة كل التشابه.
كان الناس في عهود الرسل الثلاثة يتخذون لأنفسهم أربابا من دون الله، ثم يتخذون هذه الأرباب إلى الله زلفى، فجاءت الأديان الثلاثة صريحة في التقرير بأن الله لا إله إلا هو الملك الحق، وأن الذين يتخذهم الناس أربابا من دونه ليس لهم شيء من قدرته، لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا، ضعف الطالب والمطلوب، وأن الناس يجب لذلك أن يقلعوا عن كل عبادة إلا عبادة الله، وعن الأمل إلا في وجهه الأكرم، وعن الاهتداء إلا بنوره الذي أضاءت له السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. •••
كان أهل مصر الفراعنة يصدقون فرعون إذ يقول لهم:
أنا ربكم الأعلى
فبعث الله موسى إلى بني إسرائيل يصرفهم عن عبادة فرعون إلى عبادة الله، وكان أهل فلسطين يذعنون لأرباب روما صاحبة السلطان فيهم، وكان اليهود منهم يتملقون الحاكم الذي ترسله روما ويقرون ظلمه ابتغاء لرضاه عنهم، وليمد لهم أسباب السلطان والمال، فقام المسيح فيهم يدعوهم إلى ملكوت السموات، وينذر الأغنياء عذاب ربهم الأعلى.
وكان العرب في شبه الجزيرة يعبدون الأصنام، فبعث الله محمدا إليهم يدعوهم لعبادة الله وحده ولنبذ الأصنام، وينذرهم عذاب يوم شديد إذا هم لم يبتغوا وجهه الأكرم، ملتمسين إليه الوسيلة بالبر والتقوى.
ليس عجبا - والصلة بين الأديان الثلاثة ما قدمت - أن تتفق الفكرة التي أدت إلى تشييد الأماكن المقدسة أو تكاد تتفق. وهذه الفكرة لا تقف عند تقديس المكان الذي نزل الدين فيه، فأمرها ليس كذلك في اليهودية بالنسبة لحائط المبكى ولا للصخرة المقدسة، وإنما جوهر هذه الفكرة تعيين المكان الذي يجتمع الناس فيه ليتوجهوا بقلوبهم إلى الله، والذي يقبل الله فيه توبة التائب من آثامه، فنحن وإن اتصلت روحنا ببارئ النسم جل شأنه، تغشانا بحكم حياتنا الدنيا أهواء وشهوات، تحجب ضياء الروح، فلا يهدينا صراط الله المستقيم.
وكثيرا ما تدفعنا هذه الشهوات وهذه الأهواء إلى ألوان من المعاصي والآثام، تباعد بيننا وبين رضا الله عنا، وحسن مثوبته جل شأنه إيانا.
حق أن الحسنات يذهبن السيئات، وإنما في عبادتنا حيث كنا نخفف من أوضار ذنوبنا، لكن من الذنوب ما يثقل الروح فهي أبدا قلقة تريد أن تخلص منه، ونحن نتوب إلى الله ونستغفره في كل صلاة وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار، وعفو ربي وسع كل شيء، لكن التوبة النصوح، التوبة التي يتقبلها الله ويمحو ذنوب صاحبها، هي التوبة التي نسعى إليها، ونتجشم المشاق في سبيلها، ثم نعلنها على ملأ العالم من بني ديننا. وهذه التوبة هي التي تتم في إعلان صريح في المكان المقدس الذي اختاره الله لنا، كي يكون بعضنا شهيدا على بعض، ولكي لا تلهينا العاجلة، فلا نكاد نعلن التوبة إلى الله حتى نتورط في حياة الإثم من جديد.
هذه هي الفكرة الجوهرية القائمة بنفس كل مسلم، وكل مسيحي، وكل يهودي، يعتزم الحج إلى المكان المقدس الذي اختاره الله لأهل دينه وملته، ففي سبيل طهر القلب، ونقاء الروح مما يعلق بالنفس من أوضار الإثم، نذر وراء ظهورنا تلك البيئة التي أغرتنا وغرتنا، ولعبت بأهوائنا، وعبثت بقلوبنا إلى بيئة طهور تتجلى فيها أرواحنا، وترتفع إلى غاية ما تستطيع أن تسمو إليه من عوالمها المضيئة، فتصهر بحرارة إيمانها، وبحرارة توبتها، ما علق بها أو تصبره على ملأ بني الدنيا لأن الدنيا مهد الخطيئة، فليس منا من يستطيع أن يدعي أنه لم يأثم، بل كلنا تصدق فينا كلمة السيد المسيح في مريم المجدلية: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.»
فكرة التوجه إلى الله بالتوبة وطلب المغفرة هي التي أبقت الأماكن المقدسة جديدة أمام كل جديد، وهي التي أنشأت تلك الأماكن أول أمرها، وهي الأساس لنشأة أقدم هذه الأماكن وأكثرها قدسية، فمنذ فجر الإسلام كان الطواف بالكعبة يجمع كل معاني التوجه لله، من شكر إلى رجاء إلى توبة واستغفار.
وكان الطواف بالكعبة يجمع هذه المعاني قبل الإسلام، فالعربي الجاهلي الذي كان يطوف بالكعبة قبل أن يخرج إلى عمل يرجو منه الخير ، والذي كان يضرب بالقداح عند هبل القائم في جوف الكعبة قبل أن يوفقه رب البيت إلى ما يبغي ونحن لا نزال إذ نطوف اليوم بالبيت العتيق يحدونا الرجاء أن يحط الله عنا أوزارنا، وأن يوفقنا في حياتنا إلى ما نحب ونرضى وإلى ما يحب ويرضى، ذلك شأننا جميعا حين نحج وإن اختلف كل حاج في تصور الحياة وتصور معاني الرجاء والشكر والتوبة.
الفكرة التي شادت الأماكن المقدسة وأبقتها جديدة أمام كل جيل جيد، هي إذن فكرة التوجه لله ابتغاء رضاه، والأمل في بلوغ الكمال الذي يقربنا من الله، ثم قصورنا دون هذا الكمال، وقربنا في كثير من الأحيان من نقيضه، ورجاؤنا في الله بعد ذلك أن يغفر لنا ما قصرنا وما أتممنا. وهذا الاضطراب بين الكمال ونقيضه يتعرض له الناس جميعا على اختلاف أقدارهم واختلاف علمهم.
فهذا العاهل العظيم الذي ملك الأرضين ودوخ الشعوب، وبلغ من ذلك ما بهر القلوب وشد إليه الأنظار، يرجع إلى نفسه ساعات فيشعر بأن ما يراه هو ويراه الناس العظمة كل العظمة، ليس شيئا إلى جانب ما ارتكب في سبيله من أوزار، وأنه لذلك أحوج إلى رضا الله عنه ولطفه به، حتى لقد يود لو أنه لم يكن عاهلا عظيما، ولم يرتكب كل ما ارتكب من الخطايا.
هنالك تضعف نفسه ويستشعر الندم، ويريد أن يتقدم إلى بارئه بالتوبة، فيسعى إلى المكان المقدس الذي يتوب الناس عنده حاجا مستغفرا مما اجترح في سبيل العظمة التي طالما أغرته وضلته. وهذا الفقير الذي يكد ليله ونهاره لقوته وقوت عياله يشعر بأنه لم يكن دائما طاهر النفس في سعيه وفي كده، وأنه طالما تمنى لجاره ما لا يتمناه لمن يحب، وأنه في سبيل الحياة قد أثم وأذنب، وأنه لذلك في حاجة إلى التوبة تطهره ليعود إلى ربه نقي الروح، جديرا بملكوت الله.
وبين هذين - بين العاهل العظيم والفقير الذي يكد ويسعى لقوته وقوت أهله - تضطرب طبقات الإنسانية المختلفة بين القوة والضعف، وبين اليأس والرجاء، وبين الأمل الخادع والخيبة اللاذعة ، وهي في اضطرابها يعبث بها الغرور تارة، ويعبث بها الضعف أخرى، فإذا عبث بها الغرور أثمت، وإذا عبث بها الضعف أثمت، وعند ذلك تشعر بالحاجة إلى التوجه إلى الله منيبة تائبة من آثام الغرور ومن آثام الضعف جميعا. ثم لا تجد ملاذا لطهر الروح المتعطشة إلى الطهر إلا بالحج إلى الأماكن المقدسة، تعلن عندها التوبة، وتغسل في ظلالها الوزر والحوبة.
من ثم كان شعور الحجاج إذ يبلغون هذه الأماكن المقدسة قويا، فياضا بمعان روحية لا سبيل إلى تصورها في غير هذه الأماكن، وسنرى صورا من ذلك حين الحديث عن كل واحد منها. (2) الكعبة الشريفة
الإسلام أحدث الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت في الشرق الأوسط، وقد جاء النبي العربي مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، ومع ذلك فبيت الله الحرام بمكة أقدم الأماكن المقدسة بهذا الشرق الأوسط، والسر في ذلك أن الأماكن المقدسة لليهود والنصارى لم تخلع عليها آي القداسة إلا بعد أن نزلت اليهودية وبعد أن نزلت المسيحية. أما الكعبة التي يعظمها المسلمون اليوم، فكانت مقدسة قبل بعث محمد بأجيال طويلة، وكان العرب يحجون إليها أيام الوثنية والأصنام، حتى منع الإسلام غير المسلمين من حج البيت.
وقد ذكر القرآن قدمها في قوله تعالى:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ، وقال تعالى:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود
إلى قوله جل من قائل:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
هذه الآيات ترجع بناء البيت الحرام إلى إبراهيم وإسماعيل، وإبراهيم هو جد الأنبياء عليهم السلام، يسبق في التاريخ موسى وعيسى. لا عجب إذن أن يكون بيت الله الحرام بمكة أقدم الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط.
قصة البناء
وقصة بناء إبراهيم وإسماعيل البيت قصة رواها المؤرخون على وتيرة تكاد تكون واحدة، والمأثور أن إبراهيم طعن على قومه لعبادتهم الأصنام فاضطهدوه، ففر إلى فلسطين ومعه زوجه سارة، ومن فلسطين سافر إلى مصر وتزوج فيها جاريته هاجر، وولدت له هاجر إسماعيل، ثم ولدت له سارة إسحاق.
لم تطق سارة المقام مع هاجر فسافر إبراهيم بها حتى بلغ الوادي الذي تقوم به مكة اليوم، وهناك تركهما وترك معهما ما يقتاتان منه، أفكان في هذا المكان ماء، وكان على الماء خيام لبدو يقيمون عنده؟ هذا أمر اختلف فيه، تجري إحدى الروايات بأن قبائل جرهم كانت تقيم على ماء في هذا المكان، وتجري رواية أخرى بأن إبراهيم ترك هاجر وإسماعيل وحدهما وعاد أدراجه، وأن الماء نفد بعد أيام من هاجر، فجعلت تسعى بين ربوتين، هما: الصفا والمروة، فلما سعت سبعا تطلعت إلى ناحية ولدها إسماعيل، فألفته قد فحص الأرض برجليه، فنجم الماء من بئر هو زمزم، واستقت هاجر وسقت ولدها، وحجزت الماء دون السيل، فجاءت جرهم فأقامت مع الأم وابنها على الماء.
ولما شب إسماعيل تزوج فتاة من جرهم - بنت مقضاض بن عمر - وقد ذهب إبراهيم لزيارة إسماعيل وأمه أثناء مقامهما بهذا الوادي، مرة قبل هذا الزواج ومرة بعده. والروايات تجري بأن بناء الكعبة حدث في إحدى هاتين الزيارتين، وإن اختلفت على كيفية حدوثه.
ذهبت رواية إلى أن جبريل أمر إبراهيم فركب البراق مع هاجر ومع إسماعيل، وطاروا يريدون مكان بيت الله لبنائه، حتى إذا نزلوا مكة تعاون الأب والابن على إقامة البيت. وفي رواية أخرى، أن إبراهيم جاء إلى مكة بعد أن شب إسماعيل وتزوج، ووجده أبوه يبري نبالا تحت دوحة قريبة من زمزم، فتبادل التحية معه، ثم قال له: «يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، أن أبني هنا بيتا.» وأشار إلى أكمة مرتفعة عما حولها، وتعاون الرجلان على البناء، إسماعيل يجيء بالأحجار، وإبراهيم يبنيها، حتى ارتفع البناء إلى قرابة قامة الرجل، فجيء بالحجر الأسود ووضع مكانه، ثم تعاون الرجلان حتى تم البناء.
الحجر الأسود
والروايات في الحجر الأسود وأصله تختلف، قيل: جاء به جبريل من السماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان. وقيل: جاء به جبريل من الهند حيث هبط به آدم من الجنة، وكان أبيض ناصعا فاسود من خطايا الناس. وقيل: بل كان في جبل قبيس منذ طوفان نوح، وكان مضيئا يكاد يذهب سنا ضوئه بالأبصار، وإنما سودته أنجاس الجاهلية وأرجاسها.
وهذه الروايات على اختلافها تذهب إلى أن البيت العتيق كان ارتفاعه، حين أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، تسعة أذرع، وأنه كان مستطيلا عشرين ذراعا في ثلاثين، وأنه كان له بابان ملاصقان للأرض، وأنه لم يكن عليه سقف وإنما حفر به بئر يكون خزانة له. •••
هذا هو المتواتر في أمر بيت الله الحرام، وإقامته أول ما أقيم، على أن طائفة من غلاة المعتقدين لا يرضون أن تكون هذه النشأة نشأته، ويحرصون على أن يردوا أمره إلى ما قبل خلق الإنسان أو إلى أول خلقه، ذكر بعضهم أن الملائكة هم الذين بنوا البيت، ذلك أن الله غضب عليهم حين قال لهم:
إني جاعل في الأرض خليفة
قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك .
وأحس الملائكة غضب الله عليهم، فلاذوا بالعرش يتضرعون ويبكون إشفاقا من هذا الغضب، ثم طافوا بعرش الله شيعا كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، ربنا معذرة إليك، نستغفرك ونتوب إليك؛ فأنزل الله الرحمة عليهم، ووضع تحت العرش بيتا هو البيت المعمور، وقال للملائكة: «طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش.» ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وتجري هذه الرواية بأن الملائكة بنوا هذا البيت الذي يقوم بيت الله الحرام اليوم مكانه قبل خلق آدم بألفي عام.
أما رواية آدم وبنائه البيت الحرام، فتذكر أن آدم سأل ربه بعد أن هبط وزوجه من الجنة: «يا رب، ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟» وأجابه ربه: «بخطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لي بيتا فطف به، واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي.» فأقبل آدم يتخطى الأرض حتى بلغ مكة فبنى البيت الحرام، وقيل: كان هو يبني وحواء تنقل له الحجارة.
وفي رواية أن شيئا بنى الكعبة بعد آدم، ثم جاء الطوفان في عهد نوح فأغرق الأرض وما عليها وأغرق بناء الكعبة، ثم بوأ الله لإبراهيم مكان البيت، فأقام قواعده مع إسماعيل.
وليس في وسع مؤرخ أن يثبت شيئا - على سبيل القطع - عن الروايات التي وردت عن بناء الملائكة أو بناء آدم أو شيث الكعبة.
وظلت الكعبة على بناء إبراهيم وإسماعيل زمنا لم يحدده مؤرخ، قيل: بناها العمالقة وجرهم بعد ذلك، وقيل: بقيت كما بناها إبراهيم وإسماعيل إلى أن جدد بناءها قصي بن كلاب الجد الخامس للنبي العربي. وتذهب الرواية التي تذكر بناء قصي الكعبة إلى أنه خالف ما كان متبعا من ترك البيت قائما في الفلاة لا يبني حوله أحد إعظاما لحرمته، وأمر الناس فبنوا حول البيت ولم يتركوا إلا قدر المطاف.
