كتاب الإيمان والرد على أهل البدع
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين وعليه أتوكل
الفائدة الأولى:
الكلام في الإسلام والإيمان في مقامات (الأول) فيما دل عليه حديث عمر ﵁ في سؤال جبريل ﵇ للنبي ﷺ بقوله: "أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" ١ ... الحديث "قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" ٢.
فأخبر أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران، فإذا أُفْرِدَ الإيمان -كما في كثير من آيات القرآن- دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة كما دل على ذلك كثير من الآيات والأحاديث، كقوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [سورة النساء آية: ١٣٦] ... الآية.
فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة لدخولها في مسمى الإيمان. وأما الأركان الخمسة فهي جزء مسمى الإيمان، ولا يحصل الإسلام على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث.
وأصول الإيمان المذكورة تتضمن الأعمال الباطنة والظاهرة؛ فإن
_________
١ مسلم: الإيمان (٨)، والترمذي: الإيمان (٢٦١٠)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (٤٩٩٠)، وأبو داود: السنة (٤٦٩٥)، وابن ماجه: المقدمة (٦٣)، وأحمد (١/٥١) .
٢ مسلم: الإيمان (٨)، والترمذي: الإيمان (٢٦١٠)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (٤٩٩٠)، وأبو داود: السنة (٤٦٩٥)، وابن ماجه: المقدمة (٦٣)، وأحمد (١/٥١،١/٥٢) .
1 / 2
الإيمان بالله يقتضي محبته وخشيته وتعظيمه وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه، وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي؛ فدخل هذا كله في الأصول الستة.
ومما يدل على ذلك قوله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [سورة الأنفال آية: ٢] إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [سورة الأنفال آية: ٤] .
فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان كقوله -تعالى-:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [سورة الحجرات آية: ١٥] فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل إيمان.
ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان قوله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ ١ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة. ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة كقوله ﷺ في حديث وفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم" ٢، ففسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، لأنها جزء مسماه كما تقدم.
إذا عرفت أن كلا من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعا، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها من الإسلام، فهو نقص في كمال الإيمان الواجب كما في حديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،
_________
١ سورة البقرة آية: ١٤٣.
٢ البخاري: التوحيد (٧٥٥٦)، ومسلم: الإيمان (١٧)، والترمذي: الإيمان (٢٦١١)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (٥٠٣١)، وأبو داود: الأشربة (٣٦٩٢)، وأحمد (١/٣٦١) .
1 / 3
ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن" ١، وقوله ﷺ: "لا إيمان لمن لا أمانة له" ٢، ونفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه. فالمنفي في هذه الأحاديث كمال الإيمان الواجب فلا يطلق الإيمان على مثل هذه الأعمال إلا مقيدًا بالمعصية أو بالفسوق، فيكون معه من الإيمان بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان على سبيل إطلاق أهل الإيمان كقوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [سورة النساء آية: ٩٢] .
الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان
وأما المؤمن الإيمان المطلق الذي لا يتقيَّد بمعصية ولا بفسوق وبنحو ذلك، فهو الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد، فهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؛ والثاني هو الذي لا يصر صاحبه على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في الفرق بين الإسلام والإيمان، وهو الفرق بين مطلق الإيمان. والإيمان المطلق فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه.
والمرتبة الثانية من مراتب الدين مرتبة أهل الإيمان المطلق الذين كمل إسلامهم وإيمانهم بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب؛ فهذه هي المرتبة الثانية التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار كقوله -تعالى-: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [سورة الحديد آية: ٢١] ... الآية. فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم
_________
١ البخاري: المظالم والغصب (٢٤٧٥)، ومسلم: الإيمان (٥٧)، والترمذي: الإيمان (٢٦٢٥)، والنسائي: قطع السارق (٤٨٧٠،٤٨٧١)، وأبو داود: السنة (٤٦٨٩)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٣٦)، وأحمد (٢/٣١٧،٢/٣٨٦)، والدارمي: الأشربة (٢١٠٦) .
٢ أحمد (٣/١٣٥) .
1 / 4
وتركوا ما حرم الله عليهم، وهم السعداء أهل الجنة. والله ﷾ أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الفائدة الثانية معنى لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله: أن كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله -تعالى- والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها كما قال -تعالى-: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [سورة آل عمران آية: ٦٤] ومعنى ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة، وترك الشرك كله.
