وإن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الأمة، فجردها من دور فنونها، وجردها من حدائقها وبساتينها، وجردها من مساجدها الجميلة الجليلة، وكنائسها الفخمة، وعمائرها الضخمة، وجردها من نظافة شوارعها، وتنظيم متاحفها، ثم انظر بعد ذلك في قيمتها، وفيما يميزها عن غيرها من الأمم المتوحشة والأمم البدائية.
أي بني!
إني لأرثي لحال كثير من شبان اليوم، لا يعرفون الجمال إلا في وجه فتاة، ولا يعرفون الذوق إلا في أناقة الحديث معها، والتظرف إليها، مع أن في الدنيا جمالا يفوق هذا بمراحل، وللذوق مجالا يجد فيه من المتعة ما يقصر عنه الوصف؛ ولكنهم عدموا الذوق وتربيته فلم يلقفوا معانيه ونواحيه ومداه إلا في حدود ضيقة.
أي بني!
إن للذوق مراحل كمراحل الطريق، ودرجات كدرجات السلم. فهو يبدأ بإدراك الجمال الحسي: من صورة جميلة، ووجه جميل، وزهرة جميلة، وبستان جميل، ومنظر طبيعي جميل، ثم إذا أحسنت تربيته ارتقى إلى إدراك جمال المعاني: فهو يكره القبح في الضعة والذلة، ويعشق الجمال في الكرامة والعزة، وينفر من أن يظلم أو يظلم، ويحب أن يعدل ويعدل معه، ثم إذا هو ارتقى في الذوق كره القبح في أمته، وأحب الجمال فيها، فهو ينفر من قبح البؤس والفقر والظلم فيها، وينشد جمال الرخاء والعدل في معاملتها، فيصعد به ذوقه إلى مستوى المصلحين. فالإصلاح المؤسس على العقل وحده لا يجدي، وإنما يجدي الإصلاح المؤسس على العقل والذوق جميعا. ثم لا يزال الذوق يرقى إلى أن يبلغ درجة عبادة الجمال المطلق والفناء فيه.
فعلى هذا الأساس نظم ذوقك: استشعر الجمال في مأكلك وملبسك ومسكنك، وصادق الزهور وتعشقها، ثم انشد الجمال في مجالي الطبيعة ومد بين قلبك ومناظر البساتين والحدائق - والسماء ونجومها، والشمس ومطلعها ومغيبها ، والبحار وأمواجها، والجبال وجلالها - خيوطا حريرية دقيقة تتموج بموجاتها، وتهتز بهزاتها، ثم انظر إلى الأخلاق على أن فضائلها جمال، ورذائلها قبح، لا على أن فضائلها منفعة ورذائلها متلفة، ثم غن للجمال واهتف به حيثما كان، واعبده وافن فيه، وأنا واثق أن ستسعد بذلك سعادة لا يتذوقها ذوو الشهوات، ولا أصحاب رءوس الأموال، بل ولا الفلاسفة والعلماء.
بل إني أجزم لو وجدت طائفة كبيرة من أمثال هؤلاء الذين رقى ذوقهم إلى هذا الحد في أمة، لنهضوا بها وأعلوا شأنها؛ إن أمثال هؤلاء من أصحاب الذوق الرفيع لو تولوا شئون السياسة ورياسة الأحزاب لكانوا مثلا في حب الخير، ورقة القلب، وإدراك ما يجب أن يعمل وكيف يعمل، وما يجب أن يترك وكيف يترك، ولو كان أمثال هؤلاء رؤساء مصالح، أو مديري أعمال، لوجهوا همتهم لإتقان عملهم، وإيصال الخير لذويهم، وتحري وجوه النفع لمن يلوذ بهم، وإنما أفسد هؤلاء جميعا قلة الذوق لا قلة العقل. فأنت إذا رأيت الشوارع لا منظمة ولا نظيفة، والأمور الصحية مهملة لا يعنى بها، والفلاح بائسا فقيرا، أو رأيت معاملة الناس بعضهم بعضا جافة سيئة، تحدث ضوضاء وجلبة، كالآلة لم تزيت، أو رأيت العداوة والحقد والخصومة بين رجال الأحزاب السياسية، أو رأيت رجال الحكومات تعني بمناصبها أكثر مما تعني بمصالح رعيتها، فاعلم أن منشأ ذلك فقدان الذوق الرفيع لا العقل النابه.
أي بني!
إنك محتاج إلى مجهود جبار، وإرادة قوية لتربية ذوقك، وإرهاف شعورك بالجمال، فكل ما حولك مفسد للذوق متلف للمشاعر السامية: بيوت لم يعن فيها بالجمال، وشوارع لم يعن فيها بنظافة ولا نظام، وترام تكدس فيه الناس أسوأ مما تكدست علب السردين، وهرجلة وفوضى وضوضاء في دور المحاضرات والسينما والتمثيل، ومهاترة غير نبيلة بين الجرائد الحزبية، وارتباك واضطراب وسوء معاملات في المكاتب الحكومية وغير الحكومية، ورؤية البؤس والمرض والفقر والجهل والقذارة على الأرصفة في المدن، وبين الفلاحين في القرى، وبين العمال في المصانع، ونبو في أحاديث المتحدثين، وفي النكت بين المتنادرين، ومئات ومئات غير ذلك، وكلها كفيلة أن تفسد الذوق وتقضي عليه. فتربيتك لذوقك واحتفاظك به ساميا لا يتأثر بهذه المفاسد، أمر عسير لا ينال إلا ببذل الجهد وقوة العزم.
أي بني!
صفحه نامشخص