خلاف حول الحجر المقدس
وأقام العرب يحجون الكعبة كما بناها قصي، إلى أن ولد محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ، وإلى أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره. وفيما أهل مكة يتمتعون بحياتهم العادية، إذا سيل عظيم انحدر من الجبال وطغى على مكة، وأصاب الكعبة فوهنها وصدع جدرانها، وفكرت قريش فيما تصنع بها، وبعد تردد هدم القوم البيت الحرام حتى جداره، ونقلت قريش الأحجار من الجبال وبدأت البناء. فلما ارتفع إلى قامة الرجل وآن أن يوضع الحجر الأسود المقدس مكانه، اختلفت القبائل أيها يكون لها فخار وضعه في هذا المكان، وكادت الحرب الأهلية تنشب بسبب هذا الخلاف، لولا أن قال أمية بن المغيرة المخزومي للقوم - وكان فيهم شريفا مطاعا - اجعلوا الحكم بينكم أول داخل من باب الصفا.
وكان محمد بن عبد الله أول من دخل، فلما قص عليه القوم قصتهم، قال: «هلم إلي ثوبا.» ونشر الثوب، وأخذ الحجر بيده فوضعه فيه، ثم قال: «ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب.» وحملوه جميعا حتى إذا حاذى موضع الحجر من البناء تناوله محمد ووضعه في موضعه، وبذلك انحسم الخلاف، وأتمت قريش بناء الكعبة ورفعت بابها عن الأرض، وسقفتها ووضعت هبل في داخلها، ووضعت معه النفائس التي أهديت من قبل لها، والتي طالما تعرضت قبل سقفها لمطامع اللصوص.
إعادة بناء الكعبة
وظل بناء الكعبة هذا قائما حتى آل الأمر إلى يزيد بن معاوية، وكانت عاصمته دمشق، وكان عبد الله بن الزبير لا يزال بمكة ثائرا بالأمويين، وجرد يزيد جيشا سار إلى مكة، وحاصر ابن الزبير بها، ونصب المنجنيق على جبال مكة ورمى الكعبة بعشرة آلاف حجر، وهنت البناء وجعلته عرضة للحريق لما كان يخالط أحجاره من خشب الساج. عند ذلك استشار ابن الزبير الناس ما يصنع بالبيت، وانتهى الأمر إلى هدم الكعبة وإعادة بنائها.
وفي أثناء البناء نصب حول الكعبة سياج من خشب وجعلت عليه ستور حتى يطوف الناس بمكان البيت ويصلوا إليه.
وبعد عشر سنوات حاصر الحجاج ابن الزبير وقتله، ثم غير أحد جدران الكعبة، وسد الباب الغربي، ورفع البناء إلى ما كان عليه في الجاهلية، فلما تولى هارون الرشيد سأل الإمام مالكا في هدم الكعبة وردها إلى بناء ابن الزبير، فكان جواب مالك: «يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها.» وترك الرشيد البيت، لم يتعرض له.
بقيت الكعبة على بناء ابن الزبير وتعديل الحجاج إياه، لا يزيد المسلمون على أن يقووا ما يعتريه الوهن منها، حتى كانت سنة 1040ه/1630م، إذ هطل بمكة مطر هتون فدخل المسجد وارتفع حتى دخل الكعبة، وكان بناؤها قد وهن بعد أن انقضى عليه قرابة ألف عام؛ لذلك سقطت جدرانها واحدا بعد الآخر، وترامى ما أصاب البيت الحرام إلى الأقطار الإسلامية، فانزعج الناس فيها كما انزعج أهل مكة، فأجمع الكل على المبادرة إلى عمارتها.
وأحيط البيت بسياج من الخشب يطوف به الناس ويصلون إليه، كما كان الأمر على عهد ابن الزبير، وأنفق القوم في البناء ستة أشهر وأموالا طائلة، ولم يعيدوا من الأحجار التي بنى بها ابن الزبير الكعبة إلا ما وجدوه صلبا قويا، أما ما وهن فاستبدلوا به غيره.
على أن مشكلة خطيرة واجهتهم، فقد بدأ الحجر الأسود يتناثر الفتات منه، وللحجر الأسود من القدسية حظ جعل المعماريين يلجئون إلى كل أساليب الفن ليعيدوا إلى أجزائه صلابتها، ولما تم لهم ما أرادوا ربطوه بإطار الفضة الذي ربط به على عهد ابن الزبير ووضعوه مكانه.
وبناء الكعبة هذا هو القائم إلى يومنا الحاضر، وهو الذي يطوف المسلمون به منذ فرض الله الحج عليهم إلى الآن. (3) المسجد الحرام ومشاعر الحج
قلنا إن الكعبة أقدم الأماكن المقدسة، وإنها أول بيت وضع للناس، فقد كان العرب في الجاهلية يحجونها على اختلاف نحلهم، ويعتبرونها المكان الذي يقبل فيه التوجه إلى الله، وتقبل فيه توبة التائب، كان لبعض قبائل العرب أماكن كالكعبة تعظمها وتحج إليها، وكان لكل قبيلة صنم تتخذه إلى الله زلفى، لكنها كانت جميعا تقدر أن الحج المقبول عند الله هو الحج إلى بيته بمكة. فإذا اكتفى رجل القبيلة بالتعبد لصنمه، أو بحج البيت القائم بالطائف إن كان من ثقيف مثلا، لم يكن قد أدى ما عليه من فرائض العبادة أداء كاملا، ولا بد له من زيارة البيت العتيق ليتم حجه وتقبل توبته.
ولما تغلبت الحبشة على اليمن، وحكمها أبرهة، ظن أنه يستطيع أن يصرف أهل اليمن عن بيت مكة إذا هو أقام لهم بصنعاء بيتا يحجونه ويولون وجوههم شطره. وأقام بصنعاء بيتا له من الجمال ومن دقة الفن ما لم يكن لبيت مكة الذي تنزه ببساطته عن مجالي الفن، فلم ينصرف أهل اليمن مع ذلك إلى بيت أبرهة عن البيت العتيق، بل ظلوا مؤمنين بأن هذا البيت القائم بمكة هو وحده الذي يقبل فيه التوبة إلى الله، وتقبل فيه توبة التائب.
وكانت الأشهر التي تعارف عليها العرب قبل الإسلام على حج البيت فيها حرما، لا يحل فيها قتل ولا قتال، فإذا برز الناس للحج من أنحاء شبه الجزيرة، وتخطوا أعلام الحرم، لم يجز لأحد أن يقتل أو يقاتل، ووجب على الجميع أن يلوذوا بأهداب السلام، وأن يقفوا من مناوآتهم ومناوشاتهم عند الفخر والتفاخر على نحو ما كان يقع بعكاظ وبغيرها من أسواق العرب، فإذا حدثت أحدا نفسه بالجريمة في الأشهر الحرم فهو آثم قلبه.
لذلك وجد النبي - عليه السلام - فرصة الدعوة إلى دين الله في هذه الأشهر الحرم، حين قاطعته قريش وألزمته وأصحابه بمكة شعبا من شعاب الجبل ثلاث سنوات متوالية، في هذه الفترة الدقيقة من حياة الدين الناشئ، كان الرسول يخرج إلى الناس في الأشهر الحرم، آمنا عدوان خصومه عليه، وكان يعرض نفسه على القبائل يدعوها إلى دين الله، مطمئنا إلى أنه في حمى بيت الله.
وكان المسلمون قبل الهجرة يعظمون البيت كما يعظمه غيرهم من سائر العرب. ومن يوم أسلم عمر بن الخطاب لم يرض عن استخفاء المسلمين وذهابهم إلى شعاب مكة، يقيمون الصلاة فيها بعيدين عن أذى قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. فلما هاجر رسول الله والمسلمون معه إلى المدينة، بقي حنينهم إلى بيت الله بمكة يستحثهم إلى زيارته، وظل ذلك دأبهم حتى ذهبوا عام الحديبية لحج البيت. فلما صدتهم قريش ذلك العام ذهبوا العام الذي بعده، وفتح الله مكة بعد ذلك لدينه ولنبيه، فأصبح للمسلمين من الحرية في حج البيت ما لغيرهم، وظل ذلك شأنهم إلى أن كان العام الذي سبق وفاة الرسول، والذي حرم بعده على غير المسلمين أن يطوفوا بالبيت العتيق.
قبل الإسلام وبعده
وإنما اختلف أمر الكعبة في الإسلام عنه في الجاهلية بعد فتح مكة؛ لأنها كانت في الجاهلية موئل الأصنام، وكانت تهدى إليها نفائس تحفظ في داخلها، وكانت بعض الأصنام قطعا من الفن، كان هبل مصنوعا من العقيق على صورة الإنسان، فلما كسر ذراعه أبدله القرشيون منه ذراعا من ذهب. وكانت بئر زمزم مطموسة ثلاثة قرون في الجاهلية، فأعاد عبد المطلب جد النبي حفرها، فأخرج منها غزالتين من الذهب كانتا مخبوءتين فيها. وكانت الملائكة مصورة على جدران الكعبة في صورة النساء، وكان لإبراهيم صورة يستقسم فيها بالأزلام. فلما فتح النبي مكة عفى على هذا كله، وطهر الكعبة من كل صنم وصورة، وأبقاها في بساطتها مثابة للناس وأمنا.
وللمسجد الحرام قدسية تتصل بقدسية الكعبة، وهو اليوم فسيح لبضعة آلاف من الأمتار، يتجاوز في صحته الرخام والحصباء، ويمتد النظر في كل ناحية منه حتى تفقه عمد بينها وبين جدرانه بضعة أمتار، وتقوم فوق العمد والجدران قباب تحمي من بالمسجد من الشمس والمطر، وهو لم يبلغ سعته هذه في عهد النبي ولا في عهد أبي بكر، ولم يزد عمر وعثمان في مطاف الكعبة إلا قليلا، ولم يرفعا حوله بناء كالذي نراه اليوم، وإنما أحيط المطاف في عهدهما بجدار قصير وكان غير مسقوف.
وفي المطاف كان المسلمون يقيمون الصلاة، فلما اتخذ الأمويون دمشق عاصمتهم، ورأوا عناية النصارى بكنائسهم وعمارتها وزينتها، رأوا أن يجعلوا للمسجد الحرام مثل هذه العناية. وكان عبد الملك بن مروان أول من أمر في سنة خمس وسبعين للهجرة، فرفعت جدر المسجد وسقف بخشب الساج الداكن المتين. وزاد الوليد بن عبد الملك في عمل أبيه، فوسع المسجد وزخرف السقف، وأزر أسفل جدرانه بالرخام، وجعل له شرفا.
وجاء العباسيون فزادوا في رقعة المسجد إلى ضعف ما كان عليه، وزينوه بالذهب وأنواع النقوش، وكانت الكعبة في جانب من المسجد، فأمر المهدي أن تكون في وسطه، ونفذ المهندسون أمره مع الاحتياط للسيول حتى لا تطغى على البيت الحرام. وظل المسجد بعد ذلك موضع العناية من جانب الأمم الإسلامية في مختلف العصور إلى وقتنا الحاضر.
أماكن لها حرمة
الكعبة هي أول ما يأخذ بنظر من يدخل المسجد بطبيعة الحال، هي بيت الله الحرام، من دخله كان آمنا، وهي قبلة المسلمين في أقطار الأرض جميعا، لكن بالمسجد فيما حول الكعبة أماكن لها عند المسلمين حرمة خاصة، هذه الأماكن هي: مقام إبراهيم، وحجر إسماعيل، وبئر زمزم. والتاريخ لا يحدثنا عن الصورة التي كان عليها مقام إبراهيم أو حجر إسماعيل في الماضي، بل لعل بعض المؤرخين يجدون عسرا في إثبات المكان الذي يقوم فيه المقام أو الحجر حين كانت الكعبة قائمة ليس حولها إلا المطاف، على أن حرمة المقام والحجر والبئر ترجع إلى اعتبارات تاريخية وإلى نصوص في القرآن تدني هذه الحرمة من القدسية، وإن لم تدن بها من قدسية البيت الحرام.
وهذه الحرمة تدعو المسلمين للقيام في هذه الأماكن بالصلاة إجلالا لها، ولا عجب أن يصنعوا، وقد ورد في القرآن عن مقام إبراهيم قوله تعالى:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . أما حجر إسماعيل فيذكرون أنه كان يقع داخل رقعة الكعبة، كما أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدها؛ ولذلك كان أجر الصلاة فيه كأجر الصلاة داخل بيت الله.
ومقام إبراهيم يقابل باب الكعبة ويقابل الحجر الأسود، وهو يقع في جوار باب أقيمت عمده وأقيم عقده من الرخام. ولما كانت الروايات لا تثبت للمصلين فيه أجرا، كأجر المصلين في حجر إسماعيل، كان الذين يطيلون المقام عنده قليلين.
أما حجر إسماعيل فيتصل بالكعبة ويقع في الناحية المقابلة للجدار الممتد بين الركن اليماني والحجر الأسود، ويحيط به سور في نصف دائرة من الرخام يرتفع إلى ما دون قامة الرجل العادي، والمصلون فيه أيام الحج يزحم بعضهم بعضا حتى لا يكاد الإنسان يجد به مكانا إلا أن ينتظر حتى يخلي له غيره مكانه.
يقابل بئر زمزم حجر إسماعيل إلى الناحية الأخرى من بناء الكعبة، وقد أقيم فوق البئر حديثا بناء يستره، أريد به منع مياهه من التلوث، وهذا البناء فخم يدخل الإنسان إليه إذا وجد الوسيلة إلى الدخول، فيراه فسيح الأركان، ويرى فيه الموكلين بإخراج الماء من البئر ليشرب منه من يطلبون البركة. فأما الذين يتاح لهم دخول البناء والوصول إلى البئر، فيتوضئون من ماء زمزم، ويتضاعف بذلك حظهم من البركة.
أبواب المسجد
وللمسجد الحرام فيما يقابل البئر والحجر والمقام أبواب عدة، لعل باب علي أكثرها جمالا من الناحية الفنية، على أن باب الصفا هو الذي ينتقل منه الإنسان إلى شعيرة من شعائر الحج والعمرة بعد الطواف، فالطواف بالكعبة أول ما يجب على من يدخل مكة أن يقوم به، فإذا أتمه فعليه أن يسعى بين الصفا والمروة استجابة لقوله تعالى:
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم .
والصفا والمروة كانتا ربوتين قائمتين في الفلاة تظلهما السماء ويمتد بينهما المسعى، فلما بنى الناس حول الكعبة اعتدوا على أجزاء من المسعى حتى لم يعد اليوم مستقيما، وحتى طغت الحوانيت والجدران والطرق القائمة حوله على بعض أجزائه.
هذه الأماكن التي أشرت إليها هي أماكن الحج الإسلامي المقدسة داخل مكة، وهي تتصل ببيت الله الحرام، وقدسيتها تفرض لها شعائر خاصة من العبادة تقررت أصولها منذ عهد النبي - عليه السلام - ثم نظمت تفاصيلها على الأجيال أدق نظام.
الأماكن المقدسة خارج مكة
أما أماكن الحج الإسلامي المقدسة خارج مكة، فأولها عرفات، وقدسية عرفات لا تتجلى إلا يومي الحج، وهما اليومان الثامن والتاسع من شهر ذي الحجة لكل عام. وعرفة أو عرفات جبل، يبعد عن مكة عشرين كيلومترا أو نحوها، سطحه بطحاء فسيحة تتسع لعشرات الألوف من الناس، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة صعد الحجاج من مكة إلى عرفات زمرا، فألفوا خيامهم ضربت بها وأعدت لقضاء الليل فيها، فإذا أصبح الصبح من يوم عرفة، رأيت هذا البطيح ممتدا أمامك لا يكاد يحيط بحدوده نظرك، ورأيت الناس فيه جميعا لبسوا لباس الإحرام فهم سواسية، ورأيتهم يتوجهون بقلوبهم وأفئدتهم إلى الله يلتمسون التوبة والمغفرة، فأنت تسمع استغفارهم منذ صلاة الفجر لذلك اليوم إلى أن يفيض الناس من عرفات بعد صلاة العشاء فوق الجبل. فإذا أفاض الناس من عرفات عاد خلاء كما كان لا يعمره إلا من يمرون به من البدو، ثم يبقى كذلك إلى أن يستدير العام وتعود أيام الحج في العام التالي.