وقال الخليل ﵇: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٢٦] فهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة له وحده، وهذا هو معناها الذي دلَّت عليه هذه الآيات، وما في معناها. فمن تحقق ذلك وعلمه، فقد حصل له العلم بها المنافي لما عليه أكثر الناس حتى من ينتسب إلى العلم من الجهل بمعناها.
فإذا عرفت ذلك، فلا بد من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد؛ لأن كثيرا ممن يقولها ويعرف معناها لا يقبلها، كحال مشركي قريش والعرب وأمثالهم، فإنهم عرفوا ما دلت عليه من البراءة، لكن لم يقبلوه؛
1 / 5
فصارت دماؤهم وأموالهم حلال لأهل التوحيد، فإنهم كما قال -تعالى-: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [سورة الصافات آية: ٣٥]، عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله. ولا بد –أيضا- من الإخلاص المنافي للشرك كما قال -تعالى-: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة الزمر آية: ١١] إلى قوله: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ [سورة الزمر آية: ١٤] وفي حديث عتبان: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" ١.
ولا بد أيضا من المحبة المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة إلا بقبول ما دلت عليه من الإخلاص، ونفي الشرك؛ فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا، كما قال -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [سورة البقرة آية: ١٦٥]، فصارت محبتهم لله ولدينه، فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا ما أبغضه الله، وفي الحديث: "وهل الدين إلا الحب والبغض"؛ولهذا وجب أن يكون الرسول ﷺ أحب إلى العبد من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فإن شهادة لا إله إلا الله تستلزم أن محمدا رسول الله، وتقتضي متابعته كما قال -تعالى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [سورة آل عمران آية: ٣١] .
حب الله يستلزم الانقياد لأوامره ونواهيه
ولا بد –أيضا- من الانقياد لحقوق لا إله إلا الله بالعمل بما فرضه الله، وترك ما حرمه، والتزام ذلك وهو ينافي الترك، فإن كثيرا ممن يدعي الدين يستخف بالأمر والنهي ولا يبالي بذلك، وحقيقة الإسلام أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله، ويتأله له بالتوحيد والطاعة كما قال -تعالى-: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [سورة البقرة آية: ١١٢]، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى
_________
١ البخاري: الصلاة (٤٢٥)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٣٣) .
1 / 6
اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [سورة لقمان آية: ٢٢] .
وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله. ولا بد أيضا لقائل هذه الكلمة من اليقين بمعناها المنافي للشك والريب كما في الحديث الصحيح: "مستيقنا بها قلبه غير شاكٍ فيها" ١؛ ومن لم يكن كذلك فإنها لا تنفعه كما دل عليه حديث سؤال الميت في قبره. ولا بد -أيضا- من الصدق المنافي للكذب كما قال -تعالى- عن المنافقين: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة الفتح آية: ١١] . والصادق يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله ويعمل بما يقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، ويصدق قلبه لسانه. فلا تصح هذه الكلمة إلا إذا استجمعت هذه الشروط؛ وبالله التوفيق، آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الفائدة الثالثة النهي عن مفارقة الجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد):
تفهمون أن الجماعة فرض على الإسلام، وعلى من دان بالإسلام كما قال -تعالى-: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [سورة آل عمران آية: ١٠٣] . ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى
_________
١ مسلم: الإيمان (٣١) .
1 / 7
اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ".
وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه ﷺ وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء ردَّ الله بهم إلى الجماعة من خرج عنها، وأقاموا الجهاد في سبيل الله؛ فأظهر الله بهم دينه، وفتح الله لهم الفتوح، وجمع الله عليهم. وتفهمون أن الله –﷾ جمعكم على إمامكم عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل ﵀ فاللي بايع بايع وهم الأكثرون، واللي ما بايع بايعوا لهم كبارهم، واجتمعوا عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحد منهم حتى سعود بن فيصل بايع أخوه. وهو ما صار له مدخال في أمر المسلمين لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحد من المسلمين، ونقض البيعة وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا، واختلاف المسلمين على إمامهم، وسعى في نقض بيعة الإمام، وقد قال -تعالى-: ﴿وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [سورة النحل آية: ٩١] .
وسعود سعى في ثلاثة أمور كلها منكر: نقض البيعة بنفسه، وفارق الجماعة، ودعا الناس إلى نقض بيعة الإسلام؛ فعلى هذا يجب قتاله، وقتال من أعانه، وفي الحديث: "من فارق الجماعة قيد شبر فمات، فميتته جاهلية"١ وفي الحديث الآخر: "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" ٢، فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله لما في الحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" ٣.
_________
١ البخاري: الفتن (٧٠٥٤) والأحكام (٧١٤٣)، ومسلم: الإمارة (١٨٤٩)، وأحمد (١/٢٧٥،١/٢٩٧،١/٣١٠)، والدارمي: السير (٢٥١٩) .
٢ النسائي: قطع السارق (٤٨٧٢) .
٣ البخاري: الإيمان (٣١)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (٢٨٨٨)، والنسائي: تحريم الدم (٤١٢٠،٤١٢١،٤١٢٢،٤١٢٣)، وأبو داود: الفتن والملاحم (٤٢٦٨)، وأحمد (٥/٤١،٥/٤٣،٥/٤٦،٥/٤٨،٥/٥١) .
1 / 8
فظاهر الحديث أن المراد ما يجري بين القبائل من العصبية، أما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين أو طعنة، فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم غير خروج على الإمام، ونقض لبيعة الإسلام، ولا شق عصا المسلمين. وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم ذكروا قتال العصبية وحكمه، وقتال الباغي وحكمه؛ فذكروا أنه يجب على الإمام في قتال العصبية أن يحملهم على الشريعة، وأما البغاة فحكمهم أنهم يقاتلون حتى يفيئوا أو يرجعوا ويدخلوا في جماعة المسلمين. فالفرق ظاهر بين -ولله الحمد-، فاستعينوا بالله على قتال من بغى وطغى وسعى في البلاد بالفساد، وهذا أمر فساده ظاهر ما يخفى على من له عقل، واحتسبوا جهادكم وأجركم على الله، وأنتم سالمون، والسلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، سنة ١٣٣٠ هجرية.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن -أحسن الله إليه-.
الفائدة الرابعة العقود التي وقعت فاسدة وتقابضوا بها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد ورد علينا أسئلة من الأخ جمعان بن ناصر منها:
إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام قد انقضت بالتقابض في أكثرها، فهل يحكم بفساد العقد من أوله ورده؟ أو نقول لا يرد ما تقابضوه من تلك المعاملة الفاسدة؟
1 / 9
فأقول: الجواب يظهر مما قاله شيخ الإسلام ﵀ في آية الربا في قوله -تعالى-: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٥]، فاقتضى أن السالف للقابض، وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما ﴿جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٥] كان مغفرة ذلك الذنب، والعقوبة عليه إلى الله -تعالى-، إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له، وإلا عاقبه. ثم قال: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٨] فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض وقال: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٧٩] إلا أنه يستثنى منها ما قبض. وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافرا بالربا، وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا، فإن ما قبضه يحكم له به كسائر ما قبضه الكفار بالعقود التي يعتقدون حلها.
وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم.
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده، وهو أصح، لأنه إذا كان معتقدا أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية. فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه، فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر الله، إذا كان أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك، فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله.
الجهل بالأحكام
وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شر من الكافر، وقد ذكرنا فيما يتركه من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء؟ قولان، أظهرهما الاقتضاء عليه. وأصل ذلك أن أصل الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب؟ فيه قولان في مذهب
1 / 10
أحمد وغيره، ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل أو صلى وقد أكل لحم الجزور، ثم صلى، وقد تبين له النص هل يعيد؟ على روايتين، وقد نصرت في موضع أنه لا يعيد، وذكرت على ذلك أدلة متعددة، منها:
قصة عمر وعمار لما كانا جنبين فصلى عمار، ولم يصل عمر، ولم يأمره النبي ﷺ بإعادة.
ومنها: المستحاضة التي قالت: منعني الصوم والصلاة.
ومنها الإعرابي المسيء الذي قال: والله ما أحسن غير هذا، أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة لأن وقتها باق وهو مأمور بها، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك.