ويفيض الناس من عرفات إلى المشعر الحرام بالمزدلفة، يأخذون منه الجمرات إلى منى. والمشعر الحرام مسجد قائم في عزلة الصحراء بين هذه الجبال القليلة الارتفاع، والتي تتصل من مكة إلى عرفات. وقل أن يرى أحد من الحجاج مسجد المشعر الحرام لأنهم يمرون به بعد الإفاضة ليلا، ولا يقيمون عنده إلا سويعات تطول أو تقصر حسب ساعات الإفاضة، فمن أفاض بعد العشاء أتيح له أن يبقى زمنا إلى ما بعد منتصف الليل، ومن أفاض من عرفات قبيل منتصف الليل لم يقف بالمشعر إلا ريثما يتم جمع الجمرات.
ويبلغ الحجاج منى قبيل الفجر، ثم يقضون ثلاثة أيام يرمون فيها الجمار ويصلون بمسجد الخيف، على أن الناس يهبطون من منى أول أيام عيد الأضحى ليطوفوا بالبيت، ومنهم المحرم ومنهم من حل إحرامه، فإذا أتموا الطواف والسعي عادوا إلى منى فقضوا بها أيام عيد الأضحى، ثم رجعوا إلى مكة ينظمون سفرهم منها إلى المدينة أو عودتهم إلى بلادهم.
هذه هي الأماكن المقدسة التي تتصل بالحج عند المسلمين، وهذه الصورة السريعة التي عرضتها عليك تدلك على أن ما كان خارج مكة من هذه الأماكن لا تتجلى حرمته إلا في أيام الحج، فأما ما خلا ذلك من أيام السنة، فهو خلاء لا يشهده ولا يمر به إلا المقيمون حوله، أما بيت الله الحرام، وأما المسجد الحرام، فتظل شعائرهما متصلة طول العام، وعلى كل من دخل مكة أن يطوف بالبيت وأن يسعى بين الصفا والمروة.
والمكان المقدس عند المسلمين بعد بيت الله، هو القبر النبوي بالمدينة. (4) المسجد النبوي
قل من المسلمين من حج بيت الله الحرام بمكة، ولم يزر الحجرة النبوية بالمدينة، وكثيرا ما كان الناس في بعض الأزمان يكتفون بزيارة القبر النبوي في موسم رجب، وكان ذلك واضحا بنوع خاص أيام كانت سكة الحديد الحجازية ممتدة بين الشام ومدينة الرسول. والحق أن قدسية المسجد النبوي والحجرة النبوية لا تقل في نظر الأكثرين عن قدسية المسجد والبيت الحرام بمكة، وإن لم يفرض الإسلام لمسجد المدينة شعائر خاصة به.
والمسجد النبوي بالمدينة يحتوي على الحجرة النبوية حيث دفن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وحيث دفن الخليفتان الأولان أبو بكر وعمر، ومن هنا ازدادت قدسيته وازداد إقبال الناس على زيارته. على أن لمسجد المدينة مكانة خاصة؛ لأن رسول الله هو الذي أقامه في صورته الأولى، فهو لذلك مسجد أقيم خالصا للمسلمين.
فقد دخل رسول الله المدينة بعد هجرته من مكة، وليس له فيها مكان يقيم به، فلما بركت الناقة التي كان يمتطيها عند مربد يجفف فيه التمر لغلامين يتيمين من بني النجار، سأل - عليه السلام: «لمن المربد؟» وأجابه معاذ بن عفراء أنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا رسول الله أن يتخذه مسجدا، وقبل النبي أن يبني في هذا المكان مسجده وأن يبني داره.
وأمر رسول الله، فقطع ما بالمربد من نخل وغرقه وسوى ما كان به من قبور الجاهلية، وجفف ما كان به من الماء، ثم بدأ البناءون يبنون المسجد والرسول معهم ينقل اللبن. وإذ كان البناء بسيطا، جدره من اللبن وسقفه من الجريد وعمده من خشب النخل، فسرعان ما تم.
وبني بيت رسول الله بجوار المسجد، وإلى أن تم بناؤه كان رسول الله يقيم بدار أبي أيوب الأنصاري.
وكانت مساحة المسجد، حين أتم النبي بناءه لأول مرة، لا تزيد على خمسة وثلاثين مترا في ثلاثين، وكان بحجمه هذا كافيا لصلاة المسلمين الأولين بالمدينة من المهاجرين والأنصار، فلما أجلى النبي اليهود عن المدينة وأجلاهم عن خيبر، وخلصت المدينة بذلك للمسلمين، لم يكن بد من أن يزيد النبي في رقعة المسجد، فجعله خمسين مترا في خمسين، وكانت قبلة المسجد يومئذ من جذوع النخل، وقد بقيت متجهة إلى ناحية المسجد الأقصى حتى عدل بالقبلة إلى ناحية الكعبة.
ولم يتخذ رسول الله لنفسه منبرا أول ما بني المسجد، بل كان يخطب الناس مستندا إلى جذع نخلة كانت عمادا من عمد المسجد، فلما شعر أصحابه أن القيام شق عليه صنعوا له منبرا من الخشب درجتين ومجلسا.
توسيع المسجد
وانقضت خلافة أبي بكر والمسجد كما كان على عهد النبي، فلما اطردت زيادة المسلمين رأى عمر أن لا بد من الزيادة في المسجد، فزاد فيه خمسة أمتار من الناحية الجنوبية ونقل القبلة إليها، ونحو ذلك من الناحية الغربية، وخمسة عشر مترا من الناحية الشمالية، ولم يزد شيئا من الناحية الشرقية؛ إذ كانت بيوت أزواج رسول الله أمهات المؤمنين. ولم تكن زيادة عمر المسجد إلا زيادة في رقعته، أما فن البناء فبقي كما كان على عهد رسول الله؛ لأن العرب إلى ذلك العهد كانوا يقصدون بالعمارة سد الحاجة الماسة على أبسط صورة.
وازداد سكان المدينة بازدياد رقعة الفتح الإسلامي، فشكا الناس إلى عثمان ضيق المسجد يوم الجمعة، وشاور عثمان أهل الرأي من الصحابة، فأجمعوا على أن يهدم ويزاد فيه. وهدم عثمان المسجد وزاد فيه بقدر زيادة عمر، ثم أحدث من التطور في عمارته أن بنى جدره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقورة، أدخل فيها عمد الحديد، وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، وجعل السقف من خشب الساج.
الوليد يعيد بناء المسجد
وبقي المسجد على بناء عثمان حتى استقر الأمر للوليد بن عبد الملك الأموي، ولم تبق للثائرين بالحجاز قوة. وقدم الوليد الحجاز حاجا وزار المدينة، فألفى أحفاد علي بن أبي طالب يلوذون ببيت فاطمة إلى جوار المسجد، ورأى في ذلك تحريضا قد يعيد الثورة مشبوبة بالحجاز من جديد. هنالك قرر أن يزيد في المسجد، وأن يدخل بيت فاطمة وبيوت النبي جميعا فيه، لم يثنه عن ذلك جزع الناس وبكاؤهم لإزالة هذه الآثار التاريخية الباقية للنبي ولحياته في المدينة.
وكان للوليد في العمارة وزخرفها رأي غير رأي العرب، فقد قضى حياته بدمشق وبين الآثار المسيحية والرومية في الشام، وقد أقام والده عبد الملك بن مروان قبة الصخرة ببيت المقدس فبز بها الكثير من الكنائس البارعة، لذلك لم يلبث حين استقر رأيه على هدم مسجد النبي وإعادة بنائه، أن كتب إلى ملك الروم يستعينه بعمال وفسيفساء.
وهدم عمر بن عبد العزيز عامل الوليد على المدينة مسجد النبي، وأدخل فيه حجرات أزواج النبي وبينها حجرة عائشة، بذلك أصبح القبر النبوي داخل المسجد. وبالغ عمر في تجميل المسجد: زخرف المحراب والشرفات والمنابر زخرفا لا عهد للعرب به، وعني بسقف المقصورة النبوية عناية جعلته بدعا في الفن. وقد أعجب الوليد بن عبد الملك بما رأى من ذلك حتى لقد نظر إلى أبان بن عثمان يقول له: «أين بناؤنا من بنائكم؟!» لكن أبان أجابه: «إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.»
حريق المسجد
تمت هذه العمارة سنة تسعين للهجرة، وظل المسجد قائما بها إلى سنة ست وستين ومائة، حين جاء المهدي العباسي فأمر بزيادة المسجد، وزيد في ناحيته الشمالية زيادة كبيرة اتخذت لها عمارة الوليد طرازا. واستقرت رقعة المسجد على زيارة المهدي إلى سنة 654 للهجرة، إذ ترك موقد المصابيح مشعلا في مخازن المسجد، امتدت النار منه إلى ما حوله، وسرت إلى المسجد فلم تبق على خشبة واحدة، أكلت النار المنبر النبوي والأبواب والخزائن والنوافذ والمقاصير وما اشتملت عليه من كتب، وامتدت إلى كسوة الحجرة، ووقع السقف الذي كان بأعلى الحجرة على سقف بيت النبي، فوقعا جميعا في الحجرة وعلى القبور التي بها.
كانت بلاد الدولة الإسلامية حين ذلك في قلق واضطراب؛ لذلك اكتفت كل منها بأن بعثت من مواد العمارة إلى المدينة ما أرضى عقيدتها. وقام أهل المدينة بما يستطيعون من عمارة المسجد، لكن أحداث الاضطراب في رقعة المملكة كانت تقف العمل وتجعله إذا سار يسير في غير خطة مرسومة. فلما تولى الظاهر بيبرس أمر مصر، بعد ست سنوات من الحريق، جهز الصناع وكل ما يحتاج إليه البناء وبعث بذلك كله إلى المدينة، وسار العمل في البناء حتى تم، وقام المسجد كما كان قبل الحريق.
لم يطرأ على عمارة المسجد بعد ذلك، إلى سنة ست وثمانين وثمانمائة، تغيير جوهري، وكل ما حدث أن جدد سقفه أو زيد فيه طمعا من بعض أمراء البلاد الإسلامية، وأمراء مصر بنوع خاص، في المثوبة. أما في سنة ست وثمانين وثمانمائة، فقد انقضت صاعقة على مئذنة المسجد الرئيسية، فانتقلت النار من المئذنة إلى سقف المسجد، ثم إلى البناء كله، حتى احترقت المقصورة والمنبر والكتب والمصاحف، ولم يسلم من الحريق إلا الحجرة وقبة مبنية بصحن المسجد.
قايتباي يعيد المسجد
كان التطور الذي حدث في عمارة المسجد، بعد انقضاض الصاعقة عليه، أكثر وضوحا. لقد رأيت كيف انتقل من بساطته الأولى إلى هذه العمارة الفنية البديعة التي ابتغى بها الملوك والأمراء مثوبة الله. أما بعد حريق الصاعقة فقد وجد أمير مصر الملك الأشرف قايتباي من أعادوا بناء المسجد على صورة بلغت غاية التأنق، واقتضت من النفقة ستين ألفا ذهبا من الجنيهات.
كانت مصر هي التي تقوم بعمارة المسجد النبوي - أو بالحظ الأكبر منها في تلك العهود - فلما آلت الخلافة لآل عثمان بالأستانة، وجه سلاطين آل عثمان إلى المسجد عناية فائقة، ففي القرن العاشر الهجري عمره السلطان سليم الثاني وشيد به محرابا جميلا لا يزال قائما إلى اليوم غرب المنبر النبوي. وفي القرن الثالث عشر بنى السلطان محمود القبة الخضراء.
وفي عهد السلطان عبد الحميد، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، لوحظ أن المسجد بحاجة إلى العمارة بعد أن انقضى على عمارته أربعة قرون لم تحدث به أثناءها عمارة هامة. وقد كان المهندسون يهدمون جزءا من المسجد ويقيمون مكانه ما يحل محله، ثم يهدمون بعده جزءا غيره، حتى تمت عمارة المسجد كله فيما بين سنة 1265، وسنة 1277 وقد زيد في الجدار الشمالي ما كفى لبناء مخازن ومكاتب وأحواض للوضوء. وشيدت المئذنة المجيدية على طراز بالغ غاية الروعة والإبداع، وبلغت نفقات هذه العمارة ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات المجيدية.
خطوط رائعة
وقد سجلت هذه العمارة من آثار الفن الإسلامي في بناء المسجد ما لا يزال حتى اليوم بهجة الأنظار، كتبت على جدران المسجد سورة الفتح، وأسماء الله الحسنى، وقصيدة البردية، وأسماء النبي - عليه السلام - بخط بالغ غاية الروعة والدقة الفنية. والخط العربي هو الذي حل محل التصوير والنقش، بعد أن حارب الإسلام التماثيل والصور. وقد قضى الخطاط العظيم عبد الله بك زهدي عشر سنوات في كتابة ما كتب على جدران المسجد من هذه الآيات الرائعة في عالم الفن.
هذه العمارة هي القائمة إلى اليوم، لم تزد عليها إلا بعض ترميمات في محاريبه وفي أرضه وفي عمده.
الروضة النبوية
على أن ما أشرت إليه من أمر المسجد لم يتناول القسمين الهامين فيه، أقصد القبر النبوي والروضة النبوية، والروضة هي الجزء الواقع من المسجد بين قبر رسول الله ومنبره، وذلك لما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة.» والروضة تمتد اليوم إلى ما بعد منبر النبي ويطلق اسمها على كل القسم الذي به عمد مسجد النبي. وقد نقشت عمد الروضة بالأزهار، وقام على جانب منبر النبي محرابان آية في الدقة والجمال، وفرشت أرض الروضة بأثمن السجاجيد.
وتعتبر الروضة النبوية من أكثر الأماكن الإسلامية تقديسا، فكل من أم المسجد بدأ بزيارة القبر النبوي، ثم ذهب إلى الروضة يصلي فيها تحية المسجد، ويبقى إلى الفرض الذي يلي حضوره، وقد يبقى بها إلى أكثر من فرض، وهو يجد فيها المصاحف ودلائل الخيرات موضوعة على كراسيها، يقرأ فيها من شاء تبركا ومثوبة.
فأما القبر النبوي والحجرة النبوية، فموضع الإجلال والتقديس، يؤمهما الزائر لأول ما يدخل المدينة، كما يؤم الكعبة لأول ما يدخل مكة، ويتلو عندهما من الدعوات ما شاء الله أن يتلو، ويصلي في الروضة على مقربة منهما ما شاء الله أن يصلي. وجمال الحجرة والقبر في داخلهما يأخذ بالنظر، لكنهما يثيران في النفس من العبرة ما يزيدها للنبي العربي إجلالا وتقديسا.
لقد كانت هذه الحجرة آية في البساطة يوم دفن فيها رسول الله، كانت قبرا سوي على صاحبه عليه السلام، وظلت حجرة القبر على بساطتها إلى أن أمر الوليد بن عبد الملك بضمها، وضم بيوت أمهات المؤمنين إلى المسجد، عند ذلك أقام عمر بن عبد العزيز الحجرة فخمة لا تمت إلى بساطتها الأولى بأية صلة. ولقد أنكر أولو الورع من المسلمين ما حدث من ذلك، وعدوه بدعة، ورأوا فيه خروجا على الأسوة الحسنة.