ومنها الذين أكلوا حتى تبين الحبل الأبيض والأسود ولم يؤمروا بالإعادة. والشريعة أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب، فكذلك النهي. فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ثم علم لم يعاقب. وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ما قبض، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، ولا يكون شرا من الكافر إذا غفر له قبضه لكونه قد تاب، فالمسلم بطريق الأولى. والقرآن يدل على هذا بقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ ١، وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف. انتهى ملخصا من كلامه ﵀، وبه يظهر للسائل تفصيل ما أجمله في السؤال فليتأمل.
العبد كالحر في كفارة الظهار
وسأل –أيضا- عن ظهار المملوك هل هو كالحرام؟
فالجواب: أن العبد كالحر في كفارة الظهار، غير أن العبد لا يكفر إلا بالصوم بناء على المشهور في
_________
١ سورة البقرة آية: ٢٧٥.
1 / 11
مذهبنا وغيره، لأنه لا يملك، قال في "المنتهى": فإن لم يجد صام حرا وقنا شهرين. انتهى.
أكثر مدة الحمل
وسأل عن أكثر مدة الحمل إذا كانت أربع سنين على المشهور في مذهبنا، فهل إذا انقضت أن تتزوج ولو ارتابت أم لا؟
وجوابه: أن العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- قد ذكر في "تحفة الودود" أنه قد وجد لخمس سنين، وأكثر منها إلى سبع، فعليه لا تمكن من التزويج إلا بعد تيقن براءة رحمها، والله أعلم.
وسأل عن حكم الدم المحتقن في جوف الذبيحة.
فالجواب -وبالله التوفيق-: قال في "الإنصاف" وغيره نقلا عن القاضي: أن الدم الذي يبقى في خلال اللحم بعد الذبح وفي العروق مباح، قال الشيخ تقي الدين: لا أعلم خلافا في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرقة بل يؤكل معها، والله أعلم. قالوا: فظاهر كلام القاضي في الخلاف وابن الجوزي أن المحرم هو الدم المسفوح كما دلت الآية الكريمة، قال المفسرون في معنى قوله: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ ١ أي: مهراقا سائلا، قال ابن عباس ﵁ ما يريد ما يخرج من الحيوانات وهي حية، وما يخرج من الأوداج عند الذبح. وممن قال بطهارة بقية الدم وإن ظهرت حمرته المجد في شرحه، والناظم وصاحب الفائق وغيرهم، والله أعلم.
ذبيحة الكافر والمرتد إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها
وسأل عن ذبيحة الكافر والمرتد إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها، فهل هناك نص بتحريمها غير الإجماع؟ ومفهوم قوله -تعالى-: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ ٢ ... الآية.
فالجواب: الإجماع دليل شرعي بالاتفاق، ولا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة، وقد يخفى ذلك الدليل على بعض العلماء. فإذا كان قد وقع الإجماع على تحريم ذبيحة الكافر والمشرك غير الكتابي فحسبك به، ودلت الآية الكريمة على التحريم كما قد عرفتم.
والجواب عن قوله:"وذكر اسم الله عليها" أن يقال: التسمية من الكافر الأصلي
_________
١ سورة الأنعام آية: ١٤٥.
٢ سورة المائدة آية: ٥.
1 / 12
ومن المرتد غير معتبرة لبطلان أعمالهما، فوجودها كعدمها، كما أن التهليل إذا صدر منه حال استمراره على شركه غير معتبر فوجوده كعدمه، وإنما ينفع إذا قاله عالما بمعناه ملتزما لمقتضاه كما قال -تعالى-: ﴿إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ١ قال ابن جرير كغيره: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
عدة المسلمة بعد موت زوجها الكافر
وسأل -أرشدنا الله وإياه- عن زوجة الكافر إذا كانت مسلمة ومات، هل عليها عدة؟ ...إلخ.
أقول -وبالله التوفيق-: إن كان تزوجها في حال كفره، فالنكاح باطل لقوله -تعالى-: ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ ٢، وقوله: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ ٣. وإن كان كفره طارئا على النكاح أو كانا كافرين فأسلمت قبله، فإن كان قبل الدخول انفسخ نكاحها، وإن كان بعد الدخول وقف على انقضاء العدة على الصحيح عند متأخري الأصحاب.
واستدلوا بحديث مالك في إسلام صفوان بن أمية بعد إسلام زوجته بنحو شهر، والحديث مشهور عند أهل العلم قالوا: فإن أسلم الثاني قبل انقضاء العدة فهما على نكاحهما، وإلا تبينا فسخه منذ أسلم الأول، والمرتد كغيره؛ والذي اختاره ابن القيم ﵀ عدم مراعاة زمن العدة، واستدل بأحاديث وآثار، منها ما روى أبو داود -في سننه- عن ابن عباس قال: "ردَّ رسول الله ﷺ زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا بعد ست سنين".
وفي لفظ لأحمد: لم يحدث شهادة ولا صداقا ولم يحدث نكاحا، وقال في حديث عمرو بن شعيب: "أن النبي ﷺ ردَّها على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد" إن الإمام أحمد قال: هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول. وقال الترمذي: في إسناد هذا
_________
١ سورة الزخرف آية: ٨٦.
٢ سورة البقرة آية: ٢٢١.
٣ سورة الممتحنة آية: ١٠.
1 / 13
الحديث مقال، وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منزلتين من رسول الله ﷺ: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. فكان إذا هاجرت امرأة من دار الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه"، وذكر ابن أبي شيبة عن معمر بن سليمان عن معمر عن الزهري: إذا أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما إلا أن يفرِّق بينهما سلطان، قال: ولا يعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي ﷺ يسأل المرأة هل انقضت عدتك أم لا؟
ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لم يكن فرقة رجعية بل بائنة، فلا أثر للعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير، فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكمه ﷺ أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، فإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، ولا نعلم أحدا جدد للإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإلا بقاءها عليه وإن تأخر إسلامها وإسلامه. وقد ردَّ النبي ﷺ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، وبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة.
وأما قوله في الحديث: "كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين" ١ فوهم، إنما أراد بين هجرتها وإسلامه، ولولا إقراره ﷺ الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما على الآخر بعد صلح الحديبية
_________
١ صحيح البخاري: كتاب الصلاة (٤٩٦) وكتاب مواقيت الصلاة (٥٧٦) وكتاب الجمعة (١١٣٤) وكتاب الصوم (١٩٢١) وكتاب الجهاد والسير (٢٨٧٠) وكتاب أحاديث الأنبياء (٣٣٦٥) وكتاب المناقب (٣٨٠٣) وكتاب المغازي (٤٠٨٦) وكتاب تفسير القرآن (٤٨٤٤) وكتاب الرقاق (٦٥١٠) وكتاب الأيمان والنذور (٦٦٤٩) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٣٣٤) وكتاب التوحيد (٧٥٥٥)، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان (١٤١) وكتاب الصلاة (٥٠٨،٥١٠) وكتاب الأيمان (١٦٤٩) وكتاب الجهاد والسير (١٧٨٥) وكتاب فضائل الصحابة (٢٥٤١) وكتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٢٧٧٩) وكتاب التفسير (٣٠٢٧)، وسنن الترمذي: كتاب السير (١٥٨٠) وكتاب تفسير القرآن (٣١٥٥،٣١٦٨)، وسنن النسائي: كتاب المواقيت (٥٨٨،٥٩٧) وكتاب القبلة (٧٥٠) وكتاب قيام الليل وتطوع النهار (١٧٢٨) وكتاب الصيام (٢١٥٦،٢١٥٧) وكتاب مناسك الحج (٢٩١٤)، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة (١٠٨٢) وكتاب الطلاق (٢٢٩٥) وكتاب الجهاد (٢٧٥٩)، وسنن ابن ماجه: كتاب الحدود (٢٥٧٤)، ومسند أحمد (٢/١٢٢،٢/١٣٦،٢/٢٠٦،٣/٦٩،٣/١٠٤،٣/١٣٥،٣/١٧٠،٣/٢٣٤،٣/٢٣٧،٣/٢٦٦،٣/٤٥١،٣/٤٨٥،٤/٩٠،٤/١١٣،٤/٣٢٣،٤/٣٨٥،٥/٢٥،٥/١٥١،٥/١٦٠،٥/١٨٨،٥/٢٢٢،٥/٣٣١،٥/٣٩٠،٥/٤٣٩،٦/٤٣٠)، وموطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (٥٠٢) وكتاب النكاح (١١٥٤)، وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (١٧،٦٤٧) وكتاب الصوم (١٦٩٥) .