لكن ذلك لم يغير شيئا من اتجاه المسلمين بعد إلى الناحية التي اتجه إليها الوليد بن عبد الملك، فقد تجدد بناء الحجرة بعد ذلك غير مرة، وفي كل مرة كانت عمارتها تزداد فخامة عن المرة التي سبقتها، ثم إن الحجرة كسيت كسوة مطرزة أجمل طراز، ثم جعلت الهدايا تهدى إليها، وفي مقدمتها قناديل الذهب والفضة، وقد بلغ وزن قناديل الذهب في وقت من الأوقات تسعة قناطير. كذلك أهديت للحجرة هدايا من الأحجار النفيسة، كان بينها حجر من الماس أطلق عليه اسم الكوكب الدري، قدرت قيمته بثمانمائة ألف جنيه ذهبا، وعلق تحت هذا الكوكب الدري كف من الذهب مرصع بالجوهر في وسطه حجر من الماس أصغر من الكوكب الدري، هذا إلى نفائس كثيرة لا تقدر بثمن.
لم يبق لهذه النفائس اليوم أثر بالحجرة، لأن تقلب الأحوال والنظم السياسية على الحجاز في هذا القرن العشرين أدى إلى نقلها إلى حيث توجد اليوم.
القبر النبوي، والروضة، والمسجد النبوي، هذه هي المجموعة المقدسة التي تلي في نظر المسلمين الكعبة بيت الله الحرام. وهي لا ريب مجموعة لا نظير لها بين الآثار الإسلامية في قيمتها التاريخية وفي قيمتها الفنية. (5) المسجد الأقصى
تناولت الفصول السابقة إلمامات سريعة عن الأماكن المقدسة بالحجاز، وننتقل الآن إلى فلسطين، لنتحدث عن أماكنها المقدسة، وأولها المسجد الأقصى.
والمسجد الأقصى من الأماكن المقدسة عند المسلمين، لكنه يرجع في تاريخه إلى عهد قديم سبق الإسلام والمسيحية واليهودية جميعا، وهو في سبقه الأديان الثلاثة، يشبه الكعبة وإن لم يكن له قدمها. والمسجد الأقصى يقوم على الصخرة التي كان يقوم عليها هيكل سليمان، وقد روي عن رسول الله أنه قال: «إن الله أوحى إلى داود، أن ابن لي بيتا أذكر فيه.» فخط داود خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بدار رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذها، فأوحى إليه الله أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب، وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك ألا تبنيه. قال : يا رب فمن؟ ولدي؟ قال: ولدك. وبناه سليمان بن داود.
وتذهب بعض الروايات إلى أن داود أقام بيتا صغيرا للعبادة، وأن سليمان هو الذي أقام الهيكل من بعده. وفي رواية أخرى، أن البيت الذي أقيم على الصخرة المقدسة يرجع في تاريخه إلى ما قبل داود، ولعله نسب إلى الملائكة أو إلى آدم كما نسب بناء الكعبة.
وبنى سليمان الهيكل على الصخرة المقدسة التي اختارها أبوه بوحي من ربه، بناه فخما على طراز هياكل المصريين القدماء، فجعل له بابا رفيع العمد، وجعل له من وراء الباب بهوا فسيحا تقوم فيه العمد، ثم جعل من وراء البهو قدسا للأقداس. وكما اتخذ طراز المصريين في نظام البناء اتخذ طرازهم في جلاله وفخامته وعظمته. ولم يكن عجبا أن يبني سليمان على الطراز المصري الفرعوني، وكثيرا ما كانت مصر تغير على فلسطين وتخضعها لحكمها، هذا إلى أن البلاد المشاطئة للجانب الشرقي من البحر الأبيض المتوسط - مصر وفلسطين وفينيقيا واليونان - كانت دائمة الاتصال في شئونها التجارية والفنية والثقافية.
احتراق الهيكل
كانت مصر حاكمة فلسطين قبل داود وسليمان، وقد استقلت فلسطين عن مصر في عهدهما، ثم عادت بعد وفاة سليمان إلى مصر في عهد الفرعون شيشاك، وحكمت فارس فلسطين بعد ذلك، فاحترق بيت المقدس واحترق الهيكل أثناء حكمها، ثم أقام حاكم الإقليم بيت المقدس بأمر كسرى، ثم أقام الهيكل من غير أن يجعله في مثل جلاله وعظمته يوم أتم سليمان تشييده.
كان حريق الهيكل في سنة 586 قبل الميلاد، وقد أعيد بناؤه في سنة 520 قبل الميلاد. وأهديت إليه حاملات الشمع والمباخر المصنوعة من الذهب، فعوضته بعض الشيء عما أصابه بعد بانيه الأول.
استقر اليهود بفلسطين من بعد موسى، واتخذوا من هيكل سليمان معبدهم والمكان المقدس لشعائرهم، وإذ كانت فلسطين معرضة لغزو مصر وغزو الروم، فقد حصنوه أكمل تحصين، وقووا عمارته وأكثروا من النفائس المهداة له، بذلك أصبح قلعة ومعبدا في آن واحد، وقد حاصر الإمبراطور الروماني بومبي بيت المقدس في سنة 63 قبل الميلاد فصمدت له، وكان حصن الهيكل المقدس من الحصون المنيعة التي قاومته، صحيح أنه انتهى إلى إخضاعها، لكن مقاومتها كانت ذات خطر حين الحصار من ناحية، ومهدت للثورة بالحكم الروماني بعد ذلك بقليل من ناحية أخرى.
هيرودس الفلسطيني
على الرغم من هذه الثورة تمكن هيرودس الفلسطيني من أن يكون عامل روما على فلسطين، وأن يخضعها لحكم الإمبراطورية. وقد استطاع بمهارته أن يحمل اليهود من رعاياه على إقراره على هدم الهيكل وإعادة بنائه. وقد هدمه وأعاد بناءه على صورة من الفخامة، ضاعفت مساحة بعض الأجزاء فيه، ورفعت البعض إلى ضعف ارتفاعها السابق وخلعت عليه بهاء أعاد له بهاءه حين بناه سليمان إن لم يزد عليه، كما جعل به من النفائس أكثر مما كان فيه من قبل.
ظل هيكل سليمان المكان المقدس لليهود بفلسطين إلى أن استقرت المسيحية بها وحاربت اليهودية فيها، وقد جنى ذلك على الهيكل حتى كاد يصبح أطلالا. فلما غزا العرب سوريا ومصر، أحالوا الهيكل مسجدا، هو المسجد الأقصى، على أن اسم المسجد الأقصى قد أطلق عليه في الإسلام، قبل غزو العرب بلاد الشام، وقبل دخولهم فلسطين، أطلق عليه في القرآن لمناسبة حديث الإسراء في قوله تعالى:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله . والمسجد الحرام هو مكة، والمسجد الأقصى هو الهيكل ببيت المقدس، وورود هذه التسمية في القرآن تشهد بأن لفظ المسجد كان مستعملا عند العرب لكل مكان للسجود والعبادة، وأنه لم يكن مقصورا - كما هو اليوم - على أماكن العبادة الإسلامية.
فالمسجد الحرام لم يكن يزيد - يوم نزلت هذه الآية - على الكعبة ومطافها. وهذا المسجد لم يكن يومئذ إسلاميا كما هو اليوم، بل كان للعرب جميعا على اختلاف نحلهم، وكانت أصنام العرب قائمة فيه، والمسجد الأقصى لم يكن قد اتصل بالإسلام والمسلمين في شيء إلا في حديث الإسراء.
الإسراء والمسجد الأقصى
والإسراء هو الذي جعل المسلمين يتطلعون، بعد أن فتحوا الشام ووضعوا أيديهم على بيت المقدس، إلى المسجد الأقصى لجعله من أماكنهم المقدسة، فأكثر الروايات التي وردت عن الإسراء تذهب إلى أن رسول الله قيد البراق بالصخرة المقدسة حين بلغ به الإسراء إلى بيت المقدس، وأنه صلى على أطلال هيكل سليمان إماما لإبراهيم وموسى وعيسى، وأنه عرج إلى السماء بعد ذلك متخذا من صخرة يعقوب مرتكزا للمعراج. فلما بلغ سدرة المنتهى، وأتم الله آيته، عاد رسوله إلى بيت المقدس فامتطى البراق كرة أخرى إلى مكة.
لا جرم، وذلك شأن المسجد الأقصى، أن يتطلع المسلمون إليه على أنه من أماكنهم المقدسة، فإذا أضفت إلى ذلك أن المسجد الأقصى كان قبلة المسلمين يتوجهون إليه في صلواتهم منذ بعث رسول الله، وطيلة مقامه بمكة، وفي السنتين الأولى والثانية بعد هجرته إلى المدينة، إلى أن حولت قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام، إذا أضفت هذا الاعتبار إلى الإسراء لم يكن عجبا أن ترى المسلمين يتخذونه مكانا مقدسا لهم، ويقيمون فيه حرما كالحرم المكي وكالحرم المدني، وأن يكون له عندهم من القداسة ما لا يزال يقتضيهم عناية به كعنايتهم بالبيت الحرام والمسجد النبوي من حيث العمارة والصيانة والرعاية.
الاهتمام بالمسجد
على أن المسلمين لم يعيروا المسجد الأقصى عنايتهم في عهدهم الأول، وما كان لهم أن يفعلوا، وهم لم يفتحوا بيت المقدس إلا في عهد عمر بن الخطاب. وما كان عمر ليفكر في عمارة المسجد الأقصى، أو في إقامة القبة على الصخرة المقدسة في أعقاب الفتح، بينما المسلمون في شغل بمحاربة الروم وفارس، بل لقد كان تفكير عمر متجها حين فتح بيت المقدس إلى إقناع أهلها حتى يستريحوا إلى حكم المسلمين، ويرونه خيرا من حكم الروم.
لما تغلب عمرو بن العاص على القائد الروماني أرطبون في فلسطين، وكان على أبواب بيت المقدس، أعلن بطركها صفرنيوس أنه يريد التسليم والصلح على شريطة أن يجيء الخليفة عمر بنفسه إلى المدينة المقدسة، وسار عمر من المدينة إلى ميدان الحرب لعقد هذا الصلح وإبرام شروطه وفتحت بيت المقدس أبوابها أمامه بعد توقيع الصلح. وصحب صفرنيوس عمر يوما خلال المدينة يريه آثارها ومواضع الحج فيها، وإذ أدرك عمر موعد الصلاة، وهو بكنيسة القيامة، طلب البطرك إليه أن يصلي بها، فهي من مساجد الله، لكن عمر اعتذر بأنه إن يفعل اتبعه المسلمون، واعتبروا عمله سنة مستحبة، فأدى ذلك إلى إخراج المسيحيين من كنيستهم، ثم صلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة على أطلال الهيكل. وفي هذا المكان أقيم من بعد مسجد عمر، وهو الذي أطلق عليه اسم المسجد الأقصى، أقامه عمر من ساذج البناء، كمسجد النبي بالمدينة يوم أقيم.
وظلت الدولة الإسلامية من بعد في شغل بحروبها طيلة عهد عمر وعثمان، ثم شغلت بالخلاف ما بين علي ومعاوية، لذلك لم يفكر أحد في عمارة مسجد عمر ببيت المقدس عمارة تضارع بيوت العبادة في بلاد الشام، وظل الحال على ذلك إلى أن تولى عبد الملك بن مروان الأموي الحكم.
كانت الثورة على الأمويين ما تزال مشبوبة في الحجاز، وعلى رأسها عبد الله بن الزبير بمكة، وكان هؤلاء الثائرون موضع عطف الكثيرين من العرب والمسلمين لأنهم كانوا ينتمون إلى أهل بيت رسول الله، ثم إنهم كانوا سدنة البيت الحرام بمكة والقائمين على شئون مسجد النبي - عليه السلام - بالمدينة، فكان حج المسلمين واختلاطهم بهم يزيدهم عطفا عليهم.
قبة الصخرة
وقد أشرنا إلى أن عبد الملك بن مروان كان قد شغف بالعمارة البيزنطية لمقامه بدمشق بين كنائس النصارى وآثارهم، وإنه لذلك كان أول من قام بعمارة البيت الحرام بمكة على نحو زاوج بين البساطة وما يطمئن له فن العمارة. وإعادته بناء البيت الحرام لم يكن أول عمل له في العمارة، فقد قام قبل ذلك بتشييد مساجد بالشام فيها جمال فني يأخذ بالقلوب والأبصار، على أن أروع آياته في البناء وأشدها أخذا بالنظر كان في عمارة قبة الصخرة وبناء المسجد الأقصى، فقد شاد القبة على نحو بز ما قام به من بعد في عمارة البيت الحرام، بل لعله قد بز ما بناه من المساجد والعمائر.
وقد دهش الناس لفائق عنايته ببناء قبة الصخرة، وترامت أنباء ذلك إلى مختلف الأمصار الإسلامية، وتساءل كثيرون: ما قصده من هذه المبالغة في عمارة القبة؟ وزاد في تساؤلهم أن عبد الملك حظر الحج على المصريين وأهل الشام بحجة الثورة القائمة بالحجاز. عند ذلك أذاع عبد الله بن الزبير في الناس أن عبد الملك قصد من بناء القبة والمسجد الأقصى إلى صرف الناس عن حج البيت الحرام والمسجد الحرام إلى حج المسجد الأقصى والصخرة المقدسة متأسيا في ذلك بأبرهة حين بنى بيت صنعاء ليصرف الناس عن بيت مكة. ويتعذر القطع بصحة ما أذاعه ابن الزبير من هذه الدعاية، وبخاصة لأن ابن الزبير مات بعد ذلك بقليل، وعلى أثر موته استولى عبد الملك على مكة، وقام بعمارة المسجد الحرام على نحو أرضى به ذوقه الفني، كما أنسى المسلمين تلك الدعاية التي أذاعها ثائر الحجاز ضده.
وأرصد عبد الملك لبناء القبة مالا كثيرا، قيل إنه خراج مصر سبع سنين، وجمع الصناع من الفينيقيين، واستعان بصناعة بيزنطية. وبعد أن وضع تصميم لبناء القبة رضي عبد الملك عنه، تولى رجاله تنفيذ ذلك التصميم وأتموه على خير وجه. ومع ذلك، بقي من المال الذي خصص لهذا الغرض مائة ألف دينار، أنفقت في عهد الوليد بن عبد الملك لإتمام بناء المسجد الأقصى، ولتقوية أجزاء وهت منه.
ولم تكن عناية عبد الملك بعمارة المسجد الأقصى دون عنايته بعمارة قبة الصخرة، فقد جلب له عمد الرخام، أقام عليها خمس عشرة قبة وسقفه بالخشب الجميل المتين، وجمل به أربعة منابر وأربعة وعشرين صهريجا، وجعل له أبوابا كثيرة وعلق فيه قناديل، بالغ الرواة في عددها حتى بلغ به بعضهم خمسة آلاف، ورتب له ثلاثمائة خادم.
ظل المسجد، وظلت القبة بعد ذلك، أربعة قرون في يد المسلمين محاطة من آي الإجلال والإعظام بما أحيط به البيت الحرام والمسجد الحرام، حتى لم يكن يباح لغير مسلم أن يطأ أرضهما. فلما كانت أواخر القرن الخامس الهجري دخل الصليبيون الشام وتقدموا إلى فلسطين ووضعوا يدهم على بيت المقدس في سنة 492 هجرية. وقد أقاموا ببيت المقدس قرابة قرن كامل، حتى أجلاهم صلاح الدين الأيوبي عنه في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، بذلك عادت إلى المسجد وإلى القبة قدسيتهما الأولى، وعاد حراما على غير مسلم أن يدخلهما أو يطأ أرضهما.
على أن الحروب الصليبية ظلت متداولة بعد ذلك بين المسيحيين من أهل أوروبا والمسلمين القائمين حول البحر الأبيض المتوسط. وقد استولى الصليبيون أثناءها على القدس غير مرة ثم أجلوا عنها، واضطربت شئون المملكة الإسلامية بعد ذلك بسبب تعدد الدول واقتتال الملوك والأمراء إلى أن آل الأمر إلى آل عثمان. ولم يغير ما حل بالمملكة الإسلامية من الاضطراب من حرمة بيت المقدس على المسلمين، ومن حرمة المسجد والقبة بنوع خاص. فلم يبح لغير المسلم أن يدخلهما أو يطأ أرضهما إلا بعد حرب القرم في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ولم يبح ذلك إلا بمقدار، وفي حدود ضيقة.
ولا يزال المسجد الأقصى، ولا تزال القبة، ولهما من القداسة عند المسلمين ما كان لهما من قبل، على رغم تبدل الأحوال السياسية، وقدسيتهما هي التي تجعل الأمم الإسلامية، وتجعل ملوك المسلمين يحرصون على عمارتهما الحين بعد الحين، وكيف لا يذكر المسلمون المسجد الأقصى وهم يذكرون قوله تعالى:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ، إنهم سيذكرونه ويذكرون ما حوله مما بارك الله، وسيبقى هذا المسجد لذلك حرما مقدسا ما بقي الإسلام وما بقي المسلمون.
الفصل الثاني
الأماكن المسيحية المقدسة
(1) كنيسة المهد
تناولت الفصول السابقة عن الأماكن المقدسة بالشرق الأوسط إلمامات عن بيت الله الحرام وعن المسجد الحرام بمكة، وعن المسجد النبوي بالمدينة، وعن المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهذه الأماكن المقدسة إسلامية كلها.
فلننتقل بالحديث الآن إلى الأماكن المسيحية المقدسة بفلسطين، وسنكتفي بأن نتناول مكانين اثنين منها: كنيسة المهد ببيت لحم، وكنيسة القيامة ببيت المقدس.
كان في وسعنا أن نتحدث عن أماكن أخرى بفلسطين لها قدسيتها عند المسيحيين، لكننا قصرنا حديثنا حتى الآن على الأماكن المقدسة التي لقيت على تعاقب الأجيال من العناية بعمارتها ما رأيت. ولم يلق أثر مسيحي من هذه العناية بفلسطين ما لقيت كنيسة المهد، وكنيسة القيامة.
ولا عجب أن يلقيا كل هذه العناية، وإحداهما تقوم ذكرا لمولد عيسى، والأخرى تقوم ذكرا لدفنه قبل الصعود، ومولد عيسى وقصة صلبه ودفنه وصعوده معجزتان على التاريخ، من أروع ما قص التاريخ.
مولد عيسى
فمولد عيسى معجزة في الإسلام، كما أنه معجزة في المسيحية، فقد نفخ الله من روحه في مريم، فحملت فولدت عيسى، فكان ذلك آية من آيات الله. وفي ذلك يقول تعالى:
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .
والرواية المسيحية تجري بأن مريم وضعت عيسى، لما أحست قر الشتاء عقب وضعه حملته إلى مزود قريب منها كانت الأبقار تأكل فيه، أرادت بذلك أن يبعث إليه تنفس الأبقار من الدفء ما يقيه قارس البرد في ذلك الفصل القرير. أما رواية القرآن لمولد عيسى فهي:
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا . ترى هل حملت مريم طفلها بعد ذلك إلى مزود الأبقار لينال ما ابتغت له من الدفء؟ ذلك ما لا محل الآن للكلام فيه.
هيرودس يقتل الأطفال
ذكروا أن هيرودس - حاكم فلسطين من قبل روما في ذلك العهد - رأى في منامه رؤيا أفزعته، فطلب إلى أهل العلم بالأحلام أن يفسروا له ما رأى، فذكروا له أن من بين الأطفال الذين ولدوا في الأعوام الخمسة الأخيرة طفلا سيكون له شأن يقض مضجع الإمبراطورية ويسوء أثره فيها. ورأى هيرودس أن الخير في قتل الأطفال الذين ولدوا في هذه الفترة جميعا، وقتلهم ودفنهم في مغارة ببيت لحم. وكان عيسى قد ولد في هذه الفترة، ففرت به مريم إلى غار أقامت به حتى فرغ هيرودس من ارتكاب جريمته وقتل من قتل من الأطفال، ثم إنها تحملت بابنها ممتطية حمارا وسارت به ومعها يوسف النجار حتى بلغت مصر، وهناك أقامت ثلاث سنوات في رواية، واثنتي عشرة سنة في رواية أخرى، ثم عادوا بعد ذلك إلى مسقط رأسه ومقر آبائها وأهلها بفلسطين.
أين ولد عيسى؟
أين ولد عيسى؟ المقرر أنه ولد ببيت لحم، على مقربة من بيت المقدس، وسترى خلال هذا الحديث تحديد المكان الذي ولد فيه، لكن قوما يذهبون إلى أنه ولد بالناصرة، ويستدلون على ذلك بنسبته إليها. أليس هو عيسى الناصري؟ لكن أصحاب الرأي المقرر لا يترددون في القول بأن تسميته عيسى الناصري لا ترجع إلى مولده بالناصرة، وإنما ترجع إلى مقامه بها، وقيامه بتعاليمه فيها، وإلى ما نسب إليه من المعجزات في بحيرة طبرية التي تقع الناصرة عليها.
ولسنا نأخذ بنصيب في هذا الجدل الذي ثار حول مولد عيسى، كما ثار حول مولد الأنبياء والعظماء في مختلف العصور، وغاية ما نذكره أن المدة التي انقضت بين مولد المسيح - عليه السلام - وبين إقامة الهيكل الذي شاده الإمبراطور قسطنطين تذكارا لهذا المولد، هذه المدة تزيد على ثلاثمائة سنة.
هيكل قسطنطين
والهيكل الذي شاده قسطنطين هو النواة التي شيدت حولها كنيسة المهد على ما نراها اليوم، وكنيسة المهد هي الأثر الذي يذكر مولد السيد المسيح كما تقدم، وعلى مقربة منها تقوم مغارة أطلق عليها اسم مغارة الحليب، يذكرون أنها هي التي أوت إليها مريم، وأقامت بها مع ابنها، بينما كان هيرودس يقتل الأطفال الذين ولدوا في الفترة التي ولد فيها المسيح. وهذه المغارة جديرة بأن نقف بالقارئ وقفة قصيرة عندها، بعد أن نتم حديثنا عن كنيسة المهد.
قدمنا أن هذه الكنيسة أنشئت حول الهيكل الذي أقامه الإمبراطور قسطنطين بعد ثلاثة قرون من مولد السيد المسيح ذكرا لهذا المولد، ولم يكن الموضع الذي أقيمت به خلاء يوم أقام قسطنطين الهيكل، بل كان به معبد لادونيس - أقيم في عهد الإمبراطور هادريان - فأمر به قسطنطين فهدم، وقام الهيكل المسيحي مكانه. وسنرى حين الكلام عن كنيسة القيامة التي أقامها قسطنطين كذلك أنها قامت على أطلال معبد أقامه هادريان ببيت المقدس لعبادة الزهرة، أمصادفة هذه؟ أم هي دليل على أن هادريان كان يتعقب آثار المسيحية ويقيم فيها المعابد الوثنية، ليعفي على الدين الجديد قبل أن يستفحل أمره؟
كان الهيكل الذي أقامه قسطنطين جميلا، ولكنه لم يكن فسيح الجنبات، فلما آل أمر الإمبراطورية إلى جوستنيان، أقام مكان الهيكل معبدا أفسح رقعة وأكثر بهاء. ولما انشعبت المسيحية إلى شعبها المختلفة، بدأت كل شعبة تبني في هذا المكان المقدس، وحول الكنيسة الأولى، ما طاب لها البناء. ومباني طوائف الروم واللاتين والسريان ما تزال قائمة إلى اليوم، وما يزال لاختلاف هذه الطوائف أثره في شعائر كنيسة المهد.
مغارات الكنيسة
وكنيسة المهد اليوم فسيحة الجنبات مترامية الأطراف، وأفنيتها تقوم فوق مغارات كثيرة، يروي لك الموكلون بها شيئا كثيرا من القصص المنسوب لها. فواحدة من هذه المغارات يطلق عليها اسم مغارة الأطفال، وتذكر قصتها أنها المغارة التي دفن هيرودس فيها من أمر بقتلهم من الأطفال تفسيرا للحلم الذي أسلفنا أنه رآه. ومغارة أخرى بها صورة زيتية لقديس قيل إنه القديس جيروم الذي قضى بهذه المغارة ثلاثا وعشرين سنة يترجم الإنجيل. وبين هاتين المغارتين وحولهما مغارات أخرى زينت كل واحدة منها بصورة زيتية تمثل المشهد الذي تخلد المغارة ذكره.
تقع مغارة المهد على مقربة من مغارة الأطفال، ومغارة المهد قبو ضيق يهبط إليه الإنسان على درج نقر في الصخر، وهذا الدرج يصل بين المغارة وبين مذبح كنيسة المهد وهيكلها، وقد نقرت في الصخر إلى جانب هذا القبو فجوة ترتفع إلى قامة الإنسان وضعت فيها صورة العذراء، وثبتت في مكان منها نجمة من الفضة تحدد المكان الذي قررت الطوائف المسيحية أنه مكان مولد المسيح، وهو لذلك مكان مبارك عند الطوائف كلها. وكثيرا ما كانت بركته سبب منازعات دامية بين الطوائف المختلفة، ابتغاء الاستئثار بهذه البركة.
المزود
يقابل نجمة الميلاد حوض من الحجر موضوع في الأرض، يذكرون أنه المزود الذي كانت الأبقار تأكل فيه، حين وضعت مريم طفلها ثم نقلته إلى المزود اتقاء البرد القارس. ولا أظن أحدا يذهب إلى أن هذا الحوض من الحجر، هو المزود الذي وضع المسيح فيه بالفعل؛ فقد رأيت أن أول صورة لكنيسة المهد لم تكن إلا بعد ثلاثة قرون من وفاة السيد المسيح، وأن معبدا أقامه أدونيس في هذا المكان، قبل بناء الكنيسة المسيحية لأول مرة.
وهذا الحوض من الحجر الذي يمثل المزود، ينحدر دون نجمة الميلاد قرابة مترين، ويبعد عنها نحو ثلاثة أمتار. أفيكون هذا لأن مريم كانت فوق أكمة ساعة الوضع، وأن الأبقار ومزودها كانت في سفح هذه الأكمة؟ أم أن مريم كانت في مغارة هي محرابها الذي أشار إليه القرآن، وأن الأبقار كانت في بطن من الجبل دون المغارة؟ هنا يجب أن أقول: الله أعلم!
فجوتان عجيبتان
ليست كثرة المغارات في هذا الموضع مثارا لعجب، فهو جبل منبسط السطح، يرتفع ثمانمائة متر فوق سطح البحر، وتقوم بيت لحم على سطحه، ولعل مغاراته الكثيرة تفسر لنا أمرا يحار الإنسان أول الأمر في تفسيره، فأنت إذ تدخل من باب الكنيسة إلى البهو الذي يفصل بين الباب ومذبح الكنيسة وهيكلها، ترى في أرض البهو بابين يستوقفان نظرك، فإذا فتح أي من هذين البابين ألفيته يغطي فجوة أشبه شيء بالمغارة أو الجب، فإذا أضيئت هذه الفجوات رأيت أرضها من الفسيفساء المنقوشة نقشا بديعا يمثل الفاكهة والنبات والطير وما إليها.
وقد كشف هاتين الفجوتين - منذ أمد بعيد - مهندس فرنسي كان يقوم بترميم بعض الأجزاء في أعلى الكنيسة، ويظهر أنه كان قد وقع في قراءاته على ما هداه إلى أن هذه الكنيسة تقوم فوق آثار كنيسة سبقتها، كما هداه إلى موضع هذه الفسيفساء. وقد حفر في هذين المكانين اللذين تقوم الأبواب فوقهما فصدق ظنه، ولم يحفر في غيرهما لأن قراءاته دلته على أن ليس في غيرهما ما يهدي الحفر إليه.
قلت إن الفجوتين تقعان في البهو، بين باب الكنيسة ومذبحها وهيكلها. والمذبح والمعبد لكنيسة المهد آية في الإبداع والروعة الفنية، فضلا عن قيمتهما لما يحتويان عليه من تماثيل وآنية من الذهب أهداها المؤمنون الذين بسط الله لهم في الرزق طلبا للمثوبة، وابتغاء المزيد من سعة الرزق.
باب الكنيسة
أما باب هذه الكنيسة، فأمره عجب، لقد ألف الناس في أبواب الكنائس بهاء وعظمة وجلالا، وألفوا فيها دقة في الفن توازي سائر أجزاء الكنيسة أو تزيد عليها. وكنيسة المهد من أفخم الكنائس وأفسحها رقعة وأكثرها مهابة، أما بابها فأعجوبة من الأعاجيب، فهذا الباب أدنى لأن يكون فجوة ضيقة لا يمكن أن تكون بابا لمعبد من المعابد بالغا ما بلغ صغره، وأنت حين ترى هذا الباب لا يذهب بك الظن إلى أنه أكثر من مدخل لصومعة راهب من الرهبان نذر الرواقية والتقشف. وكيف يزيد على ذلك، وهو دون قامة الإنسان ارتفاعا، ولا يمكن لأكثر من رجل واحد أن يدخل منه حانيا رأسه؟!
وإنما دعا لبناء الباب بهذا الضيق، ما ذكرنا من أن طوائف الروم واللاتين والسريان قد اشتركت على الأجيال في بناء هذه الكنيسة والمنازل المحيطة بها، وأن بين هذه الطوائف من الخلاف ما تخشى مغبته إذا ثار، فلكل طائفة من هذه الطوائف حقوق في الكنيسة، إذا اعتدت طائفة أخرى عليها كانت الثورة الدامية؛ لذلك تحرص الحكومة على ألا تدع لأسباب الخلاف أن تثور، وعلى ألا يدخل الكنيسة إلا من تريده أن يدخل.
صورتان من الخلاف الطائفي
ولتتبين لك صورة من هذا الخلاف، أعود بك إلى ذكر نجمة الميلاد، فهذه النجمة كثيرا ما كانت تنزع من مكانها حين كانت تتقرب طائفة بنجمة أخرى مصنوعة من الذهب أو مرصعة بالماس، وعند ذلك كانت الطوائف تختلف على ملكية النجمة؛ لذا وضعت السلطات هذه النجمة من الفضة حتى لا تدعي طائفة ملكيتها.
وصورة أخرى لخلاف الطوائف، بساط ممدود إلى جانب أول عماد من عمد الكنيسة، قائم إلى يسارك بعد دخولك من بابها الضيق، هذا البساط لا يستطيع أحد تقديمه أو تأخيره عن المكان الذي هو به، أو تلتحم الطوائف التحاما داميا، فلكل طائفة موضع من البساط أو حوله، إن تقدمت أو تأخرت عنه مست حقا لطائفة أخرى. وتنظيف البساط وكنس ما حوله مقررة فيه حقوق الطوائف، كالبساط نفسه، فلا يجوز لطائفة أن تكنس التراب من موضع ليس لها، أو تتهم بأنها تسعى إلى حق تغصبه غيرها. وتحافظ الحكومات على حقوق الطوائف محافظة دقيقة، مخافة ما يجره التفريط فيها أو الاعتداء عليها من نتائج وخيمة العاقبة.