1 / 14
وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله -تعالى-: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ ١، وقوله: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ ٢. وإن الإسلام سبب الفرقة، وكل ما كان سببا للفرقة تعقبه الفرقة كالرضاع والخلع والطلاق، وهذا اختيار الخلال وأبي بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم.
قال ابن حزم: وهو قول ابن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال حماد بن زيد والحكم بن عتبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي ابن عدي الكندي والشعبي وغيرهم، (قلت) وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ولكن الذي أنزل عليه قوله: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ ٣ وقوله: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ ٤ لم يحكم بتعجيل الفرقة، وما حكاه ابن حزم عن عمر فما أدري من أين حكاه، والمعروف عنه خلافه، ثم ساق الرواية عن عمر بخلاف ما حكاه ابن حزم، انتهى ملخصا.
وأما إذا مات الزوج قبل انقضاء العدة، فالصحيح من المذهب أنها تستأنف العدة للوفاة ويلغوا ما مضى، وإن كان موته بعد انقضائها فلا عدة؛ والذي يتمشى عليه ما اختاره ابن القيم أنها إن لم يفسخ نكاحها حاكم يطلبها أنها تعتد منه أيضا، والله أعلم.
صرف الزكاة لطالب العلم
وسأل –أيضا- عن قول شارح بلوغ المرام على قوله: "أو غاز في سبيل الله" ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة... إلخ.
أقول -وبالله التوفيق-: لم أقف على شيء من كلام أئمتنا يعضد هذا المأخذ أو يومئ إليه، وغاية ما رأيته ما قد أشرت إليه من قول شيخ الإسلام ابن تيمية ونصه في "الاختيارات": "ومن ليس معه ما يشترى به كتبا يشتغل
_________
١ سورة الممتحنة آية: ١٠.
٢ سورة الممتحنة آية: ١٠.
٣ سورة الممتحنة آية: ١٠.
٤ سورة الممتحنة آية: ١٠.
1 / 15
فيها، يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منه. انتهى كلامه. والله أعلم.
الحلف بالطلاق
قال السائل –أيضا- واستعمال الناس اليوم الحلف بالطلاق عند إلجاء أحدهم إلى الغضب، كقول أحدهم: عليَّ الطلاق لأفعلن.. إلى آخر ما نقل السائل -عافاه الله-.
نقل شيخنا -الشيخ الهمام العلامة ﵀ عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- روايتين في قول القائل: عليَّ الطلاق، أحدهما: تطلق ثلاثا... إلخ.
أقول: هذه الرواية هي المذهب إذا نوى الثلاث، وإن لم ينو ثلاثا فواحدة عملا بالعرف، وكذا قوله: الطلاق لازم لي، أو عليَّ صريح منجزا أو معلقا ومحلوفا به، هذا شرح ما نقله عن شيخنا وهو المعتمد، وأما ما فرق به شيخ الإسلام فقد ذكرته للسائل في جوابنا الذي صدره قبل هذا في مسألة التحريم، وأشرت إلى قوة ما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم -رحمهما الله تعالى-، وحاصله أنهما اختارا أنه يقع بوجود شرطه، إذا أراد الجزاء بتعليقه لا إن أراد الحظر والمنع، وقولهم: إن أراد الجزاء، أي: الطلاق احترازا منه أن يريد حظرًا أو منعا، وهو يكره وقوعه عند شرطه فإنه والحالة هذه عندهما يمين مكفر، والله أعلم.
والذي عليه مشائخنا من أهل التقوى إنما يعتمدون كلام الجمهور في هذه المسألة، فيفتون بإيقاع الطلاق إذا وجد المعلق عليه، وهو الشرط كما عليه الأئمة وجمهور الفقهاء، والله أعلم.
موافقة الجمعة يوم العيد
وسأل عما إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، قالوا: تسقط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام... إلخ.
أقول -وبالله التوفيق-: الذي نص عليه علماؤنا ﵏ أنه إن اتفق
1 / 16
عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا ألاَّ يجتمع له من يصلي الجمعة. وهذا يفهم أن المراد بالإمام هو الذي يتولى الصلاة بهم؛ وهذا الحكم يتعلق بأهل كل بلد، وليس كل بلد فيها إمام أعظم، وهذا يفيد قولهم: إلا ألا يجتمع به من يصلي به الجمعة. نعم، إن وقع ذلك في بلد الإمام الأعظم وجبت عليه، وإن لم يتول الصلاة، لأن المتولي للصلاة كالنائب عنه.