مغارة الحليب
تقع مغارة الحليب قريبة من كنيسة المهد، وهي أكثر سعة من المغارات القائمة تحت الكنيسة المذكورة. وتختلف المغارة في تنسيقها الحالي عن سائر مغارات الكنيسة، وإن تشابهت جميعا في طبيعتها، ففي أول مغارة الحليب - بعد المدخل - تمثال صغير للعذراء والمسيح ممتطيين حمارا يسير بهما إلى مصر، ويسير إلى جانبه رجل لعله يوسف النجار، وينحدر الإنسان إلى كنيسة صغيرة يخال أنها منقورة في الصخر، وإن هبط إليها ضوء النهار من أعلاها، وإلى جانب الكنيسة الأيمن صورة كبيرة للعذراء. وهذه الآثار كلها تضيئها الكهرباء مختلف ألوانها، فتلقي عليها بهاء لا مثيل له في مغارات الكنيسة الكبرى.
ليس لمغارة الحليب من القدسية ما لكنيسة المهد بطبيعة الحال، وليس في كنيسة المهد مكان أكثر قدسية من مكان المهد نفسه، وليس يزيد على كنيسة المهد في القدسية غير كنيسة القيامة ببيت المقدس. (2) كنيسة القيامة
أشرنا إلى معجزة الله في مولد عيسى، وكنيسة المهد تقوم ببيت لحم ذكرا لهذا المولد ولهذه المعجزة، أما كنيسة القيامة، فإنها تقوم ذكرا للرواية المسيحية عن صلب المسيح وصعدوه إلى السماء، وقصة الصلب والصعود معجزة - هي الأخرى - جديرة بالذكر، وبأن يقام لها هذا الأثر الفخم الذي يحج إليه المسيحيون من أقطار الأرض جميعها، والذي كان مثارا للحروب الصليبية التي امتدت على القرون.
والإسلام والمسيحية يختلفان في صلب المسيح، وإن أمكن التوفيق بينهما في قصة الصعود، وليس يرجع الخلاف على قصة الصلب إلى خلاف على مقدماتها وما سبقها، ولا إلى خلاف على واقعتها، بل يرجع إلى وقوع الصلب على شخص المسيح نفسه. أما الصعود، فقد ورد ذكره في القرآن في غير موضع، إذ يقول تعالى يخاطب المسيح:
إني متوفيك ورافعك إلي
ويقول:
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما .
قصة الصلب
لا يقع الخلاف في قصة الصلب على مقدماتها، فالمسيح كلمة الله ورسوله، عند المسلمين وعند المسيحيين، أرسله الله إلى قومه بفلسطين حين حكمتهم روما حكم بطش واستبداد، وحين فرقت كلمتهم، وجعلت للأغنياء وذوي المكانة سلطانا على الفقراء وعلى الشعب يسومونه سوء العذاب. ولم يكن شعب فلسطين يومئذ قد استسلم إلى المذلة ورضي حكم الرومان، بل كانت أسباب الثورة تضطرب بها أحشاء البلاد كلها، وكان الناس هناك يؤمنون بأنهم سيتحررون من نير روما، بل سيحكمون العالم بدورهم عما قريب.
فلما قام المسيح بينهم وجعل يذيع تعاليمه فيهم، بدأت السلطات تخاف أثره، وبدأ الأغنياء وذوو المكانة ورجال الدين من اليهود يناوئونه، على أن سخطهم عليه وثورتهم به لم يبلغا ذروتهما حتى جاء بيت المقدس. أما حين كان يلقي تعاليمه على أتباعه متنقلا من الناصرة إلى الجليل إلى غيرهما من البلاد، فيتناقلها الناس ويذيعون بينهم معجزاته، فقد كان البرم به محصورا في دائرة ضيقة، فلما دخل بيت المقدس بعد أن ذاعت في الناس معجزاته وتعاليمه، خشي اليهود مغبة ما يصيبهم إذا استفحل أمره، وزينوا للحاكم من قبل روما ما جعله يعتقد أن المسيح يضلل الناس بما يزعم من إحياء الموتى وإبراء المرضى وإعادة الصواب إلى ذي الجنة، وجيء بعيسى، وحوكم فحكم عليه بالموت. وكانت عقوبة الإعدام تنفذ بالصلب في مصر وروما وفلسطين، وغيرها من البلاد المجاورة لها، وصلب عيسى، ودقت المسامير إلى يديه وساقيه، فسال دمه، فافتدى به خطايا الخلق. فلما مات ورفع من فوق الصليب أودع قبرا هو الذي تقوم كنيسة القيامة اليوم ذكرا له. وبعد ثلاثة أيام من دفنه عاد إلى أصحابه حيا، فأمرهم أن يتفرقوا في الأرض فيذيعوا في الناس تعاليمه. وتفرق الحواريون، واتبعهم من اتبعهم، وظلوا يسامون في روما وفي غير روما ألوان العذاب، حتى لان قلب العاهل الروماني قسطنطين إلى المسيحية فاعتنقها، وكان أول من أمر ببناء كنيسة المهد وكنيسة القيامة.
هذه إلمامة سريعة عن صلب المسيح، كما يصور في الأناجيل وفي التواريخ المسيحية. أما الروايات الإسلامية، فتنفي أنه صلب وإن لم تنف ما سبق الصلب، وهي تنفي الصلب بقوله تعالى:
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما .
ويقول المؤرخون المسلمون إن اليهود ضاقوا ذرعا بالمسيح، فشكوه إلى الحاكم الروماني، فأمر بالقبض عليه، فلم يعثر به الباحثون عنه، وإنما عثروا برجل يشبهه، فساقوه إلى المحاكمة مربوطا في حبل، وجعل اليهود يقولون له: «إن كنت تحيي الموتى أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل؟» ثم يوجهون إليه ألوان الأذى والإساءة، فلما صلب ومات استوهبه يوسف النجار من الحاكم الروماني فيلاخوس ودفنه في قبر كان يوسف أعده لنفسه.
ليس المقام هنا مقام تفصيل لصعود عيسى، أكان بجسده أم بروحه، وما وقع على ذلك من خلاف، فنحن إنما سقنا ما تقدم تمهيدا للحديث عن كنيسة القيامة التي أقيمت ذكرا لدفن عيسى في القبر الذي رفع منه إلى الله بعد أن توفاه.
هيكل لادونيس
سبقنا إلى القول - حين حديثنا عن كنيسة المهد ببيت لحم - إن قسطنطين بنى المعبد الأول لذكر الميلاد ببيت لحم بعد وفاة عيسى بثلاثمائة سنة، وإنه بنى هذا المعبد في المكان الذي كان يقوم فيه هيكل لادونيس بناه هادريان، ومثل ما حدث ببيت لحم لكنيسة المهد حدث ببيت المقدس لكنيسة القيامة؛ فقد بنى هادريان عدة مساجد وثنية أثناء حكمه، ومن بين هذه المعابد معبد لأفروديت أو الزهرة ببيت المقدس، وكان بناء هذا المعبد الوثني في سنة 135 ميلادية، فلما تولى قسطنطين إمبراطورية روما ، واعتنق المسيحية بعد ست سنوات من إمبراطوريته، شن حروبا عدة حالفه النصر فيها، وكان يعتقد أن الصليب سبب انتصاره؛ ولذلك عول أن يبحث عن مكان صلب المسيح وعن مكان مولده، واهتدى الباحثون إلى أن مكان المولد كان حيث يقوم هيكل لادونيس، وأن مكان الصلب كان حيث يقوم هيكل أفروديت. أترانا نستنتج من هذا أن هادريان عرف مكان مولد المسيح ومكان صلبه ودفنه، فأقام فيهما هذين الهيكلين ليعفي على آثار المسيحية الناشئة، أم أن الأمر يرجع إلى محض المصادفة؟ يقول الباحثون إنه محال القطع في هذا الأمر برأي يستند إلى سند علمي.
مكان الصلب والدفن
قرر الإمبراطور قسطنطين أن يقيم كنيسة حيث صلب المسيح، ومن حيث صعد إلى السماء، فعهد بالبحث عن مكان الصلب والدفن والصعود إلى القس مكاريوس. وقرر هذا القس أن المكان الذي كلف بالبحث عنه يوجد تحت الهيكل الذي أقامه هادريان للزهرة. وأمر الإمبراطور فهدم الهيكل، فوجد قبرا منقورا في الصخر، وعلى مقربة من هذا القبر إلى ناحية الشرق وجدت صلبان ثلاثة لوحظ أن أحدها يشفي المرضى، فلم يبق شك في أنه هو الذي صلب عليه المسيح، وأن القبر المنحوت في الصخر هو الذي دفن فيه بعد صلبه. وأبلغ هذا الاكتشاف إلى الإمبراطور قسطنطين، فأمر مكاريوس أن يقيم عمائر فخمة في هذا المكان المقدس.
نقف هنيهة قبل الكلام عن عمارة كنيسة القيامة من ذلك العهد، فنذكر أن كثيرين أبدوا الريبة في صحة هذا الاكتشاف الذي أعلنه مكاريوس إلى الإمبراطور، وأن كتبا وبحوثا نشرت للتدليل على هذا الرأي، وليس في إبداء هذا الرأي ولا في نشر تلك البحوث عجب، وقد نشر مثلها في أمر كثير من الأماكن المقدسة في أديان مختلفة، ونشر مثلها في أمر كثيرين من العظماء، ومن يذكر التاريخ أنهم وجهوا العالم في عصرهم وجهة جديدة. فإذا ذكرنا أن مكاريوس بدأ بحثه عن مكان الصلب ومكان الصعود بعد وفاة المسيح بثلاثة قرون، وأن الحرص على تحديد هذين المكانين كالحرص على تحديد مكان مولده عليه السلام، كان أقوى في نفسه من الحرص على الأسانيد العلمية في البحث، التمسنا له ولأمثاله من العذر حسن نيتهم من ناحية، وشدة توقهم لقيام معبد يذكر الناس بهذه الأحداث الجليلة في حياة العالم الروحية من الناحية الأخرى.
أبلغ مكاريوس اكتشافه إلى الإمبراطور قسطنطين، فأمره الإمبراطور أن يقيم عمائر فخمة ذكرا لصلب المسيح وصعوده، وشيدت يومئذ كنيستان: إحداهما فوق القبر، والأخرى حيث وجدت الصلبان الثلاثة، وكانت هذه الثانية أكبر وأفخم. وبين الكنيستين قام مرتفع قيل إنه مرتفع الجلجنة، وسويت الأرض المحيطة بالكنيستين وأحيطت بالأبواب والعمد.
وكانت كنيسة القبر - كما بنيت في ذلك العهد - مستديرة قامت فوقها قبة جميلة. أما كنيسة الفداء أو كنيسة الصلب، فكانت مستطيلة شيدت فوقها قبة هي الأخرى، وأقيم الصليب الذي قيل إن المسيح افتدى عليه خطايا الخلق في المرتفع القائم بين الكنيستين. •••
تم بناء الكنيستين سنة 336 للميلاد، وظلتا قائمتين إلى سنة 614، إذ أصابهما الفرس بتلف جسيم، ونقلوا الصليب الأعظم إلى بلادهم، وذلك حين دخلوا بيت المقدس في حكم كسرى، على أن هذا الحكم لم يطل عهده؛ فقد انتصر هرقل على الفرس في سنة 625، فأصلح عامله على بيت المقدس ما تلف من الكنيستين استعدادا لدخول هرقل المدينة المقدسة ورده الصليب الأعظم إلى مكانه.
ودخل العرب فلسطين في عهد أبي بكر الصديق، ثم فتحوا بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب، فلم يتعرضوا للمعابد المسيحية بأذى، وبقيت كنائس بيت المقدس في عزها وكرامتها.
أفكانت الكنيستان قائمتين حين فتح عمر بيت المقدس، أم أنهما كانتا أدمجتا في كنيسة واحدة؟ ليس من اليسير القطع في الأمر برأي، فمنذ القرن الثامن الميلادي، لم يذكر أحد ممن حجوا بيت المقدس كنيسة الصليب، وإنما كانوا يذكرون جميعا كنيسة القيامة، أترى هدمت كنيسة الصليب قبل الفتح العربي أو بعده بقليل؟ أم أن كنيسة القيامة أصبحت ذات مكانة خاصة أنست الحجيج من المسيحيين الكنيسة الأخرى؟ لست أبدي في الأمر رأيا. •••
وفي أوائل القرن الحادي عشر أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، فهدمت كنيسة القيامة حتى لم يبق منها إلا أطلال، لكن ما أصاب الكنيسة المسيحية المقدسة من هذا الشر لم يدم طويلا، فقد استولى الصليبيون على بيت المقدس في أواخر ذلك القرن الحادي عشر، وأعادوا بناء الكنيسة على نحو من الفخامة ووسعوا رقعتها، ثم جعل المسيحيون من بعدهم يضيفون إليها على الأجيال، حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم من فسحة وفخامة وجلال.
أكثر المواضع قدسية في كنيسة القيامة موضع القبر الذي دفن فيه السيد المسيح بين وفاته وصعوده، وهو يقع إلى يسار الداخل إلى الكنيسة، بعد خطوات من بابها. وقد بولغ في تجميل عمارته وفي تزيينه وترصيعه مبالغة تدعونا لنذكر بساطة المسيح في حياته، ولنعجب كيف تؤدي هذه البساطة إلى كل تلك الزينة، وإلى هذا التأنق الفني في نحت القبر من أبدع الرخام، وفي إضاءته على نحو لم يدر بخاطر صاحب القبر، ولا بخاطر أحد من حوارييه! ولكن فيم العجب وليست كنيسة القديس بطرس بروما دون كنيسة القيامة جلالا وبهاء وروعة؟ وفيم العجب والمسجد النبوي بالمدينة لا يتفق جمال عمارته في شيء مع بساطته يوم شاده النبي من اللبن، وجعل سقفه وعمده من جذوع النخل؟! •••
وكنيسة القيامة - فيما وراء قبر السيد المسيح - مضرب للمثل في الفخامة والمهابة والجلال، وليست مبالغة المسيحيين في إكبارها وتعظيم عمارتها مما يوجب أية دهشة، ولا يرجع ذلك إلى مكانتها المقدسة من نفوسهم فحسب، بل يرجع كذلك إلى ما احتملوه خلال الحروب الصليبية من تضحيات جسام، جعلتهم يودعون فيها ذكر هذه التضحيات التي بذلت نداء للعقيدة، كما ضحى المسيح بنفسه - في اعتقادهم - ليفتدي بدمه خطايا الناس جميعا.
تمتاز كنيسة القيامة على غيرها من الكنائس بأنها لا تقتصر على الفناء والمذبح والهيكل، بل لقد أقيم بجوارها بناء متصل بها يرتفع سطحه عن سطحها. ويذكر بعض القائمين بشئونها أنه أقيم حيث المرتفع الذي صلب عليه السيد المسيح، والذي كان يصلب عليه من حكم عليهم في عهده، وهذه الرواية موضع ريبة في نظر كثيرين من المسيحيين الذين يؤمون بيت المقدس، ويحاولون تحقيق مواضع الأماكن المقدسة فيها تحقيقا علميا، فهؤلاء لا يذهبون مذهب من يرتاب في صحة مكان القبر، ولكنهم يقطعون بأن هذا البناء المرتفع المتصل بالكنيسة، لا يذكر مكان الصلب في كثير ولا في قليل.
وتقع إلى جوار الكنيسة كنيسة أخرى صغيرة حفظت بها بعض آثار تنسب إلى عهد المسيح والحواريين، وباب هذه الكنيسة يفتح إلى الفضاء الواقع أمام باب القيامة. وليس شيء من الآثار المحفوظة بهذه الكنيسة الصغيرة ثابت النسب ثبوتا تاريخيا ذا قيمة، وما يرويه سدنة الكنيسة من ذلك، لا يعدو أن يكون من نوع القصص الذي يرويه سدنة كل معبد، يجذبون به قلوب المؤمنين ممن من الله عليهم بإيمان العجائز، أو بإيمان كإيمانهم. •••
هذان الأثران المسيحيان اللذان ذكرتهما - كنيسة القيامة وكنيسة المهد - هما اللذان يضارعان ما تحدثت عنه من الآثار الإسلامية بالحجاز وفلسطين في فن العمارة، وكما أن بالحجاز أماكن إسلامية لها من القدسية ما يستهوي إليها قلوب المسلمين الذين يؤدون فريضة الحج، فإن بفلسطين وحول بيت المقدس نفسها أماكن لها في قلوب المسيحيين قدسية كبرى.