وبدليل ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون" ١ رواه ابن ماجه. فصير الجمع في قوله: "وإنا مجمعون" يقتضي ما قلناه؛ لأنه -صلوات الله وسلامه عليه- هو الإمام الأعظم، وإمامهم في الصلاة، والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إذا اجتمعت الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها -وهو الصحيح-: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، وهذا هو المأثور عن النبي ﷺ وأصحابه ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها، وكلام الشيخ يوضح ما قررته قبل، والله أعلم.
حديث عمران بن حصين في قصة العقيلي
وسأل –أيضا- عن حديث عمران بن حصين في قصة العقيلي الذي قال له النبي ﷺ: "بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ٢ ... إلخ.
أقول: الحديث خرَّجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي –﵏ وهاأنا أسوق رواية الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده قال: حدثنا
_________
١ أبو داود: الصلاة (١٠٧٣)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٣١١) .
٢ مسلم: النذر (١٦٤١)، وأبو داود: الأيمان والنذور (٣٣١٦)، وأحمد (٤/٤٣٠)، والدارمي: السير (٢٥٠٥) .
1 / 17
إسماعيل عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله ﷺ، وأسر أصحاب رسول الله ﷺ رجلا من بني عقيل، وأصيبت معه العضباء. فأتى عليه رسول الله ﷺ وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، يا محمد، فقال: ما شأنك؟ قال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ إعظاما لذلك، فقال: أخذت بجريرة حلفائك ثقيف، ثم قال: يا محمد يا محمد -وكان رسول الله ﷺ رحيما رفيقا- فأتاه قال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح. ثم انصرف عنه، فناداه: يا محمد، يا محمد. فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: هذه حاجتك. فقال: ففدي بالرجلين. وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت معها العضباء فكانت المرأة في الوثاق، فانفلتت ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ. قال: وناقة منوخة، فقعدت في عجزها وزجرتها، فانطلقت. ونذروا بها، وطلبوها فأعجزتهم، فنذرت إن الله ﷿ أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله ﷺ قالت: إني نذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فأتوا النبي ﷺ فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله! بئسما جزتها إن الله ﵎ أنجاها لتنحرنها لا وفاء في نذر في معصية الله ولا في ما لا يملك العبد" ولأبي داود: ابن آدم١.
قال النووي ﵀ في شرحه قول النبي ﷺ: "أخذتك بجريرة حلفائك" ٢ أي: بجنايتهم.
_________
١ أي: لفظ ابن آدم بدل لفظ العبد.
٢ مسلم: النذر (١٦٤١)، وأبو داود: الأيمان والنذور (٣٣١٦)، وأحمد (٤/٤٣٠)، والدارمي: السير (٢٥٠٥) .
1 / 18
قوله ﷺ: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح" ١ معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر حين كنت مالك أمرك أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر ومن اعتنام٢.
وأما إذا أسلمت بعد الأسر فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمن والفداء، وفي هذا جواز المفاداة، وإن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر. انتهى. فليس في الحديث دليل على أن المسلم يؤخذ بجناية غيره أو حق عليه، بخلاف الكافر فإنه يؤخذ ويغنم ماله لكفره، ولو كان من قوم معاهدين إذا نقضوا العهد كحال هذا الرجل العقيلي فإنه لما قال: إني مسلم، قال له رسول الله ﷺ: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح" ٣ وهو صريح في أن هذا الرجل لم يكن قبل مسلما.
وفي الحديث أيضا ما يدل على ذلك، وهو قوله: ففودي الرجل بعد بالرجلين، فتأمله فإنه ظاهر لا غبار عليه -والحمد لله-. والحديث لا علة له، قال الحافظ المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي بطوله، وأخرج الترمذي طرقا منه، وأخرج النسائي وابن ماجه منه طرقا. انتهى كلامه. وقد ذكرنا في أول الحديث ما وقفنا عليه من مخرجيه وأتحفنا السائل بسياق الإمام أحمد –رحمه الله تعالى-.
قبض العقار في الرهن
وسأل -عافاه الله- عن قبض العقار في الرهن كغيره.