وحسبي أن أشير من هذه الأماكن المتصلة ببيت المقدس إلى جبل الزيتون وطريق الآلام، على أنني لا أريد الوقوف عند هذه الأماكن المسيحية أو تلك الأماكن الإسلامية؛ لأنني - كما ذكرت من قبل - إنما وقفت عند الأماكن التي نالت - بحكم قدسيتها - من العناية الخاصة ما سنفسره في الفصل الأخير عن الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط، لنستشف منه الدوافع التي حركت الوجدان الإنساني للعناية بتلك الأماكن المقدسة.
لكني أحرص قبل الحديث عن هذه الدوافع على أن أتحدث عن حائط المبكى، فهو المكان المقدس لليهود في أرض المعاد، واليهودية هي أولى الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت بالشرق الأوسط. صحيح أن حائط المبكى لم يعمره اليهود، وما كان لهم أن يعمروه، لكنه يحدث عن معنى له من القدسية في نفوسهم ما للأماكن المقدسة التي تحدثنا عنها في نفوس المسلمين، وفي نفوس النصارى.
الفصل الثالث
مبكى اليهود
(1) مبكى اليهود
ألف الناس من أهل بيت المقدس منظرا تقع عليه أعينهم بعد ظهر الجمعة وصبح السبت من كل أسبوع على مدار السنة، منظر فذ لا مثيل له في العالم كله، هو لذلك مثار طلعة الغريب النازل بيت المقدس حاجا أو سائحا، ففي هذين الموعدين من كل أسبوع تكتظ شوارع المدينة وطرقها بعدد عظيم من الرجال والنساء والأطفال، لبسوا أجمل ثيابهم على اختلاف صورها وألوانها، فمنهم لابس القفطان والقبعة، ومنهم لابس السروال والعمامة السوداء، والنساء في أزيائهن المتباينة قد لبسن أفخر ما عندهن، فقيرات كن أو ثريات، وألبسن أطفالهن أجمل ثيابهم. ويتأبط كل من هؤلاء كتابا من كتب العبادة، ويتوجهون جميعا وجهة واحدة، يتوجهون إلى ناحية حائط المبكى، فأولئك هم اليهود، ذاهبون يبكون.
فإذا اتبعتهم في طرق البلد المقدس بلغت معهم ذلك الحائط الغربي الباقي من الهيكل المقدس، ثم رأيتهم وقفوا جميعا أمامه، يقبل بعضهم أحجاره ويتمسح بعضهم بها تبركا وطلبا للمثوبة. فإذا حان موعد البكاء رأيت ربانيهم وقف على رأسهم يحدوهم ويجيبونه. وقد صور غير واحد من السائحين الذين شهدوا هذا المنظر المثير للشجن صورة هؤلاء الباكين تسيل دموعهم على خدودهم، وتخنق العبرات بعضهم حتى يكاد يغص بها. وذكر هؤلاء السائحون حداء الرباني وجواب شعب إسرائيل، هذا الحداء وهذا الجواب اللذان لم يتغيرا من تسعة عشر قرنا، واللذان لا يزالان يترددان كل أسبوع في أجواء بيت المقدس إلى وقتنا الحاضر.
صورة الحداء
وجدير بنا أن نروي صورة هذا الحداء وهذا الجواب للذين لم يقفوا من بعد عليهما، ليروا صورة من آلام شعب إسرائيل وآماله. وننبه قبل أن نبدأ الرواية إلى أن جواب الشعب لا يزيد في بدء النظر على هذه الكلمات: «نجلس في عزلتنا وننوح»، أما ما سوى هذه العبارة فحداء الرباني، والمنظر يجري كما يأتي:
الرباني :
من أجل القصر الذي هجر.
الشعب :
نجلس في عزلتنا وننوح. - من أجل الجدران التي هدمت. - نجلس في عزلتنا وننوح. - من أجل مجدنا الذي ذهب. - نجلس في عزلتنا وننوح. - من أجل الهيكل الذي صار أطلالا. - نجلس في عزلتنا وننوح. - من أجل عظمائنا الذين ماتوا. - نجلس في عزلتنا وننوح. - من أجل رهباننا الذين قتلوا. - نجلس في عزلتنا وننوح. - من أجل ملوكنا الذين امتهنوا. - نجلس في عزلتنا وننوح.
وقد ينقلب الحداء والجواب، في بعض هذه الاجتماعات، إلى دعاء يتبادله الرباني والشعب على النحو الآتي:
الرباني :
نبتهل إليك أن ترحم صهيون.
الشعب :
وأن تجمع أبناء بيت المقدس في صعيد واحد.
الرباني :
أعجلنا بالخير يا منقذ صهيون.
الشعب :
وتحدث إلى قلب بيت المقدس.
الرباني :
ولتعد مملكة صهيون عما قريب.
الشعب :
رطب قلوب الذين ينوحون على بيت المقدس.
قد يختلف الحداء والجواب، وقد تختلف الأدعية في صورتها عما تقدم، لكنها جميعا تدور حول هذه المعاني، وتعبر عن هذه الآلام والآمال. أليست هي آلام كل يهودي منذ غلبهم الرومان، وأدالوا دولتهم وهدموا هيكلهم، ثم شتتوهم في الأرض، فصاروا لا يعرفون لهم إلى اليوم وطنا ولا مستقرا؟ وهم يحاولون بكل الوسائل، يرجون أن تعود لهم الدولة في أرض المعاد. وهذا النوح، وهذا الدعاء، وهذا الاستغفار، وهذا التوسل للبارئ جل وعلا، بعض تلك الوسائل، وإن كنا لا ندري بأي قدر يتعلق بهذه الوسيلة أملهم في عالمنا الحاضر.
وهذا الحائط الغربي الذي ينوحون عنده لا يزيد عن أنه بقية من جدران الحرم الذي أقامه سليمان لهيكل بيت المقدس، هذا الحرم الذي بنيت كنيسة القيامة فوق جانب منه، وبني المسجد الأقصى فوق جانب آخر، وبنيت قبة الصخرة في المكان الذي كان يقوم قدس الهيكل عليه، هذه البقية الباقية من هيكل سليمان، هي الأثر الذي يحدث شعب إسرائيل عن ذلك المجد الغابر، الأثر المحطم اليوم، والذي كان شامخا رفيع العماد في عهد مضى حين عز اليهودية وعظمة بني إسرائيل. وهذا الأثر هو الذي يريد بنو إسرائيل أن يعيدوا إليه مجده، ويلتمسون لذلك كل الوسائل.
وأنت تستطيع أن تقدر حزن هؤلاء الفاتحين ومبلغ عمقه، حين تذكر المجد الغابر الذي كان لهم، والذلة التي ضربت منذ عشرين قرنا عليهم، فبنو إسرائيل هم سلالة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهم الذين أرسل الله إليهم موسى بكلمة التوحيد، يوم كانت الوثنية هي الدين القائم في الأمم المحيطة بهم . (2) الشعب المختار
كان فرعون يقول لأهل مصر: «أنا ربكم الأعلى» وكان المصريون يرون الطبيعة آلهة، فيخلعون مجالي الألوهية على كل مظاهرها، فالشمس إله، والسماء إله، والأرض إله، والليل إله. وكانت وثنية اليونان ما تزال في بدائيتها، وكانت آلهتها تتطور إلى مظاهر الطبيعة كذلك لتصبح أبولون وفينوس وسكان الأولمب جميعا. وكانت مجوسية الفرس ترى في النار والنور مصدر الحياة، وتخصهما لذلك بالألوهية.
في هذا العالم الوثني الذي لم يتخط الشعور فيه آثار الحس المباشر، سما بنو إسرائيل إلى مراتب التجريد وألهموا سر الوجود، وهداهم خالق الكون إلى وحدانيته وصمدانيته وبذلك كانوا شعبه المختار.
وفي هذا العالم الذي كانت المعابد تقوم فيه، يذكر فيها آمون رع بمصر، ويذكر أبولون باليونان، وتذكر فيها نار المجوس بفارس؛ ذهب إبراهيم موغلا في الصحراء حتى بلغ مكة، فوضع فيها القواعد لأول بيت رفع للناس يذكر فيه اسم الله وحده لا شريك له.
في هذه الفلاة الموحشة أقام إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت بعيدا عن غزو الغزاة وعبث الطامعين، فلما قويت شوكة إسرائيل بعث الله كليمه موسى، فسار بمن كان منهم بمصر إلى وطن إسرائيل بكنعان من أرض فلسطين، داعيا إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما يدعو المصريون واليونان والفرس إليه من عبادة مظاهر الطبيعة، فالطبيعة ومظاهرها ليست إلا بعض ما خلقه الله جل شأنه وتعالت أسماؤه. •••
ولقي موسى وأهله عنتا من فرعون وقومه، وكانت فلسطين خاضعة يومئذ لحكم مصر، فاستقلت من بعد، وتولى أمرها داود، ثم ابنه سليمان، فأقام داود النواة الأولى للهيكل المقدس، وأقام سليمان الهيكل كله في بهائه وفخامته وجلاله، أقيم هذا الهيكل يذكر فيه اسم الله وحده لا شريك له، وأقيم في فخامة تضارع فخامة المعابد المصرية التي تؤله فيها مظاهر الطبيعة. (3) حضارة إسرائيل
وآن لبني إسرائيل أن يقيموا حضارة، وأن يذكروا في الأرض اسم الله وحكمه وشريعته. بذلك أثاروا عليهم ثائرة الفراعنة وثائرة الفرس، وغزا الفراعنة فلسطين، فوجدوا في دين موسى من أثر عباداتهم ما صدهم عن محاربة هذا الدين وعن التعرض لهيكله الأقدس. وغزا الفرس فلسطين من بعد ذلك، فإذا دين إسرائيل ينكر دينهم ويتجافى عنه، لهذا أحرقوا هيكل سليمان وتركوه يبابا.
على أن الهيكل أقيم بعد هذه الغزوات التي قام بها نبوخذ نصر، أقيم بادئ الأمر على صورة دون صورته الأولى جلالا وفخامة، لكن بناءه أعيد حين تولى هيرودس الأول حكم فلسطين باسم روما، وأعيد أفخم مما كان في أبهى عصوره وأكثرها عزا وأسماها مكانة. •••
تقلبت إسرائيل - بحكم هذه الأحداث التي تعاقبت على القرون - بين عزة الجاه العريض، ومضطرب الثورة على الحكام الذين غزوها، والعمل على دفع الغزاة عن أرضهم واستعادة سلطانهم عليها ودولتهم فيها، لكنهم أبوا خلال هذه الأحداث جميعا أن ينشروا بين الناس عقيدتهم، أو يذيعوا كلمة التوحيد في غير شعبهم، حرصا منهم على أن يظلوا شعب الله المختار، أو سموا بفكرتهم على أن يتناولها أولئك الذين يعبدون من دون الله بعض ما خلق الله؛ لذلك ظلت اليهودية مقصورة عليهم لا تتعدى حدودهم، ثم اندس إليها من عوامل الانحلال الروحي ما يترتب حتما على الانحلال الاجتماعي الذي يجره الاستعمار في ذيوله؛ لذلك انصرف شعب إسرائيل عن المعاني الروحية السامية إلى هذه الحياة الدنيا، وإن بقي من أحباره ورهبانه من أقاموا على حكم التوراة، ومن احتفظوا بمميزات هذا الشعب، مميزات المثابرة، ودقة المنطق، وصفاء الذهن. •••
كان انصراف بني إسرائيل عن شرعة التوراة في أسمى معانيها يدعو بعض هؤلاء الأحبار والرهبان ليتوقعوا قيام نبي من قومهم يبعثه الله ليعيد إليهم مجدهم ويرد السلطان لدولتهم. وكانت الإمبراطورية الرومانية إذ ذاك قد عظم أمرها في أوروبا، وآن لها أن تستقر على ضفاف بحر الروم من ناحية الشرق، بعد أن كانت يدها تمتد إليه، ثم تنقبض عنه.
وتم ذلك حين غزا بومبي فلسطين في السنة الثالثة والستين قبل الميلاد، لقد قاومت بيت المقدس وقاومت حصون الهيكل المقدس جيوش الروم مقاومة عنيفة، لكن هذه الجيوش انتهت إلى التغلب عليها، وإقرار حكم الإمبراطورية في ربوعها، على أن الروم لم يتعرضوا يومئذ للهيكل، ولم يحالوا دك قواعده ، بل تركوه قائما واستأمنوا أهله الذين أعلنوا الخضوع والطاعة، ورضوا أن تستقر روما في أرض إسرائيل. (4) السيد المسيح
لم ينقض القرن على غزو بومبي أرض فلسطين، حتى أذن الله للسيد المسيح، فقام يدعو قومه من بني إسرائيل ليعودوا إلى الله وليدخلوا على ملكوته. وكانت دعوته بطبيعتها ثورة على انحراف اليهودية عن شرعة التوراة، كما كانت ثورة على الغزاة الظالمين. وقد لقيت هذه الدعوة مقاومة من بني قومه، ومن الحاكم باسم روما، وبلغت هذه المقاومة شدة العنف حين دخل المسيح بيت المقدس.
لكن الله كان قد أتم يومئذ كلمته على لسان عيسى، وكان قد أعد حوارييه ليذيعوا هذه الكلمة في الأرض، لا يحتفظون بها لأنفسهم كما فعل أسلافهم من قبل. فلما توفى الله عيسى ورفعه إليه، خيل لقومه من بني إسرائيل أنهم قد آن لهم أن يطمئنوا إلى عقائدهم، لكن بذور الثورة التي بثتها كلمة عيسى في الناس دفعت بني إسرائيل أنفسهم لينتقضوا على حكم روما وليثوروا بها. •••
وبلغ الانتقاض أوجه بعد أربعين سنة من وفاة عيسى، عند ذلك ذهب تيطس فسبازيان من روما إلى فلسطين، وأقسم ليخضعن بني إسرائيل وليضربنهم بيد من حديد. وقاومت فلسطين جيوشه مقاومة عنيفة، يقول جوريفومل مؤرخ ذلك العصر، وكان يعيش فيه: «الآن ولم يبق أمل في الخلاص، فذلك أوان القتال حتى الموت، فمن الشجاعة أن يقدم الإنسان المجد على الحياة، وأن ينهض إلى عمل نبيل تذكره الأجيال من بعده.»
قال المؤرخ هذه الكلمة البالغة في سموها يوم كان أنين شعب إسرائيل، لمظالم الرومان وقسوتهم، قد بلغ غاية مداه، لكن جيوش روما التي ألفت الظفر لم تصدها المقاومة، بل سارت من مدينة إلى مدينة تقتل الناس وتحرق البلاد وتشيع في الأرض الفساد، فلم يكن لصدها سبيل. وحاصر الروم بيت المقدس، فقاومتهم وطالت مقاومتها حتى تفشى بين أهلها المرض بسبب الجوع، ثم أسلمت مفاتيحها إلى الفاتحين. (5) هدم الهيكل
دخلت جيوش روما بيت المقدس، فهدمت الهيكل وأعملت السيف في رقاب أهلها، وأسرت من بني إسرائيل كل من لم يمت وأجلتهم عن المدينة، بل أجلتهم عن فلسطين كلها، فتشتتوا في البلاد المجاورة.
ذهب منهم من ذهب إلى العراق، وانحدر منهم من انحدر إلى شبه جزيرة العرب، وعاد منهم من عاد إلى مصر، وانحل عنهم ذلك السلطان الذي كانوا يعتزون به، وأصبحوا لا يعرفون لهم وطنا ولا مستقرا. •••
أجلاهم المسلمون عن شبه جزيرة العرب في العهد الأول للدين الحنيف، بعد منازعات وحروب بين هؤلاء وأولئك، ونظر إليهم المسيحيون في مختلف بقاع الأرض نظرة متأثرة بما كان بين اليهود والمسيح، مما انتهى إلى قصة الصلب في كتب المسيحية المقدسة. وأبى عليهم الناس جميعا أن يستقروا في بقعة من الأرض تكون وطنا لهم، ذلك شأنهم منذ ألف وتسعمائة سنة، وذلك شأنهم إلى يومنا الحاضر، وبنو إسرائيل خلال هذه المحن لا يزال حنينهم إلى أرض المعاد كحنين أجدادهم الأولين، ولا يزال رجاؤهم متصلا في أن تعود إليهم دولتهم، وأن يكونوا في الأرض الحاكمين.
من أجل هذا الذي أصابهم يبكي اليهود وينوحون، ومن أجله يذهب المقيمون منهم ببيت المقدس بعد الظهر من يوم الجمعة أو صبح السبت كل أسبوع على مدار السنة، حتى إذا بلغوا بقية جدار الهيكل وقف ربانيهم على رأسهم يذكر ما أصابهم من هدم هيكلهم وقتل رهبانهم وذهاب ملكهم، فتسيل لذلك دموعهم، ويهوي الحزن بقلوبهم إلى قرار سحيق، ثم يضرعون إلى الله أن تعود دولتهم ليكونوا في الأرض الحاكمين.
1
هوامش
الفصل الرابع
الأماكن المقدسة لماذا لم تحتفظ ببساطتها
(1) بساطة الأماكن المقدسة
سبق أن أشرت إلى أن الفكرة التي أوحت بإقامة الأماكن المقدسة تستمد وجودها من الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت بهذا الشرق الأوسط: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وأن مصدر هذه الفكرة هو الالتجاء الروحي إلى مكان بذاته، يعتبر في نظر الذين يحجونه موئلا لأرواحهم، وملاذا لقلوبهم المتعطشة إلى التطهر، ترجوه حيثما تكون من بقاع الأرض، ثم لا تطمئن إلى أنها أدركت حظها منه حتى تحج هذا المكان.
فإذا أتم هؤلاء حجهم آمنوا بأن الله قبل توبتهم، وحط عنهم أوزارهم وذنوبهم ، لقاء ما توجهوا إليه منيبين مخلصين، وما سعت نفوسهم حين الحج إلى ذرى المعاني الروحية.
والواقع أن الصادقين في حجهم، من أهل هذه الأديان، يخالج وجدانهم حين الحج شعور فياض بمعان تسمو كل السمو على ما ألفوا فيما سبق من حياتهم.
هذه المعاني تختلف باختلاف منازع الناس، ومبلغ ثقافتهم، وألوان تفكيرهم، تختلف عند الرجل الساذج عنها عند الرجل الذي ألف التفكير، ثم شعر كما شعر ذلك الساذج، بمكان الحج يدعوه إليه ليطهر عنده، لكنها عند الرجلين سمو بالنفس إلى ما فوق نفسها، وحرص على الاتصال بالملأ الأعلى من ملكوت الله، ورجاء في وجهه الأكرم أن ييسر هذا الاتصال، لنكون في غدنا خيرا مما كنا في أمسنا، فنبلغ بذلك مكان النفس المطمئنة، ترجع إلى ربها راضية مرضية، تدخل في عباده وتدخل جنته.
وقد رأينا كيف كانت هذه الأماكن أول أمرها بسيطة كل البساطة، وكيف تطور أمرها على تعاقب القرون، فبلغت من الفخامة والمهابة والجلال أعظم مبلغ.
وهذه ظاهرة نراها في الأماكن المقدسة في أنحاء الأرض جميعا، بل نراها ظاهرة في أماكن العبادة كلها في الأديان المختلفة، تبدأ هذه الأماكن بسيطة، ثم تتدرج شيئا فشيئا إلى الفخامة، وذلك أمرها بنوع خاص حين تقام ذكرا لأمر تاريخي جسيم الخطر.
ما سبب هذا؟
لم لا يحتفظ الناس لهذه الأماكن المقدسة ببساطتها الأولى لينعموا بما للبساطة من روعة ومهابة؟
السبب واضح، فالفكرة التي أقامت هذه الأماكن فكرة خالدة، ولذلك تبقى جديدة أمام كل جيل جديد.
طبيعي أن يلتمس الناس لذكر الفكرة الخالدة مظهرا يبقى على الدهر أطول زمن، يستطيع الإنسان أن يضمن بقاءه عليه.
هذا هو السر في تشييد المصريين القدماء الأهرام والمعابد التي لا تزال باقية تشهدها أعيننا رغم مر السنين وكر القرون، إنهم شادوها رمزا لمعان باقية، فيجب أن يكون لها من حظ البقاء ما لهذه المعاني.
وقد بقيت آثار القدماء المصريين عمرا أطول من عمر المعاني التي قامت تخلدها، فحق أن تبقى الأماكن المقدسة عمرا يوازي عمر هذه المعاني الجليلة التي شادتها ، والتي لا يجيء عليها الزمان.
فإذا عجز الإنسان عن أن يقيم هذه الأماكن للخلود، فليقمها لتعمر على القرون ما استطاع علمه وفنه أن يحفظها خالدة على القرون.
ترى لو أن مسجد النبي العربي بالمدينة بقيت عمارته كما شاده عليه السلام، أفكان مقدرا له أن يبقى على وجه الزمان، أم أنه كان يعرض لأعاصير الحدثان مما شهدته الأيام وما لا تزال تشهده أعيننا؟
لذلك قوى عثمان بن عفان عمارته كما رأينا، وإن لم يفكر في زينته كما فكر عبد الملك بن مروان، وكما فكر المسلمون على القرون التي تعاقبت من بعده.
وما يقال عن مسجد النبي بالمدينة يصدق على غيره من الأماكن التي شيدت لتخلد فكرة عظيمة، بدأت كلها بسيطة بساطة الفكرة التي دعت إلى إقامتها. وأكثر الأفكار قوة أكثرها وضوحا وأكثرها لذلك بساطة؛ لذلك تنغرس في نفوس الناس وتستولي عليهم، فيزدادون شعورا بقوتها، فيزيدهم ذلك حرصا على تقوية الأثر الذي يذكرها.
ولما كانت الفكرة تتصل دائما برجل ألهمها أو أوحي إليه بها، فذكر هذا الرجل يتصل بذكر الفكرة العظيمة التي تنسب إليه، من ثم تقام للعظيم آثار كالآثار التي تقام لفكرته.
أشرنا إلى مسجد النبي العربي، هذا المسجد الذي أقامه النبي بسيطا، فجعله المسلمون من بعده مثال المتانة والجلال والجمال.
كذلك الشأن في كنيسة المهد، وكنيسة القيامة، هما يقومان ذكرا للمسيح - عليه السلام - يوم ولد، ويوم توفاه الله ورفعه إليه، وهما لذلك آية في المتانة والروعة.
هذه الآثار التي تقام للعظماء، تضارع الآثار التي تقام تخليدا للفكرة التي جاءوا بها، فبيت الله الحرام بمكة، والمسجد الأقصى ببيت المقدس، يقومان ذكرا لفكرة التوحيد من يوم هدى الله أنبياءه ورسله إليه، وألقى عليهم أن يبلغوا الناس فكرته.
فهذان الأثران المقدسان تضارعهما الآثار التي أقيمت لمن هدوا الإنسانية إلى فكرة التوحيد قوة وجلالا وعظمة.
لا يكتفي الناس بتقوية الأماكن المقدسة لتقاوم الزمان وأحداثه، بل هم يضفون عليها من ألوان البهاء والجمال والجلال غاية ما يهديهم إليه عملهم وفنهم.
لماذا؟
لأن الفكرة العظيمة لها - على بساطتها - من البهاء والجمال والجلال ما يبهر اللب ويأخذ بمجامع القلب. (2) الصورة المادية للمعاني المجردة
بهاء الفكرة معنوي، وجلالها روحي.
وبهاء الأماكن التي تذكرها، وجلال هذه الأماكن وجمالها مادي، فكيف يقاس المادي بالمعنوي؟
لك أن تسأل هذا السؤال، وجوابنا عليه أن من طبيعة الإنسان أن يخلع الصورة المادية على المعاني المجردة؛ لأن الإنسان قلما يدرك المعنى المجرد إلا أن تقوم له في نفسه صورة مادية.
فإذا استطاع المفكرون أن يجردوا المعاني، وأن يدركوها لذاتها، وأن تتمثل أمامهم حقائق لها صورتها الواضحة كوضوح الصورة المادية في نظر سواد الناس، فإن هذا السواد لا سبيل له إلى امتثال الصورة المعنوية أو الروحية إلا أن يقيم لها في أطواء نفسه صورة مادية.
لما فتح رسول الله مكة ودخل الكعبة، ورأى جدرانها صورت عليها الملائكة نساء ذوات جمال، فأنكر هذه الصور لأن الملائكة ليسوا ذكورا ولا إناثا، وليس لهم في النفس التي تدرك المعاني المجردة صورة مادية، لذلك أمر النبي فطمست هذه الصور.
على أن للذين صوروها عذرهم الذي سبق بيانه، فالصورة المجردة لا يمكن أن تثبت في نفس السواد قائمة بذاتها، بل لا بد لها من جسد تستقر فيه لتحيا به في تصورهم كحياة الروح في الجسم.
ولقد رأينا المصورين الأوروبيين في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر يصورون الملائكة على نحو يقرب مما كان على جدران الكعبة، ولا يزال هذا شأن أهل الفن إلى يومنا. ذلك بأن الصورة المجردة لا يمكن أن تثبت أمام حواسنا إلا إذا اتخذت الصورة المادية لباسا لها تستقر عليه الحواس.
ودليل أكثر وضوحا على أن السواد لا يستطيع تمثل الصورة المعنوية إلا في صورة مادية، عبادة الأصنام، فهذه الأصنام كانت تعبد عند العرب، وعند غير العرب، على أنها صورة للإله على ما كان يتصورها أهل تلك العصور.
وليس بين المعاني التي تقوم بالنفس ما يسمو على كل صورة مادية كمعنى الألوهية السامي. مع ذلك عجز السواد في الماضي عن تصور هذا المعنى مجردا من المحسوسات المادية ، فاتخذوا من الفن وسيلتهم إلى تمليق هذا العجز في نفوسهم دون الاعتراف به صراحة وجهرا.
لهذا يضفي الناس على الأماكن المقدسة أروع صور الفن وأبدعها وأجملها.
ولهذا أوحت المعاني الدينية إلى الفن، وألهمت أربابه خير ما خلفوا للإنسانية من تراثهم البارع.
ولقد رأيت الشيء الكثير من هذا الفن حين تحدثنا عن مسجد النبي وقبة الصخرة، وعن كنيسة المهد وكنيسة القيامة.
وأنت ترى منه الشيء الكثير في المساجد والكنائس حيثما ذهبت من أنحاء العالم، ترى فن العمارة بالغا غاية عظمته وجلاله، وترى سائر الفنون متجلية في التماثيل والصور في الكنائس وفي السجاجيد والخط الجميل في المساجد.
ذلك لأن الفكرة العظيمة التي أقامت هذه المعابد الفخمة حركت الوجدان الإنساني للعناية بها عناية تتفق مع جلال هذه الفكرة وعظمتها. (3) نظرة المفكرين للتجسيد المادي
ذكرت أن المفكرين قديرون على تصور الفكرة المجردة لذاتها، وأنها تتمثل لبصائرهم في صورة واضحة كوضوح الصورة المادية في نظر سواد الناس، وهم يسمون بالفكرة عن أن تلبس اللباس المادي سموا كبيرا، بل هم يرون في إلباسها هذا اللباس حدا منها وتضييقا لآفاقها، يصلان في كثير من الأحيان إلى إفسادها.
فكيف يرضون عن النزول بها في الأماكن المقدسة، وفي غير الأماكن المقدسة إلى أن تصور صورة مادية؟
وكيف يسكتون على ذلك ولا يحاربونه؟
ثم كيف يحض الحاكمون وأولو الأمر عليه ويشجعونه؟
لم لا يصنع المفكرون ما صنع النبي العربي حين طمس الصور التي كانت على جدران الكعبة، وحين حطم الأصنام القائمة فيها؟
لا أراني بحاجة إلى القول بأن السمو إلى مقام الرسالة أمر غير ميسور، إلا لمن اختارهم الله لها.
وأزيد على ذلك أن أولي الأمر ليسوا دائما من المفكرين الذين يسمو تفكيرهم إلى مقام التجريد وتمثل الفكرة في حيويتها الذاتية غير كاسية ثوب المادة.
وسيان منهم من سموا إلى هذا المقام ومن لم يسموا إليه، هم جميعا ينظرون إلى أمور الحكم بعين الواقع لا بعين التجريد والبصيرة المطلقة من قيود هذا الواقع.
وهم يقدرون أن الرسول النبي العربي قد عفى على ما وجد بالكعبة من الآثار حتى لا يبقى لعبادة الأصنام في النفوس أثر.
أما وقد بلغ الأمر من ذلك مداه، ولم تبق لهذه العبادة في النفوس باقية، فلتكن معاني الحكم قريبة من متناول إدراك السواد حتى يطمئن الناس إلى هذا الحكم ويرضوا عنه. ومن أسباب الرضا أن تقرب إلى أذهانهم المعاني النفسية في صور مادية؛ ولذا أنفق عبد الملك بن مروان وغيره من الملوك والأمراء وبالغوا في الإنفاق على عمارة الأماكن المقدسة، حتى يصل بها الفن إلى أبهى صور الجمال والجلال.
أما المفكرون، فلا يحاربون هذا التجسيد المادي للمعاني الذهنية والروحية؛ لأنهم يرونه ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية لا غنى للناس عنها، بل لعلهم يرون في هذا التجسيد إبقاء على المعاني السامية في نفوس السواد؛ لأنه لا يستطيع أن يدرك هذه المعاني دون أن تلبس هذا الثوب.
هؤلاء على الأقل هم المفكرون أولو الأفق الفسيح في تصور الحياة وما تنطوي عليه، أما المتزمتون فلا يذهبون مذهبهم.
ألسنا قد ذكرنا ما كان من إنكار بعض المسلمين لعمل عثمان بن عفان حين زاد في رقعة مسجد النبي، وانتقل بعمارته من البساطة التي كان عليها في عهد النبي وفي عهد أبي بكر وعمر إلى بعض الفخامة والزينة؟
ألم نذكر كيف ضج المسلمون حين أدخلت بيوت النبي في مسجده رغم ما كان من إبداع عمر بن عبد العزيز في عمارة الحجرة النبوية وفي زينتها؟
هذا، ثم إن للفن الجميل مقامه السامي عند المفكرين، قبل أن يكون له مثل هذا المقام عند غيرهم. فإذا كانت الفكرة السامية حقيقة جديرة بالخلود، فالفن الذي يخلد هذه الفكرة في نفس الإنسانية جدير بأن يشجع وألا يحارب، وهو إنما يشجع لذاته. فإذا أدت آثاره إلى أن تندس إلى النفوس معان وثنية قامت الفكرة للقضاء عليها كما هو الشأن في الأديان التي قامت في الشرق الأوسط، فإنما تعلن الحرب على هذه المعاني الوثنية لا على الأثر الفني الذي تنسب له.
وهذا ما قام به المفكرون من قبل، وما يقومون به اليوم، وللجهود التي يبذلونها في هذا السبيل أثرها القيم لا ريب، هذا الأثر الذي كفل بقاء فكرة التوحيد في نفوس السواد، لا تطغى عليها الصورة الوثنية طغيانا يهدد كيانها أو يخشى خطره عليها.
صفحه نامشخص