أقول -وبالله التوفيق-: قبض المرتهن له بالتخلية بأن يمكنه الراهن منه تمكينا تاما بحيث
_________
١ مسلم: النذر (١٦٤١)، وأبو داود: الأيمان والنذور (٣٣١٦)، وأحمد (٤/٤٣٠)، والدارمي: السير (٢٥٠٥) .
٢ بياض في الأصل.
٣ مسلم: النذر (١٦٤١)، وأبو داود: الأيمان والنذور (٣٣١٦)، وأحمد (٤/٤٣٠)، والدارمي: السير (٢٥٠٥) .
1 / 19
لم يضع يده عليه، فإن وضع يده عليه بأن تولى سقيه أو زرعه أو إجارته زال لزوم الرهن، والله أعلم.
أسانيد المؤلف وشيوخه
وأما ما طلبت من روايتي من مشايخي فأقول: اعلم إني قرأت على شيخنا الإمام الجد شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، كتاب التوحيد من أوله إلى أبواب السير، وجملة من آداب المشي إلى الصلاة، وحضرت عليه عدة مجالس كثيرة في البخاري والتفسير وكتب الأحكام بقراءة شيخنا الشيخ ابنه عبد الله -رحمهما الله تعالى- وشيخنا الشيخ ابنه علي -رحمهما الله تعالى- في كتاب البخاري، وقراءة ابنه الشيخ عبد العزيز ﵀ في سورة البقرة من كتاب ابن كثير، وفي كتاب منتقى الأحكام بقراءة الشيخ عبد الله بن ناصر وغيرهم، وسنده -رحمه الله تعالى- معروف تلقاه عن عدة من علماء المدينة وغيرهم، رواية خاصة وعامة منهم محمد بن حياة السندي والشيخ عبد الله بن إبراهيم الفرضي الحنبلي، وقرأت وحضرت جملة كثيرة من الحديث والفقه على الشيخين المشار إليهما أعلاه، وشيخنا الشيخ حسين -رحمه الله تعالى-، وحضرت قراءة وأنا إذ ذاك في سن التمييز على والده شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وشيخنا الشيخ حمد بن ناصر –رحمه الله تعالى-، وقرأت عليه في مختصر الشرح والمقنع وغيرهما، وشيخنا الشيخ عبد الله بن فاضل -رحمه الله تعالى- قرأت عليه في السيرة، وشيخنا الشيخ عبد الرحمن بن خميس قرأت عليه في شرح الشنشوري في الفرائض، وشيخنا الشيخ أحمد بن حسن الحنبلي قرأت عليه شرح الجزرية للقاضي زكريا الأنصاري، وشيخنا الشيخ أبو بكر حسين بن غنام قرأت عليه شرح الفاكهي على المتممة في النحو.
1 / 20
وأما مشايخنا من أهل مصر فمن فضلائهم في العلم الشيخ حسن القويسني حضرت عليه شرح جمع الجوامع في الأصول للمحلي، ومختصر السعد في المعاني والبيان وما فاتني من الكتابين إلا أفوات يسيرة، وأكبر من لقيت بها من العلماء الشيخ عبد الله سويدان، وأجازني هو والذي قبله بجميع مروياتهم، ودفع لي كل واحد منهما نسخته المتضمنة لأوائل الكتب التي رووها بسندهم إلى الشيخ المحدث عبد الله بن سالم البصري شارح البخاري. ولقيت بها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وحدثني بالحديث المسلسل بالأولية بشروطه، وهو أول حديث سمعته منه وقرأت عليه سنده حتى انتهيت إلى الإمام سفيان بن عيينة ﵀ عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن ﵎. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"١ وأجازني بجميع مروياته عن شيخه الشيخ مرتضي الحسيني عن الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل وعن الشيخ أحمد الجوهري كلاهما عن عبد الله بن سالم البصري، وهو يروي عن أبي عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي عن الشيخ سالم السنهودي عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ شيخ الإسلام أحمد ابن علي بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري، وأكثر روايات من ذكرنا من مشايخنا للكتب تنتهي إليه.
وأما روايتهم للبخاري فرواه الحافظ ابن حجر ﵀ عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي عن أبي الحسن
_________
١ الترمذي: البر والصلة (١٩٢٤)، وأبو داود: الأدب (٤٩٤١) .
1 / 21